ناثــرُُ ساحــرُُ
(1-1)
إن المرء ليحتار أمام كتابات محمد
أسليم الإبداعية؛ فهو يصرُّ على أن يقود قارئه إلى ممالك
الصمت، حيث المناطق المخيفة والمرعبة في وجود الإنسان: الموت، الجنون، المرض، الألم، الشرّ، القبح، العنف... وبداية بالعناوين، تظهر الغرابة والخروج الجارف عن
المألوف («حديث الجثة»، «كتاب الفقدان»، «سفر المأثورات»: حديث / كتاب / سِفـر...[1].
مدارات خارج أجناسية تجد مسكنها في« النثر» بالمعنى
الرَّحب للكلمة. فأسليم
ناثــر
(prosateur)
وساحرُُ (sorcier)
يرفض
أن يموقع كتاباته ضمن تاريخ جنس أدبي بعينه، وهو الأمر الذي
يدفعُ المرء إلى مراجعة علاقته بمفهوم الأدب، وبالخصوص مع
كتاب يقطع مع كل المقولات الأجناسية [المؤسساتية / المدرسية]: الرواية، القصة القصيرة، الحكاية... ليتخذ له موقعا وسطا بين سؤال الأدب وسؤال الفكر، بين
قضايا السَّرد وقضايا المعرفة العلمية، بين السؤال التأملي
وسؤال المرض النفسي -
العقلي (الجنون). فهو كتاب منفلت، يدفع قارئه جديا إلى التفكير في
إعادة تعريف الكتابة الأدبية، خصوصا عندما يصر على إعلان
تأبِّي التحقق النَّصِّي لـ «كتاب
الفقدان» على الهوية
الأدبية:
«ومن ظن أنَ هذا الكلام أدب فهو مخطئ، لأنه فيما
يعتقد أنني كاتب هذه الصفحات يغيب عنه أن الكتابة هي التي
تكتبني، وأن معنى أن يكون الإنسان أديبا هو أن يجعل - أو يجعل - على فمه كمامة، ثم
يقال له: «عقَدنَا
لسانَك. أنت الآن شبه
ضرير فَتَكَلّم، فيتكلم بكلام، يسمى رواية أو قصة أو شعرا...،
تقاس جودته بنوع الكمامة التي وضعها أو وضعت له. أما أنا فما وضعت على فمي كمامة ولا مِخلاة، ولاحمّلت
أصابعي بأقلام، ولا آويت في صفحاتي نصُوصا ولا لصُوصا. أنا إنسان يتألم ويتكلم»[2].
(1-2)
تفرض الإشارة
في العنوان الفرعي للكتاب [مذكرات
شيزوفريني] طرح أسئلة
من قبيل:
-
إذا كانت «الشيزوفرينيا»
(la
chizophrénie)(أو الفصام) جوهريا اضطرابا يصيب الأنا، أي خلخلة للحدود بين
الأنا والعالم الخارجي»[3]،
وكان «الذي يعاني
ويتألم من الشيزوفرينيا ينسجب من جزء من الواقع. يعوِّض عالما يكون قد نفاه وفقدَه بواقع الهذيان
والهلوسة»[4]،
أو كانت الشيزوفرينيا -
دائما - مرضا عقليا،
حيث «تتكلم الذات،
لكننا لا نتوصل إلى تشييد أي عالم مرجعي انطلاقا من خطابها»[5]،
فهل نحنُ أمام إبداع -
فني / جمالي، أم يتعلق
الأمرُ بوثيقة أو مجموعة وثائق في المرض العقلي أو النفسي؟
لا يعني انتسابُ نصوص «كتاب
الفقدان» إلى النثر،
تصنيفها ضمن أنماط الخطاب العلمي أو الطبي أو غيرهما من
الخطابات غير الأدبية.
ولو أنَّ الكون الدَّلالي يصبُّ في منحى خطاب المرض النفسي
أو العقلي. فمنذ الوهلة
الأولى، يجعل من قوة الإيهام بـ «صدق التعبير» لعبتة الكبرى لإخفاء مجموع تفعيلاته اللعبوية لطاقات
الحلم والفكر واللعب والخيال. وبهذا المعنى، فإن الشيزوفرينيا / الجنون في «كتاب الفقدان» يشكل استعارة كبرى تؤسِّسُ لجمالية النثر عبر أسلوبية
تراهن على «تصديع
الرؤية» من منطلق
التمثل الشامل للوضع النفسي - العقلي للمريض الشيزوفريني.
