جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة

مكتبات الموقـع كشك الموقـع صفحـة القصــر منشورات الموقع

شجـرة الدردار

 روايــة

الكتاب : شجرة الدردار - المؤلف : عباس خليفي - المطبعة: دار المعارف جميع الحقوق محفوظة للمؤلف - الطبعة الأولى الرباط 1996

 

القسـم الثانـي


 - I -

 

أخيرا لاحت له المدينة، من بعيد، هادئة، تبدو في المنخفض، تحيط بها الجبال من كل الجهات.

- هي أنتِ إذن، تركيست؟!

واستمرت الحافلة في الدوران والالتفاف قاطعة المرحلة ما قبل الأخيرة من رحلتها بين إساكن وتركيست قبل أن تواصل طريقها نحو الحسيمة.. تدور الحافلة وتدور، لا تكاد تتخلص من منعرج حتى يواجهها منعرج آخر.

- شخص مثلك تُسَفِّرُهُ ورقة بلهاء، لن يكون إلا مجنونا، أو... لست أدري...

- لماذا إذن كَلَّفْتُ نفسي مشاق السفر من الرباط حتى تركيست؟

- اسأل نفسك

- هناك شيء ما، قوة دافعة، جاذبية،...

- وإذا لم تصل إلى أي شيء؟... لأي نتيجة؟!

- سأعتبر الرحلة رحلة سياحية.

- هه؟ سياحية في تركيست؟! ماذا ستقول لوالدك السي علي،ولأمك حليمة ولأصدقائك إذا علموا بسفرك هذا؟

- لن يعرفوا.

- لنفرض أنهم عرفوا، ألم يكن من الأحسن أن تسألهم؟

- أسالهم عن ماذا؟ ماذا أقول لهم؟

- قل لأبيك: أبي، هل أنت أبي حقا؟... ولأمك: أمي، هل أنت فعلا أمي؟... ولإخوانك: إخواني: هل أنتم إخواني حقا؟

- هذا هو الحمق بعينه!

- لماذا إذن أنت هنا؟

استلقى على السرير في غرفة الفندق، ينظر إلىالسقف، ثم راح يقلب صفحات حياته عساه يعثر على شيء ما:

- قلب واطو الصفحات، لا زال لديك متسع من الوقت حتى الصباح.. أمامك الوقت كله.

- تخريف، اعدل عن متابعة الرحلة، عد إلى من حيث أتيت.

- والاضطراب؟

- إذن اطو الصفحات واقلب...

- استسلم مزيان لذاك النداء وشرع في تمرير الصفحات: صور منقوشة، أصوات، حركات... طفل صغير، رأس حليق في أغلب الأحيان وجلباب صوفي تحته «تشامير» في البيت، في الطريق، إلى السوق، ومن السوق إلى البيت، يجري في الفناء، يلاعب إخوانه الصغار، غرف المنزل، المكان المخصص للبهائم، غرفة الضيوف، سلم الطابق العلوي، الفناء، وشجرة البرتقال، حول الكانون شتاء، تحت شرفة المنزل صيفا، وفي المسيد...

- الليف ما ينقط، الليف ما ينقط

- الباء نقطة من تحت، الباء نقطة من تحت.

- التاء...

نقلة، صوت تلاميذ يرددون الحروف الهجائية في المسيد. أسماء ووجوه، ألواح، أقلام القصب، سور قرآنية، عصا الفقيه، و«الفلقة»، ومن المسيد إلى الدكان، ومن الدكان إلى البيت...

- إذا حفظت القرآن يا ولدي ستصبح فقيها كأبيك.

- ومتى سأتم حفظ القرآن يا أمي؟

- سنقيم لك حفل الختام كابن عمك السي أحمد... في الرابعة عشرة من عمرك تقريبا.

- وكم عمري الآن؟

- ...

- سألتك عن عمري.

- سبع سنوات أو خمس.

- كيف سبع أو خمس؟ فإما خمس أو سبع!...

- ومن قال لك إني أعرف العد؟ كل شيء مسجل عند أبيك.

من حفظ بضعة أسطر إلى الثمن، ومن الثمن إلى ربع الحزب... أكتب، أحفظ، ثم أمحو وأكتب، وأحفظ، تختلط علي السور وتتشابه.

قلب الصفحات بتأن، لديك كل الوقت.

صوت التلاميذ يطوفون على منازل القرية منزلاً منزلاً في الحاكوز[1].

للابيطا، بيطا

اعطيني واحد لبيطا

باش نزوق لوحـي

لوحي لوح الطالب

الطالب في الجنة

الجنة محلولة

حالها مولانا

مولانا، مولانا يا سامع دعانا

القبلة بلا كرا

الماء بلا شراء

الله يلعن تارك الصلاة، كان رجل أو امراة...

هذا منزل الخمار، وذاك هو الحاج ادريس، تلك أم عبد اللطيف، هذه حومة آيت الحاج... حُفظت الوجوه والأسماء...

من «للا بيطا» إلى «غانجة». تلك من حق الذكور فقط، وهذه يشترك فيها الفتيان والفتيات.

- سينزل المطر يا أبي، لقد قمنا اليوم بغانجا، سينزل المطر.

نظرة أبيك إليك وسكوته كان لهما معنى خاصا، كأنه لم يصدق.

- نعـم!... أكيد سينزل المطر، لقد طفنا ببعض أضرحة القبيلة، ندخل إليها، نقبل درابيزها، ثم نطوف حولها، ننظفها، ونصب الزيت في قناديلها، ندعوها لتنزل المطر.

سألك أبوك:

- وأية أضرحة زرتم؟ هل زرتموها كلها؟

- زرنا جدي أحمد بلحاج، جدي الحاج موسى، سيدي يخلف... أما سيدي «مخفي»، وسيدي منصور، فلم نتمكن من زيارتهما نظرا لبعدهما وخوفا من أن يدركنا الليل.

- اسمعني يا ولدي، يا مزيان. غانجة هذه مشكوك في مشروعيتها، وفي تخليدها.

سألتْ أمي: هل هي حرام؟

- ذلك ما قاله عمي القاضي في المسجد. قال إنها عادة رومانية لا دخل للإسلام فيها.

سألته:

- وبركة السادات والأولياء؟

- هم أولياء الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. بركتهم مشهود لهم بها.

سألتَ أباك: وأكثرهم بركة؟ أليس هو جدي الحاج موسى؟

لماذا جدي الحاج موسى بالضبط؟ أثناء وصولنا لضريحه سمعت الأطفال يتحدثون ويذكرون بعضا من معجزاته الخارقة: كان يملك فرسا تطير به كالبراق، وعلى ظهر تلك الفرس حجَّ وصار يلقب بالحاج موسى... حوافر فرسه تلك لا تزال آثارها مرسومة على إحدى الصخور بالقرب من ضريحه... سمعت الأطفال يحكون ذلك. رأيتها بأم عيني، هي فعلا آثار حوافر فرس حقيقية.

- أحقا يا أبي أن الحاج موسى كان له فرس تطير؟

زم أبوك على شفتيه، وأكد لك الخبر. هو أيضا قيل له ذلك عندما كان صغيرا؛ قيل له إنها آثار حوافر فرسه.

- وهل رآها الناس تحلق به طائرة؟

- طبعا، وإلا لما وصلنا الخبر، قام الشهود بنقله إلينا عبر الأجيال، منذ مئات السنين. الحاج موسى هو جدنا، منه ننحدر.

- وأنا؟

- طبعا! بما أنه جدي أنا، فمن الطبيعي أن يكون جدك أنت أيضا.

فلتقطع الورقة المكمشة في جيبك جذورك.. جذورك يا مزيان عروق طويلة.

- ورغم ذلك، رغم معرفتك بجذورك، هل تستطيع تبرير وجودك في تركيست؟

قال أبوك: النصارى بدورهم كانوا يحترمون أضرحتنا.. أول ما كانوا يفعلونه بعد دخولهم لقبيلة ما هو أنهم كانوا يقدمون القرابين لأضرحتها، يتقربون إليها.

- كانوا يخافونها إذن؟

- أكيد، أكيد.

وينقل إليك أبوك قصة احتلال القبيلة... دخل الفرنسيون أولا سنة خمسة وعشرين، جاؤوا من الجنوب، من مزيات، ثم تراجعوا ليحل محلهم الإسبان. الإسبان الذين ما أن مضت مدة قصيرة على دخولهم حتى قاموا بإحراق كل المنازل، واجتثوا الأشجار. كل المنازل أحرقوها انتقاما من قتل أحد ضباطهم[2]... ووحدها الأضرحة والمساجد نجت من الإحراق.. «احترموا قدسيتها».. حتى بعض المنازل والأشجار المحيطة بها نجت لاعتقادهم أنها أضرحة...

هو ذا أصلك وتاريخ قبيلتك. ما الفرق بينك وبين إخوتك؟ هل شعرت يوما بأن والديك يفضلان أحدكم على الآخر؟ إخوتك الذين تحبهم ويحبونك، تذكر خوفك عليهم يوم سمعت ذاك الخبر. كيف أسرعت إلى البيت تحتضنهم وتقبلهم. «كتاب الجفرة» ذاك أدخل الرعب إلى نفسك وشغلك. سمع مزيان في بداية عهده بالمسيد خبرا سرعان ما شاع بين جميع الناس: «أحد كبار الفقهاء قرأ في كتاب الجفرة نبأ يقول: ستفنى الدنيا قريبا!».

