حميد اتباتـو

الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والإيروسية والنفسية للعمل الجنسي...

في حوار مع الدكتور عبد الصمد الديالمي


يعتبر الدكتور الديالمي من بين علماء الاجتماع الجادين الذيت يسعون إلى تأسيس وجهات نظر علمية وجادة تنبني أساسا على خلخلة الطروحات والمفاهيم والرؤى التي تم ترسيخها في حقلنا المغربي والثقافي، والتي يساهم الكل في إعادة إنتاجها من خلال عدم مساءلتها. قصدناه بأسئلتنا حول الدعارة وتحديدها, وحول سؤال الدعارة من داخل المجال السوسيولوجي، وحول الدوافع الثقافية والاجتماعية للدعارة, وحول وظائف الدعارة الاقتصادية والنفسية الإيروسية, وقد حصل ما انتظرناه وهو نسف الدكتور الديالمي للطروحات السائدة حول الموضوع وقد بنى هذا النسف على نقض مفاهيم »الدعارة« و»العهارة« و»البغاء« ليطرح في الأخير رأيه الجريء في الموضوع يفكك بآليات جديدة سؤال الجنس بالمغرب وسؤال المسألة الجنسية بصفة عامة.

***

 

في الحاجة إلى تجديد المفاهيم ونسف الأحكام الأخلاقية:

شكرا لك شخصيا وشكرا للأحداث المغربية على توجيهها لسؤال الدعارة إلي باعتباري عالم اجتماع.

وأود أن أقول في البداية شيئا يبدو أساسيا هو أنه ينبغي التساؤل حول مفهوم الدعارة أو العهارة لأن الدعارة أو العهارة تسميات تستعمل بشكل كبير وهي مفاهيم مستعملة بكثرة بالإضافة إلى مفهوم البغاء, وحينما نتكلم عن الدعارة أو العهارة فإن هذه التسميات تحمل حكما أخلاقيا على السلوك وحينما نقول دعارة أو عهارة نعني أن المرأة العاهرة والمرأة الداعرة امرأة تستحق اللوم والتهميش الاجتماعي, فالسؤال الذي يطرح هنا هو إلى أي حد يجوز لعلم الاجتماع في فعله الوصفي والتحليلي أن يستعمل المفاهيم الأخلاقية التي يستعملها الحس المشترك؟

إن هذا السؤال يقود إلى الوعي بضرورة استدعاء إدراك آخر هو إدراك علمي وإدراك سوسيولوجي لا يعيد إنتاج الحكم الأخلاقي من خلال استعمال نفس المفاهيم التي يستعملها المجتمع. لنأخذ المفهوم الآخر الذي يبدو أكثر حيادا وهو مفهوم البغاء لأن البغاء مبدئيا وظاهريا لا يسع نفس الحمولة الأخلاقية التي نجدها في مفهوم الدعارة أو العهارة, فالبغاء أصله فعل بغى يبغي بمعنى أن المرأة التي تتعاطى البغاء تبغي أي تقبل أن تمارس الجنس مع الرجال في إطار شرعي مقابل نقود ولكن السؤال الذي يطرح هل المرأة الباغية تبغي فعلا؟ أي حينما نقول إنها بغي نفترض أنها تبغي والسؤال المطروح هنا هل هي تبغي فعلا وهل لها رغبة جنسية فعلا؟ هل هي مستعدة؟ هل تتمتع في تلك اللحظة أم تسمى بغيا, وفي نفس الوقت لا تبغي؟ فهذه مفارقة نجدها في صلب مفهوم البغاء نفسه, وأنا أعتقد, (وهذا من الأشياء المعروفة الآن) أن البغي، لا تبغي ممارسة الجنس بهذا الشكل، مضطرة لممارسة الجنس في هذا الإطار وبالتالي نرى أنه من جهة هناك حمولة أخلاقية دينية قانونية في مفهوم الدعارة أو العهارة وبهذا نجد تناقضا مؤسسا في مفهوم البغاء, لذا أعتقد أن على عالم الاجتماع أن يقطع مع المفاهيم الرائجة (قطيعة إبستمولوجية) أي ينبغي أن ينتج مفهوما آخر لوصف هذه الظاهرة وأعتقد أن المفهوم الآن الذي أصبح متداولا بالخصوص في الدول الأنجلوسكسونية والذي ينبغي أن ينصت إليه واحترامه هو مفهوم العمل الجنسي.

إن مفهوم العمل الجنسي ليس فيه حكما أخلاقيا من جهة ومن جهة ثانية لا يعني أن هناك رغبة في فعل الممارسة الجنسية مقابل نقود, إذ اعتقد أن على السوسيولوجيا المغربية بدورها أن تقطع مع الحس المشترك والمفاهيم المتداولة بشكل عام وعليها أن تتحلى بنوع من الحذر الإبستيمولوجي في التسمية لكي لا تعيد الحكم الأخلاقي الذي ينتجه المجتمع حول العمل الجنسي.

وحين نتكلم عن العمل الجنسي ينبغي أن نأخذ به بشكل دقيق , ومعناه القبول بممارسة الجنس أو استعمال الجنس مقابل نقود.

العامل الجنسي أو العاملة الجنسية يقبلان كراء الجسد مقابل نقود هذا هو المعنى الدقيق الذي ينبغي أن نفهمه من العمل الجنسي, أما قبول كراء الجسد أو إعطاء الجسد لشريك مقابل هدايا, لاينبغي أن نعتبره عملا جنسيا لأنه ليس علاقة أجرية, وهكذا حينما تقبل امرأة إعطاء جسدها لشريك مقابل خدمات ففي هذه الحالة لا يمكن أن نتكلم عن عمل جنسي لأن هذه العلاقة ليست علاقة أجرية, وهنا ينبغي في اعتقادي الشخصي أن نتكلم عن رشوة جنسية, فمثلا حين تعطي المرأة جسدها لمدير أو لإنسان له قوة أو سلطة لتمكينها من شيء أو أشياء ينبغي الحديث عن رشوة جنسية.

ما نؤكد عليه هو أنه ينبغي التمييز بين الرشوة الجنسية وبين العمل الجنسي حينما نتكلم عن الدعارة كما يفهمها المجتمع, ينبغي أن نقصد بالخصوص العمل الجنسي وليس الرشوة الجنسية.

