محمد شكـري

الحلقـة العاشـرة:

أتمني حرق مقتنياتي ورسائلي حتي لا يكون مصيرها أسواق الخردوات
مزاج خير الدين لم يكن يسعفه للمراسلة إلا مع ناشره في فرنسا أو مع سنغور أو جاك شيراك

حاوره:        يحيي بن الوليد  و الزبير بن بوشتي


في هذه الحلقة والاخيرة من لقاء/ سيرة محمد شكري يستعيد عددا من الذكريات ذات العلاقة بمراسلاته مع اصدقائه الادباء، حيث يتحدث عن ذكرياته مع الكاتب محمد خير الدين، الذي يقول انه كان رحالا، بدويا متجولا، لا يقر له قرار، ولا يعرف كيف كان يبدع كتبه، وكل ما كان يشاهده، هو محمد خير الدين يوقع كتبه. ويرفض شكري اي اقتراح لعلاقة ادبية مشتركة مع محمد برادة، خاصة في رواية الضوء الهارب . ويفسر شكري قلة انتاج برادة بقوله ان الاخير ربما لم يستطع الاختيار في الابتعاد عن الانشغالات التدريسية والحزبية والثقافية ولهذا جاء انتاجه الادبي ضئيلا مقارنة بعمر الكتابة لديه. ويعيد الكاتب تشكيل صورة الفنان التشكيلي محمد الغرباوي الذي كان يقتات مع شكري باللوحات التي يرسمها، وكانت تباع بابخس الاثمان، اما اليوم فتقدر بالملايين علي حد تعبيره، وفي داخل هذه الذكريات يثمن شكري جرأة الكاتبة الروائية غادة السمان التي يعتقد انها من اجرأ الكاتبات العربيات في القرن العشرين، وجاء حديث شكري عن السمان في سياق حديثه عن نشرها الرسائل التي تبادلتها مع الكاتب والروائي الشهيد غسان كنفاني.
وبعد، فقد قدم شكري، في هذا اللقاء الشامل خلاصة لتجربته السردية والروائية، وعلاقاته بالمحيط الذي كان يعيش فيه ويغرف منه ابداعه. كما اشار الي شبكة العلاقات التي اقامها مع زملائه الكتاب المغاربة، والعرب، والاجانب، واحكامه وان بدت قاسية علي البعض منهم، الا انها جزء من الشهادة، او الوجه الآخر لها، ولهذا فهي بحاجة الي اعادة نظر، وتقييم. وفي الاعم الاغلب فان الاستماع الي صوت شكري القادم من بين هذه السطور والحلقات كان متعة حقيقية.. ورحلة في زمن بدا بالامس قريبا وصار بعيدا.