كيف هو الكتاب؟ ومن هو مالكه؟... لم تجد أنت وأقرانك من أطفال القرية غير السوق الذي يجتمع فيه كل رجال القبيلة، تبحثون عن صاحب الكتاب النادر، تتبعون هذا الفقيه وتتقفون أثره وسط الزحام. لماذا؟ لأن مظهره بلحيته الطويلة البيضاء يوحي بأنه هو صاحب كتاب الجفرة ومالكه، وإذا وقعت أعينكم على شيخ أكبر منه سنا تركتم الأول وتقفيتم أثر الثاني... لا أنتم عثرتم على الكتاب وتعرفتم على مالكه، ولا الدنيا أصابها الفناء. لكن الخبر أفزعك وجعلك تتخلف عن الذهاب إلى البيت لتتناول غذاءك. بماذا كانت تجيب أمك عندما كنت تسألك: أين تهت النهار كله؟

- دائما كنت تخلق المبررات.. حتى يوم أتيتها من السوق بخبر يقين، وسألتك:

- أين قضيت اليوم كله؟ لماذا لم تحضر لتناول وجبة الغذاء؟

- أما علمت بالخبر؟!

- وبأي خبر أتيتني اليوم؟

- صندوق يتكلم! يغني ويزود الناس بالأخبار!

- ألم تجد غير هذه الكذبة الصفراء لتبرير غيابك؟

- أقسم لك إنني ما أقول لك إلا صدقا، صندوق اسمه الراديو.

لم تصدقك أمك حتى حضر والدك مساءً من الدكان، وأكد الخبر... ولم تمض بضعة أيام حتى اشترى أبوك الراديو. جاء يحمله بين يديه وعلامات الحزن بادية على محياه. قرأت نفسيته على قسمات وجهه، فجلست صامتا لا تتحرك، تراقب وتستمع...

- لقد فعلوها يا حليمة! لقد امتدت يدهم للعرش.

- ماذا؟!

- خلعوه ونفوه، نفوا الخامس وأسرته إلى بلاد بعيدة!

- هل أنت متأكد؟!

وعرفت السبب الذي جعل والدك يشتري جهاز الراديو.

- أتظنين يا حليمة أنني اشتريت هذا «الصندوق» لسماع الغناء؟ سمعت الخبر من القاهرة، من «إذاعة صوت العرب».. كل دول العالم تستنكر، وإخواننا العرب يشجبون... كم كان عمرك آنذاك يا مزيان؟

- طفل صغير، أذكر، رغم أني لم أكن أعرف الكثير إلا أني كنت أعقل.. حتى المفردات التي كان يستعملها الضيوف أثناء حديثهم مع أبي لا زلت أتذكرها. الآن فقط أستطيع فك رموزها...

سمع مزيان مرة أحد الضيوف الذين كانوا يترددون على بيت والده ليلا ويغادرونه ليلا، سمعه يطلب من أبيه السي علي:

- إننا في حاجة إلى كذا ألف من البلوط، ومقدار كذا من الرمان، كما نحتاج إلى بغل أو بغلين لنقل البضاعة إلى بُو وَرْد وباب الحيط.

تعجبت يومها من طلبات الضيف، فقلتُ في نفسي:

- عجيب أمر هذا الضيف الذي يطلب البلوط والرمان من أبي.. فالبلوط في الأشجار، والرمان انقضى موسمه!

لم أطق صبرا، سألت أبي، فكان جوابه:

- إياك يا مزيان، يا ولدي ، أن تخبر أحدا بوجود هؤلاء الضيوف ببيتنا.

أتذكر وجه أبي وهو يوصيني، وأتذكر عيد الاضحى الذي «احتفل» به بلا لحم ولا قديد. صلى الناس صلاة العيد، «تصافحوا» و«تبادلوا تهاني العيد»، ثم تفرقوا. حفلات الزفاف بلا طبول ولا مزامير. الفقيه لم يعد يجلس معنا في المسيد كثيرا.. ينزوي مع الرجال.. يقرأون الجرائد، وإذا أحسوا بقدوم شخص غريب دسوها تحت جلابيبهم.

بو زينب، بوورد، باب الصليب[3]، فرحات حشاد، علال الفاسي، جيش التحرير، الإعدامات... أسماء شخصيات وأماكن دخلت إلى قاموسي اللغوي دون أن أعرف عنها شيئـا.

صار غياب أبي عن البيت يتكرر كثيرا، يغيب عنا مدة، ثم يعود، يرتدي ثيابه الخشنة والثقيلة، يقبلني ويقبل إخوتي الصغار، ثم يسافر.

- أين كنت غائبا يا أبي؟

- سافرت إلى المنطقة الفرنسية لجلب بضائع للدكان.

- وأين البضائع؟

- في الحانوت.

وعندما أذهب إلى الحانوت لرؤية البضائع الجديدة لا أجد شيئا. لم أعرف لماذا كان القلق يلف أمي أثناء غياب أبي إلا بعد مدة. عاد مرة من «سفره» وبكتفه الأيسر وأذنه جراح. سألته فأجابني فورا:

- وقعت من على ظهر البغل.

ثم وضع ضمادة على جراحه، وغطى أذنيه بعمامته.. رغم مرضه كان يصر على الذهاب للدكان يوم السوق. تحاول أمي منعه، فيجيبها:

- العيون كثيرة في السوق يا حليمة، والآذان طويلة، يجب أن أذهب كي لا أثير انتباههم...

استمر الضيوف الليليون في التردد على بيتنا. أحيانا يكونون مسرورين وأحيانا حزانى.

يقول لهم أبي: «هي واحدة!»، ثم يقرأون الفاتحـة.

أذناه على المذياع وجهه عابس. تلك كانت حياة أبي فيما تابعت أنا حفظ القرآن.

- رضي الله عنك يا ابني، يا مزيان.

قال لي في خريف إحدى السنوات:

- سأقيم لك حفلا لم تشهد القبيلة له مثيلا. فقد ختمتَ القرآن في الوقت المناسب.

غصت أرجاء البيت بالنساء اللواتي حضرن لمساعدة أمي في تهييء الكسكس. ألبستُ جلبابا أبيض وتعممت بالعمامة لأول مرة، وجلست مع الفقهاء للمرة الأولى في حياتي:

- لحـن! آووه! يا له من لحن! لازال يتردد في أذني كأني أسمعه الآن. لازلت أسمعه.

ختمت كتاب الله جل جلاله

طلبت من المولى يَزدْنِي من العلم

فيا رب، نَجِّنا ونَجِّ والدينا

ونج شيوخنا من الشر والبلاء

بمكة يا رب، وزمزم والمقام

ومن طاف حول البيت أوْف مرادي

مرادي لا يخفى عليك يا سيدي

وأمرك بين الكاف والنون عاجلا.

قال أبي:

- أخيرا سيخرج النصارى يا حليمة... لم نر منهم إلا الشرور.

- ومن أين جاء النصارى يا أبي؟ ألم يكونوا هنا من قبل؟

- النصارى، يا ابني،هم الإسبان، والفرنسيون، والبرطقيز، والكريكيون ... أتوا من بعيد.

- وإذن، فليس لهم جد مدفون هنا كجدنا سيدي الحاج موسى؟

- لا، ليس لهم أصل، الإسبان هنا والفرنسيون هناك في الجنوب، هم يأكلون الخنزير، يشربون الخمر، لا يصلون ولا يحلقون رؤوسهم مثلنا، ولا يختنون أطفالهم.

- سيخرجون لأنهم مختلفون عنا؟

- بل رغم أنفهم. بالطريقة التي دخلوا بها، بالدم والنار.

- وهل هذا مكتوب في كتاب الجفرة؟

- الجفرة؟! وأين سمعت بالجفرة؟!

- في المسيد وفي السوق.. يقولون إنه كتاب ضخم فيه أخبار الغيب.

- إن لم يكن خروجهم مكتوب في الجفرة فقد كتبناه.

- إذن فلا تزال به أوراق بيضاء لم تكتب بعد؟

- دع عنك هذه الأشياء الآن، فأنت لا زلت صغيرا، ستفهم كل شيء عندما تكبر.

- أكبر؟!

ها أنت ذا يا مزيان قد كبرت وبلغت السادسة والعشرين وفهمت.

- فهمت كل شيء تقريبا إلا هذه الورقة اللعينة، وحدها لم أفهمها.. نزلت علي كالصاعقة منذ أكثر من شهرين، منذ تلقيتها وهي تحيرني، توسوس لي في رأسي، قرأت ما فيها، كمشتها ورميتها. ولكني عدت فجمعتها. أتذكر كل شيء بالتمام والتفصيل إلا ما في هذه الورقة.

- افتح الكتاب، وقلب الصفحات عساك تجد فيها شيئا جديدا.

انسحب الإسبان وفتحت الحدود بين المنطقتين. صارت الطريق إلى فاس أقصر. من قبل، كان لزاما على المسافر إليها أن يقوم بدورة كاملة، من تاغزوت إلى تطوان، فطنجة، وعرباوة، ومنها إلى فاس. الباسبورطي، أو «ديخي باسار[4]» كانا ضروريين لكل من يريد العبور إلى المنطقة الفرنسية.