وحينما نقوم بهذه التحديدات الأولية ينبغي أن نعترف بشيء هو أن المجتمع ونعني هنا المجتمع الأبيسي لأننا الآن نعيش في هذا البراديغم) براديغم المجتمع الأبيسي, منذ قرون عديدة, والمجتمع الأميسي ما هو إلا وهم أو أسطورة أو فرضية على كل حال لم يتحقق بأشكال استثنائية في التاريخ البشري يقوم على شيئين أساسيين: الشيء الأول هو إخضاع الجنس للزواج, وحينما نريد أن نمارس الجنس فإنه يقرن ويخضع إلى مؤسسة الزواج, والشيء الثاني (ولكن الظاهرة ليست عامة) هو الزواج الأحادي أي أن الرجل ينبغي أن يتزوج مع امرأة واحدة والمرأة يجب أن تتزوج من رجل واحد, المجتمع الأبيسي بشكل عام هذا هو نموذجه, أي أن هناك من جهة الزواج الأحادي, ومن جهة ثانية هناك إخضاع الجنس للزواج, وبالطبع هناك الاستثناء الإسلامي الذي يقول بأن للزوج الحق في التزوج من أربعة نساء بالإضافة إلى ما ملكت الأيمان أي الجواري (يمكن أن نرى في الجواري المنظور الإسلامي للبغاء أو للعمل الجنسي, ويمكن أن نعتبر مؤسسة الجواري بغاء أو عملا جنسيا متسترا مقنعا مشروعا), والمهم هو أننا حينما نقول إن المجتمع الأبيسي بشكل عام يقوم على أحادية الزواج وعلى إخضاع الجنس للزواج, فنحن نقول أنه لكي يستمر هذا النظام لابد من وجود عمل جنسي إلى جانب المؤسسة الزوجية. وبتعبير آخر لا يمكن للمؤسسة الزوجية أن تستمر وان تعيش دون عمل جنسي.

إن الزواج والعمل الجنسي ظاهرتان متلازمتان لا ينبغي أن نتصور الواحدة منهما بعيدا عن الأخرى لأن الاستقرار النفسي للأسرة لا يتم إلا بفضل العمل الجنسي, أي بفضل الفعل الجنسي اللاشرعي, من جهة ومن جهة ثانية ينبغي أن نقول إن هناك تعليما جنسيا موجها للمراهقين, وهذا التعليم لا يتم داخل الأسرة ويمكن أن يتم داخل الأسرة بفضل الجواري مثلا, لكن في المجتمعات اللاإسلامية يتم بفضل العمل الجنسي, فالمراهق يتعلم الجنس مع العاملة الجنسية والأسرة إذا كعلاقة زوجية من جهة, وكعلاقة تربوية ما بين جيلية من جهة, تفترض عملا جنسيا سريا أو صريحا لأن كل مجتمع أبيسي يفترض حدا أدنى من العمل الجنسي كشرط لوجوده أو استمراره, إذ لا يمكن أن نتصور مجتمعا أبيسيا دون عمل جنسي. فالعمل الجنسي شرط ضروري لاستمرار المجتمع الأبيسي, ولاستمرار الأسرة الأبيسية, ومن هنا ينبغي أن نستخلص أن العمل الجنسي ظاهرة طبيعية في المجتمع الأبيسي لأنها تلبي حاجيات أساسية وتقوم بوظائف أساسية في ذلك المجتمع, فهذه المسائل أساسية وينبغي أن نركز عليها وأن نعيها أو نواجهها بكل صراحة.

إن وجود حد أدنى من العمل الجنسي في المجتمع الأبيسي ظاهرة طبيعية (لا أقول إنها صحيحة) إنها طبيعية بمعنى أنها تقوم بوظائف وتلبي حاجيات في سياق المجتمع العام. ومن هنا ينبغي أن نطرح سؤال الوظائف. ما هي وظائف العمل الجنسي؟ وأعتقد هنا أنه ينبغي أن نميز بين وظيفتين كبيرتين للعمل الجنسي, الوظيفة الأولى هي: الوظيفة الاقتصادية, والوظيفة الثانية هي الوظيفة الإيروسية النفسية. ولنتكلم أولا عن الوظيفة الاقتصادية.

 

الوظيفة الاقتصادية للعمل الجنسي:

حينما نتكلم عن الوظيفة الاقتصادية فإننا نعني اقتصاد الدولة والمجتمع من جهة، ثم اقتصاد الفرد من جهة ثانية. فالعمل الجنسي عمل يمكن المجتمع من جهة والفرد من جهة ثانية, من تحصيل رأس مال. فسواء كان العمل الجنسي منظما أو غير منظم مؤسسيا أو غير ممأسس, صريحا أو سريا, فإنه يدر أرباحا على المجتمع وعلى الدولة وعلى المؤسسات بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. هذه مسائل تصبح واضحة أكثر فأكثر في المغرب, خاصة أن الاقتصاد الوطني يقوم على السياحة والسياحة كمصدر هام في الدخل العام. والسياحة تصبح تدريجيا سياحة جنسية أكثر فأكثر وحينما نتكلم عن سياحة جنسية فمعنى هذا أن هذه السياحة الجنسية توظف العمل الجنسي, والعمل الجنسي هنا يدر مداخل للدولة ويساهم في الاقتصاد الوطني.

وعلى صعيد الفرد (على صعيد العاملة الجنسية أو العامل الجنسي) ينبغي أن نعترف أن هناك عمالا جنسيين ذكورا الآن) أصبح العمل الجنسي أقصر طريق لإعالة الذات وحينما يعجز الفرد عن إعالة ذاته من خلال وجود عمل معترف به اجتماعيا يجد أمامه العمل الجنسي كأقصر وأسهل طريق خاصة بالنسبة للمرأة. وخاصة أننا نعرف أن هناك نسبة عالية من البطالة النسوية. والبطالة النسوية هي الطريق السيار نحو العمل الجنسي. ويمكن أن نعتبر أن العمل الجنسي شغل غير مهيكل من طرف الدولة المغربية.

