في حوار مع الشاعر حسن نجمي

- كتابة الشعر بروح كونية -

 

يعتبر «حسن نجمي» الشاعر المغربي، من أكثر الأسماء الشعرية حضورا في فضاء ما نسميه - المغرب الشعري المعاصر - سواء على مستوى التراكم الشعري، خاصة إذا قورن بشعراء جيله الثمانيني، أو على مستوى التميز والتنوع والاختلاف؛ فهو خط مسارا شعريا يحاول من خلاله أن ينفرد بصوته. ويمثل عمله الشعري الأخير «حياة صغيرة» الذي صدر عن «دار توبقال» تجربة لافتة لانتباه المشتغلين بالنقد الشعري. ويبدو أن الشاعر في هذا العمل قد حاول أن يحقق ما نسميه بالشعرية البصرية التي يتمفصل فيها الرسم بالتأشير الشعري؛ فهو إذ يحاول اقتناص الفلتات، فإنه يعمل على تهريبها من مجالها المحدد بالرؤية إلى مجال الترميز ولغة الانزياح المحددة بالرؤيا التي تعيد تشكيل البصري ليضحى لغة ناطقة حية.

ولا ننس كذلك أن نذكر بدخول حسن نجمي إلى مغامرة التجريب الروائي، من خلال إصداره رواية «الحجاب» التي أثارت بدورها كتابات نقدية بالمغرب والمشرق. وأشير هنا إلى إعجاب الناقد السوري «صبحي حديدي» بهذا العمل الإبداعي الذي يخط فيه نجمي كسارد رؤيته التي تتميز كعادته بالفرادة والمجازفة الإبداعية.

لنجمي حضور فاعل في الساحة الثقافية – الأدبية؛ فهو أحد مؤسسي بيت الشعر في المغرب، كما أنه رئيس اتحاد كتاب المغرب الذي عرفت ولايته دينامية فعالة وانفتاحا على مختلف الفعاليات الثقافية المغربية والعربية أيضا.

ونجمي إلى جانب هذا صحافي ناجح في جريدة الاتحاد الاشتراكي الأكثر مقروئية في المغرب، وقد كان مشرفا على الصفحة الثقافية - الأخيرة - والملحق الثقافي للجريدة. وهو الآن رئيس مكتب جريدة الاتحاد الاشتراكي في الرباط. وفيما حوار نقدي حاولنا من خلاله مناقشة الشاعر قضايا الشعر يلي حوار نقدي حاولنا من خلاله مناقشة الشاعر قضايا الشعر الجوهرية، وأثرنا معه مسائل ثقافية معاصرة:

نص الحوار

* بعد تجربتكم المشتركة مع الفنان التشكيلي «محمد القاسمي» في «الرياح البنية» انخرطتم في عمل مفتوح يبني خطابا بصريا بالأداة الشعرية، والإشارة هنا تخص ديوان «حياة صغيرة» الذي تكشف نصوصه عن جمالية يتمفصل فيها التشكيلي بالشعري، والذي تعتبرونه انطلاقتكم الأساسية والنوعية. أود أن توضحوا للقارئ العربي المنطلقات الشعرية التي جعلتكم تختارون هذه الإمكانية التجريبية للكتابة.

- أنت تريدني أن أنتقل من وضع الشاعر إلى وضع ناقد، وهو أمر ليس سهلا بالكيفية التي يمكن تصورها، موقف أشبه بمن يكون عليه أن يطل من النافذة ليرى نفسه وهو يمشي في الشارع في اللحظة نفسها.

مع ذلك، يمكنني أن أقول بأن الأمر لا يتعلق باختيار مسبق. بل بنوع من القدرية الخاصة. أن تجد نفسك مدفوعا لفعل شيء، أو أن تجد من داخلك استعدادا معينا لذلك. بدون أن يعني هذا أن لذلك قرارا جاهزا. لكنك بعد إنهاء قصيدة أولى وثانية وثالثة، وعندما تريد أن تركب مجموعة شعرية لتنشرها تبحث عما يجمع هذه القصائد من حد أدنى معين من التقاطعات والنقط المشتركة.

