س:
الأستاذ عبده الفيلالي الأنصاري, كيف تقدمون أنفسكم للقراء؟
ج :
كمواطن يهتم بالمسائل والإشكاليات التي تفرض نفسها بإلحاح علينا,
كمواطن مغربي وكمسلم...
أول حاجة أو التأكيد عليها,
هي أنني لا أدعي امتلاك أية سلطة,
من أي نوع كانت,
سواء علمية أو غيرها,
وأظن أن الشيء الأساسي,
هو أن نقبل بأن كل المسائل التي تطرح علينا قابلة للنقاش,
وأننا كمواطنين,
لنا الحق في الخوض فيها ومعالجتها بطريقتنا دون أن يأتي أحد ويقدم نفسه
على أنه سلطة وأن له الحق في إسكات الآخرين لمجرد أنه هو فلان.
س :
أليس هذا تواضعا منكم فقط؟
ج :
لا.
إنها مسألة مبدئية وليست لها علاقة بالتواضع,
لأنه للأسف يوجد العديد من الذين يظنون أن لهم سلطة,
فقط لأن لهم تكوينا معينا أو نتيجة للموقع الذي يحتلونه,
كأن يكون مسلما مثلا وله موقف معين من الإسلام,
يعتبر أن كلامه هو التعبير الحقيقي,
الوحيد عن الفكر الإسلامي,
وأن ما عداه خاطئ.
إن هذا الأمر ,
شيء غير مقبول من وجهة نظر إسلامية,
لأن الكل مسلم,
وليس هناك أحد,
بعد وفاة الرسول يستطيع أن يقول إن الإسلام هو ما أقوله أنا لا غير.
س:
العلمانية والإسلام, إشكال أثار الكثير من الجدل وحرك العديد من
الفتاوي وأحكام التكفير في أكثر من بلد عربي, ما هي رهانات هذا الجدل؟
ما هي آفاقه أيضا؟ وهل الإسلام مناوئ للعلمانية؟
ج :
كما يقول الجميع,
ينبغي طرح الإشكال بشكل جيد للحصول على جواب حقيقي,
لأن المسألة تطرح كأن الإسلام والعلمانية نقيضان,
يجب التوفيق بينهما
(أو لا يجب
التوفيق بينهما).
فالإسلام دين عالمي,
له مستواه وحضوره وموقعه ولا يمكن مقارنته بالعلمانية التي هي عبارة عن
تحول حدث في مجتمعات معينة,
والتي أدت إلى تغيير بعض الاستعمالات الدنيوية للدين,
فالدين كان يستعمل دنيويا لخدمة السلطة السياسية,
وأصبح هناك توجه يفصل بين البعد الروحي والعقائدي والتعبدي في الدين
وما بين استغلال الدين لخدمة أغراض دنيوية.
وحين نضع في الميزان شيئين لا علاقة بينهما ,
لابد أن ندخل في متاهات ومشاكل.
وهذا الذي حدث بالنسبة لإشكال سابق,
فقد كان هناك سوء فهم منذ البداية أو حوار الطرش، كما يقال.
وهذا ما حاولت أن أفسره في كتيبي,
لأنه حين يحصل سوء الفهم في البداية,
ينتفي الحوار,
وهذه حالات معروفة.
س: ما هو
تصوركم لبناء الدولة الإسلامية بالصيغة التي تدعو إليها الحركات
الأصولية, دون السقوط في المهازل التي يسجلها التاريخ قديما وحديثا,
على الدولة الإسلامية في مجال حقوق الإنسان وحرية المرأة وحرية
التعبد...؟
ج :
إن أول شيء,
هو أن نفهم المعاني والمقاصد الأساسية لكل مجال,
كالمجال الديني,
لأن الدين لا يمكن أن يختزل في ما سماه أحدهم ب
«
لائحة المحرمات
»
فالإسلام تصور للعالم واعتقاد وإيمان وعلاقة بالإله وتوجه أخلاقي...
إذن هناك الإيمان كأساس وهناك الموقف الأخلاقي,
وهناك ما يترتب عن كل هذا.
يجب أن نفهم المعاني الأساسية قبل أن ندخل في الفروع .
فالآن,
حين نتحدث عن الديمقراطية وعن حقوق الإنسان وعن المرأة,
نعرف أن هناك مقاصد واضحة في الأحكام الإسلامية,
أي هناك توجهات فرضت نفسها على مجتمع معين في التاريخ؛ فهناك العديد من
المفكرين المسلمين اليوم,
كمحمد الطالبي من تونس,
يؤكدون على فكرة السهم الموجه أي أن كل الموانع وكل الأحكام لها هدف
أسمى وأن الحكم لا قيمة له إلا بالهدف الذي يرمي إليه.
س: أين
تموقعون أنفسكم على المستوى الفكري أولا والسياسي ثانيا؟
ج :
على المستوى الفكري,
إنني أسعى إلى تقديم مساهمات,
موضوعيا متواضعة من بينها ترجمة كتاب
«علي عبد
الرازق»
والخوض في النقاش الذي يجري حاليا حول بعض التصورات الدينية وحول
دمقرطة المجتمع,
أما بالنسبة للجانب السياسي,
فأعتبر نفسي مواطنا كباقي المغاربة,
أصوت في الانتخابات مثلهم...
س: كيف
يمكن أن نفكر في الدين الآن؟ كيف يجب أن نحياه ؟
ج :
إنه سؤال كبير,
لقد نادى المفكرون المسلمون منذ بداية القرن بالرجوع إلى الأصول أي إلى
الأساس,
والرجوع إلى الأصول يطرح مشكلا آخر,
هو عن أية أصول نتحدث ؟
إن هناك من يرى أن الرجوع إلى الأساس ,
يعني الرجوع إلى الطريقة التي فهمت بها الأجيال السابقة الدين,
أي الطريقة التقليدية,
التي تؤكد على العودة للمجتمع التقليدي والكيفية التي عاش بها الدين في
فترة معينة من التاريخ.