لكنه ورغم أنه شغل لا مهيكل, فإنه يشكل حلا للبطالة النسوية, فهو شغل حقيقي لكنه في الإحصاءات الوطنية لا يعتبر كشغل, ومن المفارقات الأخرى هو أننا نتكلم عن بطالة نسوية, فالمرأة حينما تكون عاملة جنسية هي في الواقع ليست عاطلة ولكنها عاملة. لكن العمل الجنسي غير معترف به كنشاط اقتصادي, إن هذا الاقتصاد غير المهيكل وهذا الشغل اللامهيكل يطرح سؤال الوضع القانوني للعمل الجنسي.

في دولة إسلامية مثل المغرب من الصعب جدا أن نعترف بالعمل الجنسي لأن هذا الأخير من المنظور الإسلامي الفقهي يدخل في إطار الزنى, والزنى محرمة, فالدولة المغربية لا تستطيع, باعتبارها دولة إسلامية, أن تعترف بالعمل الجنسي, كنشاط اقتصادي, لكن من جهة أخرى الاعتراف القانوني بالعمل الجنسي يظل شرطا ضروريا لإدماج هذا القطاع لأنه قطاع خدماتي. في الواقع قطاع خدماتي يدر مداخيل للدولة المغربية وإدماج هذا القطاع الخدماتي في الاقتصاد الوطني يمر من الاعتراف القانوني به, لكن الاعتراف القانوني به يشكل مشكلة كبيرة.

إن هذه اعتبارات تدفع إلى اعتبار مجموعة النساء والرجال الممارسين للعمل الجنسي, طبقة عاملة في قطاع الخدمات بمعنى أنه ينبغي أن ندرك أن العاملين الجنسيين ذكورا وإناثا, كطبقة عاملة في قطاع الخدمات لا تعي نفسها كطبقة بالطبع ولا تدرك نفسها كمجموعة ملتحمة أو مستغلة من طرف أرباب العمل, لكنه غير معترف بها كذلك, ورب العمل في هذا القطاع الخدماتي رب عمل غير مهيكل وغير ممأسس بدوره لكن في الواقع ينبغي أن نتكلم عن هذه الطبقة العاملة في علاقتها الأجرية بأرباب عمل داخل شبكات (هي بمثابة مصانع ومقاولات), لكن كل هذا شيء غير مهيكل وغير مشكل وغير منظم.

إن هذه الوظيفة الاقتصادية (وهي وظيفة كما قلت نجدها على صعيد المجتمع والدولة والفرد) تدفعنا إلى اعتبار العمل الجنسي ظاهرة طبيعية وعادية بالمعنى الدوركايمي للكلمة, فالمجتمع في حاجة إلى مثل هذه الظاهرة واحتياج المجتمع إلى مثل هذه الظاهرة يحولها إلى ظاهرة عادية سوية إن صح التعبير.

 

الوظيفة الإيروسية للعمل الجنسي:

الوظيفة الثانية التي أشرت إليها, والتي يقوم بها العمل الجنسي هي الوظيفة الإيروسية النفسية ففي المجتمع المغربي الإسلامي ورغم كل شيء, لاتزال العلاقات بين المراهقين علاقة تطبعها بعض الطابوهات. فعلا هناك بالطبع لبرلة جنسانية وهناك انفتاح جنساني على مستوى العلاقات بين الشبان, وحينما نتكلم عن اللبرلة الجنسية فهذا يعني أن العلاقات الجنسية بين المراهق المغربي والمراهقة المغربية بدأت تقع في سن مبكرة. أي يمكن حسب أبحاثي الشخصية, أن نجد الآن مراهقا في سن الرابعة عشر أو مراهقة في السن الثالثة عشر يقومان بعلاقة جنسية, بالطبع غير مكتملة لكنها علاقة جنسية دون افتضاض أو علاقة جنسية سطحية لكنها على كل حال علاقة جنسية, وبالتالي نجد أن التعليم الجنسي بدأ يحصل بشكل إيجابي لماذا (لأنه لا يجعل المراهق يتوجه نحو العاملة الجنسية لتعلم الجنس ويجعل المراهقة لا تتنتظر الزواج لكي تعيش أول تجربة جنسية, فهذا التطور الذي يحصل الآن في المجتمع المغربي والذي أشير إليه في كتابي القادم الذي أنتظر صدوره منذ نونبر الماضي) يبين أن العاملة الجنسية تقوم بوظيفة تعليمية. إن المراهق الذي لا يستطيع الحصول على صديقة أو شريكة جنسية مراهقة مثله, يتوجه نحو العاملة الجنسية لكي يكتشف الجنس ولكي يعيش تجربة جنسية بل حتى المراهق الذي له صديقة حميمة فالعلاقة بها تكون علاقة سطحية على الصعيد الجنسي, وإذا أراد أن يعيش تجربة جنسية مكتملة إيلاجية يتوجه نحو العاملة الجنسية وهكذا نجد أو وظيفة التعليم الجنسي وظيفة تحققها العاملة الجنسية بالنسبة للشاب المغربي ويمكن أن نقول إن العاملة الجنسية تحل محل الجارية أو تحل محل الخادمة في الأسر المغربية المعاصرة, فالخادمات دون أن تكن عاملات جنسيات يتعرضن للاستغلال من قبل شبان العائلة للتعليم الجنسي لكن يبقى الملجأ الرئيسي للتعليم الجنسي هو العاملة الجنسية.

ويمكن الحديث عن وظيفة إيروسية بالنسبة للرجل الراشد المتزوج, حيث تشكل العاملة الجنسية فرصة هروب من جنسانية زوجية جادة, والجنسانية الزوجية في المغرب بشكل عام (وأشير إلى هذا في أعمالي) لاتزال جنسانية جادة بل هي علاقة احترام جنسي بين الزوج والزوجة, فالزوج يميل إلى أشياء والزوجة تميل إلى أشياء أخرى لكن لا أحد يجرأ على مصارحة الآخر بما يحبه جنسيا, وبالتالي تبقى العلاقة على الصعيد الجنسي علاقة احترام وعلاقة جد, وهذا الاحترام على الصعيد الجنسي يمنع من الاستغلال الكلي للجسد ويمنع من متعة الكلام البذيء أثناء الجماع لأن الكلام البذيء الذي ننطق به أثناء الجماع يكمل اللذة ويخلق إثارة لكن هذا يحدث قليلا بين الأزواج في الجنسانية الزوجية لهذا يظل هناك إحباط وحرمان, ولكي يلبي هذا الإحباط نجد الزوج، بشكل عام، يلجأ إلى العاملة الجنسية من أجل التعبير الكلي عن جنسانيته ومن أجل تفجير طاقاته التي لا يفجرها مع الزوجة.

