محمد أسليــم

الشعر والممنــوع

(مداخلة ألقيت في ندوة «الكتابة والممنوع» التي نضمها المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب بالرباط خلال يومي 11 و12 دجنبر 1990، ونشرت في مجلة آفاق، العدد: 1، 1991، صص. 83-92، ثم في مجلة الفكر العربي المعاصر، ع. 90-91، يوليوز/غشت، 1991، صص. 106-111)

1. منظوران لمعالجة الشعر والممنوع

عند التطرق لموضوع الكتابة والممنوع، فإن السؤال الذي يطرح نفسه قد يكون واحدا: كيف يدير النص قانونه وممنوعه؟ إلا أنه يمكن معالجته من منظورين مختلفين: الأول بوسعه أن يعتبر الكتابة فضاء مغلقا، معزولا إلى حد ما عن سياقه الثقافي، يعتبرها شكلا، خطابا منبثقا من قانون ومولدا لقانون آخر في آن. من جملة الأسئلة الممكن طرحها في هذا المستوى: إلى أية قواعد يجب على نص ما أن يخضع لكي يعتبر خطابا أدبيا مثلا؟ مع ماذا ينبغي لكتابة ما أن تتماهى لتقبل كرواية أو شعر مثلا؟ باختصار، يضع هذا الطريق الأول البحث ضمن نظرية الأدب والأجناس الأدبية.

أما المنظور الثاني، فبإمكانه معالجة النص كفضاء مفتوح على محيطه الثقافي مادام الكاتب، في كل سياق ثقافي، غالبا ما يوصى إن لم يُلزَم بعدم اقتحام مناطق محددة داخل ثقافته. في هذا المستوى يمكن التساؤل: لماذا يُمنع على الكاتب أن يتطرق إلى بعض الموضوعات؟ ماذا يمثل كل من الكاتب والكتابة في هذا النوع من السياقات؟

التأملات الحالية التي ستتساءل عن المعنى الذي يعطيه الإسلام للشعر، موقفه منه وأثر هذا الموقف في الكتابة الإسلامية عموما والشعر على وجه الخصوص، تنخرط في المنظور الثاني. إنها لن تقدم أجوبة بقدر ما ستثير قضايا من شأنها أن تشكل مدخلا لدراسة علاقة الإسلام بالكتابة.

2. تعريفان

من الملائم تحديد المعنى الذي نعطيه للإسلام والقانون في هذا السياق: نقصد بالإسلام نظاما رمزيا، محمولا داخل لغة، طرح نفسه كبديل لنظام رمزي آخر اصطلح على تسميته بالـ «جاهلية». يتكون الإسلام من مصدرين أساسيين هما الكتاب والسنة، ثم مجموع امتداداتهما الكتابية والسلوكية اللاحقة بقطع النظر عن مسألة الـ «نقاء» أو مدى مطابقة هذه الامتدادات لـ «حقيقة» أولى مفترضة.

أما القانون، فهو تجسيد نظام بالقياس إليه يمكن للفرد أن يجد مكانه ويتحدد كهوية» (غرانغيوم، 1985)، أو «هو علاقة معترف بها مع ما يمكن أن يُنتهك ويطرح، نتيجة لذلك، بلا انقطاع مسألة الخرق» (روزولاطو: 42). بهذين التعريفين ينبثق القانون من ثلاثة أمكنة هي: الدخول إلى اللغة كعالم رمزي، وظيفة الأب عبر ميكانيزمات أوديب ومنع غشيان المحارم، ثم حدوث قطيعة داخل العلاقة الانصهارية بين الفرد ومخياله عبر تدخل طرف ثالث هو الاسم» (غرانغيوم، 1985).

3. مكانة الشعر قبل الإسلام

كان الشعر في المرحلة المعنية يشارك في العنف والقتل كمظهرين أساسيين لمنطق اقتصادي خاص:

«منطق يمنع عن نفسه تكديس الثروات. تراكمه الوحيد الصالح هو رأس مال الشرف الذي يحصل عليه الفرد في التحدي والعنف المحقق والمشيد على شكل شفرة اجتماعية؛ عنف كان يعبر عن نفسه بالفعل في الغزو (أخذ غنائم الخصم) وبالكلمة في الشعر (اقتلاع الاكتئاب بإحياء دورة العنف)» (غرانغيوم، 1990).

