عبد العزيز بومسهولي

الكائن الشعري ومكر الشعـر

قراءة في «المستحمـات»

 

أن تكون شاعرا معناه أن تكون مفعولا للشعر. فبقدر ما تندر إقامة الشاعر في أرض الشعر بقدر ما يكون الوسيلة الأكثر تعبيرا عن مكر الشعر. فالكائن الشعري وهو ينقاد لغواية الفن الشعري لا يكاد يعي ما يحجبه القول الشعري إلا بعد انجذابه في عمق التيه. عند ذاك لا يكون الشاعر سوى ذلك الكائن الذي يلتقط الإشارات تلك التي تسلب وتمنح؛ فهي تسلب الكائن القدرة على التراجع انفلاتا من التيه واستعادة موجوديته في قلب الواقع، أي العودة لحكم الضرورة، لكنها في الآن ذاته تمضي به بعيدا نحو استكشاف مكر الشعر. وبقدر ما تتناسل الإشارات التي يلتقطها الشاعر بقدر ما تتضاعف رغبة هذا الأخير في استكمال لعبة التيه جريا وراء ما ينسحب ويتوارى. فقد أضحى الشاعر الآن يدرك أنه في أرضية الشعر لا تتحقق سوى الإمكانيات التي تنفتح على الاحتمالات اللامتناهية للوجود، وبما أن الكائن الشعري متناه، فإن مكر الشعر يقود هذا الكائن المغمور بالنسيان من لحظة الواقع، ويحول مشروطية وجوده المتناهي. فهو إذ يتحرر من شرطه الطبيعي يغدو كائنا شعريا ممتلكا لحرية من نوع خاص، إنه حرية الكلام، لكنه في الوقت الذي يغدو فيه الكلام شرطا للحرية ينكشف الشعر باعتباره أعلى تعبير عن مكر الوجود، إنه يحول خداع الوجود إلى فن ينقال عبر الكائن، كما أنه يجعل من هذا الفن اختبارا للإمكانية، وشرطا لتحقيق القدرة على الانغمار في صيرورة المكر، تلك التي لا تظهر إلا كقدرة على المجاوزة والعبور الأبدي.

هكذا يستعيد الشاعر حسن نجمي قدرته على الانغمار مرة أخرى في مكر الشعر، وعلى تحويل إمكانياته الإبداعية إلى محاولة جرئية في التقاط الإشارات التي يبعثها الوجود الماكر الذي يوهم الذات الشاعرة بنوع من الإحساس بالعثور على المكان الذي يضمن الاستقرار ويحول دون الترحال الدائم. وهكذا مكر الشعر؛ ففي الوقت الذي يشعر الذات بالامتلاء، فإنه يشعره بالفقدان، فتغدو صورة الوجود صحراء لا متناهية لا توحي سوى بالدهشة تتولد عن مكر الوجود.

«ثم فجأة انهدَدْت. سألته: أين سنعثر على ظل في هذا الرمل الممتد؟ لا مكان إلا للتفكر والوحشة. لا مكان. كنا نمشي. ومن حولنا نبات الشوك. والصخور صدئة. والأحراج. وقشور الملح والأودية ضحلة. والرمل عنيد في كتبانه. من أين يأتي هذا الوهج الذي يعمي؟ أمن هذا اليشب أم من حجارة الصوان؟ وأفزعني صمته. كنت أرى الشفاه تتشقق وتنزف دما وقرب الماء فارغة. وكانت تغمرني دهشاتي. كثبانٌ أم ظهور حيتان؟ كتبان أم نساء عاريات؟ لا أريد عينيك شحيحتين ولك هذه الروح التي تضيء» (ص. 15).