في المغرب لازلنا لا نعثر على نفس الشيء عند المرأة المغربية, لأن هذه المرأة لم تصل بعد إلى وعي جنسي كامل، بل إن الحركات النسائية المغربية نفسها لا تدرج القضية الجنسية في ملفها المطلبي, وهناك تخلف على هذا الصعيد.

إن التعبير الكلي عن الجنسانية يجد حقلا له في العلاقة مع العاملة الجنسية, لأن هناك جنسانية مكبوتة في الإطار الزوجي, وهذه الجنسانية المكبوتة تعبر عن ذاتها وتشبع في العلاقة مع العاملة الجنسية وبهذا فحقل العمل الجنسي حقل يمكن اللاشعور من التعبير عن نفسه، ويمكنه من تحقيق ذاته. إنه حقل يسمح للرجل بالخصوص بالتعبير عن ذاته ما وراء الحجاب المؤسساتي, لأن المؤسسة الزوجية حجاب وهي في نفس الوقت فضاء لتحقيق الجنس, لكنها كذلك حاجز لتحقيق الجنس كلية, فالجنس في الزواج مؤسسة وهذه المؤسسة تحجب وتمنع بعض النزوات من التعبير عن ذاتها ومن تحقيق ذاتها لأنها تعرف كنزوات شاذة, ولهذا فإن الشذوذ الجنسي، بالمعنى الذي نجده في المجتمع، يجد تعبيرا له في العلاقة مع العاملة الجنسية, لماذا؟ لأن العلاقة مع العاملة الجنسية تتميز بأشياء أهمها كون الزبون يؤدي ثمنا, وحينما يؤدي الثمن لأن العلاقة بين الزبون والعاملة علاقة اجرية) فالزبون لا يفكر في متعة الآخر أي في متعة العاملة الجنسية، والعاملة الجنسية تعمل من أجل ربح نقود ولا تعمل من أجل الحصول على لذة, وهذا يحرر الرجل الزبون من ضرورة إشباع العاملة الجنسية جنسيا لكنه مضطر ليفعل ذلك مع الزوجة أو الشريكة.

إن العلاقة الأجرية علاقة جنسانية محضة, إنها جنس دون حب ودون نبل, إنها جنس عار وجنس من اجل الجنس, وجنس مقابل نقود, وهذا التعريف للعلاقة الجنسية الأجرية يحرر الرجل من مخاوفه ويطمئنه على ذكورته ويسمح له بالتعبير عن نفسه دون قيود أو احتراز, ودون مراقبة الجسد بل يسمح له بإطلاق عنانه لشذوذه.

 

الوظيفة الإيروسية النفسية للعمل الجنسي:

إن العمل الجنسي يقوم بوظيفة ثانية هي وظيفة إيروسية نفسية في نفس الوقت. إيروسية لأنها تحقق لذة كاملة إن صح التعبير وتمكن من الإفراغ الكلي للطاقات وللشذوذ وللمكبوتات النفسية لأنها تسمح بتحقيق التوازن. والقيام بهذه الوظائف (القيام بوظيفة اقتصادية من جهة وبوظيفة إيروسية نفسية من جهة اخرى) يجعل من العمل الجنسي ظاهرة عادية وظاهرة طبيعية تستجيب إلى حاجيات اجتماعية وإلى طلب اجتماعي لا يعترف بذاته كطلب لكنه طلب حاضر.

السوسيولوجيا في الواقع تتدخل حينما يتضخم العمل الجنسي, لأن وجود العمل الجنسي في حدود معينة ظاهرة طبيعية, لكن حينما يتضخم العمل الجنسي في مجتمع ما, فذلك التضخم يحول الحقل الجنسي إلى ظاهرة مرضية ينبغي أن تساءل سوسيولوجيا, وهذا ما يحصل في المغرب مثلا. فالمغرب لم يعرف العمل الجنسي الآن فقط لأن العمل الجنسي معروف وصاحب المجتمع المغربي منذ زمان لكن ما نشاهده اليوم, (الآن وهنا) هو تضخم للعمل الجنسي كاستجابة لأزمة شغل, حيث هناك بطالة نسوية, بل هناك أيضا بطالة الذكور, التي تستفيد من العمل الجنسي, وهذا التضخم هو الذي ينبغي أن نسائله.

 

التضخم الجنسي من منظور الصحة العمومية

أريد أن أتعرض إلى تضخم العمل الجنسي من زاوية الصحة العمومية والتعريف الكلاسيكي للصحة العمومية يبين أن الصحة العمومية كرهان تتأرجح بين اتجاه اجتماعي واتجاه طبي وقائي, الصحة العمومية تهتم بالمجموعات الشاذة الهامشية في المجتمع, أي الأقليات المهمشة التي لا تشكل خطرا على توازن المجتمع وعلى صحته الاجتماعية وفي نفس الوقت هناك جانب طبي في الصحة العمومية, فالسكن غير اللائق مثلا يؤدي إلى أمراض و العمل الجنسي يؤدي كذلك إلى أمراض, بل إن العمل الجنسي هو فضاء الأمراض الجنسية بامتياز, وبالتالي نجد أن العمل الجنسي يتموقع بامتياز في الصحة العمومية سواء من الجانب الاجتماعي أو من الجانب الطبي, فالطبقة العاملة الجنسية من الناحية الاجتماعية طبقة هامشية وتتطلب معالجة اجتماعية من أجل ضمان الصحة العمومية من جهة, ومن جهة ثانية فهي تعرف أكثر النسب من الإصابات بأمراض جنسية وتشكل بالتالي هدفا لكل تدخلات الطب العمومي, لهذا أود أن أتعرض للعمل الجنسي من زاوية الصحة العمومية.