زالت الحواجز وأصبح التنقل بين المنطقتين سهلا. بدأ الشباب يهاجر إلى المدن الجنوبية بكل حرية. قاتل الله المنع، لم يكن بين هذه المنطقة وتلك سوى شعرة، ولكن المنع كان من القوة بحيث جعلها كالجبال الشوامخ...

ذهب الاستعمار وجاء الاستقلال. قطيعة بين عهدين.

- خذ، هذه مائة فرنك.

- وكم تساوي من البسيطات؟

- أش، شـ... - وضع سبابته على شفتيه - هذه هي نقودنا. لا أريد أن أسمع منك اسم البسيطة بعد اليوم.

- كنت أقصد كم تشتري من الحلويات؟

- تشتري الكثير.

وجاء عهد السكويلا[5]. أفرغت «مدرسة الفنون الأهلية لتاغزوت»[6] من معلميها، ملئت حجراتها وقاعاتها بالطاولات والمقاعد. كنا نجلس فوق الحصير، فاصبحنا نجلس على الكراسي.. عوضت اللوحة بالكناش.. أصبح لنا معلم للإسبانية وآخر للعربية.

- إسو إس أون بورُّو.

- إسو إيس أون باخارو.

ذهب الإسباني مرة ولم يعد بعدها. عوضه معلم للفرنسية.

تمضي بنا السنون وكل عام نعيد قراءة ما قرأناه في السنوات الماضية.. المعلمان هما المعلمان، والأقسام هي الأقسام. تفطنت بعض الأسر فحبست أطفالها.. قليلون هم الذين عادوا إلى المسيد، والغالبية اتجهت إلى تعلم الصنعة أو هاجرت إلى المدن.

نادى علي أبي مرة وقال:

- أرى أنك قد كبرت الآن يا بني، وقد فكرت في مستقبلك. أنت الآن لست أميا تماما كما أنك لست فقيها. قواعد التجارة تعلمتها من كثرة معاشرتك لي في الدكان.. أنت تعلم أن ما من رجل في القبيلة إلا ويغرف صنعة، بل وحتى صنعتين.

عرفت أنه سيقول لي شيئا ما فأصغيت إليه:

- ما رأيك في أن تلازم عمك «المعلم الوكيلي» كي تتعلم منه صناعة الجلد، فهي صناعة جيدة، وهو معلم بارع.

- ما تراه يا أبي.. فأنت أدرى بمصلحتي.

- سأكلم المعلم الوكيلي.. لا أرى أحدا أفضل منه. ثم إن بيته على بعد خطوات من بيتنا...

لا زمت المعلم الوكيلي في مشغله الملحق بداره. مكنتني معاشرته من التعرف عليه أكثر. كنت أعرفه كشخص، كأحد أعمامي، كشخص لا يتعب، ويقضي أياما طوالا في صنع قطعة جلد، شكارة مطرزة، حزام جلدي، حافظة نقود أو غيرها فتكون القطعة آية في الجمال. يمسكها بين يديه، يبعدها قليلا عن نظره، يميل برأسه قليلا إلى الوراء، يتأمل القطعة المصنوعة، يُقلِّبُها، يحرك راسه يمينا ويسارا، ثم يقطعها نتفا نتفا... لماذا؟!... تعجبت من تصرفاته، مصنوعاته من أجمل مصنوعات الجلد في البلد. يتهافت التجار على اقتنائها، وأخذها للبازارات.

- انصت يا عمي...

دائما يناديني بـ«عمـي»

- انصت، إياك أن تعتقد أن الصنعة وسيلة لكسب المال. إذا كنت تعتقد ذلك فلنفترق منذ الآن.. لا يمكنك أن تتعلم أبدا... المال يمنكنك الحصول عليه بمائة وسيلة، أن تزاول التجارة مع والدك السي علي...

كان يشتغل ويتحدث، توقف وركز بصره علي، ثم أضاف:

- الصنعة يا عمي تجعل الإنسان إنسانا، ذواقا للجمال، محبا للتنظيم والتناسق.. والرجل الذي لا يهتم بهذه الأشياء إنسان ناقص مهما علا قدره ومهما كثرت أمواله وممتلكاته. كن واثقا يا مزيان من أن الأشياء التي تصنعها ولا ترضى عنها نفسك، لن تعجب غيرك. وفي هذه الحالة، خير لك ألا تعرضها على أحد كي لا يحط من قيمتك.

- نعــم يا عـــم.

- وإذن فتسلح بالصبر والتروي ودقة النظر.

- حاضــر يا عــم.

- يجب أن تعلم أني ما كنت لأقبلك متعلما معي لو لم تكن ابن السي علي، السي علي ابن عمنا رجل يستحق التقدير والاحترام، ثم إني أتوسم فيك خيرا، وجهك ونظراتك يدلان على أنك فطن وذكي.

- لن أكون إلا كما تحب يا عـم.

انتهى الدرس الأول وانتقلنا إلى ما هو أهـم.

- ستبتدئ أولا بمفتاح الصنعة، بفن التطريز على الجلد.

قطعة جلدية عليها رسوم وأشكال هندسية وخيوط جلدية وإشْفَـة.

- انتبه!... قف على يميني وافتح عينيك جيدا.

أمسك القطعة الجلدية بين ركبتيه والإشفة الحادة بينما، ورأس الخيط الجلدي باليسرى. أحدث على وجه القطعة ثقبا لا يكاد يرى بالعين على وجه القطعة، أدخل رأس الخيط بيسراه من ظهرها، سحبه بعد أن أمسك رأسه بأظافره اليمنى وأحدث ثقبا آخر... لم أر شيئا! قام بالحركات في رمشة عين، اسرع من آلـة.

- لا عليك، سأعيد العملية ببطء...

ناولني القطعة لأتتبعها بالتطريز. العرق يتصبب واليدان ترتعشان... التطريز مفتاح الصنعة.

- الألـوان! الألــوان!، قال وهو يتابع عمله، يجب أن يكون هناك تناسق بين الألوان: الأصفر لا يكون جنب الأبيض، فهو يقفد لونه، وكذلك الأسود جنب الأزرق...

كم مرة أخطأت الإشفة القطعة الجلدية وانغرست في لحمي؟

اكتشفت الملعم الوكيلي، عرفته مرجعا مهما لتاريخ القبيلة وأحداثها. يحفظ تواريخ استيطان السكان وأصولهم، الشرفاء وغير الشرفاء، يعرف الأبراج والفصول، يحفظ قصائد الملحون، فمه لا يفتر وهو يشتغل.. يحكي عن الاستعمار والمجاعة والجفاف بتفصيل دون أن ينسى أي شيء.. هادئ يتحدث ببطء، لا يغضب ولا ينفعل، فقط إذا لم يعجبه ما صنع يمزقه كأن شيئا لم يكن. اعتقدت أنه سيعيش مائتي عـام.

- مائتا عام؟! عمك الوكيلي لم يكن عصبيا، كان هادئا، وأنت يا مزيان تقلق؟! وماذا يقلقك؟ رسالة؟! رسالة لاتعرف حتى من هو كاتبها.. احتفظت بها شهرين كاملين وألقت بك في مشاق السفر من الرباط إلى تركيست؟

- عمك الوكيلي لم يكن عصبيا. أبوك السي علي لم يكن كذلك أيضا، وحتى أنت لم تكن تقلق من قبل. أمك حليمة دائما تشبهك بأبيك: «أنت تشبه أباك يا مزيان، أنت تتحدث كأبيك، تسير كأبيك، لونك وصوتك كلون أبيك وكصوته...»

- لا يضر ولن يضر...

تعلمت الصنعة وهاجرت إلى الرباط ككل شباب القرية لأكسب أكثر.

قال لك رفيقك في السفر لما توقفتما في تاونات:

- هذه هي تاونات يا مزيان، من قبل كانت تسمى مزيات...

سألت مرافقك: وتلك الشواهد على الجانب الأيمن؟

- تلك قبور النصارى[7]، قتَلُوا في المعارك التي خاضوها ضدنا.

اقتربت تتهجي اسماء أصحابها: الكابورال شارل، الكابيطان ميشال، اليوطتنان جيرار، الكومندان باسكال...

- كم مغربيا قتل هؤلاء الأنذال قبل أن يسقطوا؟ وما تفعل قبورهم هنا؟ جاؤوا ليقتلوا وها قد قتِلوا ولا تزال قبورهم في أرض المغرب! وفي وسط المدينة! أين قبور المغاربة؟

كلما مررت بتاونات صفعتني تلك القبور...

من تاونات لفاس، ثم الرباط. أين فرحة السفر؟ حل محلها القنط الشديد. المدينة سجن، المنازل كالصناديق، الجدران تحجز الأبصار، تمنعها من الانطلاق بحرية، أينما نظرت لا تجد غير الجدران.. أين الجبال والوديان؟ وأين الأشجار؟ من الآن فصاعدا لن تسمع الطيور، ولن تشعر بتعاقب الفصول، لا ثلج، ولا ربيع، ولا قمر في الليل، ولا نجوم... أهذه هي المدينة؟! السكان غرباء عن ذواتهم وعن بعضهم البعض، لا يتعدى سمك الجدران التي تفصلهم عن بعضهم بضع سنتيمترات، لكن المسافة الاجتماعية القائمة بينهم لا تقاس. المنازل في البادية بعيدة ومتفرقة، لكن السكان يتقاربون من بعضهم، لا يمكن أن يلتقي شخصان دون أن يتبادلا التحية والحديث. في المدينة لا أحد يحيي أحدا إلا ناذرا. يسيرون بسرعة، يركبون بسرعة، يأكلون بسرعة، وربما ينامون مع زوجاتهم بسرعة... علاقات الجوار منعدمة، قد يكون سكان المنزل السفلي في فرح، وسكان الطابق العلوي في ترح... النواح والبكاء، والموسيقى والزغاريد، لا أحد يشارك أحدا فرحته. الفردانية طاغية. العرس في البادية عرس القبيلة برجالها ونسائها، بأطفالها، بكلابها، وقططها... والحزن حزن الجميع. الكبار أعمام وأخوال للصغار.