والإسلام في رأيي الخاص أوسع وأهم وأسمى من كل الأشكال التاريخية التي
استنتجت منه والتي بنيت عليه؛ فالإسلام قابل لمقاربات أخرى ويقبل
الاستجابة لمتطلبات متغيرة,
لأن الدين الإسلامي أسمى من كل الأشكال التي أعطاها له البشر,
حتى وإن كانت جميلة.
فاجتهادات الفقهاء في الماضي مثلا,
ليست إلا اجتهادات بشرية لا تسمو إلى مستوى الوحي والخطاب الإلهي.
لقد أثار مجموعة من المفكرين ,
مثل الطالبي وفضل الرحمان,
الانتباه إلى أن النص الديني يوجه إلى مقاصد معينة,
وأن كل الأحكام تحيل بشكل مباشر على ما هو سامي.
إن ما يجب فهمه هو أن الرجوع إلى الأصول أساسي في كل المجتمعات وفي كل
الأديان؛ فهناك دائما قراءة متجددة للنص الأصلي
–
لأن هذا النص هو مرجع مستقر,
أما القراءات فتتجدد باستمرار,
وتتعدد وتتابع وتتغير,
فمسألة العودة إلى النصوص,
مسألة أساسية لكن دون أن نفرض عليها القوالب التي استخلصها الفقهاء في
الزمان الماضي.
س: كيف
تعلقون على الحركات التي تختزل الإسلام في مجموعة من الشكليات ومجموعة
من الأيقونات؟
ج :
إنه أمر مؤسف حقا,
أن يتم اختزال الدين الإسلامي في أمور شكلية وجزئية,
لأن الإسلام أكبر من ذلك ويتطلب موقفا يتفهم ما هو أساسي في الدين,
فهناك مجموعة من الإخوان يظنون أنهم يمسكون بالدين من خلال تركيزهم على
بعض المظاهر والشكليات,
بينما هم يأخذون القشور ليس إلا.
س: في
المغرب كانت الحركة الأصولية وراء اغتيال «عمر بنجلون»، وفي الجزائر,
كان دعاة الدولة الإسلامية وراء اغتيال علولة والطاهر جعوط, وفي مصرتم
اغتيال "فرج فوذة" نفس الجهة اغتالت حسين مروة ومهدي عامل بلبنان, كيف
سيكون مآل الفكر في ظل الدولة الدينية؟
ج :
أقول إن هذه الحركات,
هي حركات إيديولوجية,
سياسية,
التمست في الدين مظلة للتغطية والتستر؛ فهناك في مجتمعاتنا واقع لا يجب
أن ننساه,
إنه واقع يضع حواجز كثيرة أمام أشكال التعبير الديمقراطي,
والبلدان التي تحدث فيها أعمال العنف كالتي ذكرتم,
مثل الجزائر ومصر,
هي بلدان عرفت أنظمة جثمت على صدر المجتمع ودكتاتوريتها,
فكان من نتيجة ذلك انفجار العنف في هذه البلدان.
أما نحن في المغرب,
ونتيجة لخصوصيتنا,
فإننا لم نعان من هذا المشكل,
ونحمد الله على ذلك,
خاصة أنه كانت هناك إمكانية للتعبير الحر وهي إمكانية تتوسع باستمرار.
وهناك تغيير الآن يجب أن نحييه كما يجب أن لا ننظر إلى الماضي,
وأن ننظر إلى الواقع المغربي الحالي ونستفيد منه لفتح مجالات للحوار
الديمقراطي,
وأن نمضي إلى الأمام,
في هذا الحوار وفي هذا النقاش العلمي حول المواضيع التي يود البعض
الاستحواذ عليها باسم الحفاظ على قداستها.
س: يذكر
التاريخ حالات مشهورة عديدة في مجالات الفكر والعلم تعرضت للاضطهاد
والعنف والمتابعة, كحالة الأئمة الكبار (ابن حنبل, الشافعي, ابن مالك,
أبو حنيفة) في ظل الدولة الدينية, فما الذي يجعل من الفئة المثقفة في
المغرب تحتمي بالصمت في الوقت الذي توظف الحركات الأصولية كل الوسائل
للنفاذ إلى قاعدة جماهيرية كبيرة
؟
ج :
إنني أظن أن مسألة الاحتماء بالصمت غير واردة,
فنحن نعيش في المغرب تحولات كبرى:
هناك انتشار مهم للثقافة المكتوبة على عكس المجتمعات القديمة التي كانت
تحتكر فيها المعرفة عند فئة خاصة فقط
–
هي فئة العلماء,
وكانت هناك فئة كبيرة
,
أي العامة، تهمش وتعامل كالبهائم.
فالمجتمع آنذاك كان يمنح سلطة كبرى للعالم فيما تم اعتبار عامة الشعب,
كالوحوش التي كان يلزم نوع من العنف لتطويعها وإخضاعها وإرغامها على
احترام المبادئ الدينية والأخلاقية.
أما في مجتمعنا الحالي,
فقد انمحت ثنائية الخاصة والعامة وغالبية المجتمع الآن هي في مستوى
علماء المجتمع القديم,
وقد انطلق الآن مسلسل لإعادة قراءة التراث وقد اختلف الناس في ذلك,
حيث ظن البعض أن الرجوع إلى التراث هو محاكاة التقليد,
وظن البعض الآخر أن اللجوء إلى التراث هو غير ذلك,
لكن ما يجب التأكيد عليه في هذه المسألة,
هو أن التعدد والاختلاف,
مسألة إيجابية إلا أن ما يجب أن يرفض هو أن يقول قائل
«الإسلام هو
ما أقوله أنا ومن يقول غير هذا
–
فلن يقبل منه».