وأعتقد أنه على صعيد البعد الاجتماعي وعوض أن نهتم العاملة الجنسية بالشذوذ أو بانعدام الحس الأخلاقي الديني, ينبغي أن نتهم المجتمع كمصنع للعمل الجنسي بالجملة, لأن العمل الجنسي لا ينتج عن شذوذ العمال الجنسيين أو عن مشاكلهم الجنسية بقدر ما ينجم عن مشاكل المجتمع وعن بنيتة المجتمع وعن سير المجتمع, لماذا؟ لأنك حينما تسأل العاملة الجنسية تقول لك أنا لا أقوم بعملي إلا حينما أتناول المخدرات أو الكحول بمعنى أنها لا تشعر برغبة أو بمتعة أو بلذة, فهناك غياب للرغبة واللذة لديها, بل أكثر من ذلك فالعاملة الجنسية لا تستطيع أن تستجيب لكل رغبات الزبناء وهي متعددة ومتنوعة وشاذة.

إن الشذوذ لا يوجد في سلوك العاملة الجنسية بقدر ما يوجد في رغبات الزبناء ومن أجل الاستجابة لشذوذ الزبناء تضطر العاملة الجنسية لتناول المخدرات والحكول, لأن ذلك يساعدها على تغيير وعيها لتدرك الطلبات الشاذة كطلبات عادية ولتستجيب إليها, مما يؤكد أن العاملة الجنسية إنسانة سوية بشك عام وإنها لا تقوم بالعمل الجنسي بالنظر إلى كثرة أو قوة جنسانيتها أي أنها ليست إنسانة تريد ممارسة الجنس دائما, وبكثرة, ‘نا يمكن أن نجد امرأة نبيلة مصابة بهذا العصاب أو هذا الشذوذ, أي الميل إلى ممارسة الجنس بكثرة لعدم الارتواء من الجنس والبحث عنه باستمرار, أما العاملة الجنسية فلا تريد ممارسة الجنس بكثرة, إنها تمارسه بكثرة ليس استجابة لرغبة داخلية ذاتية بل انطلاقا من حاجيات اقتصادية بالأساس, لهذا أقول لابد من اتهام المجتمع كمصنع ل العمل الجنسي بالجملة كيف؟

إن المجتمع المغربي الحديث يتميز بتضخم نسبة الطلاق والطلاق في حد ذاته ليس كارثة ويشكل في بعض الحالات حلا لأسرة لم تنجح, فالكارثة تبدأ حينما لا تجد المرأة المطلقة وسيلة لإعالة الذات ومضاعفة الطلاق هي التي تشكل الكارثة أما الطلاق في حد ذاته ليس كارثة ومن الممكن أن تتصور امرأة مطلقة تعيش وأطفالها في جو من الكرامة والاكتفاء الذاتي فهذا في نظري ممكن, لكن الطلاق عمليا يعني التشرد خاصة تشرد الأطفال وتشرد الأم, وهذا التشرد هو الذي يدفع إلى البحث عن مصدر عيش خصوصا أن هناك تفكك للأسرة الممتدة, لأن الأسرة لم تبق مؤسسة ممتدة, أي لم تعد فضاء يقبل كل أفرادها, فالأسرة تتقلص ومكان السكن يتقلص وكل هذا يدفع المرأة المطلقة إلى عدم الرجوع إلى أسرتها الأصلية، وإلى البحث عن مصدر عيش ويبقى العمل الجنسي هنا أقصر طريق وأسهله لإعالة الذات.

بالإضافة إلى هذا هناك الهجرة خاصة هجرة العمال إلى الخارج (إلى أوربا والشمال) فالعامل يترك المرأة دون إشباع جنسي من جهة ودون مصدر عيش من جهة ثانية, وبالطبع هناك عمال يبعثون بحوالات إلى أسرهم لكن من الممكن أن تكون هذه الحوالات غير كافية، ومن هنا نجد أن الهجرة تلعب دورا في تضخم العمل الجنسي, بل إن العمل الجنسي يستعمل من أجل الهجرة, وفي أبحاثي التي ستنشر عما قريب تعترف الكثير من الفتيات بممارسة الجنس مع أجانب أوروبيين غير مسلمين ليس من أجل نقود بشكل مباشر بل من أجل وعد أو عقد عمل في أوربا أو من أجل الحصول على التأشيرة فمن أجل الذهاب إلى أوربا تدفع البطالة النسوية المتفشية في المغرب الكثير من الفتيات لتوظيف الجسد قصد الهجرة وبالطبع يتأطر هذا في ما أسميته بالسياحة الجنسية.

وفي هذا السياق أذكر شهادة العاملة الجنسية تقول »أنا أمارس الجنس مع الرجال فقط في أحد فنادق فاس، ولكن ذات يوم أتتني امرأة اجنبية وطلبت مني أن أمارس معها الجنس واستغربت واندهشت لكن المرأة الأجنبية وعدتني بأن تضمن لي شغلا في أوربا، وهكذا قبلت أن أمارس الجنس مع السائحة». فنحن هنا أمام جنسانية مثلية ونقدية كذلك لكن هذا مثال يبين أن العاملة الجنسية مستعدة لفعل أي شيء من أجل لقمة عيش ولقمة العيش الآن تبدو مضمونة أكثر في أوربا, و العاملة الجنسية مستعدة لممارسة ما نسميه بالشذوذ أو شكل من أشكال الشذوذ وهو السحاق من أجل إنقاذ حياتها.

هناك إذن علاقة بين الهجرة والسياحة, فالسياحة الجنسية عامل هام في تضخم العمل الجنسي ينضاف إليه تواطؤ الأسرة المغربية التي رغم إسلامها ونتيجة لفقرها, تتواطأ مع بناتها وتشجع عمل الفتيات الجنسي بل إن الذكور يتواطؤون في هذا المجال والذكر الذي كان يحمي شرف الأخت أو شرف البنت, يصبح المستفيد الأول من عمل الأخت الجنسي أو من عمل البنت الجنسي إلى درجة أنه يمكن أن نقول (وهذا شيء خاص بالمغرب مع كامل الأسف) أن مساعد العاملة الجنسية من قبل كان صديقا أو أجنبيا, أما الآن فهناك مساعد أسري من داخل الأسرة يساعد الأخت أو البنت على ممارسة العمل الجنسي, بدافع البطالة بالطبع إنه مساعد لا شكلي كذلك ولكن هناك تواطؤ وصمت وتفاهم وهذا كله نتيجة الفقر.

