محمــد أسليــــم

دلالــة التيــه فـي «ورم التيــه»[1]

 

يبدو من الصعب الإحاطة بمفهوم التيه في نظر التمثلات الأدبية. أيجب الارتكاز على مفاهيم فلسفية؟ على دراسة التمثلات؟ أم على نمذجة للشخصيات التائهة؟ كل هذا يقتضي مسبقا تحديد مفهوم التيه نفسه. ما التائه؟ هو فقط شخص يجد نفسه، في لحظة معينة، وحيدا، بدون أي ارتباط خاص، متنقلا من مكان لآخر، "غريبا في كل البلدان"، تحبوه مشية مضحكة (ماشيا في الظاهر، دون أي هدف حقيقي، أكثر من ذلك أيضا، التائه، في البحث عن فضاء خاص جدا: هو "الفضاء الوسيط"»[2].

تمهيـــــد:

يكاد التيه يعادل الجنون بما أنه هجرة أو سفر ليس له وجهة محدَّدة. إنه رحيلٌ عن المجتمع باعتباره حشدا من الأفراد الذين تجمعهم أواصر اللغة والدم. التيه يشبه الجنون من حيث كونه انجثاثا أو انقلاعا - إن جاز التعبير - للفرد عن الجماعة بقيمها وتمثلاتها وضوابطها. فـ «كلمة "تيه" يبدو أنها أثارت الفزع، لوقت طويل، كما لو كانت تمثل – ربما ليس من الخطأ تماما ! – إحدى مقولات الجنون. فقد ظهرت في القرن 12، ثم اختفت كي لا تنبثق من جديد إلا في نهاية القرن 19»[3].

إذا نظرنا إلى الكتابة الإبداعية عموما باعتبارها ممارسة متخامة للجنون بهذا القدر أو ذاك، لكونها تتيح للكاتب وضع مسافة بينه وبين الضوابط الاجتماعية والبحث عن آفاق للتحرر بديلة يعوض بها مساحات اختلافاته مع محيطه، أدركنا:

- لماذا شكلت تيمة التيه أحد الموضوعات الأدبية الرفيعة التي تطرق إليها الأدباء منذ القدم وراء أشكال سميت بالملاحم تارة والرحلات تارة أخرى؛

- لماذا انتهى المطاف بكتاب كبار، أمثال رامبو وآرطو وهولدرلين وفيرلين، إلى تيه فعلي، أفضى ببعضهم (رامبو) إلى الانقطاع عن الكتابة وشد عصا الترحال خارج القارة الأوروبية، فيما آل بالبعض الآخر (آرطو) إلى شد عصا ترحال مزدوج: سفر واقعي خارج المجال الأوروبي من جهة، وسفر استعاري خارج المجتمع الفرنسي نفسه، بالتقوقع في معزل رودس الذي لازمه إلى قبيل وفاته، من جهة ثانية.

- وفي الأفق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن نشأة الجنس الروائي نفسه قد بدأت باستكشاف عوالم الآخر، الإنسان غير الغربي، في أعمال مثل «جاك القدري»، و«دون كيشوت»[4]، قبل أن تعود إلى عقر دارها ابتداء من رواية «مدام بوفاري»[5].

والمراد من هذا الكلام أن الرواية التي نحن بصددها اختارت لنفسها - من خلال العنوان على الأقل - أن تتأصل في تقليد أدبي رفيع، وهو أمر لا يخلو من مزالق على نحو ما يواجه الباحث، في حقلي العلوم المحضة والاجتماعية على السواء، عندما يختار دراسة موضوع «أشبع بحثا»؛ ذلك أن هذا الاختيار بقدر ما يضمن للباحث وضعا مريحا من حيث تعدد المراجع والأطر النظرية والوثائق، ينطوي - بالمقابل - على صعوبة إضافة الجديد، الأصيل والمتميز الذي يناظر ما هو متوفر.