برادة المقل في الكتابة

الزبير بن بوشتي: في إحدي رسائلك الي برادة تواسيه في تذمره من الظروف التي تبعده عن الكتابة مذكرا إياه بعبارة من روايتك السوق الداخلي : في ذهني زهور بلا أسماء وأسماء بدون زهور . هل تعني أنك كنت كتابة بلا كاتب وكان صديقك برادة كاتبا بلا كتابة؟
محمد شكري: برادة يبرر عدم إنتاجيته الادبية التي كان يمكن لها أن تكون غزيرة بانشغالاته الدائمة بالمحاضرات داخل المغرب وخارجه وأيضا بتحضيره واجبات التدريس في الكلية وبالاسفار البعيدة والقريبة. وهذه العوامل المجتمعة تفسد المبدع. علي المبدع أن يقلل من اللقاءات الادبية لأن ما سيبقي منه هو ما يكتبه. لا يمكن لنا أن نجمع بالتساوي بين اللذة المعنوية واللذة الحسية. علي المرء أن يختار. يوما فكرت فيما يلي: كنت اشتغل في مؤسسة تعليمية معلما رسميا لمدة إحدي وعشرين سنة، نصفها تدريس ونصفها إداري في مؤسسة تعليمية. وذات يوم قررت الانقطاع عن لعنة العمل الرسمي. بعد ذلك اشتغلت في إذاعة البحر الابيض المتوسط لمدة ثماني سنوات، وأيضا تخلصت من هذا العمل لكي أتفرغ للكتابة. الآن أنا كاتب محترف. وربما برادة لم يستطع الاختيار في الابتعاد عن الانشغالات التدريسية والحزبية والثقافية. لذلك نجد إنتاجه الادبي ضئيلا مقارنة بعمر الكتابة لديه. طبعا هذا لا ينسحب علي كل الكتاب، فجان بول سارتر كتب أهم نتاجه وهو لازال يمارس التدريس أستاذا في الفلسفة، وكذلك سيمون دو بوفوار. محمد برادة ربما فضّل أن يضحي بوقته في مجالات نضالية. أما الآن، بعد أن تقاعد عن العمل الرسمي، فهل ستسعفه الكتابة بنفس الشكل الذي كان يتصوره قبل تقاعده؟ الاجابة رهينة بمستقبله الادبي.
الزبير بن بوشتي: ولكن، تحايلا علي انشغالاته الكثيرة هذه، نستشف من خلال قراءاتنا لرسائله إليك أنه كان يطمح الي تحقيق عمل أدبي مشترك بينكما. لماذا لم يتحقق بينكما هذا العمل المشترك؟
محمد شكري: هذا النوع من الانتاج لا يتلاءم مع مزاجي البوهيمي. برادة منتظم وأنا أعيش علي هواي، ثم إني أكره الكتابة تحت الالزام والطلب. أنا مزاجي في ممارستي للكتابة، فقد أبقي أياما وشهورا دون أن أكتب شيئا، وفي ظرف شهر أكتب كتابا كما فعلت مع زمن الاخطاء . أذكر أن محمد خير الدين كان يحدث لـه نفس الشيء، وكذلك جاك كرواك وجون شتاينبك. لعل هذه الرغبة المشتركة ـ بيني وبين برادة ـ قد حققها في روايته الضوء الهارب .
الزبير بن بوشتي: نفهم من كلامك أن رواية الضوء الهارب كانت موضوع اقتراح عملكما المشترك؟
محمد شكري: دون تفاصيل، هذا صحيح.
الزبير بن بوشتي: هل حددتما شخصيات مشروعكما الروائي المشترك قبل الشروع في العمل أو أنكما اتفقتما علي ترك أمر الرواية للانبثاق اللحظي والعفوي؟
محمد شكري: نحن لم نبدأ حتي نحدد الشخصيات. هو كان سيقترح شخصيات وأنا أيضا، ولكننا لم نشرع في البداية حتي يسير العمل لكي نصل الي النهاية. أعتقد أن الكتابة جد شخصية.
الزبير بن بوشتي: أيعني هذا أنك لا تؤمن بالعمل الادبي المشترك؟
محمد شكري: الابداع فرد وليس جماعة، مفرد وليس جمعا. العمل الأدبي فيه روح من القداسة.