والشعراء أنفسهم كانو على وعي بأهمية كلمتهم في هذا السياق: فالقافية، عند الخنساء، تشبه حد السنان:

«نبئتُ قافية مثل حد السنـا    ن تبقى ويهلك صاحبهـا»

وترك الندب في أعراض الخصم، كما قال الشاعر:

«نبئت قافية تناشدهـا قوم     سأترك في أعراضهم ندبـا»

واللسان يجرح: «وجرح اللسان كجرح اليد»، بل جرحه أخطر من جراح السنان لأنه لا يلتئم بالمرة:

«جراحات السنان لها التئام    ولا يلتام ما جرح اللسـان»

أي شيء كان يصيبه الشعر في العربي لكي يعتبر وقع السلاح على جسمه أقل وطأة من وقع الكلمة في نفسه؟

في معرض حديثه عن أهمية الكلمة، يقول فرويد:

«لا نحتقر الكلمة ! إنها أداة للسلطة (...) حقا في البدء كان الفعل، أما الكلمة فلم تأت إلا فيما بعد. لقد حققت الحضارة تقدما كبيرا حينما تمكن الفعل من الاعتدال إلى أن أصبح كلمة. لكن هذه الأخيرة كانت في الأصل سحرا، فعلا سحريا، وقد حافظت على الكثير من قوتها القديمة» (ووننبرغ: 280-283).

وبالرجوع إلى الدلالة اللغوية لكلمة «شعر» نجدها تعني الفطنة والعلم، لكنه اتعني أيضا القافية، هذا المصطلح المشتق من الجذر (قفا) كان يطلق على الكلمة أو البيت أو القصيدة، على الضرب على القفا، وعلى تتبع الأثر. وإذا كانت الدلالة الثانية (ضرب القفا) تعيدنا من جديد إلى الصلة بين الشعر والعنف، فإن الدلالة الأخيرة (تتبع الأثر) تشير إلى قرابة بين الشعر والكهانة والعرافة: الكهانة والعرافة هما الآخران يدلان على المعرفة، والقيافة ضرب من التنبؤ بالغيب يتمكن صاحبه من التعرف على الشيء انطلاقا من مشاهدة أثره (القزويني: 344-345).

لقد كان الشعر ينشد، أي يلقى بصوت مرتفع، وكان يعتمد على الإيقاع ونظام البيت والتشابه بين أواخر كلمات الأبيات. وإذا صحت أطروحة انحدار الشعر العربي من سجع الكهان (دوتيه: 105)، فإن اعتماده الوزن والبحر والقافية يثبت من جديد علاقته بالسحر. وهنا نلامس معتقدا كونيا في الأصل الخفي للموسيقى: فكلمة charme الفرنسية، مثلا، التي تعني سحر، تنحدر من الأصل اللاتيني carmen الذي يعني سجع، وكلمة incantation (تعزيمة أو دعوة سحرية) مشتقة من الجذر cantare الذي يعني أنشد أو غنى (دوتيه: 105-107).

مما سبق، يمكن القول بأن الشعرؤ السابق عن الإسلام كان بمثابة طقس سحري شفهي يستمد سلطته وخاصيته السحرية من أداته كلغة، وإيقاعه وقافيته كموسيقى، وطريقة وسياق إلقائه كإنشاد. لقد حرم الإسلام الغناء، واتخذ إزاء السحر موقفا يتسم بالتعارض الوجداني، فأي موقف سيتخذه من الشعر؟

4. الإسـلام والشعر

لقد اتخذ الرسول كمهمة أساسية له قلب النظام الرمزي السائد آنذاك واستبداله بنظام آخر. لقد أحدث تعارضا جذريا بين النظامين من خلال إنجاز تسمية مزدوجة؛ سميتْ رسالته «الإسلام» وسمي ما يقابلها «الجاهلية». إذن لم يعد الأمر يتعلق بتاتا بالشعر = الفطنة والعلم. كما تم تحويل العنف والقتل السائدين، بشكل منهجي، نحو الخارج عبر الفتوحات (غرانغيوم، 1990).

