عبد العزيز بومسهولي

كائن النفي واكتشاف الظهور قراءة في سقط سهوا

 

«إننا لانصنع الأبيات الشعرية بالأفكار، بل نصنعها بالكلمات» (ملارميه) «الشعرية محايثة للشعر» (جان كوهن)

كثيرة هي القراءات التي قاربت مجموعة «سقط سهوا» للشاعر حسن نجمي، وقد اتفق أغلبها على أن هذه التجربة تكاد تميز الصوت الشعري لحسن نجمي، وتجعل من قصيدته خطوة نحو الإضاءة الشعرية، والتعدد الخالق للحيوية والنبض الإبداعي.

ونهدف من خلال هذه المقاربة إلى إعادة قراءة هذه المجموعة، انطلاقا من منظور مختلف يحاول لمس الشعرية عند حسن نجمي ويكشف عن تمظهرات انفلات كينونة تدرك وجودها الحي بتجاوز حركة السلب، عائق الظهور. ومن ثم كان لازما فتح عتبات تأملية داخل نصوص هذا الديوان لولوج باب التأويل الشعري المنفتح.

- 1 -

سقط سهوا، عنوان لتجربة شعرية أدركت وعيها الشعري، باعتبارها وعيا بالذات والعالم، انطلاقا من مبدأ اختزال الكثافة والوجود الكمي للأشياء، وتحويلهما إلى ندرة بالغة القيمة ووجود نوعي، عبر سلب الواقع.

هذا السلب هو نتيجة الرغبة في امتلاك اللذة، وهي رغبة كما يقول هيجل تجعل الكائن قلقا، مندفعا نحو الحركة والفعل الذي يحقق لذة الذات هذه. وهذا لا يمكن أن يتم دون عملية السلب، والتقويض لبناءاته، وتعويضه بواقع ذاتي، فالأنا «Le moi» يخلق بالإشباع الحركي لهذه اللذة، وتولد الوعي بالذات La conscience de soi [1].

وتحقيق لذة بناء الوجود الشعري، هو الرغبة التي يتولد عنها نفي الواقع بكل امتلاءاته ووشائجه، إنه التحفيز الذي يلج اللغة لا بوصفها أداة اتصال لنقل الواقع، وإنما بوصفها سلبا لحركة هذا الواقع، وكذلك باعتبارها تعبيرا سالبا، يرفض استعمال اللغة كما عبر عن ذلك سارتر[2]، ومن ثم فإن الشعرية كالأسطورة يلتقيان في نقطة مشتركة من حيث كونهما لغة ثانية Seconde Langue. لذا فوظيفتها هي تدمير الواقع ونفيه، أو بالأحرى العمل ضد تسييس الكلام[3].

فالشاعر يحفزه وعيه بالذات والعالم، على تفعيل مبدإ اللذة، بحركة سلب الواقع لنيل الاعتراف، ولذلك فهو في صراع متواصل يخوض من خلاله معركة تحرير التعبير، وفك عوائق اللغة من سلطة الجاهز والمألوف. لتكون بذلك عالما مستقلا بذاته، عالما تكون فيه السيادة للشعري بوصفه وعيا للغة بذاتها، معترفا بها كوجود حيوي يؤسس لما هو جوهري، وإقامة أبدية.

- 2 -

«سقط سهوا» مؤشر رمزي يكشف عن جوهر عملية السلب التي تحدثنا عنها بصيغة هيجلية، حركة السقوط من الأعلى نحو الأسفل، تعبيرا عن الرفض، عن السلب لوجود متعال لا تملك فيه الذات وعيها، وذاتيتها، فهي شيء ممتلك لعلة متعالية، ولتحرر هذه الذاتية من عوائق الامتلاك تلتجئ للمحظور، وهنا تمارس الخطيئة التي تكون إيذانا بالسقوط الإجباري نحو الأرض، المحطة التي يستشعر فيها الكائن إحساسه بالمسؤولية، وامتلاكه لوعيه بذاته، فدلالة السقوط لا يمكن عزلها عن بعدها الرمزي المتمثل في الديني والأسطوري.

