يكمل محمد شكري في هذه الحلقة
ذكرياته ومواقفه عن المرأة، التي عرفها في
حياته المتسكعة في
الشوارع وبين الحانات، ويعبر في هذه الاستعادات عن مخاوفه من الزواج
والارتباط بالمرأة، ربما لان تجارب زملائه الكتاب فشلت او لخوفه الداخلي
من الابوة، ومعاملة اولاده بنفس الطريقة التي عامله والده فيها والده.
ومع ذلك يعترف الكاتب شكري ان عدم زواجه حرره قيود الاسرة وجعله يكرس
وقته للكتابة.
وفي ظلال ذلك يشير شكري الي خوفه من الطريق للموت وليس من فكرة الموت،
فتفاصيل الموت هي التي تخيفه اكثر من حقيقته الابدية. ويقول شكري ان
توجهه نحو كتابة الرسائل للادباء الذين عرفهم او ارتبط بهم جاء من اجل
تفريغ شحنة الغضب في داخله، هذا الغضب الذي كان نتاجا للمنع والرقابة
الممارسة علي اعماله. ولهذا راسل عددا من الادباء كان محمد برادة والشاعر
العراقي عبد الوهاب البياتي من اكثر الذين ارتبط بهم عبر المراسلة. ويقول
انه رسائله للبـــــياتي كانت تزيد عن العشرين صفحة احيانا.
المرأة المدنسة كمادة للكتابة
الزبير بن بوشتي: لكن رغم خطابك المحرض
هذا والمناصر فربما ما يعيبه عليك الكثيرون ـ خاصة النساء ـ هو أنك لا
تكتب إلا عن المدنسات الخاسئات.
محمد شكري: إذا كنت لا أكتب إلا عن المرأة الخاسئة المدنسة فلأنني أكلت
خبزي الحافي بين .. العاهرات؛ فأنا حينما فتحت عيني وجدت الخبز بين ..
عشت في مخابئ كانت تقطنها عاهرات. شاركتهن السكن في المواخير وفي دور
الدعارة السرية، ولم تتح لي إلا فرص محدودة جدا لمعرفة المرأة المسماة في
المجتمع بالمحترمة ـ سليلة الاصل والفصل ـ وذلك عندما كنت أشتغل في
التعليم، حيث كنت ألتقي ببعض المعلمات والاستاذات ـ اللواتي كنت أبادلهن
الحديث: (يكلمنني في المؤسسة ولا ينظرن إلي في الشارع). ومن خلال تلك
الاحاديث لمست التقارب الكبير بينهما سوي أن الاولي تمارس التعليم
والثانية تمارس الدعارة، فالمرأة المسماة المحترمة لا تثير خيالي، بعكس
المرأة العاهرة التي تثير تجربتها خيالي بتعدد مواهبها الفطرية، فهي
ممثلة ذات إمكانيات عالية، واختلاطها اليومي بعالم الرجال والنساء يغني
تجربتها ويجعلها تخبر الحياة بشتي أبعادها وأوجهها، كما تكسبها أدوات
تحليل علاقة الرجل بالمرأة وتمنحها فرصة أكبر في فهمها أكثر من المرأة
السوية التي تنضبط في الذهاب والاياب بين منزلها والعمل والسوق ومنزل
أقربائها، أما المرأة العاهرة فهي امرأة استكشافية تثير المغامرة والسفر
في العقلية الرجالية أكثر مما تغامر المرأة المعصومة من الاخطاء، لكـن
للمـرأة العاهرة عيوبهـا، فأنا ـ مثلا ـ لا أستطيع الزواج من عاهرة. وهذا
ليس احتقارا لها.
الزبير بن بوشتي : لماذا؟ أهي فقط
مادة للكتابة بالنسبة لك؟
محمد شكري: بطبيعة الحال هي مادة خصبة، لكني لا أتعامل مع العاهرة كنموذج
فارغ من محتواه الانساني بل أتبادل معها مشاعر التعاطف والمساندة في
المستوي الاجتماعي. قد أقيم معها علاقة ودية دون طمع في جسدها: زواجي
منها فيه الكارثة عينها. لقد علمتني معاشرتي للعاهرات أن لكل عاهرة نزعة
انتقامية إذا هي استحوذت علي الرجل. إنها تنتقم من كل الرجال الذين
تعسفوا عليها من خلال رجل واحد.