من المفيد ملاحظة تشديد الإسلام على طبيعته الكتابية (من كتاب)؛ فقد وردت كلمة «كتاب» في القرآن 254 مرة، فيما لم ترد كلمة «الشعر» سوى مرة واحدة. من الآن فصاعدا سيصبح القرآن / الكتاب هو الذي يحتوي العلم وليس الشعر. روي أن لبيدا لما سئل عن الشعر قال: «ما قلت شعرا منذ سمعت الله عز وجل يقول: «الم ذلك الكتاب لا ريب فيه [البقرة، 1]» (ابن العربي، ج4: 1615؛ والقرطبي، ج15: 37)، وكان ابن عباس يقول: «لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى» )السيوطي: 126)، وأكد أبو بكر بن العربي أن «علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومقطع» (السيوطي: 128). هذا التشديد، سواء نظرنا إليه من زاوية إرساله أو تلقيه، يبدو أنه لا يتضمن تجاوزا للتصور السائد عن الكلمة كسلطة ساحرة بقدر ما ينخرط فيه؛ فالكوزموغونيا الإسلامية ارتكزت على الاعتقاد في الكلمة الخلاقة le verbe créateur الذي ابتكره المصريون القدماء (غيلمو: 42)، والرسول أربك القريشيين كثيرا في بداية دعوته، فحاروا في إيجاد التسمية الملائمة له، بين أن يعتبروه كاهنا أو مجنونا أو شاعرا أو ساحرا، فلم يتواضعوا على اعتباره ساحرا إلا لكونه «يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته» )ابن كثير، 1987، ج3: 59-60)، أي سموه بالارتكاز على الأثر الذي يحدثه خطابه وليس بالاستناد إلى تحديد هوية هذا الأخير، هذه الهوية التي ظلت منفلتة، لا مسماة كما يبدو من هذه الحكاية التي أوردها ابن كثير:

«اجتمعت قريش يوما، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فيكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة (...) فأتاه عتبة فقال: يا محمد (...) إنا والله ما رأينا سخلة (السخلة: الولد المحبب إلى والديه) قط أشأم على قومه منك. فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا (...) أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله (...) «بسم الله الرحمن الرحيم حـم تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون» (فصلت، 1-3) إلى أن بلغ «فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وتمود» (فصلت، 13)، فقال عتبة: حسبك ما ندك غير هذا؟ قال: لا ! فرجع إلى قريش (...) ثم قال: لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة» (ابن كثير: 60).

هذه الحكاية، مثل الكثير من القصص المتعلقة بالمواجهات الأولى بين الرسول وقومه، تبرز أن الإسلام قد أسس سلطته على مخالفته للسائد بشكل جعل تسميته أمرا مستعصيا، فأفضى حتما إلى اعتبار القرآن سحرا والرسول ساحرا. إن كل ابتكار جديد كان يثير في الإنسان البدائي شعورا مزدوجا: يفتنه، لكنه أيضا يرعبه، ومن ثمة يعزوه إلى قوى فوق إنسانية (دوتيه: 42). وفي رواية أخرى للقصة السابقة ورد أن عتبة لما سمع الآية «فلما أعرضوا...» إلى «... مثل صاعقة عاد وثمود» أمسك على فيه وناشد الرسول الرحم أن يكف عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم (ابن كثير: 61). وذلك يجعل احتمال أنه اعتبر ما تلاه الرسول عليه تعزيمة سحرية أمرا واردا. فالكثير من الدعوات والعزائم السحرية تتضمن كلمات وأسماء غير مفهومة، وتستمد سلطتها السحرية بالضبط من كونها غير مفهومة (موس: 47-53).

