عبد الطيف العبوبي

اللغة، هذا الاختراع العجيب[*]

[قراءة في كتاب الفقدان لمحمد أسليم]

صدرت هذه الدراسة، في الأصل، بالمحلق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 27 نونبر 1998، العدد: 556.

 

«نعم، أنا الآن صاروخ أو قنبلة ألقت بها الحيوانات عليكم. ابتعدوا ! تفرقوا! انطرحوا جميعا على الأرض كي لا تصيبكم شظايا عقلي. لحظات وأنفجر». بهذه الكلمات يختم محمد أسليم نصه ما قبل الأخير «كتاب الفقدان (مذكرات شيزوفريني)[1].. وبالفعل، يمكن اعتبار هذا الكتاب بمثابة قنبلة أتت في الوقت المناسب لتفجر أو تزعزع الروتين والملل الذي يعيشه حقلنا الأدبي الحالي الباهت.

إنه يأخذنا إلى أمكنة نادرا ما نرتادها. وبالضبط إلى مكان الإبداع نفسه، حيث يدور ذلك الصراع العنيف أو كما يقول تلك «الحرب» الضارية بين المبدع وإبداعه. العمل الإبداعي حينما يملأ الرأس وينهكها يطفح ثم ينقلب على مبدعه، معنفا إياه، وهو إن لم يدمره كلية، فإنه يقوده إلى اللامسمى، إلى العزلة المطلقة أو الجنون.

«مذكرات شيزوفريني» كتاب أحمق – إن صح التعبير – طريف في عمقه ومحتواه، لكنه دقيق تماما في كتابته وشكله. إن كل «حماقة» هذا الكتاب تبقى مراقبة بأسلوب صارم من جهة. فالكاتب يستفظع تبذير كلماته، وهي كلمات محمولة ومشحونة بمعاني وخبايا. كلمات «مدوخة» تجعل القارئ يتساءل حولها أياما بكاملها. ومن جهة أخرى، فإنه يلعب بالكلمات. لعب يحول الأدب إلى سخرية والكتابة إلى تمويه يفقد فيه القارئ كل مرجعياته التقليدية. فكلما توغلنا في قراءة النص كلما تكون لدينا الشعور بأن أسليم يدمر كل وهم سيكولوجي أو واقعي. فهو لا يتوخى استكشاف المناطق العميقة للتحليل النفسي ولا الغور في المشهد الواقعي للوضعية الإنسانية. لا! فقط ما افتقده كتابنا: المعنى الهزلي واللعبي للكتابة، للبناءات الروائية اللاعقلانية وللدعابات الأسلوبية. إن فرادة أسليم تكمن في هذا الشكل من الكتابة حيث تصبح عملية الفهم عملية تعذيب قاس للذهن، إذ عوض المعنى، فنحن لا ترى إلا الأشياء. إلا أنها أشياء عائمة، مبهمة وغير متجانسة ومستعصية الإدراك.

«الخروج من اللغة». أليس هذا برهانا أكثر وضوحا وصعوبة من أن يتحمله العقل؟ كذلك «الخروج من الزمن» والتوق إلى فضاء آخر مثل «المجهول الموحش» حيث لا شيء يقع أو (من يدري؟) حيث توجد ربما حياة أخرى. شيءٌ مُنج كنبراس يخترق الظلمات أو كمهدي منتظر! إنه آخر ملاذ، آخر علة وجود كائن يائس، يترقبه ويتربص به الجنون.

محمد أسليم يأتينا من مكان بعيد ليلتحق بهذه الأرض العذراء، «للمثول أمام هذا البياض» (الصفحة البيضاء) حيث يمضي كل وقته محاولا الانبجاس والتخلص من ذاته، «من قعر هذه البئر العميقة الموحشة»، من «هذه الأعماق الهادئة المرعبة» التي يقبع في «قعرها»، منذ «أزمنة سحيقة»، مثلما يقول. كل ذلك في توهج أخير، بدون حقيقة وبدون أوهام أيضا. يتكلم مع ذاته، يهذي ويترك نفسه «تجرَفُ» في دوامة الكلمات. ما القول؟ وكيف؟ لماذا إلحاحية الكتابة؟ وكثير من الأسئلة المعنفة والمقلقة التي تظهر لتختفي من حين لآخر دون أن تجد الأجوبة اللازمة. وأحيانا يفقدنا ثم يعود إلينا، لكن كل مرة بصفة مغايرة: متعددا وتائها، مشتتا مفقودا، من فرط محاولاته العبثية اللامتناهية الإحاطة (الإطاحة!؟) بالأشياء وتوضيح ميكانيزماته العقلية والتحكم شيئا ما في ذاته والتفكير في تفكيره بالذات: «ما أصل هذا التبعثر الذي يلفني الآن؟»، «من أين كانت البداية؟»، و«أين أنا؟»، «من أنا؟»، «كيف فقدت نفسي؟»...