اشتغلت في الرباط. كل ما كنت أصنعه يباع. كسبت الأموال، لكن سرعان ما استيقظت في داخلي تلك الرغبة القديمة، الرغبة في الدراسة، لكن سني كان متقدما. لم يكن أمامي من حل سوى الانتساب إلى إحدى المدارس الليلية... مرت السنين. الشهادة الابتدائية حصلت عليها فوجدت أنها أقل من طموحي. البروفي حصلت عليه فتطلعت إلى الباكالوريا...

- الباكالوريا؟ الامتحان ينتظرك بعد شهرين وأنت هنا في هذا الفندق مستلق على ظهرك تنظر إلى السقف بعينين شاردتين وذهن غائب؟...

- لا بأس، يومان أو ثلاثة وأعود إلى عملي ودراستي.

لم تستطع المدينة أن تنسيني قبيلتي وأسرتي وأصدقائي. في كل عيد، في كل صيف أقضي مدة في القرية، ثم أعود إلى الرباط. هذه هي حياتي منذ ثماني سنوات. لكن هذه السنة حدث ما لم يكن متوقعا، وما لا يمكن لأحد أن يصدقه.

انقضى عيد الأضحى. وبينما أنا سائر في سوق القبيلة الذي هو ساحة الاجتماعات. أقف مع ثلة من أصدقائي تحت شجرة الدردار مكاننا المفضل نتجاذب أطراف الحديث ونضحك، فإذا بذلك الدراز يدنو من مجمعنا وينادي علي:

- مرزيان! أمزيان!

تركت أصدقائي واقتربت. تصافحنا، فابقى يدي بين يديه، وقال:

- عندي لك رسالة، أحتفظ بها منذ أربعة أشهر أو خمسة، فإن أردت الاطلاع عليها فهيا معي إلى بيتي في تزرين.

- ومن هو باعث الرسالة؟

- لا أعرفه!

- وماذا يقول فيها؟

- كيف لي أن أعرف ذلك وأنا لم أفتحها؟

- كيف عرف اسمي وحصل على عنواني؟

- العنوان أنا الذي أعطيته إياه، أما الإسم فهو يعرفه.

- وأين التقيت به؟

- في الريـف.

رافقت الدراز إلى بيته قرب مسجد تزرين، سلمني الرسالة، وفقلت راجعا.لبيتنا.

قلبت الرسالة، قرأت اسم المرسل وعنوانه: «محمد الأزرق الملقب بالجبلي». المرسل إليه: «مزيان - تاغزوت». لم يكتب إسم أبي ولا إسمي العائلي. انرصفت أبحث في ذهني عن إسم المرسل، لم يسبق لي في حياتي أن عرفت شخصا بهذا الإسم، لم يعن لي شيئا.

قرأت الرسالة في الطريق بين حومة تزرين وبيتنا، لم أفهم منها شيئا. أعدت قراءتها مرات ومرات.. كمشتها بين يدي ورميتها بين نبات العليقى على جانب الطريق. عدت إلى بيتنا كأني لم أتوصل بشيء. تناسيتها.

تناولت عشائي تلك الليلة كالمعتاد، ولما آويت لفراشي، قال النوم: نـم أنت!

في الغد عدت باكرا إلى المكان الذي رميتها فيه، وجدتها لا تزال مكمشة بين نبات العليقى كأنها تنتظرني. جمعتها، أعدت قراءتها مرات ومرات إلى أن حفظتها عن ظهر قلب.

قلت مع نفسي: احرقها وتخلص منها.

أخرجت ولاعة السجائر، اشعلتها وقربتها منها، حدث ما لم يتوقع. أخذت يداي ترتعشان. صوت يهمس في أذني بقوة:

- لا، لا، لا تفعل! لا تحرقها! لا تحرقها!

وقعت الولاعة من يدي والرسالة، حاولت للمرة الثانية، حدث الشيء نفسه، أخذ جسمي كله في الارتعاش. ماذا في الرسالة؟

إلى أخي مزيان.

سلام الغربة والمحبـة والفراق.

وبعـد،

أنت أخي وأنا أخوك، لا بد من أن تحضر حالا بعد توصلك بهذه الرسالة. يسلم عليك جميع أفراد الاسرة: عمي شعيب، عمي أركاز، وعمتي مينوش. إذا وصلتك الرسالة، فلابد من أن تأتي. نحن في انتظارك.

أخوك محمـد الأزرق.

هل في الرسالة شيء ما؟ سحـر؟!

لا أعرف شخصا بهذا الإسم، وليس لي أخ أو أعمام بالاسماء المذكورة، إخواني وأعمامي كلهم هنا في تاغزوت. تفاهـة! رسالة تافهة، ورغم ذلك احتفظت بها في جيبي، نمت في تلك الليلة، هل هي تميمة أو سحر ساحر؟ لم أعد أصدق هذه الأشياء.

وجدت رجلي تقوداني إلى تزرين، إلى بيت الدراز لأسأله:

- أين التقيت بباعث الرسالة وما شكله؟

- في أحد الأسواق يا مزيان، يا ابن السي علي، أنت تعرف أني دراز أنسج الجلابيب وأطوف بها في الأسواق، والمدن، والقرى... التقيت به في أحد الأسواق في الريف، كنت أعرض بضاعتي للبيع إذا بأحد الزبناء أعجبه جلباب. سألني عن ثمنه، ومصدر البضاعة، ومكان صنعها: هل هي صنعة وزانية؟ أزمية؟... أجبته بأنها تاغزوتية. اشترى الجلباب، وسألني عنك. قال هل تعرف شخصا اسمه مزيان؟ قلت له: من لا يعرف مزيان وهو الوحيد الذي يحمل هذا الإسم في القبيلة؟ غاب لحظة، ثم جاءني بالرسالة يطلب حملها إليك.

- ولماذا لم تسأله من أيـن يعرفني؟

- لو لم يكن يعرفك لما سألني عنك!

ووجهه؟ ألا تذكر وجهه وشكله وقامته؟

- لم أعد أذكر.

لا أدري ما الذي أفقدني أعصابي وجعلني أثور في وجه الدراز...

- لن يطفئ ثورتي سوى أن أنقض عليك وأقتلع أضراسك بكلاب حديدي صدئ... لا تعرف الشخص ولا اسم السوق ولا هيأة الرجل، ولا، ولا... ثم تحمل إلي الرسالة! لماذا حملت إلي الرسالة إذن؟

- يا مزيان، يا ابن السي علي. اهدأ واسمعني. أنا أعرف والدك السي علي رجلا هادئا، ولو لم تكن ابنه لما حملت لك الرسالة، ضع نفسك مكاني، لو كنت في السوق؟ أتعرف ما معنى السوق يا مزيان؟... الحركة، الازدحام، البيع والشراء، الهرج والمرج، الخبز والسرقة، و، و، و...القيامة، وأنا وحيد، أأنتبه لبضاعتي أم لوجوه الناس وأشكالهم؟ قل لي لو كنت مكاني، ماذا كنت ستفعل؟ هل ستلوي على شيء؟...

- لماذا حملتها إلي إذن؟

- مزقها أو احرقها... افترض أنها لم تصلك وأني لم أحملها إليك... انس الموضوع.

لم أمزقها ولم أحرقها، وضعتها في جيبي وحاولت أن أنساها.

انتهت العطلة وعدت إلى الرباط لمتابعة عملي ودراستي. أشتغل، لكن بيدي فقط؛ أقرأ الصفحات ولا ألوي على شيء. استحوذت علي الوساوس والقلق، شغلتني هذه الرسالة اللعينة.

يسألني رفاقي:

- لماذا صار وجهك شاحبا يا مزيان؟

- لماذا أصابعك ترتعش؟

إلى متى ستظل على هذه الحال يا مزيان؟ يجب أن تحسم في الأمر. فإما أن تحرق الرسالة أو تستجيب لطلب الرسالة، وتذهب باحثا عن صاحبها، ثم تنظر ما في الأمر.

- أية سخافة هذه؟ ماذا سيقول الناس عني؟

حسمت في الأمر وقررت السفر للبحث عن صاحب الرسالة. من الرباط إلى فاس، ومنها إلى تركيست، وغذا إلى قبيلة...

دقت ساعة الفندق الحائطية إحدى عشرة دقـة:

- طـان، طـان، طــان...

قطعت على مزيان تفكيره في غرفته، نظر إلى ساعته في معصمه...

- لم يبق إلا ساعة واحدة على منتصف الليل.

قال ذلك في نفسه، ثم استأنف الشريط...

نزلت من الحافلة أطوف المدينة بحثا عن فندق.. كل الناس يتحدثون بالريفية، لم أفهم ولو كلمة واحدة. عثرت على فندق، دخلت، قطعت بهوا، لا أحد، وقفت أنتظر وانشغلت بمراقبة رقاص الساعة، هذه الساعة التي سمعت دقاتها قبل ثوان. لا زلت كذلك إلى أن سمعت صوتا نسـويا:

- أية خدمة؟

سيدة بدينـة! تتفحصني من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، من أين خرجت؟

طلبت منها: أريد غرفة.

