عبد العزيز بومسهولي

تقديـــــــم

 

- 1 -

تأتي الرغبة في رصد تجربة شعرية - لشاعر مغربي معاصر يعد أحد أبرز أصوات الحركة الشعرية الجديدة وأكثرها لفتا للانتباه، أعني الشاعر حسن نجمي - استجابة لرؤية متأملة. فهم شامل للشعرية المغربية في مسارها الحداثي، وتقويما لأسسها الجمالية، وكشفا لدورها في ترسيخ منجز شعري، يحقق عبر التراكم، والإضافة النوعية، مسكنا للكينونة الشعرية، البيت الجوهري الذي ينشده الرائي المهووس بهستيريا التخييل، وبقول الإزاحة العميقة، التي تحدث شرخا واسعا بين عالم بات سمجا مألوفا مكرورا، وبين وجود يتشكل من حيوات قادمة من عالم الظل، والخفاء وكل ما هو منفلت عن الاعتياد.

والمنجز الشعري لا يأتي في سياق استنساخ تجارب شعرية - وإن كان لا يحول دون الإفادة منها - لأن الاستنساخ يحول الإنجاز إلى محاكاة للأصل، ومن ثم يغدو وجودا باهتا لا يكشف عن حيوية خالقة تتصدع توترا، وتفجر أشكالا تخترق الحجاب الذي يحول دون بلوغ الاكتناه.

كما أن هذا الاستنساخ يحول - أيضا - الذات إلى كائن أجوف، كائن وعائي - لا وعيوي - يمتلئ بالدلالات الجاهزة والصور المقتبسة، ومن ثم فهو يتمثل، يتأثر، ينفعل، لكنه لا يمارس الفعالية الشعرية، بما هي اشتراك حيوي في التفعيل الشعري للعالم.

هذا المنجز يأتي إذن - خلافا لما قيل - في سياق تأصيل الاختلاف، وإثبات التعدد، وتجذيرا حقيقيا للعود الشعري الدائم، بوصفه تلك الصيرورة التي لا تكف عن الظهور كأحد الأبعاد الجوهرية للكينونة، وهنا يبرز دور الكائن الشعري الذي يمارس تجربة الخلق الشعري تعبيرا عن إنيته، هذه التي فيما هي تتعالى ملامسة الرؤيا، فإنها تحل بالأعماق السرية التي عبرها تتناسل ولادات الروح اللامتناهية، التي تتناسخ لتكشف الجوهرية الأبدية.

نحن إذن أمام إمكانية التناسخ - لا الاستنساخ - بوصفها نفاذا للكائن الشعري في كائنات شعرية تقيم في عالمنا عبر بوابة التراث واللاوعي، لإعادة إضاءة المناطق التي بقيت في عتمة حاجبة، أو لإعادة تأويل شكل الظهور ذاته.

هذا التناسخ يمكن من تضعيف الذات، ببعث الحيوية الضامرة في قواها، ويجعلها تكتشف إنيتها من خلال تعددها في الأنوات الأخرى.

من هنا الولوج إلى مرحلة شديدة الكثافة يتولد خلالها الترميز الإحالي، والتأشير الدال، وتنكشف بؤر التوتر التي تحيل إلى لعبة لا تفتأ تهدأ إلا لتظهر سلسلة متوالية من صدمات الصور الخالقة للخيال الناطق، ولفضاءات الأصوات المتعددة المسافرة في عالم الأسطورة بوصفها تعبيرا جوهريا عن ممارسة سرقة اللغة وتهريب الكلام عن عالم الألفة والجوار، إلى عالم المفارقة والخرق المتوالي للحجاب.

- 2 -

ونحن نتأمل تجربة الشاعر حسن نجمي في منجزها الشعري، لابد وأن نستجلي ما يضمره شعره من استكناه للأبعاد اللامتناهية للكينونة، واستنارة لاحتمالات الكائن وقواه المتعددة، تلك التي تصنع إرادة الإبداع، وتقوي نزعة الظهور باعتبارها نداء للعابر، والهامش والوجود المقنع.