هكذا ينقلنا من فصل إلى فصل، بل من صفحة إلى أخرى إلى هاوية جديدة، وذلك ببراعة غوص ملاك بريء في مياه عكرة. وهو كلما اشتد إصراره وكثرت تساؤلاته، كلما زاد هبوطا وتورطا في هذه الأعماق المظلمة الموحلة إلى أن يُجرَف كلية مطلقا يائسا آخر صرخات الاستغاثة: «يا أيها الناس! إني غريق تتقاذفه أمواج فكره المتلاطمة (...) شدوا بيدي (...) هاتوني عصا (...)». لكن بلا جدوى. وفي الوقت الذي كنا نظن فيه أن كل شيء انتهى بالنسبة إليه، فجأة يطفو معلنا كأرخميدس: «انبجست الحقيقة متألقة في ذهني»، ثم يكشفها بكل قوة وتأكيد: «لي اليقين بأن المسؤول الأول والأخير عما أنا عليه الآن هو اللغة». هذه حقيقة معروفة: عندما يفقد المرء المشرف على الانهيار التام كل شيء، فإنه لا يجد إلا اللغة أو الكلام كخشبة نجاة أخيرة يحاول عبثا التمسك بها، إلا أنه يضيف هنا على غرار أرطو بأن «الفكر يجرف كالطوفان»، وذلك، كما تخاطبه إحدى شخصياته، «يبعثرك ويبعثر أفكارك»، و«يعطيك وضعا إشكاليا يصعب تحديده».

إن أهمية نص أسليم تأتي من هذه النظرة إلى اللغة، أي اللغة وقد اختطفت وقرصنت وحولت من وظيفتها الأولية، يقول: «أقصد اللغة كما تواضعت عليها البشرية، بعدما حجمتها بأحجام وقاستها بمقاييس، وسلمتها لكل امرئ قائلة: «إليك بوعاء يسع إحساسك وفكرك مهما يكن هذا الإحساس والفكر». فبأي معجزة يمكن للكلمات أن تعبر «بصدق» وبعمق عن الأفكار؟ هذا السؤال المهوس والمحير هو أصل ومحور «الحرب الدائرة في رأسـ (ه). يقول: «أصابني دوار شديد، وسمعت أصوات انفجارات مهولة تدوي في رأسي. عملت أن الكلمة جاءت تطالبني بإلحاح»، «في إحدى الليالي استجمعت كل قواي وتأهبت تأهبا صارم للقبض على كل فكرة تعبر ذهني»، «تهاجمني الأفكار كوحوش ضارية، لكن ما أن أجلس وأمسك القلم حتى يتحول ذهني إلى سماء صافية، فأجدني قابعا أتأمل بمنتهى الغباوة بياض الصفحة أمامي»، كم هي كثيرة، ومتشددة الأقوام والألسن المقيمة بداخلي، بحيث إن اختصامها وتسارعها إلى سبق بعضها بعضا يولد بداخلي حروبا لا أنجو من قساوتها إلا بالصمت»، «ما أكاد أكتب الصفحة الواحدة أو نصفها حتى تزدحم الأفكار والمشاريع في ذهني فأجدني مضطرا للكف عن الكتابة».