الزبير بن بوشتي: علي ذكر الضوء الهارب ومن خلال حديثك أنها رواية انبثقت عن مشروع عمل مشترك لم ينجز، فمن يقرأ الرواية يشتمّ فيها رائحة محمد شكري وأجواء كتاباته الي درجة أن شكري نفسه ضخّه محمد برادة في شخصية العيوشي.
محمد شكري: برادة صديق كبير جدا لمدينة طنجة. وإذن فأجواؤها ليست غريبة عنه. يعرف ما يعرف عن نهارها وليلها.
الزبير بن بوشتي: لكن هذا لا ينفي أن برادة استرشد في جولاته الطنجاوية هذه بالخريطة الشكرية.
محمد شكري: لا أعتقد أنه استرشد كليا بخريطتي. إن خريطتي السرية خفية جدا ومخطوطها لا أذكر أين خبأته.
الزبير بن بوشتي: الحديث عن خريطتك السرية ذكرني بخوان غويتيصولو وخريطته التي وضعها لأزقة وممرات مدينة طنجة القديمة لكتابة روايته العمدة الخائن دون خوليان . وقد سلّم غويتيصولو تصاميمه وخرائـطه هاته لمكتبة الجامعة التي كان أستاذا فيها. هل استرشد بك غويتيصولو في جولاته الطنجاوية هذه؟
محمد شكري: أبدا لا. لم أكن أعرفه عندما كان يكتب هذا الكتاب.
الزبير بن بوشتي: قراءتنا لـ ورد ورماد تكشف لنا عن بون شاسع في توجهكما. برادة بطريقته العالمة المتخمة بالتنظير للحياة من خلال مجهر مختبري، وشكري الذي يعيش قيّمه المكتوبة ويكتب حياته المعيشة. لقاء بين النظري المجرد والجسدي الطافح بجزئيات المعيش وتفاصيله اليومية. كيف كنت تنظر الي هذه العلاقة بالامس وكيف تنظر إليها اليوم؟
محمد شكري: جاء برادة، كما قيل عنه، من الكتابة الي الحياة، وأنا جئت من الحياة الي الكتابة كما قال برادة نفسه عني. لكن هذا لا يعني أن برادة لم يخبر بعض التجارب التي كتب عنها. هو له ظروفه المعيشة وأنا لي ظروفي. لكل منا له شرطه في الكتابة والمواضيع التي كتب كلانا عنها. أنا لا أستطيع أن أكتب مثلما كتب مارسيل بروست وهنمغواي وفوكنر ونجيب محفوظ، لكل واحد من هؤلاء شروطه في الكتابة.
الزبير بن بوشتي: لكن تبقي لكل هؤلاء الكتاب علاقة بالحياة، باليومي، بالجزئي والمغامرة. الكاتب بجسده ومشاعره وبالكتل التي تتحكم في كل شيء حي فيه، لكن في رسائل برادة نجد فيها إغراقا في النظري وفلسفة الحياة بتجريدية مطلقة. فكيف كنت أنت تنظر الي هذه الرسائل التي تبدو اجابتك عنها لا تستند الي رسالة سابقة؟
محمد شكري: إذا أغرق برادة في النظري فلأنه كان أستاذا في التنظير وكنت أنا مجرد متعلم لا يتجاوز مستواي التعليمي الثالثة من المرحلة الثانوية. فأنا عندما أكتب لا أضع أمامي التنظير. لا أضع كارل ماركس أمامي وألتوسير ورائي وعن يميني بارت وعن يساري باختين (ينفجر ضاحكا). إن هذا حصار وسياج. من يتعاطي هذا النوع من الكتابة عليه أن يتحمل مسؤوليته فيه.
الزبير بن بوشتي: في خضم هذا الزخم من الرسائل التي أرسلتها الي العديد من أصدقائك هل ندمت علي كتابة بعضها؟
محمد شكري: ربما هناك رسالة أو رسالتان. هناك رسالة واحدة لازلت أحتفظ بها في منزلي عثرت عليها منذ فترة. تاريخها يعود الي 18 سنة لم أرسلها الي عبد الوهاب البياتي.
الزبير بن بوشتي: لماذا لم ترسلها إليه، هل ندمت علي كتابتها؟
محمد شكري: فقط أني نسيت إرسالها. شيء أريد قوله هو أن مصير الابداع غالبا ما يكون غامضا. من يحبك هذا الغموض؟ هذا شيء يحتاج الي تفسير أغمض.