مدت يدها إلى أحد السجلات وعينها لا تفارقني.

- هات البطاقة، ليلة واحدة أو ليلتان؟...

سلمت لها البطاقة وقلت لها: ليلة واحدة. أمسكتها وقالت متعجبـة:

- من تاغزوت؟!

سيدة ريفية تقرأ وتكتب![8]

- نعم من تاغزوت، وماذا في الأمر؟!

وضعت البطاقة والقلم فوق المكتب وبدت كأنها تلتهمني، قطبت ما بين حاجبيها واستمرت تنظر إلي نظرات خاصة.

- ماذا في الأمر؟ قولي...

- لا،... كنت أحسبك من قبيلة أخرى.

- ماذا تقصدين؟

- اشتبهت لي بشخص نزل عندنا هنا قبل سنة أو أكثر.

- تأكدي سيدتي أني لست ذاك الشخص. فهذه أول مرة أزور فيها تركيست.

- عجيـب!

- وما الداعي للعجب؟

- شكل وجهك واسنانك البيضاء المتراصة... ملامحك بصفة عامة شبيهة بملامح سكان إحدى القبائل هنا، أسنانهم بيضاء قوية كأسنانك تماما، يبلغ الواحد منهم مائة سنة وتظل أسنانه هي هي...

أطرقت صاحبة الفندق قليلا تفكر، ثم قالت:

- يخيل إلي أني رايتك من قبل، بل إني شبه واثقة من ذلك.

- او. م م م...

لم أقل شيئا. أخذت البطاقة، وأخذت تسجل. وفجأة سالت:

- أنت «مْعَلَّمْ» إذن؟ صانع؟

- نعـم.

- هلا أجد معك حزاما جلديا مطرزا للنساء؟

- أنا لم آت من تاغزوت، ثم إني لست تاجرا، لكن إذا عدت إلى هنا مرة أخرى فسوف لن أنسى...

- مجرد قول! كل الرجال يعدون ولا يوفون.

لم تصدق هذه البدينة أنني أذا واعدت فلن أخلف وعدي أبدا. قالت:

- لكن بطاقة تعريفك ألمعلم، التاغزوتي قد انتهت مدة صلاحيتها. انتهى أجلها...

- ماذا تقصدين؟

- ألمعلم!، قالت، انظر. لم يبق من حياة بطاقتك هذه سوى ساعات. اسهر الليلة، وأقم لها حفلة الوداع.

تفحصت بطاقتي، تاريخ إصدارها كان يوم 04/04/1968، ونحن اليوم في 03/04/1971. تعجبت لكوني لم أنتبه لذلك، وسألتها خائفا:

ماذا الآن؟ ألا يمكنني المبيت؟

- لا، نبهتك فقط.. عليك أن تغيرها.

أعادت إلي بطاقتي، وتذكرت الحديث الذي دار بين أبي وموظف القيادة يوم ذهبنا للحصول على بطاقة الهوية.

- إذا كنت ترغب في تناول عشائك فأنصحك أن تقصد «فوندا ميكيل[9]»

تجاهلت نصيحتها، وسألتها:

- أتسمحين لي بسؤال؟

- تفضل طبعا، إذا كان بوسعي إجابتك...

- هل تعرفين أين توجد قبيلة بني عَمَّارْت؟

فتحت عينيها، وقالت:

- هي القبيلة نفسها التي حدثتك قبل قليل عن أسنان أهلها. قلت لك إن لسكانها أسنانا عجيبة كأسنانك تماما، قوية، بيضاء ومتراصة.

- أتعرفين أين توجد هذه القبيلة؟ وهل هناك وسيلة نقل توصل إليها؟

- القبيلة ليست بعيدة.. حوالي عشرين كيلوميترا فقط.

- وكيف الذهاب إليها؟

- يمكنك أن تستقل سيارة أجرة أو شاحنة.. ستأتدبر لك الأمر، أصحاب الشاحنات ينامون كلهم هنا في الفندق، احمل أمتعتك إلى الغرفة رقم: 6.

تفقدت الغرفة وخرجت لتناول عشائي في فوندا ميكيل.أتبعته بقهوة سوداء، ثم عدت إلى الفندق، واستلقيت على السرير أسترجع...

طـان، طـان، طــا...

ارتفعت دقات الساعة تعلن الثانية عشرة ليلا.

نام مزيـان قبل أن يتم عد الدقات...

- II -

- هل يمكن لي أن أعثر على خبز؟

- وهل تعتقد أننا في عام الجوع؟!، أجابت صاحبة الفندق عن سؤال مزيان. الأفران في كل مكان، في كل شارع، كثر الخبز حتى لم يعد أحد يهتم به. قال مزيان يجيبها في نفسه:

- جسمك خير دليل.

بباب الفندق تقف شاحنة حمراء، محركها في حالة دوران، خلف المقود رجل يكاد الدم يتفجر من خذيه. وقف مزيان ينظر إلى كابينة القيادة...

- أذهب.

- لا تذهب، عد من حيث أتيت.

- لماذا أنا هنا إذن؟

- أنت أحمق إذا ذهبت.

- أحمق؟!

صعد مزيان إلى الشاحنة، وقبل أن يغلق الباب سمع صوتا يخاطبه:

- إياك أن تنسى الحزام الجلدي ألمعلم التغزوي.

حرك رأسه علامة على الايجاب، ثم ضحك.

أي حزام يمكن أن يحيط بذلك الجسم الرشيق؟ بتلك الكدية من اللحم، يلزمك حبل.

توقفت الشاحنة قرب أحد الأفران، اشترى مزيان الخبز تحسبا لما هو آت. وما هي إلا دقائق حتى أصبحت الشاحنة خارج المدينة في اتجاه الجنوب الشرقي.

- كيف سأعثر على صاحب الرسالة؟

- إسأل، من يملك لسانا لن يضل، وعندك الإسم والعنوان!.

- كيف سأقابله؟!

- اِرم بالرسالة في وجهه، أفرغ غضبك كما فعلت مع الدراز، إجعله يندم على لعبته الدنيئة!.

- وإذا كان أقوى منك وتغلب عليك؟!

- إلجأ إلى المخزن، إشتكه إليه فينال جزاءه!.

- نعم، لقد إعتدى عليك، شغل فكرك ونغص عليك حياتك، جعلك تأتي من الرباط حتىبني عمارت!.

- وإذا كان ما يقوله صحيحا؟.

- هراء...!

- فكره؟...!

- لربما كان أبوك متزوجا امرأتين!

- لكنه لم يكن يتغيب عن تغزوت إلا إبان عهد جيش التحرير!.

أعاده صاحب الشاحنة إلى نفسه عندما سأله.

- ...؟ بالريفية.

- معذرة - قال له مزيان - لا أتقن التخاطب بالريفية.

- سألتك عن الهدف من زيارتك لبني عمارت...

- آه، بني عمارت؟ سفري؟ أنا ذاهب لرؤية أخ لي هناك، ربما كان أخي يعرف الريفية. أما أنا فلا.

- ومن أين أتيت؟ من أية قبيلة أنت؟

ضحك مزيان ساخرا وقال يجيبه.

- في هذا اليوم بالضبط لا أعرف من أية قبيلة أنا!

رمقه السائق خزرا من زاوية عينيه وقال بجدية بالغة.

- لا تعرف؟!...وما اسمك؟

- اسمي؟!

- نعم! اسمك؟ هل نسيته هو أيضا؟!.

- اسمي مَزْيَانْ.

- مزّيان؟

- لا، مزِيان بدون تشديد.

- قلت بأنك ذاهب لزيارة أخيك في بني عمارت؟

- ربما هو أخي، وربما ليس أخي.

- هل هو ابن القبيلة أو موظف، أو...؟

- لا أعرفه، لم يسبق لي أن عرفته ولا التقيت به أو سمعت عنه حتى.

- أتهزأ بي ياهذا؟ أتظنني بليدا؟

- لا، حاشا أن أستهزئ بك...الأمر جدي، بعيد أن يتخذ هزءا ولعبا.

- غاية في الجدية!

سكت السائق عن الكلام وازداد وجهه احتقانا بالدم. لاحظ مزيان حركات يديه على المقود، ورجليه على الدواسة والكابح. فسكت هو أيضا. وبعد لحظة توقفت الشاحنة.

- أتعرف ياهذا؟...ياأنت؟ أشتغل سائقا منذ عشرات السنين، حملت معي الآلاف في شاحنتي ولم يسبق لي أن صادفت شخصا مثلك...شخصا...

استمر السائق يغمغم بالريفية إلى أن سكت، لم يلتقط مزيان من كلامه إلا كلمة واحدة كررها عدة مرات: «أبو هاري». قال مزيان:

- أعتذر إذا لم يعجبك كلامي.

لم يجب بقبول الإعتذار ولا برفضه.

- وسيادتكم؟...من أية قبيلة أنت؟ من بني عمارت؟

- سيادتنا من قبيلة المريكان!...من حومة الكونغو! ألا يظهر ذلك جليا على وجهي وهيئتي وطريقة كلامي؟...