نعلم أن في اللغة يُتصور الفكر ويُتشكل، وأنها المكان الوحيد الذي يمكن أن نأمل فيه إدراكه أو على الأقل تحسس ظله. غير أنه يجب معرفة كيف يأتي الفكر إلى اللغة، وكيف تترابط العلاقة بينهما، لأن هذا الترابط (أو التطابق) التقريبي أصلا بين الكلمات والفكر، قد يفتر ويتلاشى أحيانا وتصبح اللغة من جراء ذلك غير قادرة على استيعاب الفكر (المتحرك دوما بطبيعته) بحيث قد يفتر ويتلاشى أحيانا وتصبح اللغة من جراء ذلك غير قادرة على استيعاب الفكر (المتحرك دوما بطبيعته)، بحيث تفقد الكلمات سعتها وحدتها وفاعليتها ولا ترقى إلى مستوى الأفكار والأحاسيس والأشياء. وقد «تنقلب» وتتحول إلى أداة قهر واستيلاب، يصير على إثرها المرء عاجزا ومشلولا، وكأنه في هوة بدون أداة للتواصل. يقول: «وجدت في اللغة شروخا كبيرة وهواة عميقة لا تحيل كل تواصل بيني وبين شخص، كيفما كان، إلا إلى حوار بين ساكني كوكبين مختلفين». إنها تجربة الفراغ اللغوي (هزال القواميس الحالية وضمورها أمام ما أحس به وأفكر فيه») بل تجربة موت اللغة، كما يحياها بشقاء المبدع الخلاق. إنها تقود أسليم هنا إلى نهج سلوكين متناقضين، لكن مترابطين في آن واحد. سلوك الحكيم (التاوي) الذي يسعى إلى البحث عن ألفاظ وتعابير جديدة، عن «لغة أخرى» أو «لغة لم تبتكر بعد» لكي «يتحسس التمثل الصحيح لنفسه». لغة خلاقة تمكنه من صياغة «تمثل صحيح للعالم». لغة كلية تمكن من التعبير عن «الحاضر والغائب المستعصي على اللغة والفكر احتواؤه». لغة كونية: «كلام يتقاطع مع حركة العالم وضجيجه (...) كلام يلامس تنافر حركات البشر في بقاع العالم أجمع في اللحظة الواحدة».

تلك هي أيضا بعض رغبات الكائن الحساس الذي يقبل الالتزام بالحقائق الأرضية دون أن يترك نفسه تسحق بها، الأنا الحر القادر على التحول إلى أي أنا آخر دون أن يستلب، لكن ما العمل حينما لا يستجيب العالم لهذه الرغبات؟ يصبح الواقع أكثر فظاعة والوعي الحقيقي أكثر شقاء وتهميشا: «أنت في وضع ربحت فيه العالم وخسرت اللغة. ولكن العالم عندك الآن قلق لأن اللغة تنقصه. وما تسعى إليه بالضبط هو تقليص المسافة الفاصلة بين اللغة والعالم»، «أنت تتكلم لغة لا يفهمها الآخرون، لكنها تظل مع ذلك لغة ورغبة في التواصل»، «ما أنت في نهاية المطاف سوى فرد لم يرقك ما يحيط بك من قيم وعلاقات يئست أحيانا من تغييرها، فألقيت وألقي على عقلك ستار، حاجبا عقلك عن الأسوياء». بعبارة أخرى، لا يبقى إلا الهذيان أو التخريب لزعزعة هذا العالم الجبري الذي يقود الإنسان الحساس إلى اليأس والانتحار الاجتماعي. ومن هنا السلوك الثاني: سلوك «إرهابي اللغة» أو «هدام اللغة»، كما يطلق ذلك على نفسه، أي الكائن الذي يفضح سلطة الكلمات ويطمح إلى التفكير ضدها. إن الحاجة إلى التخريب والهدم تترجم هنا في لغة السارد بتفكك الكلمات واختلالها والترابط المنطقي المخفي ببراعة وبالتلميح للغة أخرى فهمها مستحيل ولحضارات أخرى كانت فيها اللغة محفوظة كذلك. وبإشارات التحدي الموجه إلى القارئ المدفوع بدون هوادة نحو عدم قدرته على الفهم: «إنهم من البلادة والسذاجة وقصر النظر بحيث بدل استكشاف أبعاد الكلمة الواحدة التي لا تضاهي شساعتها إلا شساعة الكون، بدل ذلك يعمدون إلى سجنها داخل علب ووزنها بموازين»، «كل تدجن واختنق وتلوث بدخان الحرائق المهولة التي يثيرها اشتعال حروفكم بدواخلي»، «فقأت عيني والتحقت باللغة، غير أني وجدت الآخرين هنا لا يتجاوزون مجرد أشباح تعوم في الكلام بأقوال مسطحة مبهمة، وذلك حتى عندما يتوهمون أنفسهم بصدد محادثات دقيقة».