غادة السمان ورسائلها الي كنفاني

الزبير بن بوشتي: وأنت تتحدث عن الرسالة التي كتبتها الي البياتي ولم يقرأها، حضرتني الرسائل المتبادلة بين غادة السمان وغسان كنفاني. ألا تري أنها جرأة من أدبية عربية تكشف عن رسائلها وهي أكيد رسائل خاصة وحميمة جدا، خاصة وأن أسرار المرأة تتساوي والقداسة.
محمد شكري: لا شأن لي بأسرار المرأة العربية وقداستها، لكني لا أستغرب جرأة غادة سمان. كانت دائما الاديبة الشجاعة الاولي في العالم العربي في هذا القرن. هناك أديبة أخري شجاعة تخلت عن هذه الجرأة هي ليلي بعلبكي. لكن ليلي بعلبكي تزوجت واستلمت منها غادة السمان مشعل الجرأة. إن غادة السمان هي رائدة الجريئات في حواراتها وإبداعاتها صامدة ضد كل المغريات والباقي أتمني أن يقوله غيري من المعجبين بها.
الزبير بن بوشتي: إحدي رسائلك لمحمد برادة تقول ان المسرحي الراحل محمد تيمد اقترح عليك تشخيص دور كاليغولا لألبير كامو، لماذا لم تجرؤ علي دخول المغامرة؟ ربما كنت ستصير ممثلا ناجحا!
محمد شكري: لي حكاية طريفة مع المسرح. فأثناء دراستي في العرائش اسند لي دور قائد سجلماسة في مسرحية مدرسية قدمناها في قاعة سينمائية في العرائش. كان دوري يتطلب مني طعن أعدائي. ولأننا لم نعثر علي خنجر مزيف أعطي لي خنجر حقيقي. وفي لحظة الهجوم علي خصمي كدت أطعنه طعنة حقيقية. وبعد ايام أعدنا تقديم نفس العرص للمرة الثانية فقمت بنفس الدور وأعطي لي نفس الخنجر الحقيقي. وفي لحظة الهجوم علي عدوي سقط ميتا قبل أن أطعنه (يضحك). في عام 1958 نظمت مباراة في طنجة لاختيار بعض الممثلين الشبان. جئت الي العرائش حيث كنت أدرس واشتركت في المباراة. كان الكاتب المسرحي أحمد الطيب لعلج هو الذي يترأس اللجنة. مثلت الدور نفسه الذي مثلته في العرائش. فشلت. وبعد أن أصبحت كاتبا معروفا ذكرت للعلج هذه الواقعة فقال لي: من حسن حظك أنك لم تنجح في تلك المباراة . ولحد الآن لست أدري أكان محمد تيمد جادا أم مازحا في اقتراحه عليّ أداء دور كاليغولا !
الزبير بن بوشتي: أتذكر أن محمد تيمد اشتغل معك علي إعداد مسلسل مقتبس من الخبز الحافي في 37 حلقة لحساب إذاعة البحر الابيض المتوسط الدولية (ميدي 1)، لماذا لم يذيعوه؟
محمد شكري: بمجرد أن أنهينا التسجيل صدر قرار المنع من جهة رسمية.