الزبير ن بوشتي: أتعتقد أن هذه النزعة
الانتقامية تظل تلازمها حتي وهي متزوجة وربة أسرة مستقرة؟
محمد شكري: حتي وهي متزوجة ومستقرة .
الزبير بن بوشتي: بمعني أن الزواج بالنسبة
لها ليس إنصافا؟
محمد شكري: أن الزواج لا يكفي، لأن الكثيرات منهن لا يستطعن التخلص من
ترسبات الممارسات التعسفية التي مورست عليهن، الشيء الذي يجعل معظمهن لا
يستطعن تجاوز حياتهن الماضية. وكم من عاهرات عرفتهن عن قرب فشلن في
الزواج وعدن لممارسة الدعارة استمرارا في الانتقام التاريخي!
الزبير بن بوشتي: لكنك في كتابك وجوه
تعترف بعلاقة حب عذري ربطتك بـ فاطي . لو أن فاطي استسلمت وبادلتك نفس
المشاعر فهل كان مصير هذا الحب سينتهي الي الزواج؟
محمد شكري: لماذا لا تقول الاعجاب وليس الحب! فاطي شخصية واقعية يعرفها
الكثيرون من رواد حانة غرناطة. حبها أو إعجابها كان موزعا. ما كان زواجي
منها سيحقق لي سعادتي معها. منادمتي لها كانت أفضل. لقد تزوجت وفشلت كما
حكيت في وجوه .
الزبير بن بوشتي: لم يكن فشل تجربة الزواج
بل ترملت بوفاة زوجها ـ حسب النص.
محمد شكري: لكنها كانت تعيش فشل الزواج الي درجة خيانة زوجها. وبعد
عودتها الي المغرب وجدت الاحوال أسوأ فغادرت من جديد الي الخارج.
الزبير بن بوشتي: أنت عندما تظل متعقبا
مسيرة هؤلاء النساء اللواتي كنت ـ ربما ـ سترتبط بهن، وتلاحظ تعلقهن
الدائم بحياة الدعارة، والخيانات، وفشل تجاربهن الزوجية، هل يزيدك هذا
تأكيدا علي أنك صائب في اختيارك لحياة العزوبة؟
محمد شكري: إن ظروف العاهرات لم تعرف تغيرا ملموسا، وهذا راجع لعدم تغير
العديد من الاشياء في مستويات مجتمعاتنا المحافظة. وأنا هنا أقصد عاهرات
المجتمع الذي أعيش فيه، ولا أتحدث عن عاهرات العالم، إذ ظروفهن تختلف.
الاستغلال البشع ما زال قائما في مجتمعنا المغربي، فمازالت هناك عقليات
رجالية التي بمجرد ما ينتهي الرجل من تلبية رغبته الجنسية ـ مع عاهرة ـ
حتي يحتقرها، إما لكونها عاهرة أو ندما علي المبلغ الذي دفعه لها. إنه
محتاج لجسدها ومحتقر إياها في آن، أليس هذا انفصاما عقليا؟
فكرة زواج
الزبير بن بوشتي: إذا كانت أحوال العاهرات
لم تعرف تغيرا ملموسا، فهل فكرت يوما في الارتباط بامرأة خارج جغرافية
الحانات وبعيدا عن حياة العاهرات؟
محمد شكري: نعم. فكرت في ذلك عام 1967. كان لي صديق من أيام الدراسة في
العرائش عيّن هو أيضا مثلي في طنجة. كان يلحّ عليّ بأن أتزوج بدعوي تخلصي
من تسكعي. كانت لي ميول نحو فتاة فوافقت أن يخطبها لي. كنت معجبا بها من
بعيد وكنت أتسقط أخبارها. كانت تدرس. تحمّس الصديق للزواج منها. قامت
أسرتها بتحريات عن حياتي وأسرتي فاكتشفت أني لست لائقا بابنتها: ماسح
أحذية سابق، حشاش وسكير وابن أسرة فقيرة ومهمشة . هذه كانت صدمتي الاولي
والاخيرة، لكنني التقيت بالفتاة فيما بعد في الحانات والمراقص. كانت تعيش
حياتها وليس حياة اسرتها. ولم يكن بيننا ما يسمي بالاعجاب أو الغرام.