يرينا أسليم بهذا كله أن هناك طرقا أخرى لاعتبارالوجود، أن المعنى يجب البحث عنه في مكان آخر عوض، مثلا، فن القواعد النحوية والأسلوبية، وأن القيم الأصيلة ومعاني الكلمات الحقيقية لا يُدرك كنهها إلا قلة قليلة من الناس كبعض الشعراء والأنبياء، الذين يعرفون وحدهم كيف يعيدون للغة قدرتها السحرية العجيبة (أليس هذا هو مشكل لغة أسليم؟). فأين تمكن القدرة الحقيقية للغة؟ إنها ليست فقط في التعبير كما نعتقد، بل في البحث عن أشكال ملائمة وصيغ جديدة لمواصلة عملية الخلق والإبداع، لمواكبة إيقاع الحياة التي هي في حركة تمدد دائم. من بين وظائف اللغة الأساسية تسمية الأشياء، أي إعطائها الوجود، بعث الحياة فيها بمنحها نفسا وقوة وأشكالا محددة. إن المبدع الحقيقي في نظر أسليم هو من يعمل باستمرار على إتقان لغته والارتقاء بها ومواصلة بحثه هذا في عملية تعذيب مستمرة للذات. فهو غير راض عن نفسه، لأن ما يكتب قد لا يعكس أحيانا فكره، ولأنه يتشيخ، ولأن السلوكات الاجتماعية هي أيضا تتكلس وتتجاوز، ولأن الأحداث التاريخية قد تزيف، ولأن اللغة في الوقت نفسه تفقد طهارتها الأولية.

هذه النظرة الخاصة إلى اللغة هي نظرة حداثية تلتلقي أو تقترب في طرق عملها وفي قلب انشغالها بمفكرين معاصرين من أمثال فيتغنشتاين وأرطو وكافكا وجويس... فحداثة كافكا، على سبيل المثال، تكمن في كونه يوظف اللغة في حالا عبثية تحولها نظرته العميقة إلى تحليل صارم وقاس للمجتمع الإنساني، وحداثة جويس تكمن بالإضافة إلى ذلك في كونه كسر اللغة وفكك بنياتها معطيا إياها رهانات جديدة ومعاني أخرى. لا نجد في كتابات جويس كلمة واحدة وقد نقلت كما هي موجودة في المعجم، بل إن كل الكلمات والحروف (الحروق ! ) التي تتشكل منها تبدأ بالاختلاف التدريجي عن بعضها البعض لتنفصل تماما عن المعنى المألوف لدرجة نجد أنفسنا أمام إعادة خلق المفردات، ومن ثم للعالم، إنها المادة أثناء عملها. فعلى هذه المادة بالضبط يشتغل أسليم، كما يشتغل البعض على العجين. إن اللغة هي في قلب كتابه هذا. وخلافا لجويس، فقد اختار، لمقاربة هذه الإشكالية، بعدا آخر، وذلك نظرا لوضع اللغة العربية الغريب والمتدهور حاليا ولخصوصياتها التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تجعل مستعمليها (خاصة المبدعين) في وضعية شاذة أو شيزوفرينية، أي أنها تعمل على إحداث قطيعة وانفصام للذات عن الآخرين، عن الواقع: «وذلك لكون ما أريد تبليغه غير واضح في ذهني، وإنما فقط لأن قناة اللغة صارت غير متسعة بما فيه الكفاية لنقل ما أجهد نفسي عبثا في محاولة إيصاله عبرها إلى الآخرين...». إن الإشارات المتعددة هنا إلى اللغة تبدو كتبرير للهذيان الشيزوفريني الذي يرافق سلوك السارد المضطرب، وهو ما يعكس استحالة التواصل من جهة، وما يفسر فقدان الهوية من جهة أخرى. هذا السلوك يدلنا على أن هناك فقدانا للغة، لمعنى الكلمات، أي فقدان كل قدرة على التواصل ومن ثم استحالة تحقيق أية علاقة اجتماعية طبيعية، كما توضح ذلك المقاطع التالية: «لأنك تتكلم بلغة مستحيلة»، «وكأنني أحدثهم بلغة نزلت من كوكب آخر، علم بأنني أطرح وأناقش قضايا منهم وإليهم»، «أرهق نفسي ببذل مجهودات ذهنية دينصورية لفهم ملفوظاتهم»، لكنني ما أجدني دوما إلا أمام الحائط نفسه»... إن انشطار اللغة بالهذيان يعكس صور الذات (بالجنون). إنها مشكلة الهوية الذاتية. ما يشكل الأنا؟ أليس انتماء ثقافي – لغوي، هو الذي يشكل وحدة الأنا؟