السقوط حركة أخرى للكائن الذي يجد نفسه في معركة متواصلة مع قوى الطبيعة، والقوى الخفية، لنيل الاعتراف، وتحقيق السيادة، والسهو تعبير عن اللاشعور الذي تقيم فيه اللذة بوصفها تحفيزا على الوقوع في المحظور، على سلب السلب سلطته المعيقة لتحرر الكائن. فلذة أكل التفاحة المحظورة هي التي حركت إرادة آدم، وحفزته على خرق المحظور (سلب الحرمة)، ومن ثم حدث السقوط باعتباره سلبا للسلب، وإثباتا لوجود حي، وهو بداية لتشكل الوعي الذاتي.

لا يقصد كشفنا لهذه العلائق الترميزية، من خلال التأويل، سوى إبراز أبعاد اللغة الماورائية، أو لغة اللغة بوصفها انتقالا من السطح إلى العمق، ومن مساحة الظهور إلى طبقات النسيان، وهو السهو، ومن اليقين والبعد الواحد للشيء، إلى أبعاده المتعددة، ونحن هنا نبتعد عن الاتجاه المألوف الذي يعتبر الشعر نقلا حرفيا للواقع، وانعكاسا مباشرا لليومي، هذا الاتجاه يتعمد قراءة الشعر قراءة سطحية تفتقر إلى للتأويل. وأعني أساسا مجموعة من القراءات الانطباعية المتسرعة التي قرأت تجربة قصيدة النثر، وضمنها أعمال حسن نجمي، لترى فيها ومضة الواقع، في حين أنها ومضة اللغة التي تهرب الصورة عن الواقع عبر نفيه، وتبني واقع مختلف ليس هو واقع الألفة والاعتياد، وإنما هو واقع الشعرية والشعر الحي. وحتى في الحالات التي يكون فيها الشاعر أمينا في نقله لجزئيات الواقع، مبتعدا حتى عن الاستعارة والمجاز، فإنه يعمل على سلب الواقع سلطته، ونفيه لفعاليته في سبيل بناء وجود باللغة، وجود تعيد صياغته شعرية تستكنه العالم، وتكسبه معنى تعدديا، وفائضا دلاليا. وهو ما نتوخى كشفه في قراءاتنا هذه. - 3 - إذن فسقط سهوا، هو رصد لوجود مقصي، يمارس حياته سريا، في الخفاء، سقط سهوا هو«كائن النفي» الذي نكشفه في الظل، في كل ما هو بعيد عن الظهور، هو هذا الخفي الذي تجهد اللغة الشعرية على إعادة كشفه وإظهاره، من خلال خرق الحجاب. وحتى إذا عملنا علي ربط هذا الاستعمال، بواقع الشاعر، من حيث كونه محررا ثقافيا بالجريدة، حيث يعتبر هذا المعنى عاديا في الحياة الصحفية، فإننا نرى فيه هنا استعارة انتفت عنها الدلالة التسييسية للكلام، بانتقالها من واقع التواصل والتداول إلى المجاز. إنها هنا إثبات لقدرة الشعر على سلب الواقع لغته المألوفة وتحويلها إلى قناع، وهو ما استطاع الشاعر أن ينجزه في هذه التجربة. - 4 - في هذه التجربة الجديدة، تكتسب دلالة السقوط معنيين متشابكين: الأول إبراز فاعلية جاذبية الشعر؛ فاللغة هي المركز الجاذب، الذي تتجه نحوه حركة الشيء الساقط وهنا يتجه فعل السلب نحو إفقاد الشيء وجوده في الواقع، وجذبه نحو واقع