يذهب ميشال فوكو إلى أننا «نستطيع
القول بأن مضمون المَرَض هو مجموع ردود الفعل الهروبية
والدِّفاعية التي بواسطتها يستجيب المريضُ للوضع الذي يجد
نفسَه فيه». بينما يوضح
بيير جاسيرم في السياق نفسه أن:
«الذهان يعبر»
عن صراع نفسي يشكِّلُ توافقا بين الرغبة والدِّفاع، ويوجَد
أصله في طفولة المريض.
إن الذهان قبل كل شيء انفصالُُ بين «الأنا» والواقع، تاركا «الأنا» تحت سيطرة الغرائز. إنه إعادة بناء هَذيانية (délirante)
لواقع
مطابق لهذه الغرائز.
وهو في الأخير طريقة في الدفاع خاصة ضد واقع يعيشه المريض
باعتباره واقعا لا يُطاق»[6].
على أن مجمَل النظرة الموضوعية إلى المرض العقلي تشير إلى
أنه ظاهرة ارتدادية في تكوين الشخصية، يمكن إدراكها من خلال
فرعين كبيرين: فرع
الأمراض العُصابية (les
névroses)
وفرع الأمراض الذُّهانية (les
psychoses).
وغالبا ما يرتكز العُصَابُ على تدهور قطاع واحد من قطاعات
الشخصية، كما أنه يرتبط إلى حد كبير باضطرابات مرحلة الطفولة. أما الذهانن فيمسّ مجمل الشخصية، وهو عبارة عن انفصام
حادّ بين الأنا والواقع كثيرا ما يؤدِّي إلى سيطرة الغرائز
أو الدفعات الأولية على الأنا، وإعادة صياغة الواقع بطريقة
خيالية تتلاءَمُ مع هذه الدَّفعات[7]. فكيف تمثلت كتابة محمد أسليم كل هذه الأبعاد في نصوص
تتعذَّر على كل تصنيف؟
قنــاع فيلسُـــوف
(2-1)
تنبني مجموع
العلاقات التي تنسجها الذات المتلفظة، في سردها لتجربة
المرض، على ردم الهوة بين قطبي مجموعة من الأزواج: صحة / مرض، عقل / جنون، حقيقة / وهم، ذهان / عُصَاب، أنا / جسد... الخ.، وهي
المحاور الموضوعاتية التي تتفرع عنها مختلف الأنوية
الدَّلالية التي تنسج تخييل النصّ. ونقول «تخييل
النص» لأنَّ القول
بالعكس يقودنا في اتجاه مسدود، من شأنه أن يجعل من شخص
المؤلف «مريضا» تقوم نصوصه مقام الشهادة على مرضه! والحال أن إجراء الفصل بين المؤلف الفعلي والسَّارد
هو وحدَه الإجراء الملائم لأية مقاربة مهما كانت منطلقاتها
خارج التحليل النفسي.
أو ليس «دائما»
«اللامجنون»:
الكاتب، المعلق، الطبيب...،
الخ. هو من يتكلم عن
الجنون؟، الخ»[8].
(2-2)
تُدرجُ
مجازات الجنون، و«التأملات
الجسَديـة» أو «الذهولية» ومختلف الصور الغريبة والتشبيهات المنبنية على
التشويه والتحريف، تدرجُ هذا السَّردَ ضِمْنَ أفق تخييليّ
مُعنَّف بطاقة هائلة موجَّهَة نحو «ترميز العالم وتمجيزه
وتأثيثه بالاستعارات».
نقـرأ:
«خلِّصوني من رعب هذ االهدوء بوضع مُكبِّرَي صوتٍ
بحجم جزيرتين: أحدهما
في القطب الشمالي والآخر في القطب الجنوبي»[9]؛
« الأرطان [=
أقراصُُ] تهدِّئني
فتحيلني إلى مُركَّبٍ من هرّ وديعٍ وكائنٍ لم يخلَق بعدُ؛
كائنٍ مُبَرمَج لنهاية القرن المليار بالتقويم الضَّوئي»[10]؛
« أنا دينصور!