فما الذي يهبه الوجود للكائن، وهو يخوض تجربة العيش؟ لا شيء سوى الروح التي تضيء، تلك الروح التي تنقاد للتيه، لكنها تدرك ما يخفيه الوجود التي يتيه بالموجود، وإذ يغمر مكر الوجود هذا الكائن التائه، فإن هذا الأخير ينخرط في المشاركة في هذا اللعب فيجعل من الكلام وسيلة لاستكشاف مكر الوجود. واستدعاء مكر الشعر. فإذا كان الوجود يتيه بالموجود، فإن مكر الشعر يجعل الموجود قادرا على استيعاب ماهية التيه، وتحويله إلى قوة إيجابية من خلالها يسترجع حيويته في امتلاك الرؤيا تلك التي تقابل مكر الوجود بمكر الشعر. فهذه الرؤيا تجعل من الدهشة لحظة خلاقة محفزة على الانغمار في تيه الوجود باستعادة الكلام، هذا الذي يغدو تعبيرا عن مكر مغاير، قادر على كشف الخداع، وممارسة خداع آخر، معنى ذلك أن مكر الشعر يغدو فنا يرتقي بالكائن الشعري إلى ذروة الانتشاء بالتيه، إن التيه بهذا المعنى هو من يستحق المجد، إنه تلك «الجهة من العالم التي تعطي شاعرا» (ص. 10).

إنه من يكشف لهذه الذات قدرة العالم على الانثناء أو الطي، وفي انكشاف الطي يغدو الكائن أكثر استيعابا لحركة انتشار العالم، هكذا يستوعب الشاعر معنى انتشار العالم وعرضه لذاته في الصحراء:

«ليست الصحراء مجرد مسطح أرض.

لا ليست مجرد قفر من رمال. وعرفت الصحراءَ

هي كل مساحات الوحشة بداخلي.

أنا صحـراء.

أنا الآن صحراء في صحراء» (ص. 22)

إن انتشار الصحراء يعرض في الطي، في انثناء الموجود على ذاته، أي في انثناءات الذات، فالصحراء هي ما ينتشر في الداخل، جاعلة من الوحشة في مساحات الداخل صفة للثني. فلا تغدو الأنا سوى مفعول للطي، فهي تسمح باستعادة الانتشار لتستحيل بدورها إلى مسطح يشكل نتوءا من نتوءات الطي.

... حدق عميقا في هذا الرمل كي لا تتلاشى صورته بداخلك... (ص. 22)

هكذا يعرض الانتشار في التلاشي، وليس عمل الطي سوى توليد النتوءات التي تعرض من جديد على السطوح، وهكذا تستعيد الذات خاصيتها الاستبطانية متأملة صورة الرمل باعتبارها ما يشكل سطح الصحراء. وليس هذا التأمل العميق بذاته سوى احتفاظ بما يعتمل في الداخل الذي يقاوم التلاشي باسترجاع الطي، فما يتلاشى هنا يعود منثنيا في الداخل، إنه يهرب منفلتا من السطح ليعود إلى الداخل متلاشيا في الثني، هذا التلاشي يغدو صفة للكائن بوصفه متناهيا، وباعتباره عابرا، فهو بمجرد ما يتشكل ككائن يظهر على السطح مستقلا بذاته، بقدر ما يمضي ويتلاشى متماهيا في الطبيعة. إنه كائن ينمحي باستمرار، حركته تشبه حركة الرمل، والإنسان كذرات الرمل التي تعترض في النتوء ثم تنمحي:

«كائن يحذرني من الرمل. من سطح الرمل، من نتوء الرمل. وكان علي أن أصون قدمي لما تبقى من خطواتي. وكلما وثقت ببقعة جرفت الريح الرمل من تحت خطوي، وكنا نمضي قدما...» (ص. 16)

إن فهم الكائن يتأسس على فهم مكر الطبيعة، هذا المكر الذي يقود الصيرورة، تلك التي لا تعرف سوى التحولات الدائمة، والتي تحول دون حصول الثبات، فما يدوم ليس هو ما يعرض منتشرا على السطوح، هذه التحولات التي تجعل حركة السطح في تلاش دائم، وليست حركة الكائن سوى نمط من أنماط الصيرورة يتحكم فيها التلاشي ذلك الذي يجعل الموجودية عارضة، حيث الوجود يمكر بالموجود، فيثبت موجوديته ثم يحيلها إلى عدم:

«... كان ينشد، وكنت كمن يتلاشى. كان ينشد وكنت كما لو كنت مجنحا على حافة هاوية...» (ص. 23).