فالإخوان يفهمون الأمور بأشكال تبدو لنا غير مقبولة ,
وعليهم أن يقبلوا بعرض أفكارهم والدفاع عنها والنضال لأجلها والتحاور
بصددها,
وهناك فئة كبيرة تقبل بهذا الأمر.
س: كيف
تتصورون تحديث الإسلام, خاصة أن هناك من يدعو إلى أسلمة الحداثة ؟
ج :
إن الإسلام كما يعرف الجميع لا يتوفر على كنيسة,
أي ليس هناك مؤسسة دينية تمتلك السلطة لفرض تصوراتها على المجتمع,
فكل المسلمين سواسية من حيث أن للجميع إمكانية الرجوع إلى النص وليس
بالإمكان الآن,
فرض الموقف الديني على شخص أو جهة,
لأنك تجد في نفس العائلة,
فردا له اتجاهه المناقض لاتجاه فرد آخر.
فالموقف الديني أصبح اختيارا شخصيا ,
وموقفا خاصا بالفرد,
وهذا شيء إيجابي جدا,
ونحن الآن نتوجه إلى ظرف جديد,
سيصبح فيه التدين مسألة شخصية جدا,
وليس اختيارا سلطويا يفرض على الناس,
وهو أمر يبشر بالخير ويؤكد حضور العقلانية في التعاطي مع المسألة
الدينية,
كما يفتح آفاقا للحوار والنقاش العقلي وتظافر الجهود من أجل التشبث
بروح الدين الإسلامي التي لا يمكن بأي شكل أن تناقض حقوق الإنسان,
بل إن نظرية حقوق الإنسان هي ربما تطور متأخر لأفكار زرعها الإسلام منذ
زمان بعيد,
كما أنه لا يمكن أن يكون هناك تناقض في ما يخص حقوق المرأة ولو أن هناك
مجموعة من النصوص التي تعتبر قطيعة,
والتي جاءت في الأصل لمواجهة واقع معين ولتحريكه في اتجاه ممكن تصور
ملامحه.
إن الرؤية الإيجابية للإسلام لابد أن تفرض ذاتها على الجميع عن طريق
الحوار.
س: كيف تقيمون عمل
الحركات الأصولية في المغرب, وهل لديكم بعض الاقتراحات لاحتواء المد
الأصولي, خاصة أننا الآن لم نعد نتحدث عن الشبيبة الإسلامية فحسب, ولكن
نتحدث عن «العدل والإحسان » و «الهجرة والتكفير» و «طالبان المغرب»,
بالإضافة إلى «الإصلاح والتجديد» التي فضلت طريقا آخر يعرفه المجتمع؟
ج :
بصراحة ليست لي خلفية,
فأنا لست متخصصا ولا أتابع الحركات,
وليست لي معلومات متوفرة أكثر من المواطن العادي,
ولكني أظن أن
«الحوار
بالتي هي أحسن»
هو الطريقة الأنجع,
فهؤلاء هم مواطنون كيفما كانت اتجاهاتهم,
وكمواطنين,
فهم يستحقون كل احترام وكل اعتبار.
والاعتبار هنا هو أن نتحاور معهم كما نريد أن يتحاور معنا الآخر,
فبالنسبة لهاته الأمور,
لا يمكن أن نفكر بالطرق القمعية,
لأن القمع لم يكن حلا أبدا ولنطبق معهم القول الديني
«وجادلهم
بالتي هي أحسن».
فالنقاش والجدال والتبين أمور ضرورية في هذا السياق,
والأساسي أيضا هو أن نساعد بعضنا البعض في أن نفهم أن هناك فرق بين
النصوص الدينية وبين الأشكال التاريخية التي أعطيت لها.
يعني مبادئ دينية ومؤسسات وتصرفات وأمور أنتجها البشر في التاريخ.
فالتمييز شيء أساسي في هذه الأمور,
في نظري.
وهذا يغيب عن أذهان العديد منا ويجب أن نعمل وأن نبسط وأن نظهر الحد
بين ما هو أساسي وبين ما هو شكل تاريخي معين أفرزته ظروف تاريخية معينة.
س: تم تضخيم حضور
المكون الإسلامي في الهوية الثقافية للمغرب, ماذا لو تم الإلحاح على
تضخيم باقي المكونات الأخرى, خاصة المكون الأمازيغي؟
ج :
هذا سؤال هائل,
وشخصيا أظن أن العديد من المغاربة يفكرون حسب مبدأ نسميه
«إما وإما».
إما مسلم أو أمازيغي.
إما عربي أو أمازيغي.
فمبدأ
«إما وإما»
لا يجب استعماله والتفكير بمنطقه في ما يخص مبدأ الهوية.
بالنسبة للبهائم وللأشياء يمكن تطبيق هذا المبدأ بشكل ميكانيكي، أما
بالنسبة للبشر فالأمر مختلف ,
لأنهم يختارون هويتهم عن وعي ويفكرونها بشكل معقلن.
والهوية هي صيرورة أولا وهي تعدد للواحد.
بالنسبة للهوية المغربية,
لا يمكن الحديث عن المكون الإسلامي دون الحديث عن باقي المكونات الأخرى,
كالمكون الأمازيغي والمكون اليهودي...
الخ.
فأنا شخصيا,
وإن كنت لا أعرف الأمازيغية أحس بانتمائي الأمازيغي ضمن إحساسي
بانتمائي لباقي مكونات هويتي.
ففي المغرب لا يجب أن نفكر بمنطق
«إما وإما»
أي بفكرة المواجهة بين طائفتين منفصلتين,
أي من جهة هناك
«أمازيغيون»
ومن جهة أخرى هناك
«عرب».