ففي رأسي يثوي دمَاغ وزنه عشر كيلوغرامات ونصف فِكرا، وعما
قريب سيتضاعف مئات المرات، وسأحتاج في حمله إلى شاحنة
ترافقني أينما حللتُ وارتحلتُ»[11]؛
« فكان ما من شيء يقع عليه بصري إلا ويصدّني بعلامة
استفهام تكون في البداية صغيرة بحجم بعوضة أو نملة، إلا أنها
بمدى استغراقي في التفكير تكبر إلى أن تصير بحجم فيل أو
دلفين»[12]؛
« فما من أنثى إلا وفيها شيء مني، وما من ذَكر
إلا وفيه شيءُُ منها.
ما يُفرِّق بيننا سوى لحية أحملها في وجهي وتحملها في
حِجْرها»[13].
إنه «التوحُّش
الاستعاري»، سمة
السَّرد ونكهته، وهو متَخلَّلُُ بأسئلة ذات طابع تأملي، تجعل
من الكتابة الأدبية ملتقى ممكنا للجمع بين الجنون والفلسفة،
بين الهذيان والفكر، مما يؤهلها لأن تكون حصيلة تركيبية
لانصهار رؤيتين: أدبية
وتأمّلية:
«إن الكون برمته إن هو إلا ركام من الأجوبة المحتملة
عن سؤال لم يُصغُ بعد، وأنكم لم تساقوا إلى هنا لتأكلوا
وتشربوا وتتناكحوا وتتوالدوا وتموتوا كقطعان البهائم، بل جيء
بكم خصيصا لكي تجيبوا عن السؤال التالي:
"ما هو السؤال الذي كان الكون، وكنتم معه، جوابا
مُحتَملا عنه؟" فعن أي
سؤال يجيب وجود هذا الكون؟ بل من سيطرح هذا لسُّؤال وعلى من؟
سيطرحـه؟»[14]؛
« فبإمكان أي فرد، حتى وإن لم يتجاوز عمره ستة أشهر،
أن يؤزمني إلى أن أضع وجودي بكامله موضع تساؤل، وأصعد رأسا
إلى الأسئلة الكبرى من ضرب: إذا كنا آيلين حتما إلى الموت، فلماذا نتهافت على
الحياة؟ بل، هل هذه الحياة جديرة بأن تُعاش؟ لماذا، بدلا من
أن تأخذ البشرية سبيل القعود والتأمل في الموت، اختلاف
المخلوقات والموجودات، وحدود اللغة، ومعنى الجنس، والمرض،
والحياة، الخ...، وتمضي
فيه قرونا طويلة، ثم تختار بعد ذلك النَّمَط الوجودي الملائم - على ضوء ما ستهتدي
إليه من أجوبة - أقبرت
تلك الأسئلة كافة وزجت بالجماعات والأفراد في هذه القمامة
قائلة: "أحيوا، تناكحوا
وتوالدوا وتكاثروا، فما الحياة إلا أكلُُ وشرب ولباس وعمل
ونكاح وتوالد»![15]؛
إنها الأسئلة والأفكار الحادَّة. الكلمات الناتئة. الهلوسات والهذيانات التي تصطخب مزلزلة أنساق اللغة
والجَسَد والعقل.ففي
جواب متناغم مع أصداء الصَّوت النيتشوي الهادر، القائل بأن «الفرد لا يصيرُ - حقيقة - ذاتَه إلا بفقدان
هويته المحدَّدة»[16]؛
نيتشه الذي كتب في 4
يناير
1889
للناقد دانو
جورج براندي: «منذ أن
اكتشفتَني ليس عجيبا أن تجدني؛ فالصعوبة الآن هي فقداني»[17]. ففي تَجَاوُبٍ وتصادي مع هذا الصوت المزلزل الحكيم،
تتقدَّم سيرورة الكتابة كالسيل الجارف، كالنار التي لا تبقي
ولا تذر:
«مدارات الفكر تحتضر، وغابات الأحاسيس تنتشر، ووهاد
القلب تنكسر. قيامة من
لا قيامة له، وعقلُ من لا عقل له. وهادُ القلب تضطربْ، هذي القصيدة تنعطبْ، أمواج فكر
تنتحبْ، وتلتهب وتنسكب، أخطاء قتل ترتكب، أمواجُ حزن تنتحبْ،
تدنو مني وتقتربْ، ثم تغفو وتنسحب، وتلتهب وتنسكبْ، أخطاء
قتل ترتكبْ، فتنقلب وتنعطب، فلا تقول أنعطبْ، ولا تقولُ
أنتحبْ، ولا تقول أنسحب، متفعلن متفعلن، كفى كفى، ثم كفى،
متفعلن متفعلن.