بديل، هو واقع التبئير الشعري مصدر لعبة التوترات الحيوية للشعر. والمعنى الثاني هو كشف فاعلية الالتقاط التي تمارسها اللغة الشعرية حين تقتنص في لحظاتها الأشد توترا الأشياء التي تسقط، وبذلك فهي تحتضنها لتكون منها ما يخصب الصورة الشعرية. وبذلك يحصل الانخطاف الشعري، وهو فاعلية تتولد عن عملتي الجذب والالتقاط، إنه تفعيل لدينامية السهو باعتبارها تحفيزا على ممارسة النسيان كشرط للإبداع الحر وكتحرر من سلطته الأنا الأعلى التي تجبر الكائن على ممارسة الحجر على نزوعاته الشاذة عن المألوف. والنـزوع نحو المألوف هو ما يكسب «السقوط سهوا» كينونة الظهور أيضا؛ فإذا كان سقوط الاسم سهوا عن الطباعة، يعني انحجابا، وهذا يحدث كثيرا في النشر الصحافي، فإن الشعر على العكس من ذلك يستدعي ظهور ما يسقط قسرا عن الوعي، وبذلك يستثمر قدرات اللاشعور على إرسال فلتات السهو - مستغلا غفوة الوعي حيث تضعف رقابة الأنا الأعلى - وتحويلها إلى تأشيرات، ودوال ترميزية. إذن فعمل الشعر من هذه الوجهة يغدو صعبا، من حيث كونه مضاعفة لكثافة التركيز الذهنية التي تمكن الكائن الشعري من إطلاق طاقاته الشعرية، أو بالأحرى تحرير الذاكرة الشعرية من كل امتلاءات الشعور والوعي، بقصد التجديد المستمر الخلاق. - 6 - تستوقفنا في «سقط سهوا» قصيدة عنوانها «شاعر»؛ فهي أول ما يفتتح به حسن نجمي هذا الديوان. وعلى سبيل الإشارة والمقاربة، فإن أول قصيدة افتتاحية في ديوانه اللاحق «حياة صغيرة»، تحمل عنوان «حسن نجمي». وإذا كان العنوان السالف لا يحيل في عموميته إلى متعين بالذات بقدر ما يشير إلى كائن ممارس للشعر، فإن العنوان اللاحق ينقل الذات بوصفها تعيينا للأنا الشعرية. وفي هذا الانتقال من اللاتحديد نحو التحديد شكل من أشكال التمركز حول الذات والنرجسية الإبداعية. لكنها تكشف عن دلالة أساسية تتمثل في تعميق الوعي بالذات، وامتلاكا للأنا، لكشف لعبة تفكيره، وتجاوز العوائق تحرره في استكناه العالم، وإعادة بناء الوجود. في القصيدة المشار إليها أعلاه «شاعر» يبزغ نزوع الشاعر نحو اختزال الكثافة، وممارسة اقتصاد العبارة؛ فالشاعر لايمارس اللغة كإفصاح بقدر ما يستثمرها كإيحاء واختزال للقول وشكل من أشكال التناص وتعدد الأصوات. ولنتأمل ما يقوله الشاعر في قصيدة «شاعر»: قال للحجر كلاما قال للحجر انشطر! ---------- وبكى… بكى حين انشطر الحجر !­­( ص9) القيمة الإيحائية التي تشكل بؤرة الصورة الشعرية هي الحجر، وهي تحيل إلى أبعاد أسطورية ودينية، وهي مشتقة من الجذر «حجر» بمعنى المنع والحجب، إنه بمعنى فلسفي دقيق، إخفاء الظهور، سلب البينونة (البينة).