وفي مجتمعنا,
كل المغاربة عرب,
كل المغاربة أمازيغيون,
وأغلب المغاربة مسلمون، ولا يجب أن ننسى أيضا أن هناك مغاربة يهود.
إن الهوية المغربية تنبني على مجموعة من المكونات، ويجب أن نجد في
المستقبل وسائل للتعبير عن كل المكونات والمحافظة عليها.
س: نعرف أن كتاب
«الإسلام وأصول الحكم» (في الإسلام), أثار جدلا كبيرا إبان صدوره وحين
تمت محاكمته, ما هي الخلفية التي حركت لديكم الرغبة في ترجمة هذا العمل
؟
ج :
هناك الآن حوار عالمي حول إشكالية الدين والدولة,
خاصة بالنسبة للبلدان الإسلامية,
والإشكالية لا تطرح نفسها فقط بالنسبة للمسلمين,
بل ربما لليهود بشكل أكثر في إسرائيل,
وربما أيضا بالنسبة للمسيحيين في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها
وهناك تيار أصولي قوي جدا,
حرك عملا إرهابيا واحدا مثلا وقتل المئات.
إنها إشكالية عالمية ,
إذن,
ولكن بالنسبة للإسلام يسود اعتقاد بأن هناك خصوصية,
وبأن الإسلام استثناء يخرج عن كل القواعد,
وكل ذلك مبني على تصورات قبلية لا تتوفر على كل المعطيات حول الحوار
وحول النقاش الجدي بين المسلمين.
هناك جدال مهم جدا ,
أعطى الفرصة لمساهمات جدية ومعقولة مثل مساهمة الشيخ عبد الرازق.
إن هذه المسألة أساسية في نظري,
ولا تهم المسلمين وحدهم,
ولكن تهم كل من يهتم بمسألة الدين والدولة,
ولذلك كان من الضروري أن نطرحها في النطاق العام,
هذا ما حاولت أن أقوم به.
س: تأسيسا على
جوابكم وبصدد ترجمة كتاب «علي عبد الرازق» هل ترمون من خلال هذه
الترجمة, إلى بناء مقاربة جديدة لفهم الإسلام المعاصر, خاصة وأنكم
بدأتم كتيبكم حول الإسلام والعلمانية بمقولة أساسية, هي أنكم تسعون إلى
كسر الروابط بين الإسلام والعنف. كيف تفسرون هذه المسألة؟
ج :
تنطلق هذه المقاربة من مسألة أساسية,
وهي أن النقاش الآن اتسع مداه ونطاقه ولم يعد يهم المسلمين وحدهم وأصبح
هناك أخذ ورد في وسائل الإعلام الغربية,
لأن لها إمكانيات هائلة.
ونحن نرى أن هذه الإشكالية أصبحت دولية بصيغة ما.
وقد جاءت ترجمة الكتاب إلى الفرنسية بناء على ملاحظة أن هناك نقاشا حول
الإسلام والعنف,
وأمور من هذا القبيل دون أن يتوفر هؤلاء الذين يتناولون هذه القضايا
على كل الوثائق الضرورية واللازمة للخوض في هذا النقاش,
فكان من الواجب في نظري أن نقدم للرأي العام والرأي المسلم الذي يقرأ
بالعربية وثيقة أساسية هي وجهة نظر.
وقد اعتقدت دوما أن قضية العنف لا يمكن أن تحل إلا عن طريق الحوار
والنقاش الديمقراطيين,
وأنه ليست هناك سلطة تقرر بالنيابة عن الجميع,
والإسلام ليس له كنيسة,
بمعنى أنه ليست هناك سلطة بإمكانها أن تفرض تصورا معينا أو تصرفات
معينة في المسائل الدينية.
لذا يبقى على المجتمع أن يأخذ بزمام الأمور كما كان في التاريخ,
وهذا الأمر يخدم بشكل كبير الانفراج الديمقراطي الذي يجب أن ندفع به
إلى الأمام.
فالحوار إذن أساسي لمواجهة العنف,
ومن أجل ترسيخ الحوار يجب التعرف أولا على كل وجهات النظر الممكنة
والمتواجدة أيضا والتي من بينها وجهة نظر علي عبد الرازق,
ووجهات نظر أخرى عديدة حاولت اعتماد مقاربة عقلانية تحترم النص وكل
متطلباته وكل مقاصده وفي نفس الوقت تحاول الوصول إلى حل مقبول عقليا.
س: حركت ذهنية
التحريم منطق المصادرة ضد مجموعة من الكتب من مثل كتب الصادق النيهوم,
وكتب نصر حامد أبو زيد, وكتابات فرج فودة... الخ. كيف تقيمون دور هذه
الذهينة؟ وما هي العلاقة التي تربط بينهما وبين مؤسسة الحكم في البلاد
العربية ؟
ج :
مع الأسف هناك في هذا الجدل
(الحي طبعا),
ممارسات سلبية جدا,
ومنها كون البعض عوض أن يقبل نقاش الأفكار المطروحة,
يتعرض لأصحابها فيقول هذا مستشرق ويدفع جانبا بكل أفكاره ويرفض النقاش,
هذا أمر يؤسف له,
ولكن رغم ذلك,
لا يمكن أن نحبس الأفكار ولو منعنا ألف كتاب.
ففتوى الخميني ضد سلمان رشدي مثلا قدمت له خدمة كبرى.
فأنا شخصيا قرأت الكتاب,
قبل صدور الفتوى ووجدته رديئا.