مجرد ذكري سيئة. لا هي كانت مسؤولة ولا أنا. إذا هي مرت قدامي الآن فربما
تشابهت لدي مع الأخريات.
الزبير بن بوشتي: قصتك مع هذا المشروع
للزواج تعني ما تعنيه. إنك عندما كنت تسعي للاندماج في المجتمع السوي
رفضك. فهل رفضك أنت، الي اليوم، للزواج، هو ردّ فعل طبيعي علي هذا
الموقف؟
محمد شكري: ليس كليا. ثم إن حرفة الكتابة تمكنت مني فأبعدتني عن الزواج.
لقد أدركت ـ مع الزمن ـ أن زواجي كان سيجهز علي حريتي التي أتمتع بها
اليوم للكتابة. الزواج قد يحدّ من حرية الكاتب، لذلك فأنا لست نادما علي
عدم زواجي. إن المرأة العادية لن تسمح لي بلقاءاتي مع نساء مثقفات
ومبدعات.
الزبير بن بوشتي: هذا يتوقف علي عقلية هذه المرأة ومدي انفتاحها
أو العكس.
محمد شكري: قد تكون هناك نساء ذوات عقلية متفتحة ومتسامحة، ولكن لم يكن
من حظي أن أقابل واحدة منهن. أعرف بعـــــض الكتاب المتزوجين الذين
يعيشون حياة هنيئة ويكتبون جيدا، لكن هناك أيضا شقاء الكتاب الذين
تزوجوا، والتاريخ الادبي وغير الادبي مملــــوء بهم. هناك حالات ناجحة
وأخري فاشلة، ثم هناك ناس ليسوا مستعدين لكي يعيشوا حياة مستقرة. أنا
شخصيا حياتي شارعية.
الزبير بن بوشتي: حتي الآن السي محمد؟
محمد شكري: الآن بدأت أتقوقع لكي أستريح من التعب الذي كان عقابا شديدا
لصحتي الجسدية والذهنية.
الزبير بن بوشتي: ألا تعتقد بأنك مخطئ
حينما تبرر في وجوه عدم زواجك بخوفك من الفشل الذي لقيه بعض اصدقائك
الكتاب في حياتهم الزوجية؟
محمد شكري: ربما اعمق من هذا. ربما أعمق.
الزبير بن بوشتي: كيف؟
محمد شكري: (يفكر للحظة) ربما اخشي أن أرزق أولادا وأعاملهم بنفس القسوة
التي عاملني بها أبي. إني لست واثقا من سلوكي تجاه أطفالي إذا كانوا من
صلبي. أنا أخشي من الابوة. عندي تخوف لا شعوري من الابوة.
الزبير بن بوشتي: تقصد تخوفك من سلطتك
الابوية أنت علي أطفالك؟
محمد شكري: نعم. مع العلم أن معاملتي مع الاطفال هي معاملة سوية، لكن ما
اصبحت أؤمن به هو ليس من الضروري أن يكون لي طفل من صلبي، فهناك أطفال
إخوتي، وأطفال اصدقائي وغيرهم ألاطفهم كما لو كانوا من صلبي. ما يهمني هو
أن يكونوا في عيش سليم.
الزبير بن بوشتي: في نص زهور الموتي
(وجوه، ص: 62) تقول: ربما ضعفا فكرت في نفسي أو في أحد . من يكون هذا الـ
أحد ؟ أليست هي المرأة التي لم تتزوجها بعد والتي لم ترد لها أن تقاسمك
حياتك؟
محمد شكري: لم أعهد أذكر كيف جاءتني هذه الخاطرة وأنا أفكر في في حالة
عشتها مع امرأة. إنها خاطرة لم أعد أذكر مشاعرها وكيف صغتها. صحيح أن لكل
صياغة خاطرة أو فكرة ولابد من أن تكون لها مرجعية أو تجربة. ربما كانت
خاطرة تولدت عن تراكمات تجاربي.