ومن هذا الجدر نشتق دال الحجر، (بكسر الحاء وتسكين الجيم)، ودال الحجرة (بضم الحاء وتسكين الجيم وزيادة التاء)، وكلا الدالين يؤكدان معنى الإخفاء المشار إليه، وحتى إن وضعنا الجيم في صدارة الدال: جحر، فإننا نحصل أيضا على ما يؤكد فعل سلب الظهور، ويمكن أن نمضي في صلب عملية كشف التعالقات الدلالية بين اشتقاقات كلمة حجر، وبيت كلمات القرابة التي تشترك معها في نفس الحروف كجرح وحرج، وغيرها حتى نتمكن من إيجاد التناسب والتداخل العمقي الذي يرتبط أساسا بالنسق الشعري، وهو نسق وحشي لا يعير الاعتبار لدلالة التواصل، بقدر ما ينخرط في تعرية الكلمات بوصفها أشياء ذاتها.

وحسن نجمي هنا حينما عنون نصه بكلمة «شاعر»، فإنه في الآن نفسه يكشف عن وظيفة تمارسها الذات الشعرية، وهي أنسنة الأشياء؛ الأشياء لا ينظر إليها هنا إلا ككائنات لغوية، ومن ثم فالشاعر يستمد شعرية الأسطورة، فيستطيع تكليم الأشياء، وبالمقابل تستجيب لنداءاته، إنه بالأحرى مالك لسحر الاتصال الذي يلج عبره أسرار الوجود وخفاياه.

رغم اختزال النص المشار إليه كثافةَ العالم، فإنه يكرر مقولة القول، تأكيدا لرغبة تحديث الأشياء ومحاورته لخلق الظهور:

قال للحجر كلاما قال للحجر انشطر! (ص. 9)

هناك علاقة ثنائية تؤطر هذه الصورة طرفاه (الذات الشاعرة والحجر) وهي علاقة قائمة على الكلام الذي يحيل إلى موضوعة «الانشطار» بما هي استجابة لأمر المتكلم، وتحقيقا لرغبته السحرية في تجريب التماس الحميمي مع الأشياء.

كما يربط الشاعر بين دلالتين إيحائيتين هما البكاء والانشطار، والبكاء تفجير لباطن الذات، إن له معنى الماء بوصفه سيولة النبع، وتأشيرا ترميزيا يحيل على الشعر. أما الانشطار فهو صورة لتفجير الحجر وانبجاسه، وهو بدوره يحيل إلى دلالة الماء. وهنا نصل إلى الإحالة التناصية التي أسس عليها الشاعر نصه، وأكسبه بذلك بعدا رؤيويا يستمد جنيالوجيته من النصوص المقدسة، بهدف إثبات الصلة بين النبي والشاعر، هذا الأخير الذي يقبس من النبي مشعل النور، لخلق الاختراق، معجزة الكلام. تتمثل المرجعية التي تكسب البعد التناصي للقصيدة في آيتين كريمتين: الأولى وردت في سورة البقرة (الآية 59)، وهي تقول :

«وإذا استقر موسى لقومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم».

أما الثانية فهي تشبه الأولى في مضمونها، وقد وردت في سورة الأعراف (آية 159)، ونصها:

«وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم».

إذن فالشاعر كالنبي مهووس باختراق العادة، واعتبار الأشياء كصنيعة إعجاز، تسلب منها حقيقتها المدركة بالواقع، ليتم تعويضها بمجاز القول واستعارة الكلام. ووعيا من الشاعر بترسيخ علاقة التشابه هذه بين الذات الشعرية والنبي، وتأسيسا للأبعاد التشابكية - التناصية - لقصائده، فإنه يوغل في استثمار النص الغائب، محولا إياه إلى قصيدة تعيد شعرنة الوجود، من خلال سلب الواقع اعتياديته بإظهار الخرق كحالة إعجاز كاشفة لما يتمرأى وراء الفيزياء، وهذا ما نلمسه حقا في قصيدة «كأس المخافر» التي تعتمد تقنية اختزال الكثافة والإيحاء، شان أغلب قصائد سقط سهوا، يقول الشاعر:

حدثيني،

كيف أكون نبيا في أول العمر؟!­­ أسلم ظهري للعصا --

أشق بالعصا هذا الماء !

--------

حدثيني،

كيف أحتسي الوقت في كأس المخافر؟ (ص. 34)

في هذا النص تأكيد للبعد العلائقي، الذي يكشف الترابط الوظيفي لشعرية تتوخى بناء فضائها الحداثي انطلاقا من التعدد الخصيب الحافل بالإحالات التي تكتسي هنا سمة ترميزية وتمظهرا هرمونيطقيا.

إن الشاعر هنا يحركه فكر العود الأبدي وإرادة الاستشراف التنبئي، لذا فهو يتوق إلى الحلول الاستعاري في ذات النبي، وفي ذلك إحالة رمزية إلى إعادة اقتباس قواه الخفية القادرة على استجلاء العالم، وتحويل المكان إلى فضاء قابل للتجريب الخارق.