وأنا على يقين أن هذا الكتاب لم يكن يستحق أي اهتمام,
ولم يكن بإمكانه أن يحرز حتى على
1%
من النجاح الذي أحرز عليه بعد الفتوى,
وأن المنع شيء لا معنى له,
ونحن الآن في مجتمعات مخترقة بوسائل اتصال عديدة
(تليفزيون,
أنترنيت...إلخ),
مما يجعل المصادرة بدون معنى.
إن أساس هذه المقاربة خاطئ للأسف,
لأن أصحابها ينطلقون عن موقع الشخص,
فيحاولون إلصاق نعت قدحي به
Etiquette
مثل إنه علماني,
مما يعني أن باب الحوار يغلق في وجهه,
إن هذا هو الخطر الكبير.
وأنا شخصيا لا ألحق نعتا بأي كان، وأومن دائما بحكمة
«وجادلهم
بالتي هي أحسن»
لأنها أحسن وسيلة.
وسيفرض هذا الأمر نفسه إن عاجلا أو آجلا,
لأننا مواطنون
(كل منا بالغ
وملقح كما يقال)
يجب أن نعتبر أننا بلغنا سن الرشد جميعا,
وعلينا أن نقبل بأن يعبر الآخر عن رأيه.
س: كيف تقيمون
مشروع محمد أركون الذي يسعى إلى نقد العقل الإسلامي؟
ج :
هناك مشروع محمد أركون,
وهناك مشاريع أخرى تسير في نفس الاتجاه.
وهذا يندرج في إطار إعادة قراءة التراث,
ويحاول استعمال أدوات ومفاهيم أفرزتها العلوم الاجتماعية,
والعلوم الإنسانية خلال العقود الأخيرة.
إنه مشروع له أهميته من حيث أنه يندرج في إطار هذا الورش الكبير الذي
يجب أن نفتحه بالتوجه نحو ذلك التراث وإعادة قراءته.
فلا بد أن نأخذ الأمور الآن بصيغة مخالفة لما كانت عليه من قبل,
خاصة أننا نعيش في ظروف أخرى,
ولنا أدوات وتصورات مختلفة,
ولنا معرفة عن الطبيعة لم تكن متوفرة عند أجدادنا,
ولنا معرفة عن بقية البشر,
وعن أفكار الآخرين.
والأساسي عندنا الآن هو أن الجميع يقرأ,
وحتى الأمي يقرأ حاليا عن طريق التلفزيون والإذاعة,
مما يجعل معلوماته وتصوراته عن العالم لا علاقة لها بالمعلومات
والتصورات التي كانت متوفرة حتى لدى العالم في بداية هذا القرن مثلا.
نحن الآن نتوفر في مجتمعنا ,
على تصورات جديدة,
مما يجعل من مسألة العودة إلى تاريخنا وتراثنا لإعادة النظر فيه مسألة
ضرورية.
س: كيف تقيمون
كذلك طروحات اليسار الإسلامي, كمشروع حسن حنفي مثلا, وما مدى نفوذ هذه
الطروحات في الأوساط الإسلامية, وفي الأوساط المغربية بشكل خاص؟
ج :
مع الأسف يظهر لي أنه حصل للبعض انبهار ببعض التيارات الموجودة عند
الآخر,
وهناك محاولة لنقلها كما هي,
لأنه كان هناك يسار مسيحي حاول القيام ببعض الأمور.
وقد انبهر البعض بهذه الأشياء,
فقد كان هناك مشروع كما قلتم إلا أن الانبهار كان طاغيا على الباقي.
إني لا أظن أنه قد يكتب لهذه المساهمة أن تدفع بالأمور إلى الأمام.
س: كتب صادق جلال
العظم نقد الفكر الديني, وكتب نصر حامد أبو زيد «نقد الخطاب الديني»
وكتب محمد أركون «نقد العقل الإسلامي » وكتب الصادق النيهوم «الإسلام
في الأسر» و«إسلام ضد الإسلام» وكتب مهدي عامل عن «نقد الفكر
الغيبي»... ما العمل بعد كل هذا المجهود, من أجل تأسيس مجتمع مدني
متسامح, يقبل بالحوار وبنبذ الإرهاب و العنف, ويؤمن حق الاختلاف
والوجود للأقليات وللرأي الآخر؟
ج :
اسمحوا لي بأن أجيب على طريقة فيلسوف إغريقي قديم,
اسمه بارمنيدس,
فقد حاول الفيلسوف البرهنة على أن الحركة والتغير والتطور مسألة
مستحيلة منطقيا..
ويقال أن أحد الطلبة قال لأستاذ
(نسيت اسمه)
بماذا تجيب عن مقولة بارمنيدس,
فأجاب الأستاذ: «يجب
أن نبرهن عن الحركة بالتحرك»,
ولتأكيد المسألة مشى الأستاذ بعض الخطوات أمام طلبته ليفسر لهم جوابه.
يجب أن نبرهن على الحركة بالشروع فيها ,
فتغير الظروف مسألة حقيقية الآن,
ولا يمكن الرجوع إلى الوراء بأي وجه كان,
فهؤلاء المؤلفين الذين ذكرتم,
قاموا بمحاولات,
ويذكر التاريخ مجموعة من المحاولات التي ذهبت أبعد من ذلك وقبلها
المجتمع القديم,
كما قبلها المفكرون والفقهاء,
فأنا أظن أنه لا يجب أن نضخم الأمر,
والخطأ السائد حاليا هو أننا نتصور الإسلام في موقع ضعف,
وأنه في مواجهة خطر الاجتياح,
الإسلام أقوى من كل ذلك,
وقد اجتاز امتحانات أكبر,
وعلينا الآن أن نقبل أننا أصبحنا في ظروف تستدعي النقاش,
وتستدعي فتح الباب أمام الجميع,
لقد انتهى الزمن الذي كانت أعمال مشابهة للتي ذكرتم تطرح للخاصة فقط,
ولم يكن يسمح بطرحها للعامة لأن طرح بعض الأمور للعامة في رأيهم,
كان بإمكانه إحداث البلبلة,
إنها فكرة ابن رشد مثلا,
أي علينا أن نقبل بأن من حق الجميع أن يقود,
وأن يقول.