الزبير بن بوشتي: لاشك لتراكم تجاربك في
الحياة تراكمات في علاقات ربطتها بعاهرات عابرات أو دائمات. هل حدث أن
التقيت بوجه من وجوه عاهراتك القديمات في الشارع بعد مدة طويلة؟
محمد شكري: التقيت ببعضهن مرات. لكن مرة حدثت لي مســـــألة طريفة قرب
محطة القطار، ففي ذلك الصباح الباكر وأنا مسافر الي الرباط استوقفتني
إحدي عاهراتي القديمات. كانت تتردد علي منزلي وتتعري راقصة علي موسيقي
هندية أو شرقية. تتعــــري تماما. ذات يوم استحت من محمد زفزاف فلم تخلع
كل ثيابها. طلبت مني مساعدة في ذلك الصباح الباكر فاستجبت لطلبها. قالت:
لو أنك تزوجتني لما رأيتني كما تراني . كانت متشردة. قلت لها: لو أنني
تزوجتك لصرنا معا كما أنت الآن. الافضل أن يكون هناك متشرد واحد عوض
اثنين .
الزبير بن بوشتي: صار الموت عند الفلاسفة
والشعراء والكتاب موضوعا قدريا. كيف تنظر الي الموت؟
محمد شكري: يقول أبيقور: مادمت حيا فلا خوف من الموت وإذا مت فلن أحس
بشيء .
الزبير بن بوشتي: ألم يساورك الخوف يوما
من مواجهة الموت وحيدا دون شريكة لحياتك؟
محمد شكري: أحيانا ينتابني شعور الخوف، لكن ليس من الموت بل من الطريق
المؤدي الي الموت، فهناك أناس يموتون في الستين من عمرهم ويدفنون في
السبعين أو الثمانين. هذه السنوات المتعبة في انتظار الموت ليست حياة.
فحتي وإن توفرت الامكانيات المادية فإن الطريق الي الموت مرعب. الطريقة
التي يموت بها الانسان هي التي تخيفني. سواء عن طريق مرض مزمن أو شيخوخة
وهي أيضا مرض. منذ فترة زارني أحد أصدقائي طاعن في السن. جاء ليشرب معي
بعض الويسكي. وحين هممنا بالخروج وجد صعوبة لكي ينهض من مكانه. لم اساعده
في النهوض حتي لا أحرجه. اعتمد علي الطاولة والحائط وراءه لكي ينهض
بصعوبة بالغة. لكن العزلة لها إيجابياتها في معظم الاحيان. ليس هناك من
يزاحم عزلتي في القراءة والكتابة والاستماع الي الموسيقي. حرّ في إظلام
المنزل أو إنارته.
الزبير بن بوشتي: ماذا تقصد حينما تكتب-
مثلا- في نصك فيرونيك (وجوه) ص: 125 كلمة الحب أخشي علي من يتلاعب بها
وعلي من يصدقها ، أهو الخوف من الحب أم عدم إيمانك به؟
محمد شكري: موضوع الحب غامض جدا ومعقد. الحب سرّ من أحد الطرفين المحبين
وإعلان عنه من الطرف الآخر: واحد يعلن عن حبه والآخر يتظاهر باللامبالاة.
هذا الدور ينبغي أن يتبادله المحبان علي الدوام. فكلما تعب أحدهما من دور
يتولاه الآخر. إنه مثلما يحدث في حوار بين شخصين. فإذا تكلما معا في آن
واحد فلا أحد منهما سيفهم الآخر ولا يتفقان علي شيء. وقد ينتهيان الي
شجار ونفور وربما القطيعة إذا لم يعرف أحدهما كيف يصمت. إن الحب صبر
وسعادته تتم في التماس . التلاقي وجها في وجه يحدث حتما الاصطدام.
الزبير بن بوشتي: عندما تبدأ امرأة
تبادلني الحب عن قرب وجدية المعاشرة معها فإن الكارثة هي التي تبدأ .