ولنكون أكثر وضوحا سنبدأ بتقويم تجربة الشاعر انطلاقا من عمله الشعري الثاني: سقط سهوا، متغاضين عن إصداره الأول: «لك الإمارة أيتها الخزامى»، وذلك لاعتبار أساسي، وهو أننا حين نقرأ هذه التجربة، فإننا نقرأها في نوعيتها، وبدقة أكثر في شعريتها، وهذا يعني أن المحاولة الأولى للشاعر إنما تدخل فقط في باب اختبار عتبة الشعر، ونداء لملامسته، كما أن لهذه المحاولة عوائقها التي تمثلت في النظر إلى الشعر كتعبير عن هاجس إيديولوجي[1].

وهذا لا يعني تنكرا ونفيا لعمله الشعري الأول، بقدر ما بعني القبض على البداية الجوهرية للمقاربة الشعرية للعالم، كما تمثلت عند الشاعر حسن نجمي، الذي أدرك هو نفسه هذه البداية عن وعي ومعاناة حقيقيين (!).

- 3 -

كما سنتناول قراءة «الرياح البنية»، بوصفه نتاجا لعمل التداخل الأجناسي، و«وثاقة» متينة بين الشعر والتشكيل، بين رؤية فنية تتخذ الخطوط والأشكال المرسومة وسيلة للتعبير الجمالي، وبين رؤية شعرية مهووسة بخلق الكلمات التي تشكل انزياحا صارخا يدين الواقع التخريبي المدمر للكينونة في عمقها الحضاري، ومن ثم كان تلاحم نصوص نجمي الشعرية برسومات القاسمي تجربة أثرت منها الشعرية العربية المغربية، كما أفادت الشاعر في شحذ أدواته الشعرية، واشتغاله على إنتاج شعرية بصرية تمثلت خاصة في ديوانه الجديد «حياة صغيرة» الصادر عن دار توبقال، الذي أعتبره إنجازا توليفيا، تقوم فيه القصيدة بدور مختلف يتمثل في تمكين العين من مبادرة اكتشاف تعالق الشعري بالبصري، والإحساس بإيقاع الصورة الشعرية بما هو تحفيز براني يروض النص ليتمثل لمبدأ - التخارجية، وبذلك يحصل ما يسمى بالتوازي بين اللغة المتمفصلة والرسم. وهذا ما سنعمل علي إيضاحه في الجزء الخاص بدراسة نقدية لمجموعة «حياة صغيرة».

وسنلتقي مع الشاعر في حوار نقدي ينفذ إلى ملامسة تجربته الشعرية ومناقشته في مسائل وقضايا الشعرية العربية وآفاقها المستقبلية.

بهذا الكتاب النقدي الذي يلامس تجربة شعرية جديدة، ذات نزوع حداثي، نشرع في تأسيس تقليد جديد، على أمل أن نلقحه بتجارب شعرية أخرى في الأمد القريب.

 

[1] يقول حسن نجمي عن تجربته الشعرية الأولى ما يلي: « إن هذه التجربة - لك الإمارة - كانت متعثرة خصوصا أنها لم تبلور وعيا شعريا حقيقيا، بل كان وعيا هشا، ناقصا، اختلط فيه السياسي بالشعري، بل تضاءلت مساحة الشعر لحساب الهاجس السياسي والإيديولوجي. لذلك قلت أكثر من مرة بأن وعي هذه المجموعة كان خاطئا، ولعل الأمر يتعلق آنذاك بحداثة السن أو بحداثة التجربة، وربما يعود لأولوية السياسي التي كانت تطبع المرحلة التي كنت أجتازها وجيلي ونحن نخرج من الرحم المشتعل للسبعينات»، من حوار أجراه - يحيى بن الوليد- نشر بالقدس العربي ع 2230 – 10 تموز يوليو 1996 ص8 .

 
 

 

موارد نصيـة

عبد العزيز بومسهولي

الكائن الشعري

المحتــوى

تقديـــــــم

كائن النفي واكتشاف الظهور قراءة في «سقط سهوا»

«الرياح البنية». الشعري والبصري

الشعرية التشكيلية. قراءة في «حياة صغيرة»

الكائن الشعري ومكر الشعر. قراءة في «المستحمات»

في حوار مع الشاعر حسن نجمي: كتابة الشعر بروح كونية

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.