وهذا لا يمثل أي خطر,
وبالعكس,
فهو إغناء للنقاش,
يستدعي أن نناقش هؤلاء المفكرين,
لا أن نتجهم عليهم لا كما يفعل البعض مع الأسف.
س: أنا أردت من
خلال سؤالي القول إن تأصيل التسامح والحوار مشروع بدأه مجموعة من
المفكرين, فما الذي يحتاجه الواقع من أجل تأصيل هذه الأمور بالفعل ؟
ج :
أظن أن الأساس,
كما قلت,
هو الموقف النقدي.
فالطروحات تتتابع وتتغير,
وهي قابلة للنقاش,
ويتجاوزها الزمان...
الخ,
إلا أن المهم هو الموقف النقدي الذي أصبح الآن ضرورة يحس الجميع
أهميتها,
فلا يمكن الآن أن تلتقي أحدا لا ينتقد..
فقد أصبحت لدينا الآن متطلبات وطموحات في أن نرى مجتمعنا يرقى إلى ما
هو أحسن وفي أن ترقى ممارستنا السياسية والاجتماعية,
إنه طموح مشروع,
وانطلاقا من هذا الطموح تتأسس ضرورة استحضار,
الموقف النقدي,
الذي لامناص منه في حياتنا العامة.
وكل ما يطرح قابل للنقاش,
وعلينا أن نقبل بالحوار مع الأشياء,
وعلينا أن نتشبث دوما بالموقف النقدي,
خاصة في المجالات التي تلتبس فيها الأمور في ما يخص المبادئ الأساسية
من جهة,
والأشكال التاريخية والممارسات من جهة أخرى.
س: إن تغييب الفكر
النقدي, والنقد الذاتي أساسا مسألة أصبحت مهمة الى حد ما, ألا يمكن
اتهام جهة معينة باعتبارها متواطئة في ما يخص تغييب الفكر النقدي.. ألا
يمكن اتهام البرامج التعليمية مثلا ؟.
ج :
هناك مع الأسف البرامج التعليمية وهناك توجه عام يرى أن كل موقف نفدي
فيه خطر,
وأن كل نقد هو تحطيم وتكسير يسعى إلى ما هو سلبي,
وهناك جهات تعمل بكل جد للدفع بالفكر النقدي إلى الجانب,
لفرض تصورات مبنية على التسليم,
وعلى مسلمات فيها أمور أساسية وأمور لا يمكن قبولها.
للأسف ,
هناك هذا التوجه ونرى نتيجة ذلك تبدو وخيمة,
لأن العديد من الشبان مثلا تتبنى مواقف مبنية على أساس التسليم بالأمور...
وهذه في رأيي أكبر جريمة في حق الإسلام بذاته.
إن رفض النقد,
ورفض نقد التصورات الدينية,
هو في نظري أكبر جريمة في حق الإسلام لأننا نحول دون فهم لروح المبادئ
الأساسية,
ولأننا نحاول أن نفرض قوالب ليس لها من أساس سوى كونها اعتمدت في
الماضي.
يعني نحن نقوم بموقف يشبه موقف أولئك الذين واجهوا الرسول فقالوا له
هذا دين آبائنا وأجدادنا,
ما دام آباؤنا وأجدادنا قالوا كذا يجب أن نقول مثلهم,
بينما كان النبي يدعوهم إلى الفهم,
والى الفعل والى تجاوز تلك الموروثات,
والتقاليد المجتمعية من أجل الوصول إلى فهم أذكى.
فالنقد إن كان سلبيا فهو شيء صحي وجيد ومفيد من أجل هذا العمل ومن أجل
الوصول إلى الأسس.
س: بالمقابل, هل
قدر لنا أن نخضع الى قانون العولمة وأن نتحول الى كائنات استهلاكية,
أليس من الضروري التعامل وفق ما يسميه عبد الكبير الخطيبي استراتيجية
النقد المزدوج سواء في التعاطي مع الأصول أو في التعاطي مع الآخر ؟
ج :
العولمة أولا هي تحول تاريخي جذري لا نملك وسيلة لمواجهته.
فهناك أمور مثل تقنيات الاتصال تفرض سهولة التواصل بين المجتمعات
البشرية ولا يمكن أن نقرر أننا لن نستعمل الطائرة أو التيلفزيون أو
الأنترنيت,
فهذا غير مقبول.
هناك واقع إذن لايمكن أن نتعامل معه بطريقتين أو أكثر؛ فإما أن تقول إن
هذا معطى يجب التعامل معه والدخول في هذا الإطار,
لكن لنحاول أن ندخل كفاعلين ولنأخذ بالموقف النقدي,
ولو أنه معطى يمكن أن نندرج فيه بالأخذ والرد وبمحاولة الاستفادة مما
يقدم لنا,
مع محاولة الحد من الجوانب السلبية,
وفيه إمكانية للاستفادة سواء من الناحية العلمية أو من الناحية
الاقتصادية...
الخ.
إن به إمكانيات هائلة يمكن الاستفادة منها.
ويمكن أن نقول:
لا يجب أن ننعزل,
وأن نرفض هذا المعطى,
وأظن أن هذا غير مقبول وغير عقلي كذلك,
وليس فيه فائدة,
بل إنه غير ممكن,
ولو حاولنا ذلك فسنضيع فيه الكثير من الجهد والوقت,
ونرى مثلا كوريا الشمالية وصل بها الأمر إلى المجاعة لمحاولتها ذلك
بالرغم من توفرها على خيرات لا تتصور.