(وجوه، ص: 9). لماذا أنت متشائم من حب المرأة لك الي هذا الحد؟
محمد شكري: قبل أن أصبح كاتبا كنت أحب امرأة واحدة وربما أحببت اثنتين أو
ثلاثا تكمل الواحدة منهن الأخري أو الاخريين، أما الآن فإني أحب كل
النساء. لم يعد هناك حب واحد ولا غيرة. ما فاتني منه قد أسترجعه بنفس
الشوق، أكثر أو أقل، لا يهم. لم أندم علي نبضات قلبي، واليوم لا أسرعها
ولا أبطها. تأتي كما تأتي ولم يعد هناك تهافت علي الاجمل ولا نفور من
الاقل جمالا. لماذا المديح دائما لكل ما هو جميل ! ألا يستحق منا القبيح
التفاتة أو أقلها؟ رحمة بما هو موجود !
الزبير بن بوشتي: هل تذكر حبك الاول؟
محمد شكري: حبي الاول كان لعاهرة. إنها كنزة في زمن الاخطاء . جميلة كما
يقول عشاق الجمال. اتفقنا علي أن نمثل الحب ولا نعيشه. ألمسك؟ لا تلمسني.
ألمسك؟ لا تلمسني، أقبلك؟ لا تقبلني. الي آخر الرغبات. لقد ماتت منذ
سنوات وجاءت ابنتها لتكمل معي دور أمها الذي لم ينته، لكنها أوقفت
التمثيل، أحيانا الناقص هو الكامل.
الرسائــــل
الزبير بن بوشتي: أدب الرسائل نجده شبه
منعدم في ممارساتنا الادبيـــــة العربية، وصدور كتاب: ورد ورماد ـ الذي
يضم رسائل متبادلة بيــــنك وبين محمد برادة ـ يدفعنا الي طرح السؤال
التالي: هل كانت لديكما ـ وأنتـــــما تتبادلان هذه الرسائل ـ أو لديك
أنت علي الاقل، تطلعات لنشرها في يوم من الايام؟
محمد شكري: ربما كانت هذه رغبة وليم بوارّوز (الذي كان في حاجة الي المال
لعلاج ابنه) مع ألن غينسبرغ، اللذين اختلقا تبادل رسائل وهمية بينهما.
شخصيا، لم تكن لدي فكرة نشر هذه الرسائل المتبادلة مع محمد برادة أو محمد
زفزاف وبعض الادباء الآخرين أمثال أدونيس، عبد الوهاب البياتي، علي جعفر
العلاق، عبد الرحمن مجيد الربيعي وحميد سعيد وغيرهم. ربما من الاسباب
التي كانت تدعو الي المراسلة، كعزاء وتواصل ودي، هو عدم توفر بعض
الاصدقاء الادباء علي هاتف في منازلهم. وأرجح أن محمد زفزاف ـ عندما أصبح
يتوفر علي هاتف في منزلــــه ـ لم نعد نتكاتب، ونفس الشيء ينطبق علي
أصدقاء آخرين. إن مراسلتي مع محمد برادة كانت طبيعية جدا. أنا ـ شخصيا ـ
لم أكن أتوخي منها أية شهرة أدبية. أما هو ـ إذا كان يتوخاها ـ فهذا
شأنه. الرسائل التي كتبتها إليه هي رسائل تلقائية. كتبتها عن جزئيات
حياتي اليومية. هناك جزء في هذه الرسائل يتعلق بالفترة التي قضيتها في
مستشفي الامراض العصبية في تطوان. كان حــــقا نبـيلا في مؤازرة محنة
مرضي في تلك الفترة العصبية التي تخلّي فيها عني الآخرون. رسائل هذه
الفترة ضاع بعضها كما أكد لي هو نفسه.
الزبير بن بوشتي: لماذا تشك في أن محمد
برادة امتنع عن نشر بعض من الرسائل التي تغطي فترة إقامتك في مستشفي
الامراض العصبية؟
محمد شكري: لا أعلم. (يستدرك) ربما تكون ضاعت حقيقة أو أنه أراد أن
يضيعها.
الزبير بن بوشتي: وما فحوي هذه الرسائل؟
محمد شكري: فحواها موجودة فيها.