إن انشطار الأنا وانشطار الثقافة أو اللغة كلاهما متلازمان. إن فقدان الوحدة الثقافية يؤدي إلى فقدان الوحدة الشخصية، وذلك ضدا على كل تواصل ومعنى.

هناك صورة تتردد كثيرا في الكتاب لتعبر بامتياز عن هذا التشتت والتبعثر للأنا، ألا وهي صورة الذات التي تجد نفسها وكأنها مرمي بها في «بئر» بلا قرار، محاولة عبثا الصعود إلى السطح. هذه الصورة (البئر) ترمز تقليديا منذ رامبو وملارميه إلى عزلة واستلاب الشاعر المعاصر في مجتمع مادي ينبذ هذا الأخير ويطرح اندماجه فيه بصفة إشكالية. إنها هنا مرتبطة بصورة وعي الذات التي تسعى إلى إثبات تجربتها في عالم رافض إياها. وقد تتخذ أحيانا شكل «حصن باطني»، يحاول الأنا المسلوب أن يقيمه حوله لكي يحافظ على تماسكه الهويوي أو استقلاله عن المجتمع التسلطي. فالسارد ينجرف (عن لاوعي) إلى هذه «البئر» ، ليحمي في الحقيقة نفسه وليضمن بقاء وحركية فكره. وذلك بالتخلص من كل العوائق التي تعمل على زرع الشكوك وبث البلبلة والتردد لسد الطريق، طريق الفكر نحو حريته الكاملة، حتى يتطهر ويصل في النهاية على المعرفة القصوى أو الكلية. لهذا تشبه هنا خلوة الناسك أو القس أو المتصوف هذه «البئر السحيقة» تصبح رمز القطيعة مع العالم. يبين لنا أسليم كيف ينجرف المرء إلى هذه الهوة العميقة لينفصل عن المجتمع القمعي الذي يستحوذ على الكائن الحساس ويحكم عليه بالإقصاء وبالاختناق أو بالانتحار أو بالجنون. إن الإنسان الذي شلت قواه وعطلت قدراته خوفا وأصبح منطويا على نفسه وغير قادر على الخروج من قوقعته والعيش وسط المجتمع هو ما يطلق عليه النفسانيون بالشيزوفريني. هذا الكائن الحساس المسلوب من قواه الحقيقية والمهمش والمقصي من المجتمع والمحكوم عليه بالعزلة واللاتواصل لا يمكن إلا أن يعيش يوميا تجربة الجحيم الرهيب في أغوار ذاته اللجية، لأن القليل مما تبقى من قواه ومن حريته مقيد ومحدد من طرف المجتمع السلبي الفاسد. إنه يجد نفسه وحيدا وغير مفهوم وخطابه شيئا آخر والمكان الوحيد الذي ترك له هو الجنون. الجنون بمفهومه السلبي، أي كشر اجتماعي، كنتيجة منطقية للإقصاء الذي فرضه عليه المجتمع. إنه ممنوع من الكلام، من التواصل، من التحدث مع الآخرين. هذا اللاتواصل يتحول تدريجيا إلى جدال مع الذات ثم إلى هذيان يؤدي بدوره إلى انشطار اللغة والذات، وبالتالي إلى الفقدان. فقدان الوحدة النفسية والهويوية، بل أكثر وأخطر من ذلك، كونه يعيش هذه الجحيم (المعذبة) في شكل عملية سلب متواصلة، أي كموت محقق، لأنه مجرد ومسلوب (مصلوب؟ !) مما ينعشه ويحييه، أي الكلمة (أو الروح؟ !). لهذا يتكلم عن هذه الذات بنوع من السلبية المطلقة. فهو يتحدث عن نفسه دوما كميت، ويطلق صفات الحيوانية عليها كمظهر عما يوجد بها من فوضى. وكذلك صور الجسد المتعفن والنكوص إلى الآدمية والتوحش والتفتت العام للأنا إلى كثير من الأشخاص المهلوسة أو الاستشباحية التي تعبر عن هذا السلب أو التجريد الدائم للذات. كل هذه الشخصيات الخيالية والألسن المتعددة التي تسكنه تمنعه من التفكير في تفكيره الخاص، من خلق حياة أخرى. إن الحمق والهذيان والشعر تتدخل عموما كردات فعل عنيفة على هذا السلب من الكلام. نفهم الآن لماذا يدور النص كله حول فكرة الفقدان: فقدان الكلمة والتوق دوما إلى استعادتها «كطوق نجاة» مثلما يقول. فالذات لا يمكن أن تنعتق من هذا السجن السحيق أو تخرج من تلك البئر العميقة إلا بالكلام، باللغة. هذه الوسيلة المزدوجة التي تقود إما للاستيلاب وإما للانبعاث، إما للانغلاق وإما للانعتاق. فالكلمة عندما تتجرد تتحول إلى فضاء حيوي تحمي فيه كيانها ويسترد الفكر فيه تمدده وحركيته ويسترجع الأنا في إطار تماسكه الذاتي.