إن البطالة الذكورية تستفيد من العمل الجنسي النسوي وهذا عامل من عوامل تضخم العمل الجنسي وبهذا يمكن أن نغني مفهوم القوادة في المغرب. إذ يجوز الآن أن نتكلم عن قوادة عائلية, وهذه ظاهرة خاصة بمجتمعنا, فالأسرة تعتمد على دخل العاملة الجنسية, والأب يعتمد على دخل العاملة الجنسية. والأخ كذلك, فهناك استغلال أسري للعمل الجنسي ونحن بعيدون جدا عما قالته جرمان تيليو بصدد الاحتفاظ ببنات الأسرة لأولاد الأسرة, وأولاد الأسرة الآن يقدمون أخواتهم أو بناتهم إلى الأخر, أي إلى أجنبي ليس في علاقة شرفية بل في علاقة أجرية, أما البعد الثاني الذي يسمح بإدراك العمل الجنسي من منظور الصحة العمومية هو البعد الطبي, فهذه الطبقة العاملة الجنسية في الخطاب الإيديولوجي السائد اليوم تسمى مجموعة معرضة ومجموعة ذات مخاطر أي معرضة للإصابة بالأمراض القابلة للانتقال جنسيا.

بالطبع كثرة النشاط الجنسي كنشاط أجري يعرض العاملة الجنسية للإصابة بهذه الأمراض بل يجعلها منقلة لها للزبون, ويطرح في بعض المدن. بل وفي التصور المغربي العام حول الأمراض الجنسية شيء غريب وعجيب, وهو أن الأمراض الجنسية مرتبطة بالعاملة الجنسية, فبالنسبة للمغرب بشكل عام, كل علاقة جنسية أجرية تؤدي إلى الإصابة بمرض في حين أن العلاقة الجنسية مع غير العاملة الجنسية لا تؤدي إلى المرض وهذه سذاجة.

إن هذه الرؤية تدل على سيادة منظور إبديمولوجي أخلاقي, والإبديمولوجية العفوية, أخلاقية تعيد الأخلاقية التي نجدها في المجتمع, لكن الجرثومة لا تميز بين الشرعي واللاشرعي, بين الأخلاق واللاأخلاق, فالجرثومة يمكن أن تتواجد في علاقة شرعية أخلاقية وقد لا تتواجد في علاقة غير شرعية, ولهذا فالمنظور السائد والإبديمولوجية العفوية والإبديمولوجية الأخلاقية أشياء ينبغي تصحيحها. والمفارقة هو أنه في بعض المدن المغربية إذا أصيب زبون في علاقة مع عاملة جنسية يرجع الزبون الى العاملة الجنسية خاصة إذا كانت مستقرة في مكان ويطالبها بأداء ثمن العلاج, بل ويهددها بالمتابعة وهو يعرف أن العلاقة غير شرعية وأنه إذا تابعها سوف يتابع كذلك, لكنه رغم ذلك يهددها بالمتابعة وتعترف الكثير من العاملات الجنسيات بتأدية ثمن العلاج للزبون مع أنهن لسن مسؤولات لأن الزبون لم يأخذ الاحتياطات اللازمة وهذه السلوكات توجد إلى الآن بالضبط، إلى حدود سنة 1999, في بعض المدن المغربية وقد تمكنت من جمع مجموعة من هذه الوقائع من خلال بعض الأبحاث الميدانية.

لقد أصبح مشكل الأمراض القابلة للانتقال جنسيا, مشكل صحة عمومية بدوره ولمحاربة هذا المشكل لابد من مواجهة العاملات الجنسيات باعتبارهن مجموعة معرضة ومعرضة للمرض. والأبحاث التي أجرى في إطار الأنتربولوجيا الطبية الآن تتعرض إلى السؤال التالي: ما مدى درجة الوعي الصحي لدى العاملة الجنسية؟ هل لها معرفة بطرق الاحتياط؟ هل تمارس الاحتياط؟ ومن النتائج التي حصلت عليها بالطبع نتائج مخيفة لأنها تبين أن العاملة الجنسية وإن وعت بخطر المرض الجنسي لاتستطيع فرض وسائل الاحتياط على الزبون لأن الزبون هو نفسه غير واع ولا يهمه أن يقي نفسه, فما يهمه هو أن يمارس الجنس وأن يتلذذ بشكل كلي, لأنه إذا وضع الغشاء الواقي يمنع من اللذة الكلية, ويمنع من التفجير الكلي, لهذا حتى ولو وعت العاملة الجنسية خطر المرض, فإن الزبون يرفض بشكل عام استعمال الغشاء الواقي وبهذا تجد العاملة الجنسية نفسها في مأزق, فهل ترفض الممارسة الجنسية دون غشاء؟ وإذا رفضتها تفقد الزبون وإذا قبلتها تربح نقودا لكنها ستصاب أو ستصيب الزبون وبالتالي فهناك القليل من العاملات الجنسيات اللواتي يفرضن الغشاء الواقي, ويقمن بفحص إكلينيكي وأذكر هنا عاملة جنسية قالت لي: مرة أتاني زبون ورأيت أن ذكره فيه حبوب وجروح وهذه من عاملات مرض الزهري (نسميه بالدارجة النوار) وقال لها سأعطيك أكثر مما تأخذينه عادة وسأذهب إلى البحث عن غشاء ورفضت أن أمارس معه الجنس. لكن مثل هذا السلوك سلوك نادر, لأن هناك طرقا عفوية لتشخيص الزبون من الناحية المرضية ولكن القليل من العاملات الجنسيات يقمن بهذا الفحص السريري العفوي. لكن بشكل عام تقول لك العاملة الجنسية أنا مستعدة للموت.