لأول وهلة يبدو من المشروع طرح السؤال نفسه على رواية «ورم التيه»، سؤال أي جديد ستضيفه إلى موضوعة التيه وإلى ما كتب عن الصحراء بالخصوص (وهنا يتبادر إلى الذهن اسم الكاتب الليبي الشهير إبراهيم الكوني بخماسيته الشهيرة، والشاعر والروائي المغربي محمد الشركي في روايته «العشاء السفلي»). إلا أنه بعد القراءة، يتضح أن التيه لا يشكل سوى إطار لطرح قضايا أعمق من السفر، يغدو التيه معها يتجاوز أن يكون تنقلا في الأمكنة إلى ضلالٍ في كتاب عوَّم وصف الرحلة ومحطاتها وأشواطها في منطلقات الحكي المتعددة، المحتملة منها والفعلية على السواء، والمونولوغات والحوارات والحِكَم التي تغطي المساحة الكبرى من النص، أي عوَّم الرحلة في لعبة الكتابة ذاتها[6]. ومن ثمة، نجدنا مضطرين إلى البحث عن منشأ الحكي داخل الرواية، والدلالة التي تكتسيها موضوعة التيه نفسها في الرواية.

لعل مناطق التميز في الرواية الحالية تكمن في ثلاث جوانب أساسية:

- جانب الصنعة الروائية التي نجحت - عبر استخدام مواربة روائية ذكية - في إيهام القارئ بأن الواقع ينكتب كما هو باعتباره رواية معاشة.

- الإبقاء على صلة وثيقة مع الواقع.

- في ما وراء الانسحاب الظاهري للراوي من الحكاية، ثمة علاقة وطيدة بين العمل والواقع لتحقيق ما يمكن تسميته بـ «الوظيفة الرمزية للأدب».

وعلى الجانبين الأول والثاني نود الاقتصار في المقام الحالي:

1 - إشكالية الـراوي في «ورم التيــه»:

تتألف الرواية الحالية من قسمين منفصلين، في الظاهر:

أ ) قسم أول: يمتد من ص. 5 إلى ص. 82، ويستهل بحكاية تيه أبي المكارم رفقة كلبه كابر من مدينة مكناس إلى منطقة تافيلالت، جنوب شرق المغرب، تيهٌ فرض نفسه على هذا الرجل إثر فقدانه زوجته وابنيه عمر والطاهر، وتقرر على النحو التالي:

«كلهم ماتـوا...

كلهـم رحلـوا...

مغلوب على أمري...، أنا مـاش...»[7].

راوي هذا القسم هو حسن المعلم بقرية مجران، في منطقة تافيلالت نفسها. تلقى حكيَه عن فتاة اسمها ليلى، بدَّدت إحساسه بالغربة والغبن من خلال الإقامة معه، خارج دائرة الزواج، لكنها سرعان ما انسحبت عائدة إلى مكناس كي تضع مولودا ترتب عن علاقتها بحسن.

يتأرجح الحكي في هذا القسم الأول من الرواية - الذي ورد على شكل مقاطع في منتهى القصر - يتارجح مثل رقاص الساعة، بين موضوعين سيتبديان في الأخير مشروعين للكتابة «تغلب» أحدهما على الآخر:

* موضوع تيه أبي المكارم رفقة كلبه كابر، وهو موضوع كتابة أمدَّت به ليلى الساردَ (حسنا).

* ثم موضوع حسن نفسه في علاقته بثلاث موضوعات للكتابة، تناوبت طيلة هذا القسم، كما لو كانت تتصارع أو كان الكاتب يتردَّد في أي منها سيمنح للرواية خيطها الناظم:

أ ) ماض حسن أيام كان خارج الوطن، حيث أتيحت له فرصا يقول عنها مخاطبا القراء:

«وإن حكيتُ لكم عن كل الورود التي استنزفت رحائقها قلتم إن هذا المعلم بليد حين لم يتصيد الفرص التي أتيحت له، فليأته الحزنُ من كل الجهات»[8].

وهي فرص للتجوال خارج الوطن والزواج بأجنبيات كجورجيانا وكاترين[9] ، لكنه ألقى بتلك الفرص جميعا جانبا ليعود إلى أرض الوطن، مبررا عودته بما يلي: «إني أحب ليلى وأحب هذا الوطن... رميتُ بكل الفرص عرض الدنيا [الحائط] ووجوه الوصوليين الصفراء من أجل أن أعيش في حضنها»[10]، ويلتحق بسلك التعليم لتلقي به الوزارة في إحدى المناطق الأكثر نأيا في أصقاع هذا الوطن (حيث يوجد آخر عمود كهربائي، وآخر تجمع سكاني قبيل الحدود الجزائرية).