بالرجوع إلى عقدة أوديب الشهيرة، كأحد الأمكنة الأساسية لتشييد القانون، نجد أنها تتضمن ميكانيزمين أساسيين لتشييد القانون، هما المنع والتماهي. ويمكن تبسيط سيرورة أوديب كالتالي: في البداية تكون الأم هي موضوع رغبة الطفل، لكن هذه الرغبة تصطدم بواقع كون الأم ملكا للأب، تصطدم باستحالة تحققها، أي بالقانون أو الممنوع، فيعيش الطفل تناقضا وجدانيا إزاء الأب / ممثل القانون (يرغب في قتله لكنه يشعر بالذنب بسبب هذه الرغبة) لا يخرج منه إلا بقبول الخصاء، والتماهي مع شخصية الأب، أي باستبدال هويته القديمة (الطبيعية) بهوية جديدة (ثقافية) (فرويد: 167-179؛ 244-246). وباختصار، في سياق أوديب كل شيء يتم كما لو أن الطفل يتلقى هذا الأمر: «كن مثل الأب، ولكن لا تأخذ مكانته في ما يؤسس قيمته كأب، لا تمتك الأم» (بيزانصون: 32).

إن قراءة تعامل الإسلام مع الشعر، كأحد أهم عناصر النظام الرمزي الذي سبقه، هذا النظام الذي يمكن تسميته بالأب السائد في ضوء هذه الخطاطة، تمكن من تبين ثلاث لحظات في هذا التعامل: لحظة تعارض وجداني، لحظة خرق، ثم لحظة تشريع قانون. من المستبعد العثور في التاريخ الإسلامي على توالي كرونولوجي لهذه اللحظات. وبذلك فإن الفصل بينها لا يعدو مجرد استجابة لضرورة منهجية.

4. 1. تعارض وجداني

اتسمت علاقة الإسلام بالشعر بسلوكين متعارضين، فتم كل شيء كما لو أنه لم يستطع قبول الشعر لكنه لم يستطع التخلي عنه أيضا. لقد جاء في القرآن أن «الشعراء يتبعهم الغاوون» (الشعراء: 224) واتفق المفسرون على أن المعني بالغاوين هم الضالون من الشياطين والإنس، كما جاء أن الرسول ليس بشاعر ولا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يكونه: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له». (يس، 69). وروي عن عائشة أن الشعر كان أبغض الحديث إلى الرسول (ابن كثير، 1968: 579)، وذكر ابن عباس أن الشيطان لما طرد من الجنة وأنزل إلى الأرض سأل الله أن يجعل له قرآنا فأعطاه الشعر:

«لما نزل (إبليس) إلى الأرض قال: يارب أنزلتني وجعلتني رجيما فاجعل لي بيتا، قال: الحمام، قال: فاجعل لي مجلسا، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعاما، قال: ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤذنا، قال: المزامير، قال: فاجعل لي قرآنا، قال: الشعر، قال: فاجعل لي حديثا: قال: الكذب، قال: فاجعل لي مصايد، قال: النساء» (الثعلبي: 25؛ الغزالي: 26-63؛ القزويني: 388...).

في هذا المستوى، أدخل الإسلام الشعر ضمن التعارض الأساسي بين الخير والشر مُرَمّزين في سلسلة التقابلات التالية:

اللـــه

±

الشيطـان

القــرآن

±

الشعــر

الرسـول

±

الشاعـر

المؤمنـون

±

الغـاوون

إلا أنه، وبموازة مع هذا التعارض، نجد أن الآية الأولى قد استثنت من الاتصاف بالغي الشعراء «الذين آمنوا وعملوا الصالحات...» (الشعراء: 277)، أي الشعراء الذين قبلوا تصريف العنف الشعري القديم في وجهة أخرى: وجهة إرساء النظام الرمزي الجديد الذي اقترحه الإسلام. وبهذا الصدد، سنجد الرسول يشجع شعراء الدعوة الإسلامية على هجو خصوم الدين واصفا هذا الهجاء بأنه «أسرع فيهم من نضح النبل» (ابن العربي، ج.3: 1441).

وباختصار، لقد تعامل الإسلام مع الشعر، في هذا المستوى، بين الرغبة في تنحية الشعر / قتل الأبي وبين الانصياع لسلطة هذا الشعر، أي الاصطدام بالممنوع. هذا التعارض الوجداني وجد مخرجه في الخرق.