وتقول لك أيضا أنا ميتة جسديا بل إنها ترجع حالها إلى نوع من الإيمان فتقول لك أنا أمارس هذه الأشياء لأن الله قدرها علي وإنني إذا كان مقدرا أن أصاب بمرض فإنني سأصاب به فجسمي ميت, وأنا مستعدة للموت, وتقول لك أيضا إنه إذا كان هناك احتياط فهو خاص بالزبون, أي أني أقول هذا للزبون إذا كان يريد أي يقي نفسه أما أنا فمستعدة للمرض والموت, لكن يبدو حسب إحصاءات وزارة الصحة أن استعمال الغشاء الواقي لدى العاملات الجنسيات في تصاعد على أية حال, وهذا يدل على بداية الإحساس بالخطر بالنسبة لهذه المجموعة المهددة. لكن السؤال الذي يطرح هو كيف يمكن خلق وعي صحي لدى مجموعة غير معترف بها قانونيا؟

فالدولة المغربية في شخص وزارة الصحة تجد نفسها في مأزق كذلك وينبغي أن نفهم حيرتها, فهي تعرف أن هذه المجموعة معرضة للخطر لكن في نفس الوقت لا يمكن لها كدولة إسلامية أن توجه إليها خطابا صريحا لأنها مجموعة غير معترف بها قانونيا, لذا نجد المجتمع المدني يقوم مقام الدولة, وهنا يجب أن نعترف للدولة بنوع من الذكاء,ولأنها ولكي تواجه هذه المجموعة من أجل تحسيسها وتوعيتها تمر عبر وساطة الجمعيات, جميعات محاربة داء السيدا, وجمعيات محاربة الأمراض القابلة للانتقال عبر الاتصال الجنسي بشكل عام. وهذه الجمعيات هي التي تخاطب الطبقة العاملة الجنسية؛ فهي تدرس هذه الطبقة من أجل معرفتها, ومن أجل تشخيصها ومن أجل تبليغ الرسالة الواقية إليها, ويمكن أن ننتقد هذه الجمعيات لأنها في دراستها لا تقوم بأشياء جادة, خاصة أنها لا تكلف المتخصصين بذلك ولأنها تقوم بدراسة أولية وساذجة في بعض الأحيان تسعى من خلالها إلى تحسيس مجموعة من العاملات الجنسيات.

فالدولة تساعد بشكل غير مباشر هذه الجمعيات من أجل أن تقوم بما تقوم به تجاه هذه الطبقة. وهذه إيجابية، والمجتمع المدني هنا يعمل كوسيط بين دولة يأسرها إسلامها الرسمي ويمنعها من الاعتراف بالعمل الجنسي, ومعالجته ولكن بفضل المجتمع المدني تعالج الدولة المغربية الإسلامية هذه الطبقة المعرضة للخطر, كموضوع للدراسة وموضوع ينبغي أن يبلغ بالرسالة الوقائية, وبالإضافة إلى جمعيات محاربة داء السيدا وباقي الأمراض الأخرى, أعتقد أن الجمعيات النسائية, بدورها لها دور في مخاطبة العاملة الجنسية, لأن هذه الأخيرة يمكن تعريفها باعتبارها المرأة التي تتصف بالدرجة الصفر للوعي النسائي لدى العاملة الجنسية.

فالعاملة الجنسية مفتقدة كلية للوعي النسائي, والوعي النسائي هو الذي يمنع المرأة من أن تدرك نفسها كبضاعة وأن تقدم نفسها كجسد بضاعة/ سلعة مقابل النقود.

فهذا هو العمل الأساسي والقاعدي الذي يجب أن تقوم به الجمعيات النسائية, وذلك بغض النظر عن الأمراض والخطر الأبديمولوجي, فقبل هذا هناك أولا رسالة غنسانية, أي إشعار العاملة الجنسية بأن الجسد ليس سلعة وأن الجنس ليس سلعة كذلك, وأن المرأة إنسان, وأن إعانة الذات لا تمر من هذه الطريق ولو أن المجتمع يسمح بهذا وبالرغم من أن الدولة تسمح بهذا أيضا والدولة والمجتمع الذي يسمح بهذا يجب أن نقيس درجة نسائيته أي ما درجة نسائيته, الدولة؟ وما درجة نسائية المجتمع؟ لأن المجتمع الذي يسمح ب العمل الجنسي هو مجتمع يقل فيه الوعي النسائي.

 

الممارسة الإبداعية وتصحيح الوعي النسائي:

إن الوعي النسائي يتأسس أولا ضد العمل الجنسي, وهو عمل جذري ورسالة جذرية وهنا أوجه نداءات إلى الإبداع والمبدعين لأن السوسيولوجيا لا تخاطب الشعب ولا تخاطب العاملة الجنسية, والفعل السوسيولوجي كعقل منصت للواقع ومشخص له, فعل يتوجه إلى صناع القرار, فحين أقوم أنا مثلا كعالم اجتماع بدراسة سوسيولوجية لا أخاطب, انطلاقا من التقرير الذي أقوم به, العاملة الجنسية, لكنني أخاطب وزارة الصحة وأخاطب صانع القرار بشكل عام, وبذلك فإن أعمالي لا تقرأ ولا تدرك من طرف العاملة الجنسية, وخلافا لهذا, إن الروائي والشاعر والسينمائي والأديب والفنان والمبدع بشكل عام, يمكن له أن يخاطب العاملة الجنسية, وأعتقد أن العمل الإبداعي في المغرب في شقيه الأدبي والفني لا يعالج قضية العمل الجنسي, لهذا أطلب من المبدعين المغاربة أن يعالجوا العمل الجنسي من خلال أعمالهم الإبداعية, لأن العمل الإبداعي كالمسرح وغيره, يدرك من طرف أي إنسان, لأنه موجه للجمهور, ولهذا فخلق وعي نسائي لدى العاملة الجنسية يمر من خلال العمل المسرحي والعمل الإبداعي عامة, أكثر مما يمر عبر العمل السوسيولوجي, لأن العمل السوسيولوجي عمل جاف موجه للدولة ولصانع القرار, لذا أعتقد أن للإبداع دورا أساسيا إلى جانب عمل الجمعيات النسائية وجمعيات محاربة الأمراض القابلة للانتقال عبر الاتصال الجنسي.

لكن ما هو خطير الآن هو أن العمل الجنسي كان ظاهرة هامشية في المجتمع, وأصبح بشكل تدريجي يشكل نموذجا، حسب ما أعتقد.

فنحن الآن حينما نتحدث عن تواطؤ الأسرة وتواطؤ الذكور, يمكن أن نتحدث عن تشجيع. فبما أن الدولة عاجزة عن تشغيل الشباب؛ فالأسرة تبحث عن سبل للعيش, وبالتالي فنحن نجد تحولا أخلاقيا خطيرا, لأن العمل الجنسي يشرع الآن على صعيد العقليات كحل يفرضه الواقع,وبدأت الآن ألبنى الذهنية والعقلية تتقبله, والكثير من الأسر أصبحت (لا أقول أسرا ثرية) أسرا مستورة, كما يقال في المغرب بفضل العمل الجنسي الذي يشكل الطريق السهل للسترة, لأنه يتطلب استثمارات كثيرة من طرف الأسرة, وهذا أمر خطير.