طْـرَّقْ َطَقْ َطَقْ.
من اعتقدَ أن هذا رجز أو رملُُ أو سَعتُه لكما ورَكلا. فما هذه غلا أصواتُ إلا وقعُ كاعب العاهرة التي
أقعدتني قبل قليل كي أدوِّنَ هذا الوحي. أدوِّنه بمعنى أجعله دُون ما هو في الحقيقة، والحال
أنه يُدنى منه دون أن يُدنى عليه...»[18].
إنه الإطِّرادُ السَّرديّ التدميري الذي يجعل من مبدإ
التفكيك مدخلا لنمو وتشعب محكي الجنون:
(تفكيك وحدة الأنا / تفكيك وحدة العقل / تفكيك وحدة الجسد / تفكيك نسقية ومنطق اللغة، ثم تفكيك النسق المرجعي بما
هو عالم خارج نصِّي تتمثله شخصية مريضة، أو في حالة تذكر
لأحوال وتقلبات مرض الشيزوفرينيا. وهو الأمر الذي يجعل من مرضها / جنونها، مسرحا مكثفا
لكل الوقائع والتمثلات السَّردية. وبهذه المعاني جميعها:
«إذا نظرنا إلى الأدب كي نتدبَّر دورَ الجنون فيه (...) وَجَدنا أنَّ
المجنونَ الأدبي، في أغلب الأحوال، ليس سوى فيلسوف يرتدي
قناعا. ومن ثمَّ، فإن
دور المجنون في الأدب يظهر جليا على أنَّه دورُُ فلسفي. كما أنَّ مفارقة الجنون هذه - أي كون الجنون أدبيا
في الفلسفة وفلسفيا في الأدب - مفارقة واضحة على نحو لا تخطئه العينُ. كما يبدو أنَّ افكارَ الفلسفة والأدب والجنونُ أفكار
يتصل بعضها بالآخر اتصالا اصيلا ثابتا. لذلك، فإن الجنون قد يُفسِّرُ إشكالية العلاقة بين
الفلسفة والأدب»[19].
ألـــمُُ وكَــلامُُ
(3 - 3)
إذا شئنا
اختزال كل نصوص «كتاب
الفقدان» في جملة واحدة
تكون بمثابة النواة الصلبة لكل نسيجه السَّردي، حدَّدناها في
قول السَّارد: «أنا
إنسان يتألَّم ويتكلَّم». فما بين الالم والكلام مسافة ما بين المعنى والشَّكل. المعنى يحيل على غياب قوانين السَّببية والفكر
المنطقي، بينما يحيل الشكلُ، في توحش سطحه المجازي، على حضور
مفهوم معيَّن لجمالية الفوضى. يحيل ملفوظُ «الإنسانُ
يتألم» على «الأنا» من منظور فلسفة الوعي المغلوط؛ الأنا المجروحة في
نرجسيتها، الأنا المنغلقة على نفسها، المنشطرة بين شعورها
ولا شعورها، بين الحقيقة والوهم، وبين داخلها وخارجها. أما ملفوظ «الإنسان
يتكلم»، فيحيلُ على
اللغة. ليس فقط لغة
الشيزوفريني التي سواء أكانت مُتمَرْكِزَة حَول الأنا أم لا،
فهي تعكسُ صعوبة في أن يتوقع ذاته ويُشكِّل نفسَه بوصفه
كائنا كاملا ومستقلا في الحياة الواقعية»[20]،
وإنما - أيضا - اللغة من منظور جدلية
العلاقة بين الرَّغبَة والموت؛ أو اللغة كموقع / جَسَدٍ تتنازعه
قوَّتا الإيروس والتاتانوس!... ناهيكَ عن التجاذب بين شهوتي الصَّحو والفقدان، بين
قوة الاتصال بالواقع والمعقول وقوة الانفصال والقطيعة معهما،
مما يتيحُ للغةبما هـي مسرَحُُ للجنون أن تتحوَّل إلى آلة
لتدمير الأفكار وتفكيك الصّوَر. أو ليـسَ «علىالكلمات
يُمَارسُ الشيزوفريني كل قوته الإبداعية والتدميرية»؟[21].