الزبير بن بوشـــــتي: هذا يدفــــعني لمعرفة رأيك في هذا الطوفان الهائج
الذي يعرفـــه التقدم التكنولوجي خاصة في جانبه المتعلق بالاتصالات والذي
حوّل العالم الي قرية صغيرة كما هو شائع، هل هذا التقدم مضر بمستقبل
الكتابة والادب والقراءة، في رأيك؟
محمد شكري: أنا مؤمن نسبيا بهذا الطرح، لكن الكتاب ستبقي لـه قدسيته ولو
للذكري ـ مهما زوحم بالتكنولوجيا ـ غير أن انتشاره سيصبح محدودا،
وسيتضاعف ثمنه علي ما أعتقد.
الزبير بن بوشتي: لماذا كان حرصك علي
مراسلة الاسماء الشرقية؟
محمد شكري: أغلب تلك الاسماء عرفت أصحابها شخصيا، وكان اعتزازاً أن أعرف
معظمها.
الزبير بن بوشتي: هل استمرت مراسلتك
لأدونيس؟
محمد شكري: لم تكن هناك أسباب لاستمرار مراسلتنا، بينما عبد الوهاب
البياتي استمرت مراسلتي معه الي ما قبل وفاته بسنوات قليلة. تعرفت عليه
عام 70، معظم قصصي كانت ترفضها الصحف والمجلات بدعوي أنها خليعة. عام 73
توقفت عن الكتابة، وللتفريج عن نفسي صرت أكتب رسائل مطولة لبعض أصدقائي
من المغرب والمشرق. بعض رسائلي الي البياتي تربو علي العشرين صفحة.
الزبير بن بوشتي: وردوده أكانت في نفس
الحجم؟
محمد شكري: لم يكن محبطا مثلي. كان يجيبني في سطور، لكنه ذكر لي أنه كان
يستمتع برسائلي التي كنت أكتب له فيها عن حياتي اليومية فراقني ذلك.
أحيانا كنت أصف له حتي ذبابة إذا هي حطت علي حافة كأس أو اصف له مأكلي
ومشربي: أحدثه عن تفاصيل ليالي طنجة فيحس كما لو أنه كان موجودا فيها ـ
حسب اعترافه ـ هو الذي كان يحبها. هذا الرسائل المطولة كتبتها أيضا الي
حميد سعيد، محمد برادة، زفزاف وعز الدين التازي، الوحيد الذي كتبت له
رسالة وأجابني بأخري ولم أعد أكاتبه قط هو إدريس الخوري، كان ذلك عام 68
علي ما أذكر. تحدثت في رسالتي له عن الهيبيين وعن الجنس المشاع بينهم
فأجابني برسالة جافة جدا متسائلا: وهل حقا تمارس الجنس مع هؤلاء الهيبيات
كما تتحدث عنه في رسالتك؟ استضفته الي طنجة في تلك العطلة الصيفية لقضاء
بعض الايام معي فرأي ما رأي ولكنه لم يعترف بما رأي. إنه ابا ادريس. ومن
لا يعرف ابا ادريس...!
الزبير بن بوشتي: لنعد الي مراسلات
الادباء نعرف أن أرتور رامبو استعاض عن كتابة الشعر بالمغامرات والسفر
والتجـــارة في العبيد والسلاح ولم تعد تربطه بعالم الكتابة إلا تلك
المراسلات التي كان يبعث بها الي أخته إليــــــزابيث وأمه وبعض أصدقائه،
ولعل أهم رسائله هي تلك التي كتبها في فترة الصمت الشعري، فهل يمكن القول
أن نفس الحالة عشتها أنت بتعاطيك لكتابة الرسائل تعويضــــا عن الكتابة
الابداعية؟
محمد شكري: ينبغي ـ هنا ـ أن نقول إن رامبو لم يختر التوقف عن كتابة
الشعر والاستعاضة عنه بكتابة الرسائل، بل الضرورة الحنينية الي ماضيه هي
التي أملت عليه كتابتها.إن ما كتبه رامبو من رسائل الي أخته وأمه وبعض
أصدقائه لم يكن ذات قيمة أدبية كبيرة إلا ما يتعلق بحياته في المنفي
العجائبي؛ فهو لم يكتب رسائل ثقافية تتمة لعبقريته الشعرية، بل كان يقتصر
علي الحديث ـ في رسائله ـ علي مغامراته، وذهبه الذي كان يكدسه، وعن حياته
اليومية، وعلاقاته ببعض الذين عرفهم في اسفاره. وقد سأله يوما أحدهم ـ
ربما في هراري أو عدن ـ قائلا لـه: أما زلت تكتب الشعر؟ فأجابه رامبو:
الشعر آه من ... الشعر...! .