أظن أن هناك معطيات وأنه بالإمكان,
ولو بشكل متواضع أن نأخذ,
وأن نعطي وأن ننتقد,
وأن نكون فاعلين لا مفعولين.
س :
إذن لستم مع الرؤية النكوصية لمسألة الهوية,
ولستم مع التماهي مع الآخر بصدد مسألة الهوية
أيضا؟
ج :
الهوية لا يمكن أن نعيشها كما تعاش من قبل,
لأن المجتمعات قديما كانت منعزلة عن بعضها,
وكان الكل في جيله مثلا يعرف لغته الخاصة,
وتقاليده,
وهي كل شيء بالنسبة إليه,
والآخر هو غريب في شكله,
وفي لغته وفي عاداته...
الخ.
أما الآن ,
فقد اختلط البشر في ما بينهم,
ونحن نخالط الآخر يوميا,
ونعيش رفقته من خلال ما يقدمه التلفزيون من مناطق بعيدة جغرافيا,
ويمكن أن نعيش ما نحن عليه كعرب وكمسلمين ولكن بقبول التعامل مع الغير.
س :
كيف تقيمون عمل الحكومة الحالية بعد مرور ثمانية أشهر على بداية
تسييرها لشؤون المغرب؟
ج :
هذا سؤال صعب لكن لدي انطباع إيجابي جدا.
والسي عبد الرحمان اليوسفي وباقي الإخوان يقومون بمجهودات جبارة إذا
نظرنا إلى الواقع الذي يتعاملون معه,
ويجب أن نقر أنهم يبذلون جهدا كبيرا من اجل الدفع إلى الأمام بمسلسل
سيقدم الكثير للبلاد إن شاء الله.
لكني أظن أن ثمانية أشهر هي مدة قصيرة,
ولا أظن أنه بإمكان تقييم عمل الحكومة بعد هذه المدة,
ولو أني قلت أفضل الانطباع على التقييم,
فإني أقول أنه يجب أن نترك التقييم إلى فترة لاحقة.
س:
ما هي احتمالات نجاح التجربة الحكومية الحالية, خاصة أنه بالنسبة للرأي
العام الوطني, فالقضايا الاجتماعية لا زالت عالقة, سواء بالنسبة
للتشغيل عامة, أو بالنسبة لتشغيل الدكاترة والمهندسين, والمجازين
المعطلين أو بالنسبة لقضايا التطبيب والسكن, وتحسين مستوى العيش
بالنسبة للطبقات الشعبية ؟
ج :
مما لاشك فيه,
أن المشاكل التي تطرح نفسها هي مشاكل كبرى وجدية وعويصة,
وقد أضعنا ربما وقتا طويلا,
إلى أن تراكمت هذه المشاكل,
وأصبحت وضعية فئات كبيرة من الشعب وضعية أكثر من مزرية,
وقد أظهر التليفزيون صورا عن أماكن في الأيام المخصصة للفقر,
تجعلنا نتساءل هل نحن نوجد في المغرب حقا أم لا,
لكني أظن أن الحكومة لا يمكنها أن تصل إلى حلول سحرية بين ليلة وضحاها
اعتمادا على الوسائل المتوفرة لديها..
إن هؤلاء الأشخاص يقومون بمجهودات فوق طاقة الإنسان للدفع بالأمور إلى
الأمام ,
لكن لا يمكن أن تحل هذه المشاكل بسرعة,
ويجب أن ننتظر,
وأن نساهم بالموقف النقدي لأن هذا يشكل مساهمة ضرورية للإخوة أنفسهم.
س: كيف
تتصورون الوضع العام بالمغرب, لو قدر لهذه التجربة أن تفشل؟ ألن تكون
الحركات الأصولية هي المستفيد بامتياز من الوضع ؟
ج :
لا.
أنا متفائل في كل الحالات,
أولا لو فشلت التجربة,
ستكون قد نجحت,
لأن البرهنة فقط على أنه بالإمكان أن ندخل مسلسل التناول الديمقراطي,
هي بمثابة نجاح كبير وقد تمت البرهنة عليه.
أي لقد أصبح بالإمكان أن يدخل إلى الحكومة أناس كانوا في المعارضة
لسنوات,
ولم تكن لهم ممارسة في دواليب الدولة,
ولم تكن لهم تجربة بالرغم من أن لهم برامج ومقترحات,
وأظهروا أنه بالإمكان حصول تناوب.
ولكني لا أظن أن التجربة ستفشل,
إنه مسلسل طويل المدى ولابد أن يكون هناك تعثر,
وأن تكون خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الوراء,
وهذا شيء عادي.
ففي نظري وكيفما كان الحال,
فقد تم شيء أساسي,
وأتمنى من كل قلبي أن لا تفشل هذه التجربة.
س :
هل يبقى لقوى اليسار في رأيكم بعض الآمال لصنع معارضة الغد أولا,
ولبناء جبهة موازية لقوة الحركة الأصولية ؟
ج :
أنا لا أضخم من الحركة الأصولية.
فالحركة هي عبارة عن موقف,
يضخمه البعض,
يحاول التماس حلولا لمسائل دنيوية بالرجوع إلى الدين..
والدين مرجعنا كلنا,
والمبادئ الأخلاقية هي الأساس,
لكن حين ندخل إلى المسائل الدنيوية يجب أن نعتمد طرقا دنيوية.
فهذا الموقف موجود وإذا كتب أن يصلوا يوما إلى السلطة سيثبت أنه موقف
سياسي دنيوي مثل باقي المواقف,
وسيتعرض للنقد كما سيتعرض لبعض النجاح ولبعض الفشل,
كما يحدث بالنسبة لكل الحركات السياسية.