أرأيت وتأكدت بنفسك؟! لقد سبق لك أن سمعت بأن الريفيين أناس جديون بطبعهم، لا يقبلون المزاح. سمعت ذلك من والدك السي علي، من عمك ومعلمك الوكيلي ومن أناس كثيرين. ها أنت قد أغضبت السائق وأثرته، فكيف ستتفاهم مع ذلك الشخص الذي أنت ذاهب للقائه؟...

وصلت الشاحنة إلى ساحة توجد بها بعض النباتات، ساحة سوق الإثنين. أوقف السائق المحرك ونظر إلى مزيان.

ما كاد مزيان ينزل حتى كان الناس قد تحلقوا حول الشاحنة، ينظرون إليه ويسألون السائق. قرأ مزيان أسئلة عديدة في وجوههم ونظراتهم: من أنت؟ من أين أتيت؟ عمن تبحث؟ كم يوما ستمضي هنا؟ ما اسمك؟...سيل من الأسئلة.

- إدجن أوبوهاري واها![10]

ناب السائق عنه يجيب القوم. كلمة «أبوهاري» وحدها هي التي علقت بذهنه، سمعها جيدا. أخرج مزيان ظرف الرسالة من جيبه، الرسالة التي كتبت في هذه السوق قبل شهور.

- أين هو باعثك أيتها الرسالة؟!

دار مزيان بعينه بين الوجوه والظرف بين يديه. قصد شخصا مسنا وسأله.

- من فضلك ياعم، محمد الأزرق...الجبلي، هل تعرف بيته؟

- أجبري؟![11]

كلام وإشارات باليدين، فهم الإشارات ولم يفهم الكلمات. انتظر مزيان الرجل حتى أنهى كلامه، شكره، ثم حمل حقيبته، وأخذ الإتجاه المشار إليه. تتبعته الأعين من خلفه تشيعه، أحس بها تخترقه كالسهام، استدار على حين غفلة فوجدها كذلك. تابع طريقه.

عجيب أمر سكان البوادي - قال مزيان يحدث نفسه - لا يكاد الغريب يدخل قريتهم من شمالها حتى تسبقه أخباره إلى جنوبها، شتان بين من يدخل المدينة ومن يدخل القرية.

- أنت لست وحيدا يا مزيان، هناك من يتبعك ويقتفي أثرك.

ثلة من الأطفال خلفه، توقف فتوقفوا. أشار إليهم أن يقتربوا، ففعلوا بعد مشاورة. وجه السؤال إليهم:

- بيت الجبلي؟

تحادث الأطفال فيما بينهم، ثم تقدموا مزيان، وأشاروا إليه أن يتبعهم. يسيرون من حين لآخر يستديرون. الأرض حمراء، صخورها صلبة، أشجار اللوز في كل مكان والهواء نقي جاف. مزيان يسير خلف الأطفال وينظر إلى الطبيعة. وبعد مدة توقف الأطفال عند إحدى الشعاب وأشاروا إلى أحد البيوت. فهم إشارتهم، وقال.

- نادولي عليه، أخبروه أني أريد مقابلته.

منزل بسيط.. منزل ريفي تحيط به أشجار الصبار الشوكي.. تتبع الأطفال حتى وصلوا إلى البيت وغابوا داخله. القلب يخفق، والعرق يتصبب من الجبين، علقت عيناه بالبيت...

خرج الشخص المعني ليقف عند شرفة المنزل مع الأطفال الثلاثة.

- آشكون على من كتساقسي ألعايال؟!

صوت كالرعد تصاحبه حركة باليد.

- اقترب أريدك لأمر.

- شانِّي؟!

أشار إليه مزيان بيده. تعال.

- عايان، عايان، هايانا نازل عندك.

قال مزيان يخاطبه في نفسه: ستسمع القبيلة كلها بصوتك.

- يسألني: شاني؟ اقترب أيها المفتري وسأريك شاني إلى أن تصل أيها الجبلي اللعين وأريك، أخاك، ...أنا أخوك؟

- هايانا أخاي ديالي، شاني حبيتي؟، قالها الجبلي ولما يصل بعد إلى مكان وقوف مزيان.

رجل قوي. لحية شقراء، وعيون خضراء... يرى فيه صورته، يرى نفسه.

التقت العيون بالعيون، تسمرت لحظة، لم يستطع الخيط الواصل أن يحتمل فانقطع...

طاحونة زيتون ثقيلة فوق الصدر، دخان أسود كثيف، دقات طبول تقترب وتبتعد، نقط سوداء، وطاويط، حباحب، طربوش أحمر بغل أسود، لحية فقيه وصومعة بيضاء، شفاه تتحرك، يد بيضاء وأياد سوداء، سورة يس، إذا وقعت الواقعة يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي، ملعقة زيت وصوت فيه بحة خفيفة، صور تطفو وتغيب ثم تطفو، أغصان شجرة ووجوه، أصوات ووجوه، وجوه وأصوات، ثقل الطاحونة الصخرية يخف، رائحة البصل والأصوات، برودة على الجبين وسخونة بين الفخدين...

بدأت الذاكرة تعود إلى طبيعتها. غابت أشياء وحضرت أشيــاء...

صيحات اهتز لها المدشر: صيحة فرحة وتعجب وصيحة خوف، أعقبتهما صيحات.

وقف الشخصان ينظر أحدهما إلى الآخر يتفحصه.. استولت الدهشة عليهما، نفس الملامح، نفس لون العينين ولون الشعر والحاجبين. خيل لمزيان أنه ينظر إلى صورته في المرآة، كأنهما توأمان متطابقان. الفرق الموجود بينهما هو اللباس واللهجة، مزيان يلبس بذلة عصرية سوداء، والثاني جلبابا صوفيا. مزيان يتحدث الدارجة بطلاقة والثاني بلكنة جبلية معروفة.

صفعة قوية تلقاها مزيان على مخيلته. زلزلته زلزالا عنيفا، رجة أحدثت شقوقا في الجدار سمحت بخروج ما كان محبوسا ومنسيا. حضرت الصور. اختلط الماضي بالحاضر. ارتمى كل منهما في حضن الآخر. لم يتمالك محمد نفسه فصاح من الفرحة حتى وصل صوته إلى آخر الدوار ولما أحس بجسم شقيقه يتلوى بين يديه ويتهاوى صاح من الخوف يستغيث يطلب النجدة. هب سكان القرية إلى مكان الحادث، تعاونوا على حمل مزيان لبيت والده عبد السلام مددوه فوق فراش وأحاطوا به ينظرون إلى وجهه ويستمعون إلى الكلمات التي تخرج من فمه:

- أيما، أبابا، أمحمد، ماني ثودرم[12]؟ الخذروف، التين والزبيب، الفقيه ذهب، الكلاب والسوق، القطط السوداء والخوف، يما حليمة واللوح، لحية بيضاء تحت شجرة الدردار...!

كلمات لا رابط بينها ولا يحكمها منطق. كالهذيان.

التف حوله الجميع. من حين لآخر كان مزيان ينتفض كالممسوس. صوته يرتفع تارة ويهدأ تارة أخرى. وضعوا بصلا في أنفه، رشوه بالماء... وبعد مدة أخذ وجهه يستعيد طبيعته وبدأت رموشه ترف. أصوات مختلطة، أصوات رجالية ونسوية بالريفية.. بكاء.. حركات، ووشوشات...أخيرا فتح مزيان عينيه على وجوه تراقبه باندهاش.

- أين أنا؟ وماذا حدث؟! ما سبب اجتماع كل هذا الجمع وأي منزل هذا؟...لماذا أنا ممدد هكذا؟ ماذا حصل؟...

- الحمد لله على السلامة والعودة!

- مْزِّيَان، هل استرحت؟

- مْزِّيَان؟

خيل إليه أنَّه يسمع اسمه يُنطَقُ لأول مرة، تملكه العجب لما وجد نفسه يتحدث بالريفية على حين غفلة، الريفية التي لم يكن يعرف منها ولو كلمة واحدة. سأل محمد:

- مْزِّيَان! هل تذكرني جيدا؟

- أنت أخي.

- إنش![13]، سألته وهي تشير إلى صدرها.

- كمين ذعتي، عتي مينوش[14]

- وهذا؟ هل عرفته؟

- هذا عمي، لا شك في أنه عمي. وجهه كوجه أبي تماما.. إنه عمي شعيب.

عرف مزيان وتذكر وجوها كثيرة.

- وهذا؟ هل عرفته؟ انظر إلى وجهه جيدا وإلى شاربيه المفتولين، هذا هو عمك يتحدث الإسبانية بطلاقة أحسن من الإسبانيين أنفسهــم.

أين كان كل هذا مخزونا؟ لماذا لم يتذكرهم مزيان إلا اليوم؟ المنزل بشكله وأركانه يعرفه جيدا، الوجوه يعرفها. واللغة، أين كان كل هذا؟

تذكر مزيان كل شيء؛ شجرة البرقوق والسفرجل، الأبواب الخشبية والنوافذ، الغرف، والدرجتين الصخريتين. طاف بالبيت يتفقده. لم يتغير أي شيء. فقط هناك غياب الأب، والأم، والبغل، وعلوش.

أحس مزيان بقنوط ثقيل في بيت ريفي، البيت الذي رأى فيه النور لأول مرة، ود لو غادر المكان على وجه السرعة والعودة من حيث أتى. صبَّر نفسه وأرغمها على الاحتمال، لم يجد تفسيرا لقنوطه.