الزبير بن بوشتي: إذا كانت الرسائل عند
رامبو ضرورة قصوي فرضتها المغامرة وسفر المنفي الاختياري فهل كــتابة
محمد شكري رسائله كان اختيارا؟
محمد شكري: اختيار؟ نعم. كانت الرسائل تفريجا عن النفس حتي أعزي نفسي. إن
بوحي في رسائلي كان علاجا لنفسي ؛ فالذين كنت أكتب إليهم رسائلي لم
يكونوا يمارسون علي نفس الرقابة التي كانت تمارس علي قصصي ومقالاتي. محمد
برادة هو الوحيد الذي كان يطيل صفحات رسائله إلي. ربما ليآنسني ! قد يكون
عدد الرسائل الذي أرسلته الي محمد زفزاف هو نفس كمية العدد الذي أرسلته
الي برادة إن لم اقل أكثر.
الزبير بن بوشتي: بحكم الصداقة الكبيرة
التي تجمعك بمحمد زفزاف أتصور أن رسائلك إليه كانت ذات تميز وذات نكهة
خاصة، فهل كنت تسمح لنفسك ـ في تلك الرسائل ـ بأن تبوح باشياء لا تستطيع
البوح بها لأصدقاء آخرين؟
محمد شكري: أنا أعتقد ذلك، لأنه كانت تجمعنا بوهيمية مشتركة ـ خاصة في
أواخر الستينات وبداية السبعينات ـ حيث كنا نمارسها في طنجة بالخصوص وبعد
ذلك اتسعت بوهيمتنا لتشمل الدار البيضاء التي اصبحت أتردد عليها ـ في تلك
الفترة ـ باستمرار ـ لطبع كتبي وحبي لدينامية أهلها اللطفاء في جديتهم.
رسائلي الي زفزاف قد يكون فيها بوح متميز.. ربما!
الزبـــير بن بوشتي: عندما تســــتنتج أن
رامــــبو لم يكــــتب رسائل ثقـــــافية أو لم يكن يكتـــبها بعقلــــية
الشاعر الذي يفلسف الحياة فماذا تعني بهذا؟
محمد شكري: (مقاطعا) إنه لم يندم علي هجرانه الشعر كما أعتقد، أرجح أنه
كان يحتفظ به لنفسه ولم يرد أن يعلن عنه لغيره، لذلك فرسائله لم تكن
تعويضا عما هجره أو نضب معينه في إنتاجه الشعري. إنه اختيار دفين حمله
معه الي قبره. لا يحق لأحد أن يطالبه بإفشاء سره. أف ! إنها تفاهة... !
مثل كمية تفاهة الذهب التي حملها معه من المنفي الي حيث لقي حتفه.
الزبير بن بوشتي: وهل كتابتك للرسائل كانت ـ بمعني من المعاني ـ تعبيرا عن ندمك لهجران
الكتابة؟ وهل كنت تفضل ـ في رسائلك ـ الانهيار في الكتابة ـ كما تقول في
إحدي رسائلك الي برادة؟
محمد شكــــري: طبعا ندمت، ندمت تحت القمع. قمع الرقابة أقصد. كان يسوؤني
أن أظل أكتب في الفراغ: أن أري كمَّ ما أكتبه في أدراج مكتبي دون أن
ينشر، ولكي أسكّن غضبي ـ علي عدم الاستمرار في الكتابة ـ استنجدت بكتابة
الرسائل الي من أحب. وفي بعض الرسائل هناك شذرات أدبية، فحديثي لم يكن
كله عن السكر، الشراب، الاكل، النوم والجنس.
|