ب) الوضع الحالي لحسن ذاته في علاقته بليلى، هذه الفتاة التي رافقته في محنته الحالية بتشجيع من أبي المكارم نفسه، وأثمرت علاقتهما مولودا لم يعرف حسن جنسه ولا رأى وجهه على امتداد الصفحات المتبقية من الرواية. علما بأن حسنا يشكل المحطة الأخيرة في حياة ليلى العاشقة بعد محطات تسعٍ انتهين جميعا بالخيبـة.

ج - أخيرا موضوع تيه أبي المكارم وكلبه كابر، هذا الموضوع كان من اقتراح ليلى التي تملك تفاصيل القصة كاملة - على غرار ما امتلكت بطلة ألف ليلة وليلة شهرزادُ تفاصيل الحكايات التي كانت ترويها لشهريار- تمنحه منها ما شاءت وتحجب عنه منها ما شاء.

وتكمن جمالية الكتابة - أو أحد جوانب الصنعة الروائية هنا بالأحرى - في تعدد مصادر الحكي أو الرواة الحقيقيين بحيث يغدو التقسيم الحالي نفسه عديم الجدوى. ذلك أنه في ما وراء الصوت المركزي في هذا القسم - الذي يتراءى باعتباره حسنا - نجد الأصوات التالية:

- الصوت الذي يروي حكاية تيه أبي المكارم رفقة كلبه، والتي تم استهلال الرواية بها. راويها هو راوي القسم الثاني، أي المادة التي سيقدمها حسن قبيل انسحابه من السرد باعتبارها المادة الخام لرواية عجَزَ عن كتابتها. هذا الراوي هو حسن وليس حسن في الآن نفسه: حسنُ هو الراوي الأصلي للرواية عندما يعلن انسحابه من الرواية، معترفا بعجزه عن مواصلة الحكي، ملقيا تبعة المشروع الروائي على صوتٍ، يجهل مصدره، لكنه كان من الإلحاح بحيث لم يفطن لنفسه إلا وقد انتهى إلى هذا الشطر من العمل. لكن حسنا لا يعود راويا عندما يغيب تماما في القسم الثاني من الرواية، بحيث يصيرُ موضوعا للحكي في إحدى الفقرات: (حسن مع شخوص روايته في مجران).

- صوت حسن الذي ينقل فيه ماضيه، من جهة، وعلاقته بليلى، من جهة أخرى، ثم حكاية أبي المكارم وكلبه كابر كما توافي ليلى بها حسنا.

- صوت ليلى التي توافي حسنا بتفاصيل حكاية أبي المكارم وكلبه كابر من جهة، لكنها تنتصب في العمل باعتبارها شخصية مستقلة تدخل في علاقة مباشرة مع حسن، من جهة: «أحببتُ تسعة أشخاص»، وتدخل في علاقة مع القارئ في ما يشبه عملية نميمة لا يفطن إليها حسنٌ نفسه: «لن أقول بعد اليوم شيئا يعكر صفو مزاجه ويعيق سيل روايته... فقط سأناوله أخبار كابر...»[11].

- أخيرا الصوت المجهول، هذا الصوت يلح حسنٌ على أنه صوت لا يعرفه، صوتٌ أمرَه بكتابة العمل الذي يضعه بين يدي القارئ، هذا القسم كان من قوة الإيهام بحيث استطاع الصوت المجهول الذي يمكن اعتباره صوت الكتابة - الحكي عن حسن نفسه «حسن وحيد في مجران تقتله الغربة وتخنقه العزلة... تكاد الكتابة أن تفتنه... قال لي لولا شخوص روايته لقتلته العزلة...»[12].

ب) القســـم الثــاني: يمتد من الصفحة 63 إلى نهاية الرواية، وفيه يواصَل الحكيُ عن تيه أبي المكارم على ألسنة مجموع الشخصيات التي سيلتقي بها بعد موت كلبه إلى حين قراره العودة إلى مكناس بأمر من زوجته زينب الميتة التي رآها في المنام، وبتزكية من احساين الضرير.

والحقيقة أنه من الصعب الحديث عن سرد بمعنى الكلمة، بالنظر إلى هيمنة التداعيات والمونولوج الذي يتخلله حوار بين شخوص عديدة تؤثث المحطة التي انتهى إليها أبو المكارم بعد موت رفيقه «كابر» ليطلعنا النص، من خلال ذلك، على موضوعات متعددة، مثل: الحب، وضعية المعلم في الوسط القروي، ماضي أبي المكارم، أهالي الصحراء وكرههم للأجانب، لقطات واصفة لطبيعة الصحراء الخلابة، الأطعمة والخضر، ثم مجموعة من الحِكَـم.