هكذا يكتشف الشاعر «استراتيجية» كتابته بعد أن يكون قد أكمل عملا شعريا وأصبحت بينه وبين عمله ذاك مسافة معينة. وقد يساعده النقد المكتوب أو الشفوي على اكتشاف ذلك بل وفهمه واستيعابه أيضا.

في «حياة صغيرة» جمعت نصوصا شعرية بينهما تجاوبات جوهرية وأبعدت أخرى لا تمضي في نفس الأفق.

* أبعدتها نهائيا أم أجلت نشرها؟

- بعضها أبعد نهائيا، وبعضها الآخر احتفظت به لنشره، في مجموعة شعرية أخرى حرصا على نوع من التكامل، مثلا أبعدت عن هذه المجوعة قصيدة «ثكنة إسماعيل» لأنها تشتغل بالأساس على الذاكرة، وكذلك قصائد قصيرة أخرى.

لقد كنت في «الرياح البنية» أستشعر الحاجة إلى نص تشكيلي براني يوازي القصيدة ويضيف إليها بعدا بصريا لم تنجح اللغة تماما في بلورته من داخلها. ما يشبه نصا مصاحبا أو نصا مساعدا للقصيدة، إن صح التعبير.

أما في جل نصوص «حياة صغيرة» - فيما أظن - فثمة شعر مكتف بذاته. حيث الأنا المقتربة من النص هي أنا التجربة الحية في الغالب، وليست حضورا لنصوص أخرى مقروءة ومستعادة، حيث شعرية البدائي أساسا، هذه الشعرية التي تبدأ من حرص الكتابة على السمات الدلالية الأولية للمعجم. وذلك بالمعنى الذي لا تبقى اللغة فيه هي كل شيء في القصيدة. وإنما تصبح التجربة هي الرهان الأساس. التجربة الحسية عموما. والمرئي منها بالأخص.

فما أراه في المشهد اليومي، وما أراه في المنظر الطبيعي (Paysage) هو الخطوة الأولى الضرورية في المغامرة الشعرية (L’aventure poétique)، ولذلك أهرب من كل تورم في الكتابة، وأبحث عن معادل صوري لما أراه في المعيش. من ثم فالشاعر هو الشخص الوحيد الذي ينبغي ألا تكون الثرثرة «موهبته»، لا ينبغي أن تكون قصيدته حبرا يسيل على بياض الصفحة.

ولعلك في قراءتك النقدية، وكذا من خلال قراءات نقدية أخرى لمجموعتي «حياة صغيرة» أدركت أن الشاعر لا يذهب بالكلمات إلى المرجع البصري ، بل يحاول أن يحمل هذا المرجع إلى كلمات.

بالنسبة إلي، الحياة تومض أولا في العين، في الجسد قبل أن تومض في الكلمات الكسولة.

لا نمض بعيدا، إن مدينة الدار البيضاء التي أعيش فيها يوميا ليست فقط هي رتابة الإٍسمنت والإسفلت، وعلب السردين المزدحمة بالبشر، بل هي بالنسبة إلي أساسا هذه الصور التي تقفز من كل نظر، هذه الصور الدافقة التي تشكل المادة الأولى في صوغ القصيدة.

* وهؤلاء الأشخاص والأصدقاء الذين التقطتهم قصائد كثيرة من مجموعتك؟

- لقد كتبت عما يهمني في أصدقائي، عما اعتبره أو اعتبره شعريا فيهم: هدأة معينة، فتنة خاصة، صمت مختلف، أخوة شعر، يتم قصيدة، منفى كلمة، أو فكرة أو حلم...