وتمثل العصا مؤشرا رمزيا للوسيلة التي يتم بها الاختراق، والشاعر هنا يستعير من النبي موسى عصاه التي يأتي بها الخوارق كما تكشف عن ذلك النصوص المقدسة ومن بينها القرآن، ليحقق بها عودة الكائن النبوئي الذي ليس هو في النهاية سوى الشاعر بوصفه امتدادا روحيا يحمل المكونات الخفية، وطاقات الإنجاز الإعجازي التي تمكنه من اجتياز عتبات الما وراء، والحلول في الرؤيا، وبذلك فهو يحول الخرق المادي الملموس كما تتناوله الأساطير، إلى خرق سيميائي تأويلي للوجود؛ إذا كان موسى يشق بعصاه ماء البحر هروبا من جبروت فرعون، فإن الشاعر هنا يشق بعصاه المعارة الماء، ليهرب من التشييء الذي كاد يحول الذوات إلى أشكال متموضعة، يسلبها الواقع أغوراها الروحية وخصوصياتها التخييلية، وما الماء هنا إلا علامة للانسياب الروحي التي تحيل إلى الغور والعمق، كما ترمز إلى الدلالة الشعرية، إنه إحدى سمات الاستعارة الحية في نص «الماء» يقول الشاعر:

الماء جرح.

والماء كتابة !

---------

---------

لو أعرف، أفتح عيون جرحي

ما أمطرت سحابة! (ص33)

وحتى عندما يقارن الشاعر بين الماء وعلامة اسمية ليكشف أبعاده الاستعارية، فإنه يبقي على بؤرة مؤشرة على السيولة، سمة الماء الأساسية، كما يترك التأويل السيمي مفتوحا على البعد التخيلي، وهو ما يتجلى في تشبيه الماء بالجرح من جهة، وتشبيهه بالكتابة من جهة أخرى، وهو ما يعني هوس الشاعر برؤية ما بداخل الأشياء أي الانتقال من الوقوف على السطح إلى تشطير السطح ذاته وإخراج متحجبه. فإذا كان انبجاس الماء من الصخر خروجا نحو الحياة وديمومة لديناميكية الصيرورة، فإن الجرح هو إخراج للمعاناة ولكل ما يعتمل بالذات نحو سطح الوجود.

إنه إدراك عميقي للكون، ومعاينة للأمارة سمة التمظهر «الفينومولوجي» «الخالق»، وهو ما يعبر عنه الشاعر في نص عنوانه «شرفة الحجر» قائلا:

يمر الوقت ---- وتنبجس الأمارة ! ها إنني في القعر أعاند انزلاق الوقت أدفع الصخرة وأصعد أرى جرح الأشياء من داخل الزجاجة. أخربش الجدار المبلل بالشراب لا شرفة هنا لا باب

أتسلق الخربشات وأصعد … -------------------------------

أطل مدحجا بالحجر المشطور زمنيين ! (53) الذات هنا تمارس لعبتي الصراع بين عنصري الزمان والمكان، تتوق للانفلات من عوائقها الموضوعية التي تحول دون ولوج البعد الخلفي للفيزياء، ودون فتح عتبات الفضاء الرؤيوي، الذي تحقق فيه الذات شعريتها المحتفلة بالأشياء البرية، ومن ثم فهي تحاول كسر جدارات الحظر الإبداعي، عبر مقاومة انزلاق الزمن، والصعود فوق المكان، للإطلالة على هذا العالم الخفي المنبثق من الجرح من الانشطار. فحين يجد الشاعر ذاته محاصرة داخل العمق العقيم، مكبلة بأذيال الوقت، ويشلها غور المكان، فإنه يستعين بقواه الإبداعية، وإمكاناته التخييلية للعمل علي تدمير التحجب، وما الدال (شرفة) الذي وظفه الشاعر هنا كعنوان للنص، إلا مؤشرا تأويليا على الاستشراف الحيوي، الذي تحقق من خلاله الذات خلاصها من الإعاقة السالبة لطاقات التحرر، وإرادة الرؤيا. خلاصـة