التقنيات المستعملة في هذا القسم هي المونولوج والتداعي وما يمكن تسميته تجاوزا بـ «الحوار»، بحيث يخيَّل للقارئ أن الرواية تنكتب وحدَها في غياب كاتب وضع لها خطة محكمة على نحو ما هو شائع في الأعمال الروائية.

ويلاحظ أن هذا القسم يدخل في علاقة متينة مع القسم الأول عبر المقطع الأخير الذي يدخل بطل الرواية في حلقة شبه مفرغة:

«كلهو ماتـوا...

كلهـم رحلـوا...

أجمل المنافي العـودة...

مغلوب على أمـري، أنا عائـد...»[13]

II - دلالــة التيــه في «ورم التيـه»:

في ما وراء المعنى الظاهري والشائع للتيه، يبدو أن الرواية الحالية تمنح لهذه المقولة معنى أعمق يتمثل في استحالة التواصل بين أشخاص أو جماعات تنتمي إلى لغات مختلفة. واللغة نفهمها هنا ليس باعتبارها أداة للتواصل فحسب، بل وكذلك أداة للوجود، أي نظاما رمزيا مشحونا بالأوامر والنواهي، يحدد للفرد رؤيتَه لنفسه ولمحيطه كما يحدد سلوكاته. بكلمة واحدة، نفهم اللغة هنا باعتبارها معادلا تقريبا للثقافة:

«تتجاوز اللغة كونها مجرد أداة للتواصل؛ إذ تشمل مجموع الإطار الاجتماعي بضغوطه ومتطلباته، ولذلك يمكنها اعتبارها والثقافة متكافئتين: فهما معا تشكلان القواني والقيم التي يتعين على الفرد أن يقبلها كي يُدمج في المجتمع ولا يتعرض للنبذ والتهميش، ويُعتَبَر بالتالي غير سوي»[14].

لقد سبق لعبد الكبير الخطيبي أن تناول هذه التيمة روائيا أيضا في عمله «عشق اللسانين»[15] على المستوى الفردي، حيث ركَّزَ الحكي على علاقة الراوي بسيدة أجنبية استحالت بسبب اللغة، فانتهى الأمر بهما إلى الفراق حيث عاد كل إلى ذويه، أي إلى وسطه الثقافي الأصلي. ويكمن اعتبار الرواية الحالية تشتغل ضمن المنظور نفسه، لكن على الصعيد الجماعي.

على هذا النحو يمكن فهم مختلف سلوكات ومعاناة شخوص الرواية وأضرب العلاقات القائمة بينها باعتبارها اصطدامات بين تمثلات ورؤى للعالم وأنماط للوجود تنمي إلىعوالم مختلفة يمكن تنظيمها إجمالا في محورين: أحدهما عصري حداثي والآخر تقليدي أصيل:

هكذا، ففيما وراء التفسير الظاهري الذي يقدمه حسن بشأن معاناته، والذي يحصره في غبن التعيين الذي ألحقته به وزارة التعليم، يبدو أن مشكلة حسن الحقيقية تكمن في تشبعه بمنظومتين من القيم لم يجد نفسه في أي منها: منظومة القيم الغربية، ومنظومة القيم التقليدية. يمنح بايدزن للمثاقفة تعريفا واسعا بحيث يشمل لقاءات الأفراد داخل المناخ الثقافي الواحد، إذ يقول:

«تحت اسم الاتصال الثقافي سأدرج (...) حالة الاتصال داخل الجماعة الواحدة بين فئات مختلفة من الأفراد؛ بين الجنسين، وبين الشباب والكهول، وبين الأرستقراطية والشعب، وبين القبائل، الخ. (...) [بل] وسأمضي إلى أقصى حد في توسيع فكرة الاتصال لأدرج فيها حتى العمليات التي تشكل الطفل وتكونه حسب قواعد الثقافة التي وُلد فيها»[16].