مراسلات مع خير الدين

الزبير بن بوشتي: تبادلت العديد من الرسائل مع أدباء وأصدقاء وقد تحدثنا عنها، لكن هناك اسماء تحضرني من بينها اسم محمد خير الدين الذي كان من أقرب أصدقائك إليك، فهل كانت بينكما مراسلات؟
محمد شكري: لم يكتب لي اية رسالة. لم أكن أعرف متي يقرأ ومتي يكتب رغم أننا عشنا معا في أوساط الثمانينات تحت سقف واحد حوالي ستة اشهر في ضيافة أحمد السنونسي (بزيز). كنت أراه فقط يوقع كتبه. إن مزاج خير الدين لم يكن يسعفه للمراسلة إلا مع ناشره في فرنسا أو مع الرئيس السنغالي الاسبق ليبولد سيدار سنغور أو الرئيس الفرنسي جاك شيراك. لم يكن خير الدين يتوفر علي سكن قارّ إلا نادرا. كان يبدل ثيابه في منزل أحد اصدقائه ويترك الوسخة منها حيث يخلعها. غالبا ما كان يبدأ إدمانه علي الكحول في الخامسة أو السادسة صباحا في مقهي ستيام C.T.M في الدار البيضاء. لم يكن يريد أن يسبقه أحد الي تناول الكأس الاولي هناك. كان بارزا جدا في الحديث أمام من يصغي أكثر مما يتكلم.
الزبير بن بوشتي: هل كان يجد مستقره عندما يأتي الي طنجة؟ مثلا هل كنت تستقبله في منزلك؟
محمد شكري: كل مرة يأتي فيها الي طنجة كان يعيش بشكله الخاص. لم يكن يتقيد بالمواعيد. ينام في فندق أو أينما تيسر لـه أن ينام. إنه الطائر الازرق . السماء كلها له. أحيانا كان يأتي ولا شيء في جيبه. حتي تذكرة السفر تناقش. كنت أستقبله ولكني لم أكن أستطيع أن أقيمه معي في المنزل. إنه الارق بعينه. إذ هو كثير الحركة ليل نهار. لا يمكن معرفة متي ينام ومتي يستيقظ. لم يكن يعني بصحته. نادرا ما رايته يأكل بشهية. إنه مثل زفزاف. كلاهما يغازل الاكل ويداعبه دون أكله. الفرق هو أن محمد خير الدين كان قوي البنية وزفزاف ضعيفها. لي مع خير الدين ذكريات أخري عشتها معه في باريس مدة أسبوعين صحبة بلجيكية كانت عشيقته.
الزبير بن بوشتي: وكيف كانت ظروفه في باريس؟ هل كان يملك مسكنا قارا مثلا؟
محمد شكري: حتي في باريس لم اكن أعرف أين ينام. لم أسأله. كنا نلتقي ثم نفترق لكي نلتقي من جديد في الاماكن التي نعرفها معا صحبة معارفه ومعارفي.
الزبير بن بوشتي: هل كنت تثير معه نقاشات حول كتاباتك أو حول الادب بصفة عامة؟
محمد شكري: لم يكن يستحب أن يسأل عما كتب إلا نادرا. كان يفضل أن يسأل عن غيره من الادباء خاصة الفرنسيين. ومعروف عنه حفظه لقصائد كاملة لبودلير ورامبو وملارمي ومقاطع من أناشيد مالدورور . أظن أن ذاكرة الحفظ هذه اكتسبها من الكتّاب الذي درس فيه في صباه وحفظ فيه آيات من القرآن ظل يتلوها الي آخر أيامه. كان يحفظ مقاطع من أغاني أسمهان التي كان يحب كثيرا صوتها. كان يسميها الشيخة وعندما يكون مزاجه غير رائق يسميها العاهرة . كنت أحمل دائما اشرطة من أغانيها. لنستمع الي تلك الشيخة أو تلك الق.... . هكذا كان يقول.
الزبير بن بوشتي: لاشك أن لك مراسلات مع محمد بنيس.
محمد شكري: مراسلاتي معه قليلة. ربما لقاءاتنا أكثر من الرسائل المتبادلة بيننا. أذكر أنني التقيت به أول مرة في طنجة عام 70. كان قد صدر له ديوان ما قبل الكلام كان مصحوبا بحسن العلوي الذي جاء من فاس ليعرض أعماله في الكازينو الاسباني. لم يبع في المعرض أية لوحة. ورغم ذلك انطلقنا نتسكع بين حانات البغايا. بعت إحدي لوحاته لإسباني صاحب حانة ليلية. ربما كان يطمع في أكثر من اشتراء اللوحة. والله أعلم ما حدث في آخر الليل. أحتفظ لمحمد بنيس بأجمل الذكريات لم يحدث بيننا حتي الآن أي شنآن.
الزبير بن بوشتي: تخبر محمد برادة في إحدي رسائلك بأنك أرسلت قصتك الخيمة الي محمد بنيس لينشرها ـ علي قلة حيائها ـ في مجلة الثقافة الجديدة .
