أود التركيز في هذه الكلمة على نقطتين: الأولى صلة العمل الحالي بما
يمكن تسميته «الأدب باعتباره مجتمعا افتراضيا»،والثانية العمل الأدبي
باعتباره اشتغالا في «ذاكرة الثقافة».
بخصوص النقطة الأولى، يمكن القول إن الأدب يشكل مجتمعا افتراضيا (société
virtuelle) يقوم بموازاة المجتمع المادي المتعارف عليه
ويتعالى عنه في آن واحد. إنه مجتمع يتعايش فيه الأحياء والأموات، أي
كتَّابٌ ينتمون إلى حقب زمنية مختلفة، كما يجتمع فيه أناسٌ ينتمون
إلى رقع جغرافية قد تفصل بين إحداها والأخرى عشرات الآلاف من
الكيلومترات. وهذا المجتمع الافتراضي يأخذ شكله المادي في المكتبات؛
فعندما أدخل إلى مكتبتي للاشتغال، لا أرى ما تكتض به من كتب باعتباره
أجسادا مادية جامدة، أي مجرد كتل من ورق، بقدر ما أراه حشدا من
الضيوف فيهم الأموات والأحياء: فها هو أرسطو يجلس بجوار ابن خلدون،
وابن كثير بجانب أرنولد توينبي، هوميروس بجانب طاغور، عمر الخيام
بجانب أدونيس... الخ. وفي هذا المجتمع الافتراضي ينتفي الموت، إذ
يكفي أن أفتح كتاب مُؤلفٍ «ميِّتٍ»، بصرف النظر عن المسافة الزمنية
التي تفصلني عن زمنه، ثم أشرع في قراءته، وها هو الكاتب أو الشاعر
نفسه حيّ يخاطبني، يحدثني، ينقل إليَّ ما أراد نقله إلى القراء يومَ
كتب ما كتبَ... والفرق الوحيد الذي ينتصب بيني وبينه هو إمكانية عقد
الحوار؛ فهو يقول لي أشياء، وأنا أنصت إليه، غير أنني أثناء هذا
الإنصات / القراءة أشغِّلُ ذهني، فأبدي ملاحظات، أو أدلي باعتراضات،
أو أطرح تساؤلات، لكن ليس بإمكان المعني بذلك كله (وهو المؤلف) أن
يقدم أي إجابة لأنه غائب.
أن يقوم الأستاذ العيساوي بنشر ديوانه معناه أنه يرشح نفسه للانتماء
إلى هذا المجتمع الافتراضي الذي يشكله الأدب. ودخولُ هذا الديوان أي
مكتبة من المكتبات هو سعي إلى الإقامة أو الجلوس، جنبا إلى جنب، بين
حشد الكتاب والشعراء والمبدعين الذين تتشكل منهم تلك المكتبة.
غير أن الانتماء إلى مجتمع الأدب الافتراضي لا يتمّ بمحض إرادة
الفرد؛ فثمة آليات للإدماج والإقصاء، يشغلها النقاد عموما، تجبر
المبدع على اجتياز ما يمكن تسميته بـ «طقوس العبور» أو «طقوس المسارة»،
لينال بعد ذلك - وبعد ذلك فقط - تأشيرة المرور إلى أمبراطورية
الأدباء والمبدعين. والمتأمِّل لنمط اشتغال هذه الآليات في المغرب
اليوم يلاحظ أن هذا النمط، عموما، ما لم يقم على المحاباة
والإخوانيات والمجاملات، فإنه يتأسس على سُلطٍ يسخر البعض كل شيء
لنيلها، بما في ذلك الأسطورة نفسها، وبذلك ظهر إلى الوجود ضربُُ من
النقاد لا نتردد في نعتهم بـ «الشعبيين»، هم أقرب إلى الأولياء وأهل
الصلاح منهم إلى النقاد فعلا، فترى الواحد منهم يزعم أنه يكفيه كتابة
مقالة واحدة عن هذا الكاتب أو ذاك فـ «يرفعه» إلى أعلى عليين، ويكفيه