إن « ن- أ» في مجموعة «حياة صغيرة» اقتضت صداقته أن أكتب عدة نصوص عنه وحوله. ولولا بساطته وشعرية شخصه ذي البعد الزراعي، وبداوة حياته اليومية ما كتبت شيئا ، وما كانت هذه النصوص – البورتريهات- تنهض كما نهضت. و هو ليس اسما عابرا، إنه رجل منح شيئا للمغرب، غير شيئا في المغرب. وهو يعطي للصمت معنى عميقا مثلما يعطى للكلام قوة الصراخ ومن هنا يأتي الشعر كما أتصور.

* الشعر بوصفه جنسا هو خطاب مشروع غير مكتمل ولا نهائي. ولذلك فهو يتماس، و يجاور خطابات أخرى: الرواية، القصة القصيرة ، السينما ، الموسيقى، المسرح... فهل معنى ذلك أن الشعر تلاشي في هذه الخطابات أم أنه بفضلها اكتسب التجدد والاستمرار؟

- لا أتصور شعرا معزولا عن باقي الأجناس الإبداعية مثلما لا أتصور أجناسا إبداعية يمكنها أن تتجرد من علائقها مع الشعر أو من بعدها الشعري. نعم للمسألة الأجناسية مقتضياتها. لكن جوهر كل جنس إبداعي هو الشعر. ليس هناك جمال بدون شعر، بل ليس هناك علم للجمال بدون أسس شعرية.

لذلك فالشعر يتغذى ويغذي في آن. وهو غير مكتمل أو لا نهائي بالفعل لأنه مفتوح على الدوام، مفتوح لتعدد القراءات ولمختلف أشكال التحيين اللاحقة.

وعندما ما يكون هناك شعر مكتمل ونهائي فلن يكون إلا نظما، أما النص الشعري الحقيقي فهو ذاك القابل للتجدد مع وصول كل قارئ جديد، مع عودة قارئ قديم، بإحساس آخر وبقابلية مختلفة.

* هل الانخراط في كتابة الرواية يعني بالنسبة إليكم ملاءما لا تستطيع الرؤية الشعرية أن تستدعيه من عالم اللاتحجب - عالم اللإضاءة - أم أنها تعبير عن هوس التجريب الإبداعي؟

- لا هذا ولا ذاك ، فكرت في كتابة نص يستوعب لحظة قاسية عشتها في عملي المهني في صيف 1992 عندما فوجئت بقرار عزل إيديولوجي فادح: أبعدت عن عملي، وتقريبا طلب مني ألا أفكر. وهكذا وجدت نفسي - في ظل هذا الوضع القلق - أكتب نصا نثريا مفتوحا، أصبح فيما بعد نصا سرديا بعنوان «لسان الحال» ثم «المعزل» ليستقر في النهاية على عنوان «الحجاب ».

أما من حيث البناء فقد كتبت «الحجاب» تحث تأثير المعطيات النظرية والجمالية التي كتبت في أفقها رسالتي الجامعية. حول «شعرية الفضاء الأدبي»، ولذلك جاء النص أقل احتفاء بالمتن الحكائي، بل جعله مجرد ذريعة لإنجاز كتابة أدبية، فضائية بامتياز.

أحيانا يحتاج المرء الفرصة ليشكر النقمة التي أهدت إليه النعمة. ولولا ذلك التوتر الرهيب الضاغط في صيف 92 لما كتبت هذا العمل في أقل من أسبوعين….

* في روايتكم الجديدة «الحجاب» التي ثم إبداعها في غمرة توتر ضاغطة كما قلتم يحضر الشعر لا بوصفه جنسا، أو صياغة شعرية لمقاطع السرد الروائي، ولكن كرؤيا متحفزة لإظهار المنحجب، والتعبير عن التوتر الحيوي، فهل نستطيع أن نقول بأنكم هنا تقومون بخرق شعري للرواية تكسيرا لنمطيتها السائدة؟

- لم أقصد اختراق الرواية بالشعر، بل ببساطة كتبت نصا سرديا بوصفي شاعرا. لك أن تصفها برواية شاعر، ولك أن تجد في شعريتها ما يخفف من نمطية الكتابة الروائية السائدة. إن منتهى الطموح لم يكن أكثر من كتابة نص يستوعب لحظة توتر شخصي، لكن النص بعد إنجازه جعلني أتأمل أهمية أن أكتب نصوصا أخرى غير قصدية، بروحه وبشافيته وخصوصيته الشعرية.