ضمن هذا المنظور، يترتب عن كل اتصال بين جماعتين مختلفتين تنتميان إلى ثقافتين متباينتين إحدى النتائج التالية:

«تحقق التحام كامل بين الجماعتين؛

إقصاء إحداهما للأخرى أو إقصاؤهما معا؛

تعايش الجماعتين في توازن ديناميكي داخل جماعة أكبر»[17].

وباختبار الرواية على هذا الطرح يبدو أن النتيجة الثانية هي ما أفضى إليه ذلك اللقاء:

فقد أقصى نفسه من الفرص التي أتيحت له في أوروبا بذريعة حب الوطن وحب ليلى التي ارتقت إلى مستوى رمز للأصالة عبر المقاطع التي تشيد بجمالها وأدوات تزيينها المحلية (سواك، كحل، الخ)، أقصى نفسه فعليا بالعودة إلى الوطن والالتحاق بسلك التعليم، لكن أقصى نفسه رمزيا أيضا بقتل امتداده المحتمل عبر الإجهاض الذي عرض له صديقته جورجيانا[18]. لكن ما أن أتيحت له فرصة الارتباط الشرعي بها، حيث وردت في الرواية ترددات عديدة بهذا الصدد (....)، ترددات ربما أفصحت عن سببها من خلال الإشارة إلى العلاقات التسع الفاشلة التي ارتبطت بها ليلى سابقا مع شباب آخرين قبل أن تتعرف على حسن، علما بأن الفضاء الذي تدور فيه وقائع هذه العلاقة رمزيا هو التقليد بعينه. ما أن أتيحت له فرصة ذلك الارتباط حتى عزف عن تحقيقه.

وأبو المكارم البطل الرئيسي في الرواية هو الآخر واقع في شرك اللغتين نفسيهما؛ فإقامته السابقة بفرنسا، وعمله عند الجنرال فوشو، وتقلد ابنه الطاهر مهام نقابية، كل ذلك شبعه بقيم حداثية مضت به إلى حد تزكية علاقة ليلى بحسن وحث هذه الأخيرة على الإقامة معه في مجران. لكن أي امرئ من خارج محيطه العائلي لم يستطع التواصل مع هذه اللغة. بذلك ما أن مات جميع أفراد العائلة حتَّى شد عصا الترحال إلى جنوب المغرب، أي إلى الفضاء الرمزي للتقاليد، على أمل نشر هذه اللغة. لكن أين ينشرها؟ فليلى لم تطق الإقامة هناك، بل مضت إلى حد نصح حسن بالتخلي عن وظيفته والرجوع إلى مكناس، وعبد الكريم منشغل كليا بالانتقال إلى مكناس وبذلك لا يعير أدنى اهتمام لنصائح أبي المكارم بالصبر خدمة للوطن، الخ.، و«الأهالي» منغلقون على أنفسهم بحيث يعاملون كل وافد عليهم باعتباره أجنبيا.

ضمن هذا الشرط لا يغدو اللا تواصل ضربا من التيه، شبه معادل للجنون، بل يغدو تيها فعليا عندما - ولعل هذا ما تحكيه الرواية بالضبط - يكون المرء محاطا بحشد من البشر، لكن كأنهم من جدران. نحن إزاء ما يشبه ما جرى في الرواية من زمن دون كيشوت إلى فرانز كافكا: «بين دون كيشوت والقصر، رأت الشخصية التائهة فضاء تطورها يتقلص، إلى حد التيه الداخلي الذي لم يعد يقتضي أي حركة ولا مشي، إلا أنه ليس بأقل إثارة للألم»[19].

لقد انتهت الرواية بالطريقة نفسها التي انتهت بها رواية «عشق اللسانين»: عاد كل إلى ذويه عودة فعلية، وتلك حالة حسن لما عاد إلى أرض الوطن، وليلى لما رجعت إلى مكناس، ثم أبي المكارم الذي عدل عن رحلته للالتحاق بمكناس، أو عودة رمزية كما في حالة عبد الكريم وحسن عندما قاطعا عالم الأهالي. أخيرا ظل هؤلاء عالما منيعا غير قابل للاختراق من قبل كل من يعتبرونه أجنبيا عنهم. إن هذه العودة ترتكز على منظور فلسفي يقول باستحالة التواصل بين الثقافات، ويجد تعبيره الأسمى في نظرية الترجمة القائلة بتعذر عملية الترجمة لأن ما من لغة إلا وتعبر بقدر ما تمثل تجربة وجودية تتأصل في عوامل متشابكة يستحيل إيجاد معادلات لها في لغات أخرى.