4. 2. خــرق

لقد اعترض الكثيرون على القرآن وعلى رسالة الرسول انطلاقا من ملاحظة اندراج العديد من الآيات القرآنية وأقوال النبي في البحور الشعرية فاعتبروا القرآن شعرا واعتبروا محمد شاعرا. ومن الأمثلة التي تجادل حولها أصحاب هذا الطرح والفقهاء المسلمون الآيات القرآنية:

- «ويخزهم وينصركم عليهم ويشف قلوب قوم مؤمنين» (التوبة: 14)، وقد اعتبرت بيتا من بحر الوافر

- «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره» (الشعراء: 35)، وقد عدت بيتا من مجزوء الرجز.

«قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون» (سبأ: 30)، وتم اعتبارها من بحر الرمل (ابن العربي: ج4، صص. 1609-1914)

ثم أقوال للرسول مثل:

- «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»

وقوله:

- هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت»

وقوله:

- «إن تعفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألمـا»

(ابن كثير، 1968: 579)

إن فحص ردود الفقهاء على هذا الزعم يُظهر إلى أي حد تعتبر مسألة علاقة الإسلام بالشعر من أشد القضايا إرباكا للفقهاء. فقد كان يتم استحضار براهين من خارج النصوص المتنازع بشأنها أكثر مما كان يُحتكم إلى هذه الأخيرة: كان يُستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتضمنة لموقف الإسلام السلبي من الشعر وعلى رأسها تلك التي تنفي عن الرسول صفة الشاعر. يتعلق الأمر أساسا بالآية: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» (يس: 69) وبالحديث: «إني لست شاعرا ولا ينبغي لي». وفي حالة الإقرار بوجود قرابة ما بين المقاطع المعنية وبين الشعر، كان الرد يتم بطريقتين: يُركز على إظهار بعض الخروقات التي تتضمنها هذه المقاطع للبحر الذي يُفترض أنها نُظمت عليه، أو يتم الإقرار باندراجها ضمن بحر معين، لكن يتم إقصاؤها من حقل الشعر بدعوى أنها لا تشكل قصيدة، ليست سوى بيت أو بيت وشطر، وأن عنصر القصد الشعري غائب، الخ.

وبعيدا عن متاهات الفقهاء، يتضح أن المقاطع السابقة، مثل العديد من المقاطع الأخرى، هي فعلا موزونة، غير أن هذا وحده لا يكفي لاعتبار القرآن شعرا. ولعل ذلك ما خلص إليه ابن العربي، دون أن يفطن، لما انتهى من مناقشة إحدى الآيات السابقة (سبأ: 30) إلى القول: «ولو قرئ كذلك لم يكن قرآنا، ومتى قرئت الآية على ما جاءت لم تكن على وزن الشعر». معنى ذلك أن بين القرآن والشعر مفارقة مطلقة. إنه يعتمد أحد عناصر الشعر (الوزن)، لكنه يخرق الكثير من قواعد هذا الجنس كعدم اعتماده نظام البيت والقافية. إلا أن هذا الخرق هو ما سيمكن الإسلام من تأسيس قانونه.

4. 3. القانـون

ذلك سيتم عبر مستويين: مستوى المجتمع ومستوى الكتابة وضمنها الشعر. في المجال الأول سيستبدل الإسلام القيم السائدة بقيم جديدة، أي محل الأب القديم سيُنصّب الرسول كأب مثال على الناس من الآن فصاعدا أن يتماهوا معه. بموازاة ذلك، سيُحفظ النص القرآني ويُدوّن، سيُبوأ مكانة النص الذي لا يضاهيه شعر ولا نثر، وسيُعلن عن هويته كـ «جنس» خِطابي لا يتكرر ولا يُقلد: إنه القرآن: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله...» (الإسراء: 17).