لنتذكر الكتابات النثرية أو السردية للشعراء أدونيس محمود درويش، سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر، توفيق الصايغ، محمد بنيس، الطاهر بن جلون، محمد خير الدين، عبد اللطيف اللعبي، أمجد ناصر، عبد القادر الجنابي، الأشعري.

* ألا تكون هذه المسألة متعلقة أيضا بإثبات صيرورة الشعر، وعوده الأبدي، مقابل سيادة نوع من الخطاب التمجيدي للرواية، حيث يدعي بعض النقاد – المنتصرون لإيديولوجيا «الحضور» والبعد الوحيد للإبداع، موت الشعر، وتربع الرواية على عرش الأجناس؟

- إن هذه الخطابات الإعلامية التي تمجد الرواية على حساب الأجناس الإبداعية الأخرى في العالم العربي تكشف عن ضعف الوعي الجمالي السائد. ونحن لا نكتب الشعر كرد فعل على الرواية أو القصة القصيرة، أو المسرحية، أو اللوحة، أو الصورة السينمائية...

لذلك لا ينبغي الزعم بأننا نكتب الرواية كشعراء لكي ننبز الروائيين أو لمجرد تأكيد قدرتنا على كتابتها. الكتابة ضرورة وتختار شكلها الملائم من داخل صيرورتها. إن الروائي الذي يحلم بتشييد مملكة روائية عربية على أنقاض الشعر لا يمكن إلا أن يثير الإشفاق. ذلك لأننا بحاجة إلى كل الأجناس الإبداعية، وكل الحقول الفكرية، ولا معنى لأن ننتصر لجنس على حساب آخر أو نسعى لإلغاء حقب فكري لحساب هيمنة حقل آخر.

هذا غير مقبول، فضلا عن أنه غير ممكن بطبيعة الحال.

* أرى أن الحديث عن النهاية مشروع إذا ما أولناه بتداخل الأجناس، وتلاشي الحدود التي تميز كل جنس أدبي عن آخر، فهل تتفقون معي؟

- أوافقك، ولا أوافقك في نفس الآن، فمثل هذا الحديث مشروع، ولكنه في ظني غير مؤسس نظريا. انهيار أو تلاشي الحدود التجنيسية بين جنس أدبي وآخر، لا يعني أنه يضع نهاية لهذا الجنس أو ذاك.

* أود لو تكشفون لي عن شجرة الأنساب الشعرية التي تنتمون إليها؟

- يتمنى الشاعر عادة من نقاده وقرائه الكشف عن شجرة أنسابه الشعرية من خلال تفحص نصوصه أو تفكيكها. ولا أظن أن هناك شاعرا يمكنه أن يعرف شجرة أنسابه الشعرية كاملة. شخصيا أعرف بعضا من أنسابي القديمة (ريتسوس – غيللفيك، بونج، أدونيس، سعدي يوسف…) وأعرف الذين أقرأ لهم الآن بشغف: ولاس ستيفنز، روني شار، روبيرتو خوارث ، فيليب جاكوتي، ساندروبينا، إيفان بلاتني وغيرهما. كما أنصت باهتمام لما يكتبه عدد من الشعراء من المغرب والعالم العربي، ودائما ألح على ما أتعلمه من الكتابات النقدية، فالشعر يتغذى من كل معرفة شعرية نقدية. وما كتبه ويكتبه نقاد مبدعون من أمثال جابر عصفور، أدونيس، كمال أبو ديب، محمد بنيس، محمد السرغيني، محمد مفتاح، حاتم الصكر، عبد العزيز المقالح، صبحي حديدي … يظل بالنسبة لي شخصيا مهما جدا في تكويني الشعري.