الأنـا آخَـر[22]،
أو من التحليـل النفسِي إلـى الأنطولوجيـا:
في نصوص «كتاب الفقدان» شخصية رئيسية (مريضُُ
وكاتبُُ) تراوح
مذكراتها بين وصف مرضها وإيراد كتاباتها ورسائلها. إنها «سيرة» للمَرَض، أو مذكرات شيزوفريني كما ينصّ العنوان
الفرعي على ذلك. وهي
نصوصُُ سردية تتخللها حكاياتُُ طريفة، وغريبة لكائن عجائبي
يجعَلُ من انشطارية وتعدُّد مرايا ذاته الشيزوفرينية مطية
لصياغة رؤية هذيانية لعالم مقلوب. عالم لا يُدرَكُ أو يتمثَّلُ إلا في إطار قفص الذَّات
المسكونة بالخيالات المتطرفة والشكوك والنوايا الرَّهيبة:
«سيدتي،
لا تحية ولا يحـزنون
وقبل،
فإني أنا، وأنا لست أنا»[23]؛
« لقد اعتقدت أن ذلك الفرد لم يكن إلا أنا، فاستغربت
من سيرنا مفترقين، ولذلك أمسكت به ملحا بالُّدعاء:
"أنت هو أنا، فتعال إلى حيثُ أنا ذاهب»،
رد الشخص مرارا بأنه لا يعرفني، لا أنه كلما نطق بكلامه
عقَّبت قائلا: "وإطن
فانفتح حتّى ألجَك، وأحل فيك فترى إلى أي حد ما أنت إلا أنا (...) كنت موقنا بأنني
لم أكن إلا طيف نفسي»[24]؛
« كنت ايامها أشخاصا عديدين لا أذرك منهم الآن إلا
ثنين: أحدهما اسمه
أحمد، والآخر اسمه محمَّد؛ احدهما قريب، والآخر بعيد...
- أي الإثنين كان القريب وأيهما كان البعيد؟
-
صه يا أحمَـد!
أإيهاما بأنك صرتَ شخصا ثالثا يحكي عن أحمد ومحمـد؟
-
نعــم، أنا يعقـوب
-
أأحمد أنت أم محمـد؟
-
الله أعلـم!
-
وإذًا، فقل "نحن
جمع" وكفى
-
نحـن جمـع وكَفَـى!...»[25]
« يعجز الشيزوفريني عن أن يلمَّ بالتجربة الآنية في
شموليتها. تبدو له
الأشياء كما لو كانت خاطئة، زائفة، واهية، وأحيانا مشوهة،
بعيدة وغريبة. فهو
يَشعر بأنه تائه باستمرار»[26]؛
ومن هذا المنظور، يكون المكوِّن الأساسي الذي يتمّ التنويعُ
عليه في كل النصوص هو هذا المبدأ الانشطاري في الإدراك
والتمثل؛ في إدراك الذات لنفسها، لعلاقاتها بالمحيط، وفي
تمثلها للحياة، للواقع باعتباره كابوسا مفزعا، أشلاءً لكونٍ
ممزَّق، نظامه الوحيد هو الفوضى.
في سياق هذه الرؤية الشيزوفرينية للذات السَّاردة التي تمارس
فعل التذكر، هنالك تلك العلاقة المتوترة، المضطربة، المقلوبة
بالعالم الخارجي بما فيه من إنسان وحيون ونبات وجماد. علاقة تستهدف إعادة صياغة الصِّلات بين الذات ومفردات
العالم بما يتلاءم مع مقولات الذهان بمختلف مُكوِّناتها: البارانوية والكاتاتونية والميتومانية أيضا.
