يُنتج جيل
دولوز مفهوم المآل Devenir ومفهوم الانفلات أو خطوط الانفلات Lignes de
fuite لتفكيك مفهوم "المستقبل" L’avenir، فنحن عندما نتساءل عن مستقبل
الفلسفة أو مستقبل المرأة أو الثورة...إلخ، فإننا نهمل صيرورة مالات
الفلسفة أو صيرورة مالات المرأة أو الثورة؛ أي نهمل خطوط الانفلات0
عندما نفكر
في "المستقبل"، مستقبل المغرب مثلا، ونرسم تصوّرا لهذا المستقبل ونضع له
البرامج والمخططات، فإن الذي يتحقق هو مغرب آخر، مغرب يتجسَّد لا من خلال
التصورات والبرامج والمخطَّطات بقدر ما يتجسد من خلال خطوط الانفلات.
فالمجتمع
كما يقول جيل دولوز، يتحدد بخطوط انفلاته أكثر مما يتحدد بتناقضاته، فهو
ينفلت من كل الجهات. ليست البرامج هي التي تصنع المستقبل، فواقع أي مجتمع
من المجتمعات ليس منبثقا من تطبيق هذا البرنامج أو عدم تطبيق ذاك، بل هو
واقع ناتج عن صيرورة المالات المتعددة والمختلفة، وعن خطوط الانفلات التي
تتجاوز البرنامج أو المخطط، فنحن لا نَصْنَعُ المستقبل بأيدينا بقدر ما
نٌصْنَعُ فيه.
إن مايمكن
قوله عن المجتمع يجوز أيضا على حياة الفرد، إذ أن حياة الفرد هي انجراف
مستمر على خطوط انفلات مختلفة، فالفرد يؤول إلى ما يؤول إليه خارج
البرامج والاهداف والمخططات المرسومة، فالسؤال ماذا تريد أن تكون في
المستقبل، هو سؤال سخيف، لأنه في الوقت ذاته الذي نفكر في هذا السؤال أو
في الجواب عليه نكون في حركة على مثن مالات لا نعرفها.
ألسنا
مهددين بأن نجد على خط من خطوط الانفلات ما نريد أن ننفلت منه؟ أليس من
المحتمل أن نجد أمامنا من جديد التشكيلات الاوديبية وأبدية: الاب/أم؟
ألسنا أمام خطر عودة الفاشية وأنظمة السٌّلط القمعية على خط الانفلات
نفسه؟
Dialogues, P. 49/50. G. D.
قد تكون
الكتابة على علاقة وطيدة بخط الانفلات. أن نكتب هو أن نرسم خطّا للإنفلات،
ونكون مضطرين للإنخراط فيه، لأن الكتابة تلزمنا به، وتقدفنا في مصاره.
أن نكتب
معناه أن نمنح الكتابة لمن يفتقدونها، لكن هؤلاء هم الذين يعطون للكتابة
مالات لايمكن أن توجد بدونهم.
إن أسمى
موضوعات الكتابة في الادب الانجليزي هي: المغادرة والانفلات، اختراق
الافاق والانخراط في حياة أخرى على خلاف الادب الفرنسي الذي يعتبر
المغادرة والانفلات جُبْناً وتملُّصا من الالتزامات و المسؤوليات، فالادب
الفرنسي استعادة للإقامة أو توطُّن.
التوطن هو
الارتباط بالوطن والحدود أو ما يسمّى بالتراب
الوطني، هذا الارتباط يحمل مخاطر التكرار والجمود والتحجر. التوطُّن
بَحْثٌ عن أُصُولٍ وجدورٍ وتاريخ، التوطُّن انحصارٌ وتقوقع داخل المدينة
أوالقرية أوالوطن أوالثراث..إلخ.
أما
المغادرة والرحيل والسّفر، فهي سمات الادب الانجليزي، كل شئ في الادب
الانجليزي رحيل، مآل، عبور، قفزة، علاقة بالخارج، ابتكار لأرض جديدة،
خطوط انفلات.
يميز جيل
دولوز بين الاستقرار والتوطُّن territorialisation: : التقوقع والانحصار،
وبين خط الانفلات، الهجرة والمغادرة والرحيل déterritorialisation: ،
والانفلات هو أرقى وأسمى ما يمكن أن يصل إليه الادب أو الكتابة. إن
الانفلات ليس هو الهروب أو الفرار من شئ أو أحدٍ، وإنما هو حركة
استراتيجية، واعية أو غير واعية، يقوم فيها الفرد أو الجماعة بالتنقل
بحثا عن مناسبة التحام أكثر مباشرة بمصيره.
Partir,
s’évader, c’est tracer une ligne. L’objet le plus haut de la
littérature, suivant Lawrence: « Partir, Partir, s’evader...traverser
l’horizon, pénétrer dans une autre vie... C’est ainsi que Melville se
retrouve au milieu du Pacifique, il a vraiment passé la ligne
d’horizon. ». La ligne de fuite est une déterritorialisation. G. D.
Dialogues, p. 47.
إن المآل
جُغْرَاِفيٌّ، Le devenir est géographique. P. 48.مغادرة وهجرة وبحث عن
أرض أخرى، رسم خطوط انفلات. والانفلات ليس مجرد سفر أو انتقال أو حركة،
لأن هناك انفلاتات نقوم بها في أماكننا دون أن نبرح، هناك أسفار قارَّة
.voyage immobile
غير أنه قد
يحدث أن يكون الانفلات عودة إلى التقوقع والتوطُّن re-territorialiser ؛
عندما ينتقد لورنس Lawrence ملفيل Melville فهو يعيب عليه تعامله مع
السفر بجدية مبالغ فيها.
Quand Lawrence
s’en prend à Melville, il lui reproche d’avoir trop pris le voyage au
sérieux. Il arrive que le voyage soit un retour chez les sauvage, mais
un tel retour est une régression. Il y a toujours une manière de se
re-territorialiser dans le voyage, c’est toujours son père et sa mère
(ou pire) qu’on retrouve en voyage. G. D. p. 49.
|