محمد شكري: لم يجرؤ علي نشرها. قال لي: إنها قصة موغلة في خدش الاخلاق. فيها إبداع جميل جدا، لكنك أدري بعقليتنا المتشددة التي لا تتسامح مع هذا النوع من الكتابات.
الزبير بن بوشتي: عندما تسمع بأن بوولز باع مراسلاته بثمن ضخم جدا الي أحدي الجامعات، فيم تفكر؟ وبماذا يوحي لك مثل هذا الخبر؟
محمد شكري: عندنا عدم العناية بالرسائل المتبادلة بين المفكرين والادباء والفنانين. وأنا عندما كنت أكتب رسائلي أو حتي عندما أكتبها الآن فلا أفكر أساسا في المتاجرة بها. ونحن نعلم أن قيمة بيع الرسائل في الوطن العربي هي قيمة مادية هزيلة. بول بولز لم يبع مراسلاته بل باع ايضا مسودات بعض أعماله ومسودات من ترجم لهم. أما أنا فمسوداتي أرميها في الازبال لانعدام مؤسسات تعني بمخطوطات الكتاب واقتناء بعض أشيائهم الخاصة بهم؛ لأنها أشياء منتقاة عن ذوق يختلف عن ذوق الانسان العادي. المبدع له ذوق العصر الذي عاش فيه وأثَّر فيه. هذه تقاليد حضارية و إبداعية مازلنا نشك في قيمتها المستقبلية التي يمكن لها أن تغنينا ثقافيا وماديا. إن التاريخ يغدو ـ في هدا السياق ـ كابوسا نحاول أن نستيقظ منه كما عبّر بهذا المعني جيمس جويس.
الزبير بن بوشتي: كنت قد فكرت في إنشاء مؤسسة لحفظ مقتنياتك.
محمد شكري: نعم.
الزبير بن بوشتي: ولماذا لم تتأسس بعد؟
محمد شكري: المشكل يكمن في إيجاد مقرّ يستجيب للمواصفات المطلوبة. لقد وجدت أكثر من مقر لائق، لكنني لم احصل بعد علي المبلغ المالي الكفيل للاشتراء والاصلاح الملائم للمؤسسة.
الزبير بن بوشتي: التفكير في إنشاء هذه المؤسسة هام جدا خاصة وأن الهدف منه الحفاظ علي ذاكرة غنية بالمكتب والمخطوطات والتذكارات.
محمد شكري: هذا صحيح. أنا أسرتي الآن متكونة من أخ وأختين. وهم لا يفقهون شيئا في الثقافة والادب، لذلك أنا لست مطمئنا علي مصير هذه المقتنيات. وأكيد أنها ستباع بعد موتي في سوق الاشياء المستعملة بأي ثمن. أتمني أن أحرقها حتي لا يكون مصيرها أسواق الخردوات.
الزبير بن بوشتي: في رأيك أتستمد مراسلات الادباء قيمتها من مكتوبها أم من شهرة كاتبها؟
محمد شكري: أظن أن الرسائل المتبادلة بين الكتاب مزدوجة القيمة، فهي في حد ذاتها قيمة وأيضا هي قيمة مستمدة من كتابها مهما تتطرق لأبسط الاشياء في حياتهم. إذ أنها تعكس اهتمامات الكاتب المغرقة في الجزئي واليومي من حياته. ودليلنا مراسلات فان خوخ مع أخيه التي كشفت لنا عما كان يعانيه فان خوخ من توترات ونوبات عصبية وخصاصه المادي الحاد. كان أخوه يخفف من حدة أعصابه بمساعدات مالية. ويقال إن فان خوخ لم يبع طيلة حياته إلا لوحة واحدة. إن المراسلات إذن جزء من سير كتابها.
الزبير بن بوشتي: هل هذا هو الدافع الذي جعلك تشتري مراسلات محمد المرابط؟
محمد شكري: أنا لم أشتر مراسلات محمد المرابط، عثرت فقط علي أكثر من مائة بطاقة بريدية في سوق الخردوات، كانت في حوزة بول بولز، وهي مرسلة من أناس مجهولين في معظمهم أو هم معجبون به. تواريخها تبدأ من عام 1931 الي أواخر الثمانينات، اشتريتها لقيمة بولز الادبية ولقيمة طوابعها البريدية ولقيمة البطاقات البريدية التاريخية التي تؤرخ لمدن من مختلف بلدان العالم في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن العشرين. إنها بطاقات حنينية مرسلة من مختلف بلدان العالم.
الزبير بن بوشتي: هل هذا يعني أنك من هواة جمع الطوابع البريدية؟
محمد شكري: (قبل أن يجيب يتجه الي خزانة كتبه بمدخل البيت. يخرج من أحد رفوفها المكتظة بالكتب دفترا مصفرّاً علاه الغبار. يعود الي الجلوس ويبدأ في تصفحه أمامي). انظر ! إنها طوابع بريدية ذات قيمة تاريخية نادرة. اشتريت هذا الدفتر من صديق لا يعرف قيمة هذه الطوابع.