وإذا كانت كل محاولة لتقليد القرآن واستبداله بنص «ديني» آخر ستُقمَع بشدة عبر إتلاف هذه النصوص وقتل أصحابها (مثال مسلمة الكذاب في المشرق [ابن كثير، 1987، ج. 5: 45-48 وج6: 328-331 ويونس البرغواطي في المغرب، المراكشي: 225-227]، فإن الكتابة عامة، والشعر على وجه الخصوص، ستطالب بالتماهي مع النص الديني بمكونيه القرآن والحديث، وذلك إما بإعادة إنتاج قيمه وتمطيطها أو بالإسهام في فهم محتوى هذا النص وجماليته. يقول الحديث النبوي: «إن من الشعر لحكمة، فإذا التبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر فإنه عربي» (اللسان: مادة شعر). في إطار إعادة إنتاج قيم العقيدة سيُطالب الشعرُ بحصر دائرته في المديح النبوي والحكم والوعظ والإرشاد والزهد، الخ. أما الإسهام في دراسة العقيدة فسيضع الشعر في الأرشيف أو رفوف المكتبة قصد تسهيل الرجوع إليه أثناء تقعيد النحو والبلاغة ربما حتى النقد.

إن التطبيق الصارم لهذا القانون سيجد مكانه الأنسب في الفقه والسياسة. لقد اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على تحريم إنشاد الشعر في المسجد إذا خالف الشرع، هذه المخالفة تتحدد عند الحنفية في الهجو والسخف أو وصف القدود والشعور والخصور بشكل يترتب عليه يترتب عليه ثوران شهوة المتلقي، وعند الحنابلة والمالكية والشافعية في ما ليس بمدح للرسول أو ليس ثناء على الله أو ليس حث على الخير أو ليس مواعظ وحكم (الجزيري: 289-290). وكثيرا ما أقام الساسة الحد على الشاعر بسبب خرقه بعض أحكام الإسلام، وإن على مستوى التخيل ليس إلا. من الأمثلة الشهيرة التي يسوقها الفقهاء في هذا الباب عزم عمر بن الخطاب على إقامة حد شارب الخمر والمستمع للغناء على أحد ولاته بسبب نظم هذا الأخير أبياتا شعرية يتخيل فيها ذلك، ولما نبه الوالي الخليفة إلا أن الأمر لا يعدو مجرد تخيل مذكرا إياه بالآية: «والشعراء (...) يقولون ما لا يفعلون» (الشعراء: 224) عزلَ الخليفة الوالي من منصبه قائلا: «أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي عملا أبدا». أما الأبيات، فهي:

«ألا هل أتى الحسناء أن خليلهـــــا

 

بميسان يسقى في زجـاج وحنتـــم

إذا شئت غنتني دهاقين قريــــــة

 

ورقاصة تجدو على كل منســــم

فإن كنت ندماي فبالأكبـر اسقنــــي

 

ولا تسقني بالأصغر المتثلــــــم

لعـل أميـــر المؤمنيــن يســوؤه

 

تنادمنا بالجوســق المتهـــــدم

(ابن العربي، ج3: 1141-1142؛ ابن كثير، 1968: 354)

5. خــلاصة

في أبحاثه المتعلقة بالدين، أظهر فرويد عبر مثلثله الأوديبي أن «الصراع بين الغربة والقانون يجد مخرجا أولا في الخرق. لكن بما أن هذه هي طبيعة التعارض الوجداني، فإن الخرق يصعد الصراع ويمهد لانبثاق قانون (جديد)» (بيزانصون: 26). ذلك بالضبط هو ما حاولت الأسطر السابقة أن تبينه.

إن الخرق لا وجود له إلا بالقياس إلى قانون، أو بتعبير آخر يجب أن يكون هناك قانون ليكون انتهاك. الممنوع يوجد بالضبط لكي يُخترَق. ما هو الوضع الاعتباري للمؤلف عموما، والمبدع بوجه خاص، في الثقافة العربية الإسلامية؟ ما هي الفضاءات التي ستبتكرها الكتابة الإسلامية للانفلات من رقابة الممنوع الديني؟ هل تخرج هذه الفضاءات عن القانون الديني بالمرة أم أنها لا تحيد بدورها عن قواعد للخرق حددها هذا القانون نفيه؟ ذلك ما يتطلب بحثا لم يطمح المقال الحالي إلى أكثر من أيكون مدخلا موجزا له

ــــــــــ

الإحالات الببليوغرافية:

أ – باللغة العربية:

- الثعلبي، أحمد، قصص الأنبياء المسمى بالعرائس، دار الرشاد الحديثة، بيروت، بدون تاريخ.

- الجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.

- السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، دار المكتبة الثقافية، بيروت، 1973، ج. 2.

- ابن العربي، أبو بكر، أحكام القرآن، دار الفكر، بيروت، 1972، ج. 3 و4.

- الغزالي، أبو حامد، مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوم، تحقيق محمد رشيد القباني، داؤ إحياء العلوم، بيروت، 1987.

- القرآن الكريم

- القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، ج15.

- القزويني، زكريا، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق فاروق سعد، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1973.

- ابن كثير، عماد الدين، 1973، تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة، بيروت، ج3، 1987، البداية والنهاية، تحقيق أ. أبو ملحم، ف. السيد، ع. ن. عطوي، م. ناصر الدين، وع. عبد الساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة 3، ج. 3، 5 و6.

- المراكشي، ابن عذاري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ج. س. كولان وإ. ليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت، 1963، الطبعة 3، ج 1.

- ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، دار الفكر - دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.

ب – بالفرنسيـة

- BESANçON, Alain, Histoire et expérience du moi, Flammaron, Paris, 1971.

- DOUTTE, Edmond, Magie et religion dans l’Afrique du nord, Alger, 1908, Maisonneuve Geuthner, Paris, 1984.

- FREUD, Sigmund, Essais de psychanalyse, Payot, Paris, 1981.

- GRANDGUILLAUME, Gilbert, 1985, «Père subvertit, langage interdit», in Peuples Méditerranéens, n° 50, Paris, Janvier-Mars, 1990, pp. 171-176.

- GUILMOT, Max, Les rites initiatiques en Egypte ancienne, Robert Laffont, Paris, 1978.

- MAUSS, Marcel, «Esquisse d’une théorie générale de la magie», in Sociologie et anthropologie, PUF, Paris, 1950, pp. 3-145.

- ROSOLATO, Guy, Essais sur le symbolique, Gallimard, Paris, 1969.

- WUNENBURGER, Jean-Jacques, Sigmund Freud, Balland, Paris, 1985.

 

 

 

مقــالات جديدة

تدبير قضية «الإمبراطور» - «جمال الغيطاني»

مجرد وجهة نظر في القضية النسائية

عتبة بين الكتابة والألم

مقدمـات للعصر الرقمـي

السحر والخطاب في المغرب الراهن

الأفعى والمزمـار (تأملات حرة)

 

مداخـــلات

المغرب كفضاء لقراءة إثنوغرافية

تربية الطفل في الوسط الشعبي بالمغرب

الشعر والممنوع

الشعر والغـواية

الثقافة الشعبية والمتخيل

حول ديوان «وطن الأم يا أم الوطن» لمحمد عيساوي المرجاني

الإيصال الثقافي في رواية «شجرة الدردار» لعباس خليفي

محمد عيساوي المرجاني، الشاعر والإنسـان

حول ثقافة التضامن

قراءة في كتاب «عن الفن التشكيلي» لحسن المنيعي

الحداثة في الكتاب المدرسي

التعريب بين الترجمة والتحويل

الكتابة والخسـران. قراءة في ديوان «شهوة الأشجار لعبد الناصر لقاح»

دلالة التيه في رواية «ورم التيه» لعبد النبي كوارة

 

دراسات منشورة في مجلات

رمزية الجنس في رواية «جنوب الروح» لمحمد الأشعري

الإيصال الثقافي في روايـة «جنوب الروح» لمحمد الأشعري

المرأة والمقدس في السياق الإسلامي

 

مقالات منشـورة في صحـف

خطابات السحر (من يوميات بحث ميداني)

هل السحر موجود؟

حول كتاب «التطبيب والسحر في المغرب»

إثنولوجي في المغرب لبول رابينوف

مجهر لتورمات المجتمع المغربي

حرب النساء. السحر والحب في الجزائر

 

 
 
 

 

 

 

 

جماليـــات إضـــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.