أن يتجاهل الكتاب نفسه أو «ينسخ» ما قاله في حقه من قبل، فإذا
بالمؤلف ذاته «يهوى» إلى أسفل سافلين. لذلك، فالأليق بالمرء أن يحتاط
في تلقي ما يكتبه النقاد اليوم عن الأعمال التي تحظى بتلقيهم، وأن لا
يثق بكل ما يصدرونه من أحكام. بتعبير آخر، إن غزارة الكتابة عن هذه
الرواية أو ذلك الديوان لا تعني بالضرورة أنه عمل جيد، كما لا يعني
صمت النقاد عن هذا العمل أو ذاك أنه كتاب غير أصيل... يضاف إلى ذلك
كله أن الأعمال الأدبية تحتاج دائما إلى مسافة زمنية ليتم الوقوف
بوضوح على جوانب الأصالة والتميز فيها، وتاريخ الأدب والفنون عموما
يقدم من الأمثلة في هذا الباب ما لا يتسع المقام لذكره. فكم من شاعر
أو فنان تشكيلي لم ينل أدنى درجات الاعتبار والتقدير في عصره، فما
جاء عصر آخر حتَّى فطِنَ إلى أنه رائد مدرسة شعرية أو فنية بكاملها...
وقضية المسافة الزمنية هذه تحيلني إلى النقطة الثانية، وهي العمل في
ذاكرة الثقافة:
يتيحُ كلّ من الصَّمت الذي تقابَلُ به أعمالُُ معينة، والإنصاتُ إلى
الأصوات التي تعلو هنا وهناك ضد ما يكتبه هذا الشخص أو ذاك، والحواجز
التي تنصبها جهات عديدة إزاء كل من رشح نفسه للانضمام إلى المجتمع
الأدبي، بل وتستخدمها أحيانا حتى أمام كتاب كرَّسُوا أنفسهم في دوائر
قرائية معينة (من يكتب اليوم عن شكري أو الخطيبي في المغرب؟!!)، ذلك
كله يتيحُ القولَ بوجود سلطات تنظم مراكز الكتابة والتلقي وهوامشهما.
إن هذه السلطات قائمة، وهي تتجاوز دائرة النقد بالتأكيد، وسيكون من
المفيد تناولها بالدراسة من حيث طبيعتها، وقواعد عملها، وكيفية
تشغيلها لإواليتي الإقصاء والإدماج لمنح ما يمكن تسميته بالـ «وضع
الاعتباري للأديب» للبعض ونزعه من البعض الآخر: أي شيء تنطوي عليه
الكتابة بحيث يقتضي تشغيل جهاز بكامله، وهو جهاز لا نعرف ملامحه
كاملة لكنه من كلية حضور بحيث لا أحد من الكتاب يسلم منه عبر اجتياز
آليتي الإقصاء أوالإدماج؟ لا يمكن أن نقدم بهذا الصَّدد إلا فرضية
واحدة، وهي: إن الأمرَ شديدَ الحساسية والحيوية الذي تنطوي عليه
الكتابة هو الانخراط في ذاكرة الثقافة. الإقصاء ينطوي على خوف من أن
يحتل المقصي جزءا من ذاكرة الثقافة، أي ولوج مساحة ميراثها،
والاستيعاب ينطوي على تكريس ضوابط، لكن أيضا على وصاية كلياتية تطال
الماضي والحاضر والمستقبل على السواء.
بهذا الصَّدد، عندما يختار الأستاذ العيساوي كتابة الشعر بالطريقة
العمودية، في سياق يشهد تجارب عديدة في كتابة الشعر، لعل أوسعها
كتابة الشعر المنثور أو الشعر الحر مع ما يواكب هذا الضرب من الكتابة
من تركيز على الغموض وانزياح بالبعد الجمالي من الأذن إلى البصر
والذهن، عندما يفعل ذلك فإنه يسعى بالضبط إلى تخليد أثر في ذاكرة
الثقافة من موقعٍ، هو بالأحرى رهانُُ، لن يجيب عنه إلا المستقبل.
|