- أيجدر بك أن تطاوع نفسك وتنصرف؟! ماذا ستقول عنك أسرتك؟ أقطعت كل هذه المسافة لتبقى ساعات معدودة؟ ألا يكفيك ما غبت؟.

ضغط على نفسه وبقي. في المساء اجتمعت العائلة كلها في بيت عبد السلام. أقام محمد عشاء يليق بعودة أخيه واجتماع العائلة. سمروا إلى آخر ساعة يتحاكون... قال شعيب:

- أبوك يامزيان يا ابن أخي كان أوسطنا، أصغر مني ومن عمتك مينوش هذه، كان قويا عزيز النفس

- كي لاسطيما[15]!، علق أركاز.

- اختفيتم في أحد الأيام على حين غفلة، لم ندر أية طريق أخذتم. جاء الجندي الإسباني بعد ذلك بالتعزيزات. اقتحموا بيتكم، لم يجدوا أحدا، ألقوا القبض علينا وسجنونا...

- إخوس دي بوطا[16]، (كلمات يطلقها أركاز جهرا).

- الكلب علوش وحده هو الذي كان يغيب مدة ثم يعود. ظل يحرس البيت إلى أن أدى مهمته.

خض تفكير مزيان اختلطت عليه الأمور لا يدري هل يتابع حديث أعمامه أو ينشغل بالتفكير في ما حصل له، أو في الأشياء التي كان قد نسيها وتذكرها على حين غفلة...

كل موضوع كان يضغط عليه بقوة ليستأثر بتفكيره وحده...

- بقي الجندي الإسباني يتردد على بيتكم هذا باستمرار، يداهمه على حين غفلة، إعتقد أن أخي عبد السلام سيعود إليه. قال لنا الجندي:«إذا كان يختبئ في الغابة فلا بد أن يمل ويعود إلى البيت، لن يفلت مني!. لم يكن يجد غير كلبكم علوش ذلك الشجاع...

- كان كصاحبه، كلبا ريفيا، قال أركاز مقاطعا أخاه شعيب.

- تضايق علوش من كثرة تردد الجندي وأصحابه على البيت، يداهمونه ويفتشونه أقلقوا راحة علوش إلى أن حل ذاك اليوم الذي بدأ ينزل فيه المطر لأول مرة، آواخر سنة سبع وأربعين...

- ما زال كنعقل، كنا وصلنا إساكن، قال محمد بلهجته الجبلية.

- اعتقد الجندي أن المطر سيرغم عبد السلام على العودة إلى بيته، فجاء يغتنم الفرصة لينتقم، تفطن علوش لنواياه، انقض على الجندي وعضه في ساقه، اختاره هو بالذات من بين باقي الجنود...

استجمع مزيان كل فكره ليتابع الحكاية باهتمام.

- ضربه اللعين برصاصة أصابته في كتفه الأيسر. لم تمته. ازداد هيجانا وانقض عليه ليعضه في فخذه، أطلقوا عليه رصاصة أخرى اخترقت بطنه، لم يسقط علوش ارتمى على الجندي وخدشه في بطنه. أفرغوا فيه خمس رصاصات أصابته في مختلف أجزاء جسمه وسقط.. مات علوش.

- خوذيـر[17].

- كان سيموت سواء قتله الجنود أم لم يقتلوه. انصرف الجندي، لم تمض سوى أيام قلائل حتى جاءنا الخبر، بدأ الجندي يرتعش وينبح كالكلب. نقل إليه داء الكلب.. هل تعرفون كيف كان مصيره؟

تعجب مزيان، تكونت لديه رغبة لمعرفة المزيد فسأله عمه.

- كيف كان مصيره؟

- خافوا أن ينقل السعار إلى باقي الجنود، فعزلوه. صنعوا له قفصا حديديا سجنوه داخله.. لسانه يتدلى ولعابه يسيل.. لم يستطع أحد من أطبائهم المخاطرة بحياته والاقتراب منه، أتوا بخرطوم، فرشوه إلى أن مات في قفصه. وصل الخبر إلى أمي المسكينة فحنت يديها ورجليها.

انتهت قصة علوش مع الجندي الإسباني. عاد مزيان إلى قنوطه وتفكيره. حاول أن يختلق عذرا مقبولا يعتذر به ليغادر القرية ويعود إلى ترجيست ومنها إلى الرباط. وجد أن قضاء الليلة في ذلك البيت شيئا لا يحتمل. ما السبب؟ لا يدري. الوقت يستعجله، إذا نزل الليل ضاعت منه الفرصة. قبل غروب الشمس بوقت قصير كان على وشك أن ينهض ليودع الجميع. وفجأة استدار الحاضرون كلهم إلى باب الحجرة التي كانوا مجتمعين فيها هو وأخوه وأعمامه وأبناء أعمامه...استدار مزيان إلى الباب ليرى فتاة تدخل. فتاة شقراء، فاتنة الجمال، جهيرة، ليست غليظة ولا نحيفة، تلبس قميصا أصفر وسروالا من الدجينس. سكت الجميع وبدأوا يتابعونها بأعينهم. قطعت الغرفة قاصدة مزيان. توقفت على بعد خطوتين منه، وقالت توجه الكلام إليه:

- بونسوار طري زوغوز دو فوكونيطر[18].

- موا أوسي، أجابها بلغتها وهو ينظر إليها مشدوها.

أعطت الشقراء بظهرها لمزيان وانشغلت بالبحث عن مكان للجلوس. لم يقم أحد بتقديمها إليه ، كل ما عرفه عنها هو اسمها، «ماكي». سمع أحد أبناء عمه شعيب يقول: «ماكي جات». انشغل مزيان بالفتاة انشغالا أنساه قنوطه وضيقه ورغبته الملحة في مغادرة المكان والقرية. ماكي؟! بل قل يا ابن عمي إنها فتنة. من أين حلت هذه المصيبة؟ من الذي أتى بك أنت أيضا في هذا اليوم إلى بيت أبي؟ قولي أيتها اللؤلؤة من تكونين؟...ماكي؟ بل حمامة، جهنم أنت، قولوا أيها الحاضرون، من تكون هذه المصيبة؟ قولوا أي شيء وخلصوني، خلصوني جازاكم الشيطان، إياكم أن تقولوا إنها أختي أو بنت أخي، لا تقولوا إنها عمتي أو خالتي. افعلوا أي شيء وخلصوني ما لكم صامتون؟ وما لها تتحدث بالفرنسية؟ من أية جنسية أنت أيتها الحورية؟ إن شتئم ألا تقولوا أي شيء، فافعلوا، لكن اتركوني فقط ألتهمها بعيني. أين كنت يامزيان؟ أين ماضيك وأين مستقبلك؟ ما هذا التشابك وهذا الاختلاط؟ أية دوامة هذه؟ أين كنت؟ ...

قال شعيب بعد سكوت:

- أين كنا؟!

انتبه مزيان من شروده على صوت عمه.

- كنا نتحدث عن انتقام علوش لأخي عبد السلام. نعم، لقد أطفأ علوش نار الحقد التي كانت تتأجج في نفوسنا، خاصة أمي، أمي التي فقدت إثنين من أبنائها وحفيديها وعروستها بسبب الاستعمار. أصبحت بعد غيابكم واختفائكم لا تكف عن البكاء أبدا. كلما حاولت أن أصبرها كانت تقول: «أخذوا مني عبد القادر، وشردوا عبد السلام وأولاده وتطلبون مني أن أكف عن البكاء؟ ماذا فعل الأطفال الصغار حتى يشردهم الاستعمار؟ قلبي يخبرني أنه حصل لهم مكروه، أشعر بذلك رغم بعدهم عني. هيهات لقلب الأم أن يكذب عليها! قلبي يحمل إلي أخبارا سيئة...! تعذبت، لم يبق لها من أبنائها سواي. بعد الاستقلال، ذهبت إلى الحسيمة في شغل مهم. قضيته وعدت، قلت لها والفرحة تغمرني: «سأسافر يا أمي. لقد حصلت على «كونطرادة». سأذهب إلى «برجيكا»[19] حيث سأشتغل وأعود بأموال كثيرة. سأشتري لك كل ما تحتاجينه، سأرسلك للحج، سنبني بيتا جديدا ونغرس أشجارا كثيرة.

كانت تستمع لكلامي وهي تأكل بعض الفواكه أحضرتها لها من سفري للحسيمة، ثم سألتني:

- وأين توجد هذه البلاد التي ستسافر إليها ياشعيب؟ برجيكا؟ أين تقع؟ هل هي أبعد من فيا والناظور؟ أبعد من مالكا؟ مالكا التي يوجد بها أخوك أركاز؟ كانت المسكينة ترفض أن تنادي عبد القادر بغير هذا اللقب، «أركاز». ليتني لم أبح لها بالنبإ قبل أن تنتهي من الأكل.، إذ ما كادت تسمع مني أن برجيكا بلد من بلاد النصارى حتى لفظت ما كان بداخل فمها. بصقت على الأرض، تغير وجهها بسرعة، أخذت تبكي وتنوح: «وآويلي ويالسوء حظي! لقد أخذ مني النصارى أبنائي كلهم، كل واحد منهم أخذوه بطريقة. يا ويلك ياخضرة! لقد أصبحت كالدجاجة التي أكل الثعلب كل فلاليسها! حاولت أن أشرح لها وأفهمها أني ذاهب للعمل وأني محظوظ، قاطعتني، رفضت أن تكلمني حتى أعدل عن فكرة السفر لبلاد النصارى. كانت تقول: «لعتنة الله على الأموال التي ستأتيني من أيدي النصارى، كُلْ خبز الشعير ولا تسافر إلى بلدهم!. تنهد شعيب. نظر إلى مزيان ثم إلى ماكي وتابع الحكي.