أظن أننا ننظر إلى الحركة باعتبارها قوى سياسية محافظة تود الدفع
بأفكارها بواسطة التماس أسس دينية لها.
لكني أظل متفائلا لأن لدينا الآن تعددا سياسيا حقيقيا,
أي لنا يسار ولنا قوى سياسية محافظة,
وهناك ما يمكنه أن يغني التجربة بكل مكوناتها,
وبإمكانه أن يدفع بالأمور إلى الأمام.
س: هل
تطمئنون إذن للمشهد السياسي المغربي؟
ج :
نعم,
لقد تردى الوضع المجتمعي بشكل كبير وهذا فيه خطر,
لأني أرى الواقع الذي تعيشه الفئات الشعبية للغاية,
والظروف المعاشة هي ظروف لا لإنسانية,
فهذا واقع ولكن هناك بصيص من الأمل,
يتجلى في هذا التعدد,
وفي هذه المواجهة الموجودة حاليا,
وفي إمكانية حصول تناوب,
ونقاش,
وجدل حقيقي
,
وتيارات.
فهناك حوار حقيقي بين الحاكمين والمحكومين.
.
س: كيف
تعلقون على صورة المعارضة الحالية, التي تتحمل المسؤولية في إيصال
الوضع العام في المغرب إلى ما هو عليه ؟
ج :
لقد كانت هناك ممارسات,
ووقت ذلك انتهى الآن,
ويجب أن لا نطيل في الأمر,
وأن لا نضيع وقتنا في متابعة هذا الاحتضار لممارسات متجاوزة,
هناك فجر جديد لممارسات جديدة وقد تحدثتم عن اليسار واليسار موجود,
هناك تيار محافظ
(أفضل أن
نسميه محافظا)
موجود كذلك ويناضل من أجل أفكاره ويجب أن نحيى كل هذا..
ولتبدأ المباراة,
ولنترك الشعب يستمع إلى الاثنين ويحكم في الأخير.
س: هل
يطمئنكم وضع المثقف المغربي ؟
ج :
لا.
الأمر مؤسف
(ذكرتم من
قبل المؤسسة التعليمية)
وأظن أن الوضع الثقافي يعيش نتيجة سياسات ونتيجة سنين من انعدام
الإمكانيات,
ومن توجهات أرادت أن تفرض على التعليم العالي توجهات قديمة تحصر نطاق
النقاش,
ونطاق الفكر الحر,
ونطاق الأخلاقيات,
وكما نتحدث عن آداب المسجد,
يجب أن نقترح آداب النقاش العلمي,
إن أمورا مثل هذه لا تنال المكانة التي تستحقها,
لكن هذا لا يمنع من أن المغرب له مجموعة كبيرة من المثقفين المتمكنين
الذي يستحقون الاحترام والذين يساهمون على مستوى دولي في تقدم المعرفة,
وفي تقدم النقاش كذلك.
س: هل
يطمئنكم أيضا وضع البحث العلمي في المغرب ؟
ج :
لا.
مع الأسف,
الإمكانيات منعدمة تقريبا,
بشكل غير معقول,
لأن بعض المتطلبات ثمنها بسيط وقليل.
فهناك أشياء لا تفهم,
واسمحوا لي أن أعود إلى دوري كمكتبي,
فالمكتبة تكلفتها بسيطة جدا,
وانعدام المكتبات في الجامعات المغربية, (هذا
بالنسبة للبحث العلمي في العلوم الإنسانية,
وأنا لا أتحدث عن البحث العلمي,
في العلوم البحتة وعن مختبراتها)
يشكل عائقا كبيرا.
يجب أن نوجه لهؤلاء الباحثين المشتغلين بالبحث العلمي نوعا من الإكبار
الاستثنائي لأنهم يعملون في ظروف وبإمكانيات مستحيلة.
س: بماذا
تنصحون الجهات الرسمية في ما يخص إنعاش الوضع الثقافي بالمغرب؟
ج :
أولا,
أود إقصاء كلمة النصيحة,
لأنه ليست لي نصيحة في هذا المجال لأن المسؤولين الآن مثقفون أكن لهم
الاحترام,
ويعرفون أكثر من غيرهم الوضعية.
عوض النصيحة أقول اقتراح,
واقتراحي هو أن يتم تقديم وسائل العمل لتنشيط المشهد الثقافي,
فإذا أردنا مثلا فريقا جيدا ومتكاملا في كرة القدم,
علينا الإكثار من الملاعب,
وعلينا توفير الوسائل التي تعطي للشباب إمكانية الممارسة,
وإظهار إبداعيتهم.
ا أن تأخذ النخبة الموجودة وتعطيها مائة تدريب إضافي,
فهذا يمكنه أن يحسن أداءها ب
5 %
أو
10 %
لكنه لن يغير الأمور بشكل جذري.
أما إذا عممت الوسائل,
وسائل الممارسة,
في كل التراب الوطني وأعطيت للشباب الوسائل,
(هذا الشباب الذي لا يملك الوسائل,
لا في العمل المهني,
ولا في الرياضة ولا في الإبداع الثقافي...
)
كالمكتبات وأماكن للحوار والنقاش أظن أنه ستبرز إمكانيات كبيرة وسنشهد
تنشيطا حقيقيا للمجال الثقافي...
كلمة أخيرة :
أنا كنت أعرف السي محمد البريني,
وأكن له كل الاحترام كشخص وكمناضل,
وقد قرأت افتتاحية العدد الأول وأحسن,
ووجدتها نموذجا لنوعية الخطاب المسؤول والتخاطب العقلاني الذي نحتاجه
اليوم.
من قلبي أتمنى لجريدتكم ولفريقكم كل النجاح لأنكم تعملون على تقديم
خدمات لمجتمعنا هو بأشد الحاجة إليها.
|