عن الفن التشكيلي

الزبير بن بوشتي: رصيدك من اللوحات والاعمال الفنية يدل علي أن لك علاقات متعددة مع فنانين تشكيليين مغاربة وغير مغاربة. ولاشك أن ذاكرتك تعجّ بذكريات مع اسماء عديدة منهم. لو طلبت منك الحديث عن هذا النوع من العلاقات فما عساك تقوله؟
محمد شكري: كما يهـــــتم الكاتب بالفن التشكيلي هناك تشكيليون يهتمون بالادب. أول علاقة ربطتها مع فنان تشكيلي كانت مع محمد المليحي في أواسط الستينات. كنا نلتقي في مقهي سنترال في السوق الداخل ونتردد علي مطعم ماريا في حومة بن شرقي. ثم توثقت علاقتي بالمكي مورسيا. وكانت لي صداقة حميمية مع محمد القاسمي الذي كان يجرب نفسه كاتبا للقصة القصيرة قبل أن يصبح رساما معروفا ثم توالت معرفتي بآخرين مثل حسن العلوي وبناني ومحمد شبعة. إنني أتكلم عن العلاقات التي ربطتها في طنجة. وهناك علاقات أخري كانت لي مع رسامين في تطوان مثل السرغيني والادريسي والعمراني وبن يسف والفخار وسعد السفاج والمكي مغارة والوزاني.
الزبير بن بوشتي: والجيلالي الغرباوي؟
محمد شكري: الغرباوي عرفته في أواسط الستينات وكنت أبيع لـه بعض لوحاته بأبخس الاثمان عندما تصبح جيوبه مثقوبة.
الزبير بن بوشتي: بكم كنت تبيع لوحاته في ذلك الوقت؟
محمد شكري: بين مائة ومائة وخمسين درهما. لم يكن يهمني من يشتريها. ما كان يهمني هو الحصول علي النقود لأن المطاعم والحانات النهارية والليلية تنتظر ما سنصرفه فيها.
الزبير بن بوشتي: وهل كان هذا الثمن يرضي الغرباوي؟
محمد شكري: (يضحك) هل تعلم أن محمد الحمري كان يبيع لوحاته الصغيرة بعشرين أو ثلاثين درهما في ذلك الوقت! اليوم لوحات الغرباوي تثمن بآلاف الملايين.
الزبير بن بوشتي: هل كان الغرباوي يقضي فترات طويلة في طنجة؟
محمد شكري: كان يقضي أياما وأسابيع ثم يعود الي الرباط أو يعبر البوغاز الي أوروبا.
الزبير بن بوشتي: أتتذكر آخر مرة التقيت فيها بالغرباوي؟
محمد شكري: آخر مرة التقيت فيها بالغرباوي (يفكر مبتسما) غريبة جدا. كانت حوالي الرابعة صباحا، بعد سهري في إحدي الحانات ذهبت الي البيلو لتناول قهوة فإذا بي أفاجأ بوجود الغرباوي جالسا في رحبة الحانة. جلست معه ثم قال: منذ خمس دقائق كنت في مولاي زرهون. كنت أحمل حقيبتيّ. التفت فإذا بي أري شخصين يتبعاني. خمنت أنهما يريدان قتلي. تركت لهما الحقيبتين وأغمضت عينيّ ثم فتحتهما فوجدتني جالسا هنا . قلت: والآن ماذا تريد؟ قال: أريد ثلاثة دراهم . أعطيتها له ودخلت الي الحانة لأشرب قهوتي بالدّين. في اليوم التالي رأيته جالسا في مطعم زاكورة في منتهي أناقته. ناداني. أخذت مكاني قبالته. قبلت دعوته للعشاء معه. سهرنا صحبة صديقه الروبيو. لم اره بعد تلك السهرة حتي سمعت بعد شهور بوفاته في حدائق باريس متجمدا تحت سماء ثلجية. إن موته مازال غامضا حتي الآن، هل تناول مخدرا قويا أو أنه زمهرير باريس؟

 

القدس العربي (اللندنية)، يوم 10/02/2002
 

 

موارد نصيـة

محمد شكـري

(حــوار)

المحتــوى

الحلقة الأولـى: يزعحني التعامل معي كظاهرة أدبية تعلمت في سن متأخرة...

الحلقة الثانيـة: كنت أسرق كل ما يمكنه أن يملأ معدتي حتى لا أصير عبئا على أسرتي

الحلقة الثالثـة: أترك الدين لفقائه والسياسة لمناضليها... وانتمائي لهذا البلد يلزمني باحترام الإسلام

الحلقة الرابعـة: المدينة بالنسبة للبدوي صدمة حضارية، وستظل طنجة مدينتي الأثيرة...

الحلقة الخامسـة: بول بولز نبيل في إخلاصه للأدب أما سلوكه الأخلاقي والمادي فأمر آخر...

الحلقة السادسـة: الطاهر بنجلون أسدى إلي معروفا كبيرا... وأعتقد أنه ندم على ترجمته الخبز الحافي...

الحلقة السابعـة: أنا لم أذهب إلى الإسرائيليين وأطلب منهم ترجمة كتابي...

الحلقة الثامنـة: ينتابني شعور الخـوف... ليس من الموت، ولكن من الطريق المؤدي إليه

الحلقة التاسعـة: علال الفاسي كان رجلا منفتحا.. وسمو فكره منعه من مناقشة روايتي

الحلقة العاشـرة: أتمنى حرق مقتنياتي ورسائلي حتى لا يكون مصيرها أسواق الخردولات...

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.