فخاصية السَّرد المحورية تتمثل في تشغيل وهيمنة آلية التمثل
للحالات القصوى، مما يولِّد صورا وأوضاعا ومواقف تصبّ جميعها
في الاتجاه المعاكس لمبدأ التطابق. إن العدو الأول للشيزوفريني هو التطابق أو الانسجام؛
فهو يرفض أن يتطابق دالّ اسمه مع مدلوله. يرفض أن تتطابق التسمية مع حاملها. يرفض تطابق جسده مع روحه. يرفض أن يتطابق عقله مع وجدانه. وفي المقابل، فهو لا ينتصر إلا للانشطار والتشظي
والتعدّد والتناقض والتعارض:
«أيها الإنسان بداخلي! أتظن أني من الغباوة بحيث لم أفطن إلى تمويهك عليّ
وتمرير نفسك باعتبارك أنا؟ أخطأتَ الخطأ كله إن ظننتَ ذلك. هيهات هيهات أن تكونيي أو أكونك»[27].
(4-2)
وإذا شئنا
إجمال أهم المعالم التي حايثت الإنجاز السَّردي لـ «كتاب الفقدان» أوجزناها في النقط التالية:
- نقد المفهوم الكلاسيكي للعقل والجسد؛
-
تسليط الضوء على إحدى المقولات المركزية للحداثة،
ونعني بذلك الجنونَ بما هو استعارة كبرى تعيدُ نسج شبكة
العلائق عبر مختلف أطراف الأزواج (صحة / مرض، ذهان / عصاب، سادية / مازوشية، جسد / عقل...)،
وتحريرها من حمولتها السلبية التي تدرجها ضمن الممنوع، مع
إعادة إدراجها في سياق جديد للكتابة النثرية، هو كتابة
الهامش؛
-
معارضة ومناقضة «الأصولية
الأدبية» التي تنحاز
لمفهوم مؤسَّسة الجنس الأدبي، والانتصار - في مقابل ذلك - لمفهوم «النثر المتوحش»؛
-
إعادة اكتشاف مبدأ الفرد بما هو موضوع لاشتغال
السَّرد، وسبر أغوار الأنا باعتبارها مدخلا لتكريس الجنون (الجنون كمسكن للكتابة)؛
-
إيجاد منطقة معزولة للكتابة الجمالية وسط روافد
المرضي والصِّحِّي، العقلي والنفسي، عبر البوح والاعتراف
والتذكر والحلم والهذيان، ليس باعتبارها أعراضا في وثائق
للمحلل النفساني يُخضعها لجلسات العلاج النفسي، ولكن [الهذيان / الفقدان] باعتبارهما فرصة لتحرر اللغة من قولبتها المؤسسية (البلاغة الكلاسيكية)؛
-
تنسيب سلطة اللغة التي لا تعود هنا، تلك اللغة
العربية أو غيرها، وإنما هي «لغة
الجنون»، وتجربة الجنون
التي تجعل من الكلمات والجمل والخطابات مجرد تجليات للغة «الحقيقة / الوهم» الكامنة أو المتوارية في تجربة الفرد / الكائن. ذلك الفرد المريض، أو المسمَّى مريضا، والذي يجعل من
الهذيان مدخلا لتمزيق كل الأقنعة: قناع اللغة، قناع الجسد، قناع العقل، قناع المعنى،
قناع المجتمع، قناع الاسرة، قناع الحياة، وقناع الموت...؛
-
تكريس مفهوم معيَّن لـ «الكتابة الإبليسية» التي تنتصر لقيم التمرد على كل أشكال السلطة
المؤسَّسية: سلطة الأب / مؤسسة الأسرة - سلطة الآخر / مؤسسة المجتمع - سلطة (أو مؤسسة) اللغة - مؤسسة
العلاج (المستشفى)!؛
مـوتُُ وجُنُـــونُُ
(5.
1) إن «كتاب الفقدان» تأكيدُُ لانتساب هذا «الناثر
السَّاحر» إلى شجرة
أنساب موغلة في «الاختلاف»:
(لوتريامون، ساد، باطاي، أرطو، سيوران...). وبهذا المعنى، فهو شهادة في الألم البشري بين الولادة
والممات. صرخة احتجاج
في وجه تناقض الطبيعة مع الثقافة (بمفهوميهما
الأنثروبولوجي)، إدانة
شاملة لأوليات الوجود البشري. مساءلة جذرية للبديهيات التي تنبني عليها أبجدية
الحياة. عودُُ بالفرد
من لبوسه الاجتماعي إلى وضعه الوجودي؛ إلى سؤال الكينونة بما
هي تورّط قاسٍ ومؤلم بين حدَّي الجسد والعقل، الصحة والمرض،
الفقدان والصَّحة...