ليست مهمة الأدب هي اختبار هذه النظرية أو تلك، ولذلك نجد في الرواية الحالية ما يشبه محاولة للخروج من هذا النفق الوجودي المعتم أو الحلقة المفرغة المعبر عنها جيدا في المقطعين الأول والأخير: قرار التيه كرد فعل عن عدم رضا عن واقع معين.


هوامـــش

[1] عبد النبي كوارة، ورم التيه، مكنـاس، الإسماعيلية للطباعة والنشر والتوزيع، 1996.

[2] Bernard Delvaille, «Une enquête métaphysique», in Magazine Littéraire, N° 353, avril 1997.

[3] نفســه

[4] - F. Laplantine, Clefs pour l'anthropologie, Paris, Seghers, 1987, p. 216.

[5] نفسـه، الصفحة ذاتهـا.

[6] وهنا نكتشف اختيارا ثانيا اتخذته الرواية الحالية لنفسها، ضمن تيارين تنتظم فيهما الروايات المكتوبة حاليا في المغرب (حسب رأينا): تيار أول يختار الكتابة مجالا لتشظية الواقع، ويترك للقارئ مهمة إعادة بناء هذا الواقع، والثاني يختار الكتابة حقلا لنقل الواقع مبقيا على أرفع الصلات بينه وبين هذا الواقع. وإلى التيار الأول تنتمي رواية «ورم التيه».

[7] الروايـة، ص. 5.

[8] الروايـة، ص. 8.

[9] الروايـة، ص. 44-45.

[10] الروايـة، ص. 57.

[11] الروايـة، ص. 62.

[12] الروايـة، ص. 101.

[13] الروايـة، ص. 171.

[14] Gilbert Grandguillaume, «Langue et communauté au Maghreb», Peuples Méditerranéens, n° 9, 1979, pp. 3-28.

[15] Abdelkébir Khatibi, Amour bilingue, Paris, Fata Morgana, 1983.

[16] Gregory Bateson, Vers une écologie de l’esprit, Paris, Seuil, 1977, t. 2, p. 80.

[17] نفسه، الصفحة ذاتهـا.

[18] الروايـة، ص. 64-65

[19] Alexandre Laumonier, «L’errance ou la pensée du mileu», Magazine littéraire, op.cit., pp. 20-25.

 

 

 

 

مقــالات جديدة

تدبير قضية «الإمبراطور» - «جمال الغيطاني»

مجرد وجهة نظر في القضية النسائية

عتبة بين الكتابة والألم

مقدمـات للعصر الرقمـي

السحر والخطاب في المغرب الراهن

الأفعى والمزمـار (تأملات حرة)

 

مداخـــلات

المغرب كفضاء لقراءة إثنوغرافية

تربية الطفل في الوسط الشعبي بالمغرب

الشعر والممنوع

الشعر والغـواية

الثقافة الشعبية والمتخيل

حول ديوان «وطن الأم يا أم الوطن» لمحمد عيساوي المرجاني

الإيصال الثقافي في رواية «شجرة الدردار» لعباس خليفي

محمد عيساوي المرجاني، الشاعر والإنسـان

حول ثقافة التضامن

قراءة في كتاب «عن الفن التشكيلي» لحسن المنيعي

الحداثة في الكتاب المدرسي

التعريب بين الترجمة والتحويل

الكتابة والخسـران. قراءة في ديوان «شهوة الأشجار لعبد الناصر لقاح»

دلالة التيه في رواية «ورم التيه» لعبد النبي كوارة

 

دراسات منشورة في مجلات

رمزية الجنس في رواية «جنوب الروح» لمحمد الأشعري

الإيصال الثقافي في روايـة «جنوب الروح» لمحمد الأشعري

المرأة والمقدس في السياق الإسلامي

 

مقالات منشـورة في صحـف

خطابات السحر (من يوميات بحث ميداني)

هل السحر موجود؟

حول كتاب «التطبيب والسحر في المغرب»

إثنولوجي في المغرب لبول رابينوف

مجهر لتورمات المجتمع المغربي

حرب النساء. السحر والحب في الجزائر

 

 
 
 

 

 

 

 

جماليـــات إضـــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.