* لاحظت في «حياة صغيرة» أن هناك رؤية تهدف إلى إعادة اكتشاف وحدة الإنسان والطبيعة وتلاحمها كما هو شأن النزعة الطاوية التي تستوحون- ربما – رؤيتها للعالم لتقويم الحاضر وقراءته.

فهل هي استجابة لرغبة بناء جنيالوجيا شعرية تكشف الأوليات والأصول التي تعيدون من خلالها إضاءة العالم المعاصر وتأويله؟

- لك الحق أن تسألني وتضمن سؤالك بعضا من الإجابة، فأنت واكبت تجربتي الصغيرة وسيتيح لك وضعك كملاحظ من خارجها إمكانية أفضل للاستنباط والتثمين.

شخصيا لا أعرف الجواب الصحيح، وصدقني … ليس تحايلا. لكنني أستطيع في المقابل أن أؤكد لك رهاني على المنزع الطاوي في تصفية كتابتي الشعرية من كل ضجيج محتمل. أما عن وحدة الكائن والطبيعة، فلا يتعلق الأمر بإعادة اكتشاف – فيما أظن – لأن هذه الوحدة كامنة أساسا في الروح البدائية التي أحاول يوميا أن أصونها وسط غابات الاسمنت التي تلفني يوميا، كامنة كذلك في البداوة كجوهر، كمرجع،كأصول، وكسجل صور، وذخيرة مشاهد. لذلك….

* ما رأيكم في ادعاء بعض الشعراء القائل بأن قصيدة النثر هي الأفق النهائي للشعر؟

- لا أفهم ما معنى أن تكون قصيدة النثر أفقا نهائيا للشعر، وأخشى أن مثل هذه التأكيدات لا ينبعث من صلب المعرفة الشعرية؛ فهي تشبه تلك التأكيدات التي تقول بنهاية التاريخ أو نهاية الإيديولوجيا، بينما تتواصل طواحين التاريخ والإيديويوجيا.

قصيدة النثر تشكل لحظة شعرية أساسية، لكنها لا تلغي الديمومة بكاملها. إنها أفق من آفاق الكتابة الشعرية العربية، ولذلك لا يمكنها بأية حال أن تعوض باقي الأبعاد أو تلغيها، وأتصور أن موقفا راديكاليا، كهذا ليس غير رد فعل على أولئك الذين يتحدثون عن قصيدة النثر بعقلية أصحاب الضيعات.

أعتبر قصيدة النثر رئة أخرى للشعر العربي، وربما غدت أكثر الرئات امتلاء بالهواء الطلق.

* ألاحظ أن هناك اهتماما نقديا يتزامن وإصداراتك الشعرية، فهل لهذا الحضور النقدي تأثير ملموس يحفزك على عدم الوقوف عند محطة بذاتها؟

- لعل الاهتمام النقدي الذي تلاحظه يستجيب أولا لنص شعري له رهاناته الشعرية والجمالية. لكن أيضا، هناك الوضع الاعتباري للشاعر وطبيعة حضوره، وربما في الحقل الثقافي والاجتماعي والإعلامي.

ومثل هذا الاعتبار السوسيولوجي ينبغي استحضاره بطبيعة الحال.

* ما رأيكم في واقع نقد الشعر بالمغرب لا سيما وأن هذا الموضوع يشكل واحدا من أهم انشغالاتكم الأساسية؟

- هناك محاولات جادة لتشييد خطاب نقدي حول الشعر، وما كتبه محمد بنيس / والمرحوم عبد الله راجع، ومحمد السرغيني، وأحمد المجاطي، ومحمد مفتاح، وباحثون آخرون على المستوى الجامعي، ليس بسيطا في هذا الإطار، إضافة إلى ما ينجزه نقاد آخرون خارج الجامعة.