هوامــش

[*] هذا النص كتب مباشرة بعد صدور الكتاب، إلا أن ظروفا صحية وأخرى مهنية قاهرة حالت دون إتمامه ونشره في الوقت المناسب.

[1] الربط، مطبعة وزارة الشؤون الثقافية، 1997، الثمن 25 درهما.

 

 

 

 

 

المحتــوى

بوجمعة العوفي: سحر الكتابة وعنف التوجسات... إضاءة أولية في كتاب سفر المأثرات لمحمد أسليم

محمد أمنصـور: السرد والجنون. لعبة التمثلات القصوى. كتاب الفقدان / محمد أسليـم

عبد الله صالح سفيـان: محمد أسليـم في كتاب الفقدان. أسئلة الكينونة ومغامرات الاكتشاف

عبد اللطيف العبوبي: اللغة، هذا الاختراع العجيب

لحسن احمامـة: شعرية القص والتأليف في «كتاب الفقدان»

محمد الهرادي: كتاب الفقدان أو مذكرات «شيزوفريني» لمحمد أسليم

محمد إدارغـة: انشراخ الكتابة والذات «في كتاب الفقدان»

أحمد لطف الله: بصدد كتاب «لغة العلاج والنسيان»

أحمـد بلخيري: التحليل النفسي وحدود التأويل. قراءة في لغة العلاج والنسيان...»

سعيد منتسب: الزوج المضبوع يركب دائما سبع موجات!!

عبد الفتاح الحجمـري: أبحاث في السحـر

إبراهيم الحيسن: السحر من منظور إثنولوجي، ترجمة جديدة للأستاذ محمد أسليم

إبراهيم الحيسن: ذاكرة الأدب في الشعر والرواية والمسرح لمحمد أسليم. النبش في تاريخ أجناس إبداعية لازالت تبحث عن تاريخها

الأحداث المغربية: «ذاكرة الأدب». إصدار جديد لمحمد أسليم

أمزيل تـودا: حميد الدليمي يكتب عن: الدولة، الأخلاق والسياسة

رضوان أفنـدي: عقلانية ابن المقفع في «الدولة، الأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي

نجيب طـلال: تأملات ابن المقفع في «الدولة والسياسة»

M'hammed MOUNIR: Abdullah Ibn Al-Muqaffa'. Du littéraire au politique

د. التهامي محمد الوكيلي: سحر الملكين ببابل «هاروت وماروت»، وسحر الشياطين. قراءة في كتيب «الإسلام والسحر» لمحمد أسليم (1)

د. التهامي محمد الوكيلي: سحر الملكين ببابل «هاروت وماروت»، وسحر الشياطين. قراءة في كتيب «الإسلام والسحر» لمحمد أسليم (2)

 

 
 

 

 

 

 

جماليـــات إضــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.