إنه انتقالُُ لدى أسليم من تفكير الحياة - في «حديث الجثة»
- بواسطة الموت، إلى تفكير الموت والحياة في «كتاب الفقدان بواسطة
الجنون.
[1] محمد أسليم: -
حديث الجثة، منشورات علامـات، مكنـاس، ط. أولى
1996 (104 ص.)
- كتـاب
الفقــدان؛ مذكـرات شيـزوفرينـي، مطبعة وزارة الشؤون
الثقافية، الرباط، ط. أولى 1997 (136 ص.)
- سفـر
المأثـورات، مطبعة وزارة الشؤون الثقافية، الرباط،
ط. أولى 1997 (104 ص.)
[2]
كتـاب الفقـدان...،
ص.
111.
[3] Léo
Navratil, Schizophrénie et art, traduit de
l’allemand par: Evelyne Sznycer, ةditions
Complexe, Bruxelles, 1978, p. 48.
[4] المرجع
نفسـه، الصفحة ذاتها.
[5] - T.
Todorov, Les genres du discours, Paris, Seuil,
Poétique, 1978, p. 79.
[6] Pierre
Jacerme, La Folie de Sophocle à l’antipsychiatrie
moderne, p. 11.
[7] محمد علي
الكردي، «الجنون في الأدب العربي»، مجلة عالم الفكر،
المجلد 18، السنة 1987، ص.
20.
[8] Pierre
Jacrerme, La Folie..., op. cit., p. 6.
[9] كتـاب الفـقـدان...،
ص.
29.
[10]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
30.
[11]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
96.
[12]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
97.
[13]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
89.
[14]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
83.
[15]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
54.
[16]
Pierre Jacrerme, La Folie..., op. cit., p. 18.
[17] Ibid.,
p. 17.
[18]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
16-17.
[19] د. رشا جمود
الصباح، «الجنون في الأدب العربي»...، مرجـع سابـق،
ص. 4.
[20] Armand
Olivienne, La répture aves le réel, Ed. de la tête
de feuille, 1972, p. 100.
[21] Armand
Olivienne, La répture aves le réel... op. cit., p.
100.
[22]
معلومُُ أنَّ
مقولة «الأنا آخر» تشكلُ إحدى الأطروحات الهامة للمحلل
النفساني جاك لاكان، بحيثُ يردِّدُ «الآخر [أو الهو] يفكر
[بداخلي]» (ça pense). إلا أنها ترتدُّ في الأصل إلى حقل
الإبداع الشعري، وتحديدا إلى أرتور رامبو الذي استهل بها
رسالة له إلى إزامبارد، مؤرخة في 13 ماي 1871، تتصدَّر
رسائله المنشورة في ملحق ديوانه تحت عنوان «رسائل العرَّاف»،
نقرأ ضمنها:
- «Je est un autre». Tant pis pour le bois
qui se trouve violon, et Nargue aux inconscients, qui
érgotent sur ce qu’ils ignorent tout à fait». Cf. Arthur
Rimbaud, Poésies, Paris, Bookking intrnational,
Classiques Français, 1993, p. 190.
ولا شكَّ إطلاقا في
أن كاتب «كتاب الفقدان»، يعرف جيدا هذه الحقيقة، ويوظفها ليس
في هذه النصوص الإبداعية فحسب، بل وكذلك في دراسات نظرية،
منها «الكتابة والموت»، الصادرة ضمن مؤلف جماعي، يحمل عنوان:
الكتابـة والمـوت، قـراءات في حديث الجثـة، سندي للطباعة
والنشر والتوزيع، مكناس، 1998، ص.
106.
[23]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
50.
[24]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
71.
[25]
كتـاب
الفـقـدان...،
ص.
65.
[26] Armand
Olivienne, La répture avec le réel., op. cit., p.
101.
[27]
كتـاب
الفقـدان...، ص.
94.
|