إن النص الشعري، كما هو معروف، لا يمنح نفسه بسهولة. لذلك تجد الطابع الوثائقي والتسجيلي في الكتابة السردية أكثر منه في الكتابة الشعرية، لذلك تتجه أغلبية القراءات النقدية في المغرب إلى السرديات حتى باتت تتشابه من حيث الأدوات والمفاهيم و المناهج والخلاصات، وأصبح بالإمكان أن تأخذ القراءات النقدية لرواية معينة وتغير الأسماء فقط لتتلائم مع روايات أخرى لم توضع لها أصلا. ومن ثم ربما كانت الكتابة الشعرية أكثر أهلية لتطوير الممارسة النقدية واختبار القدرات الذاتية للناقد.

* هذا يقودنا إلى الحديث عن إسهام فعاليات المغرب في حركية الشعريات العربية المعاصرة، فهل يمكننا الحديث عن مغرب شعري، وما هي ملامح وفرادة هذا الفضاء داخل التعدد الشعري الشامل؟

- إن المغرب الشعري كان دائما موجودا، وما كان غائبا بالذات هو الاهتمام العربي، والمشرقي تحديدا بهذا المغرب.

لقد ظن الأشقاء العرب أن غياب أو تغييب شيء لا يعني أنه غير موجود .

دعني أشير أولا إلى أن المغرب الشعري هو مغرب تاريخي ومتعدد تاريخي بالمعنى الذي كانت فيه للمغرب خريطة تمتد من الأندلس إلى نهر السينغال بما يفهم من ذلك من نفوذ سياسي واقتصادي وفكري وثقافي. ومتعدد بالمعنى الذي جعل القصيدة المغربية تكتب بالعربية الكلاسيكية (لا أسميها الفصحى كما تلاحظ) بالعربية العامية / وبالأمازيغية / بالحسانية، بالفرنسية، بالإسبانية، وبالإنجليزية. ولا يمكن أن يقنعني أحد بأن قصيدة «محمد خير الدين» أو «عبد اللطيف اللعبي» أو «مصطفى النيسابوري» أو «الطاهر بن جلون» أو «عبد الكبير الخطيبي» ليست قصيدة مغربية رغم أنها مكتوبة أصلا باللغة الفرنسية تماما، كما يمكن قول نفس الشيء عن الشاعر اللبناني «صلاح ستيتيه» أو شعراء الجزائر «كاتب ياسين أو مالك حداد، أو محمد ديب». إن اختزال المغرب الشعري في الكتابة الشعرية المعاصرة يلغى تاريخية مسارنا الشعري، كما أن اختزال الشعرية المغربية في الكتابة العربية الكلاسيكية وحدها يعبر عن جهل، أو سوء فهم، أو سوء نية، لكي لا تكون للمغرب أسماؤه الإبداعية الكبرى، ولكي يظل الاعتقاد السائد بأن المغرب كان دائما مغرب فقهاء لا مغرب شعراء.

ولذلك فحياتنا من المؤرخين المشارقة للأدب العربي ليست جديدة ولعل «النخوة» المغربية التي هزت المرحوم عبد الله كنون، وجعلته يؤلف كتابه الشهير «النبوغ المغربي في الأدب المغربي» الذي نوه به المرحوم طه حسين كما نعلم، لم يعد لها مبرر اليوم.

فها نحن نكتب الشعر بروح كونية تتخطى مجموع مشاعرنا القديمة تجاه «المعيار» المشرقي. نكتب ونطل من النوافذ مختلفة على حدائق الشعر العالمي. ونفس الشيء يفعله الأصدقاء في المشرق، وما أصبح أكيدا أننا نعثر على شعر مغربي قد يكون أفضل من كثير مما ينشر من شعر في المشرق العربي اليوم مثلما نعثر على الشعر في المشرق أفضل من كثير من شعرنا الذي تعج به الصحف والمجلات عندنا.