تعتبر قراءة «سقط سهوا» مفتاحا أساسيا لقراءة التجربة الشعرية لحسن نجمي باعتباره صوتا شعريا استطاع أن يبلور قصيدته الشعرية انطلاقا من تفاعله الديناميكي مع مختلف التجارب الشعرية العربية والعالمية، الشيء الذي مكنه من تجاوز عوائق الشعرية، وفي مقدمتها العائق الإيديولوجي الذي حول أغلب قصائد الفترة السبعينية إلى خطابات منظومة، تفكر في التغيير لكنها ظلت حبيسة التقليد الوعظي المباشر، المبشر بإيديولوجية التحرر والانعتاق. ولا يعني هذا أن كل قصائد المد الثوري والتحرري غير إبداعية أو أنها تكرر الجاهز؛ فهناك تجارب شعرية عربية ومغربية وعالمية استطاعت احتواء الإيديولوجيا لتكون القصيدة المنتجة دليل التغيير ومؤشر الحداثة التي لا تبشر بالجاهز بقدر ما تقول المستقبل وتستكنه الذات والعالم. وهذا ما يشكل أساس وعي لدى الشاعر حسن نجمي بالعائق الإيديولوجي الذي تمكن من تخطيه في «سقط سهوا»، واختار بذلك قصيدة الاختزال والرؤية الإيحائية، عوض خطاب الإطناب الإيديولوجي، والصور المبتذلة، حيث تأنف القصيدة داخل التجربة الجديدة من الاسترسال المجاني في عرض الصور، والخضوع لسيولة اللغة. عوض ذلك إنها لا تقول إلا ما تقتضيه المغامرة الشعرية التي تقتنص فلتات الذات والعالم، لتحولها إلى ومضات، وهذا هو الرهان الأصعب لكل تجربة تنشد الاختلاف والتعدد، وهو ما عبر عنه جان كوهين حين أكد أن الشعرية يجب أن تكون محايثة للشعر، ومن ثم فالشاعر يتميز بقوله لا بتفكيره وإحساسه «إنه خالق كلمات وليس خالق أفكار، وترجع عبقريتـه كلهـا إلى الإبـداع اللغوي»[4]. ونحن نتابع تطور المسار الشعري لحسن نجمي بداية من هذه المجموعة [5]، وانتهاء بحياة صغيرة، وما ينشره بين الفينة والأخرى في المنابر الأدبية، نستطيع أن نزعم بأن الشاعر كسب رهان الشعرية، وأضحى ينتج قصائده الموسومة بإبداعيتها اللغوية، وتفتقها الشعري. كما سنتناول قراءة: «الرياح البنية» بوصفه نتاجا لعمل التناص -أجناسي، أي تدخلا وثيقا بين الشعر والتشكيل، بين رؤية الفنان محمد قاسمي، ورؤية شاعر مهووس بالحرف، جمعت بينها لحظة قراءة لفعل الحرب التدميري، الموجه صوب الكائن الحي. ثم ننتقل بعد ذلك إلى ديوان الشاعر الجديد الصادر عن دار توبقال، أعني «حياة صغيرة»، الذي يعد وجهة نظر نقدية عميقة تجربة ناضجة تعبر بحق عن مسار جديد في الشعرية العربية.

 

[1] Alexandre Kojeve: Introduction à la lecture de Hegel. Gallimard. Collection Tel 1947 .p12 .

[2] J.P Sartre: Qu’est ce que la Littérature? Gallimard. Coll. Idées. p. 70.

[3] Roland Barthes: Mythlogies. Seuil 1957 Collection Points. Séries Civilisation , p. 31.

[4] جان كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري دار توبقال للنشر. الطبعة الأولى 1986 .ص40.

[5] حسن نجمي: سقط سهوا، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى البيضاء 1990.

 

 

 

موارد نصيـة

عبد العزيز بومسهولي

الكائن الشعري

المحتــوى

تقديـــــــم

كائن النفي واكتشاف الظهور قراءة في «سقط سهوا»

«الرياح البنية». الشعري والبصري

الشعرية التشكيلية. قراءة في «حياة صغيرة»

الكائن الشعري ومكر الشعر. قراءة في «المستحمات»

في حوار مع الشاعر حسن نجمي: كتابة الشعر بروح كونية

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.