إن الإحساس بالتلاشي يؤسس للفقدان، هذا الذي يتعاظم بقدر ما يقترب الكائن من حافة الهاوية. وليس الاقتراب من الهاوية سوى ذلك التلاشي البطيء الذي تستدعيه حركة الثني فتجعل نتوءه يتداعى في حركة الوجود الصائر. إنها تحيل ما يوجد إلى عدمه، بمعنى أنها تقود تشكله المتناهي ليتهاوى داخل اللامتناهي، فكل شيء يظهر على السطح مستكملا موجوديته وانفصاله الذاتي يستعاد من جديد في هذا اللامتناهي الذي يسترجع باستمرار ما كان قد سمح بانفعاله ونتوئه، أي ما كان مكتسبا لهبة الوجود، فما هو قيد المنح يغدو قيد الفقدان، وتلك هي سمة مكر الوجود:

«... تعبت أتستر على ألمي، ويتراكم الفقدان.

يتراكم فقداني

أين أنتِ؟

وأحدق... كما لو لا حاسة لي غير عيني.

ولا أراك

كيف سنتعرى في هذه المنثنيات؟

تعالي نغرق في الرمل... (ص. 30).

ما يلتقطه الكائن الشعري هو تلك الإشارات التي يرسلها مكر الوجود، ومن ثم استيعابه وفهمه لدوره في ممارسة مكر مواز، فهو يقابل مكر الوجود بمكر الشعر، ذلك الذي يحول الإحساس بالتناهي إلى قوة تستعيد الحياة، قوة تدحر كل نزعة عدمية لتؤكد في المقابل ما تكتسيه معانقة الكائن للحياة من معنى إثباتي خلاق:

«جميل هذا الفراغ الذي يصاحبني

يعلمني النظر، ويدع يدي باردة.

......

ولأن الموت أضحى بلا معنى

أحاول أن أرفع الأنقاض عن الحياة» (ص. 155).

إذن، فإذا كانت «المستحمات» استجلاء لمعنى التلاشي، الذي يعرض في الثني، فإن «الأبدية الصغيرة» تجعل من إرادة الحياة تأسيسا عينيا للكائن، هذا الذي يحول تناهيه إلى نمط كيفي لاستعادة الحياة. هذه هي الحياة التي تمتد بعيدا عن لتشمل كل امتداد للكائن:

«يدي قربي تكفي

سأمنح لهذا الظل حياة.

أيها الظل، يا صديقي الأعزل!

تعال انظر صورتك في بئر الكلمات. (ص. 135)

إن مكر الشعر هو من يمنح الوجود، فهو يستعير من هذا الأخير القدرة على منح الحياة، فيخلق التناغم الحي - ذلك الذي يستدعي تجاذبا حميميا بين الكائن الشعري وبين الظل، هذا الذي ينكتب في الكلمات باعتبارها التعبير الأصيل عن مكر الشعر، إنه المكر الذي يجعل من جمال الوجود تعويضا دائما عن الفقدان، وحركة تمضي بالكائن وتلقي به في مواجهة المستقبل المجهول:

«... ولا أعرف إلى أين ستأخذني القصيدة القادمة» (ص. 131)

إن الشاعرحسن نجمي في المستحمات يكشف عن مهارة نادرة في جعل الكلمة الشعرية تعبيرا عن مكر الشعر وعن طاقته الخلاقة.

 

 
 

 

موارد نصيـة

عبد العزيز بومسهولي

الكائن الشعري

المحتــوى

تقديـــــــم

كائن النفي واكتشاف الظهور قراءة في «سقط سهوا»

«الرياح البنية». الشعري والبصري

الشعرية التشكيلية. قراءة في «حياة صغيرة»

الكائن الشعري ومكر الشعر. قراءة في «المستحمات»

في حوار مع الشاعر حسن نجمي: كتابة الشعر بروح كونية

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.