لقد تحول العمل الجنسي من مرض اجتماعي إلى نموذج اجتماعي في طريق الاعتراف به على صعيد الذهنيات المجتمعية. لكنه أمر طبيعي في اعتقادي بالنظر إلى السياسة الجنسية المتبعة, ففي المغرب هناك بالطبع تجريم قانوني ل العمل الجنسي, ولسوق العمل الجنسي لكن هناك مفارقة بين صرامة النصوص القانونية والليونية العملية. فمن جهة نجد الدول تجرم وتحرم العمل الجنسي, ومن جهة ثانية هناك تسامح معه على صعيد الواقع. وأنا هنا لأقول إن الحل هو التطبيق الصارم للنصوص القانونية المجرمة, لأني كعالم اجتماعي لا أومن بالحل القانوني القمعي. لأن الحل القمعي لا يشكل حلا. ولكن القمع على كل حال الذي يجب أن يكون يجب أن يستهدف الزبون, أي يجب منع الرجل من استغلاله لقدرته الشرائية لشراء الجنس. فهذا هو الهدف الأساسي الذي يجب أن يتم الاجتهاد القانوني حوله, أما العاملة الجنسية فهي ضحية المجتمع, وضحية لا وعيها النسائي بشكل خاص.

إن التجريم يجب أن ينصب على الزبون, بالرغم من أني لا أومن بالحل التجريمي القانوني, لأن المعالجة يجب أن تكون معالجة اجتماعية جذرية, أي القضاء على البغاء كحاجية, والرجوع إلى غائيات الجنس لأننا نرى الآن تحولا في غائيات الجنس, فالآن يتم تدريجيا فك الارتباط بين الجنس والزواج ويمكن أن نرى في هذا شيئا إيجابيا, لأن فك الارتباط بين الزواج والجنس يعتبر زنى, وهذا موقف لا أتفق معه, لأن فك هذا الارتباط شيء ضروري, وهذا لا يعني أنه ينبغي أن نقع في العمل الجنسي.

إن فك الارتباط بين الجنس والزواج لا يعني العمل الجنسي, ولا يعني فك الارتباط بين الجنس والحب وبين الجنس والنبل, فالمهم هو عدم تحويل الجنس إلى أداة ووسيلة. فما يجب أن نقتنع به هو أن للجنس قيمة في ذاته. أي يجب أن أمارس الجنس من أجل الجنس كلذة, كتحقيق لذاتي, وليس من أجل شيء آخر, ليس من أجل رشوة أو مقابل مادي. وما أريد أن أوجهه للمجتمع كرسالة أخيرة هو الانتهاء من استعمال مصطلحات الدعارة والعهارة والبغاء, لأن هذه المصطلحات تشكل آلية دفاعية يستعملها المجتمع لتغطية نفاقه, ولتغطية عجزه. إنها آليات يخفي المجتمع بها من خلالها عجزه عن تمكين النساء من إعالة أنفسهن دون التعرض للاستغلال الجنسي, وهي آليات يخفي بها المجتمع بغيه أي ظلمه. فالبغاء الحقيقي هنا هو في المجتمع, ولا يعني ما نسميه الباغي. فالذي يجب أن نتهمه هو بغي المجتمع, والبغاء أو البغي, هو نتيجة لبغي المجتمع وظلمه, وما ينبغي هو أن ننتهي من هذا النفاق وهذا يبدأ من القطع مع مفاهيم الدعارة أو العهارة والبغاء, خاصة أنها مفاهيم بمثابة أداة حمائية ودفاعية يخفي بها المجتمع دعارته الحقيقية لأن الدعارة كما قلت لا توجد في السلوك الداعر, وفي سلوك البغي, وسلوك المرأة الداعر, والمرأة العاهر, بقدر ما توجد في سلوك الزبون.

لقد تكلمت في ما قبل عن شذوذ الزبون, وهنا يجب أن نتساءل إلى أي حد يجب أن نتكلم عن الشذوذ الجنسي؟ فالجنس بشكل عام يعبر عن نفسه من خلال الجسد, لكن هناك جنس يعتبر جنسا سويا, هو الجنس الفرجي, أما الجنس الشرجي أو الفمي أو البذري, فنقول إنه جنس شاذ ينبغي قمعه وعدم الإنصات إليه جنس غير منجب, وجنس يزعزع النظام ويزعزع استقرار النظام, والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:

ألا يجب أن نعترف بالجنس الذي نسميه جنسا شاذا؟ لأنه حين نعترف بالجنس الشاذ, نحققه آنذاك في العلاقة الزوجية, أي في العلاقة الشرعية, أو في العلاقة مع الشريك, أي في العلاقة التي تجمعنا مع امرأة أو مع رجل, بيننا حب فقط, وليس بيننا عقد. إن التسوية الجنسية هي تسوية كل الجنس. والجنس الذي نسميه جنسا شاذا, يجب أن نسويه, ويجب أن نرى فيه سلوكا طبيعيا, وآنذاك لن نبحث عن تحقيقه في العلاقة الأجرية. ولن نستغل جسد العاملة الجنسية قصد إشباع هذه الجنس الشاذ. فالجنس الشاذ ليس جنسا شاذا في ذاته, ولكنه كذلك من منظور أخلاقي وديني. وحينما نسويه سنحققه في العلاقات النبيلة وفي العلاقات الزوجية.

 

 

 

حميد اتبـاتـو

 

المحتــوى

للأسف يسود عندنا خلط كبير بين الحوار وحرب المواقف... (حوار مع الدكتور عبد الكبير الخطيبي)

الإسـلام والعلمانيـة (حوار مع الدكتور عبده الفيلالي الأنصاري)

حوار مع عبد الحي العمراني

الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والإيروسية والنفسية للعمل الجنسي (حوار مع الدكتور عبد الصمد الديالمي)

حوار مع عبد الصمد الديالمي

حول التربية الجنسيـة (حوار مع عبد الصمد الديالمي)

 

 
جماليـــات إضـــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.