* ما هي مشاريعكم الإنتاجية – الإبداعية المقبلة؟

- هناك شذرات شعرية لا أعرف إلى أين تقود نفسها في الفترة المقبلة. من يدرى، فقد تولد منها نصوص شعرية أو نصوص سردية. وقد أعجز فأنشرها كما هي ليعرف القراء بعضا من أعطابنا وحالات عجزنا الخاصة.

ولا أكتمك لقد بدأت في السنوات الأخيرة أستشعر حالة اليتم التي دأب عدد من الكتاب والشعراء في العالم على استشعارها عندما لا يجدون رواية أو مجموعة شعرية يدفعونها للطبع. ومثل هذا الشعور يحتاج إلى طاقة صبر خاصة لكي لا يدفع المبدع أي قيء إلى القراء.

* بإعجاب كبير استمعت مؤخرا إلى القاص المغربي الكبير « أحمد بوزفور» وهو يتحدث عن نقائص تجربته، فهل تستطيعون أنتم أيضا أن تلامسوا هذه النقائص من منطلق ذاتي؟

- لا أستطيع أن أسمي كل حالات نقصي وضعفي وإن كنت أستطيع أن أصفها.

أنت تعرف أنني وصفت كثيرا منها بالفعل. في نص «الحجاب»: شخص بطيبوبة تبلغ حد السذاجة، بكسل لا يضاهى، لا يعرف كيف يكون الأول برغم كل الإمكانيات الذاتية سريع العطب، تكاد تكون شخصيته «ممحوة» بالمعنى الذي يجعله في وضع من يود الاعتذار عن وجوده، مريض بالنسيان، يخدم الآخرين وينسى نفسه تماما، رهينة لمداومة بعض الأخلاقيات المتورمة، متسامح أكثر مما يجب… إلى الحد الذي يجعله يرى الأعداء أصدقاء ويوجد الأعذار للجميع.

* وشعريا؟

- شعريا لي عيب أساس هو الإفراط في التواضع (إزاء الالتزام العمومي). إنه يحد من الحرية الممكنة للقصيدة إذا صح التعبير.

أقصد أن تحقق الشعرية لا يتم دون تجاوز فعلي للأخلاقيات الاجتماعية والالتزام السياسي بمعناه الخانق. وبدون تحقق لفردانية الشاعر الذي ينبغي أن تكون له خطوته وحده بالضرورة حتى وإن كان يمشي برفقة الآخرين.

* كلمة أخرى وليست أخيرة.

- لقد تعلمت منك، مما كتبت عن أعمالي، وعن أعمال الآخرين.

دعني أشكرك وأشكر لك هذا الإصرار على كتابة نقد الشعر في المغرب برغم كل شيء، أنت وآخرون من النقاد والشعراء المغاربة. أستسمح أن أذكر منهم الأصدقاء محمد بنيس، محمد السرغيني، العربي الحمداوي، قمري البشير، محمد علوط، عبد الجليل ناظم، عبد الله شريف، محمد الزاهيري، صلاح بوسريف، حسن مخافي، يحيى بن الوليد، علي آيت أوشان... من أيضا ؟

ما أقل نقاد الشعر !

«أجرى الحوار عبد العزيز بومسهولي »

 

 
 

 

موارد نصيـة

عبد العزيز بومسهولي

الكائن الشعري

المحتــوى

تقديـــــــم

كائن النفي واكتشاف الظهور قراءة في «سقط سهوا»

«الرياح البنية». الشعري والبصري

الشعرية التشكيلية. قراءة في «حياة صغيرة»

الكائن الشعري ومكر الشعر. قراءة في «المستحمات»

في حوار مع الشاعر حسن نجمي: كتابة الشعر بروح كونية

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.