- سافرت للعمل في «برجيكا»، حصلت على الأموال، لكني ضيعت في المقابل ما لا تستطيع أموال الدنيا كاملة تعويضه. ياليتني كنت عملت بنصيحة أمي...

قاطعه مزيان سائلا:

- وهل لا تزال تعمل في بلجيكا يا عــم؟

- لا، الحمد لله، لقد عدت نهائيا. بلغت سن التقاعد وعدت قبل شهر واحد فقط، كفاني ما ضيعته هناك.

- وأنت يامزيان يابن أخي، أين كنت طوال هذه المدة؟ - سأل أركاز - لو كنت أعرف أن لي ابن أخ مثلك لكنت بحثت عنه في الشرق والغرب إلى أن أجده.

- احك لنا أخاي ديالي، فاين كونتي؟

حضر طعام العشاء فتوقف الحديث. التف أفراد العائلة حول الموائد. جلس الرجال مع الرجال والنساء مع النساء، ووحدها الشقراء لم تجلس مع هؤلاء ولا مع أولئك. اختلت وقعدت تتناول عشاءها بمفردها... سأل مزيان:

- لماذا جلست تلك الفتاة منفردة؟

لم يكن سؤاله موجها لأحد. كان موجها للجميع، لمن يستطيع الإجابة، فقال شعيب بعد لحظة صمت:

- تلك الحمقاء؟ لو طاوعتُ أمي لما رأيتَها هكذا، ألم أقل لك أني فقدت ما لا يمكن للأموال أن تعوضه؟

لم يجرؤ مزيان على السؤال ثانية. قاوم رغبته، لكنه كان كالجالس فوق جمر متقد. عيناه لا تزيغان عنها لحظة. انشغل بها إلى أبعد الحدود.

من تكون هذه المصيبة البيضاء؟ من يستطيع مقاومة نفسه إذا وقعت عيناه عليها؟ لماذا ينعتها عمك شعيب بالحمقاء؟...حمقاء؟ إذا كانت كل جميلة مثلها حمقاء فأنعم به من حمق ولا دمت ياعقل.

سمرت العائلةحتى الفجر يتحاكون، سمعوا قصة مزيان حكاها لهم، منذ أن تخلى عنه أبواه إلى أن توصل بالرسالة، إلى مجيئه وحدوث ما حدث. وقبيل الفجر تفرقت العائلة؛ انصرف الأعمام إلى بيوتهم، فانفرد الأخوان محمد ومزيان لبعضهما وسأل مزيان أخاه:

- محمد؟ قل لي: أين كنت ولماذا لم تكاتبني إلا الآن؟ أين أبي وأمي؟ لماذا تتحدث باللهجة الجبلية؟

- تلك قصة أخرى، إذا شرعت في حكايتها لك فلن أتمكن من إتمامها قبل الغد. نم قليلا وغدا سأحكي لك كل شيء.

- سؤال آخر أخي، من تكون ماكي تلك الفتاة الشقراء التي تتحدث بالفرنسية‎؟

ضحك محمد ضحكة عالية وقــال:

- لقد أضحكتني يا أخي مزيان، ماكي! حتى أنت؟! إنها ماجدة بنت عمي شعيب. إسمها الحقيقي ماجدة، أخواها يناديان عليها كذلك، نم قليلا وغذا ستعرف كل شيء.

حاول أن ينام، لكن ذهنه كان مشغولا بأشياء كثيرة من بينها ماكي.

- III -

- تسألني أين كنت وتلومني لأني لم أبحث عنك؟

- نعم - أكد مزيان - لماذا تخليتم عني؟ ثم إذا كنت قد نسيت من أنا فأين كنتَ أنت طوال هذه المدة؟ ربع قرن من الزمـن؟!

تغيرت ملامح وجه محمد، غطته كآبة سودءا.. تنهد وقال:

- مهلا عليك يا مزيان، لا تبالغ في اللوم والعتاب، قد تعذرني إذا عرفت الحقيقة، هل تعرف أين كنت؟

- ذلك هو ما أود معرفته.. يهمني جدا أن أعرف.

سأل محمد بصوت حزين:

- ومن أين أبدأ لك؟

- ابدأ من أي نقطة، المهم أن أعرف.

كانا يجلسان تحت شرفة بيتهما يتناولان طعام الفطور، استوى محمد في جلسته، وضع كأسه وأسند ظهره إلى الجدار، أدخل إلى رئتيه نفسا عميقا حتى انتفخ صدره، انطلق بصره بعيدا في الأفق، خيم سكون ثقيل قبل أن ينفتح فمه.

- أعتقد أن أبي كان صائبا في قراره عندما تخلى عنك في ذلك المسجد في تغزوت...

قال مزيان مستنكرا:

- تركتموني طفلا صغيرا كفرخ بلا زغب، تركتموني للجوع والبرد والضياع؟!

لم يدر محمد بما يجيب، تضاعف حزنه، حرك رأسه يمينا وشمالا، تجنب النظر إلى مزيان وأخذ يحكي:

آخر الصور التي أحتفظ بها في ذاكرتي لأبي وأمي صور ضبابية فقط لكنها موجودة، ذلك أني كنت طفلا صغيرا، وفي حالة مَرَضية لا يمكن لي أن أصفها لك مهما حاولت، انتهى بنا المطاف بعد عذاب أليم إلى إحدى البراغي في قبيلة بني...

- مهلا! مهلا! ما معنى البراغي؟

- البراغي جمع برغة، يعني النوالة، هكذا يسمونها في «بني حسان». كانت أحوالنا... لايمكنك يا أخي أن تتصور حالتنا، طربوش أبي الأحمر بهت لونه، جلبابه تقطع، وأصبحت تنتابه حالات خرف كثيرة. تقوست رقبته وأقسم السعال ألا يفارقه حتى يزهق روحه. أما أمي فلو أتيحت لك الفرصة كي تراها فكن متأكدا من أنك لن تعرفها، ستنكر أنها هي، سيستحوذ عليك الفزع الشديد من منظرها وستولي فارا. كن متأكدا من أنك لن تعرفها، ستنكر أنها هي، سيصيبك الرعب من منظرها وستدبر فارا.. كنا نقتات بأي شيء نعثر عليه في الغابة، بالضار والنافع، بل بالضار.أكثر من النافع.. وهنت قواي وذهبت في غيبوبة، فقدت الإحساس بما هو حولي، حتى الشعور بالألم فقدته... ولما فتحت عيني بعد ذلك وجدت نفسي في دار «القشقاشي». قيل لي بأنهم عثروا علي شبه ميت في تلك النوالة، وأنه لو تأخروا في العثور علي لكنت مت. انصرف أبي وأمي وتركاني كما تركناك في ذلك المسجد. أخذ الناس يسألونني عن إسمي، يسألونني عن إسمي وإسم أبي وقبيلتي و، و، و، لم أكن أعرف بماذا أجيبهم. كيف لطفل في مثل سني أن يعرف! كل ما تذكرته هو إسمي محمد. ولما كنت مجهول الأب والنسب أصبح الناس يلقبونني «بابن الغابة»...

- ابن الغابة؟ !

- نعـم! ذاك هو اللقب الذي أُعرف به في بني حسـان.

- ولماذا أطلقوا عليك لقب ابن الغابة.

- لأننا أقبلنا على بني حسـان من الغابة التي مكثنا داخلها مدة، وبعدما شفيت عدت للعيش ثانية في الغابة، قضيت بها أكثر من عشرين سنـة.

- وماذا كنت تفعل في الغابة كل هذه المدة؟!

- العمــل!... تعاقدت مع القشقاشي. اتفقنا على أن أرعى له ماعزه. أجرتي تيس أو عنزة كل سنـة بالإضافة إلى جلباب كل سنتين وخبزة في اليوم.

- نِعْـمَ الاتفـاق!

- كنت مضطرا للعمل في أي عمل كي أعيش، انقضى العام الأول. انتظرت انقضاءه بشغف كي يكون لي تيس، فإذا بالقشقاشي يأتيني محاولا التحايل علي ومساومتي. كان يريد أن يدفع لي أجرتي نقدا وليس تيسا أو عنزة كما اتفقنا. حاول معي بكل الوسائل.. حبب إلي الدراهم، ولكني إنسان بدوري وابن فلاح. ولدت في بيت كان فيه ماعز وبقر ودجاج وبغل، لذلك كنت أتطلع بشوق كبير إلى اليوم الذي يكون لي فيه تيس. قلت للحاج القشقاشي: ماذا سأفعل بالنقود وأنا أقضي كل أوقاتي بين الجبال والغابات؟ قال لي: سأحتفظ بها لك عندي. رفضت فأعطاني تيسي، وفي السنة الموالية أعطاني عنزة.

- وبدأت تروثك تنمـو؟!

- أنصت لي ولا تقاطعني، المهم هو حياتي بين الغابات. كانت جد مفيدة بالنسبة لي، جعلتني أخبر الطبيعة وأعرفها عن قرب...

تفحص مزيان هيأة أخيه جيدا، فلاحظ أنه أتيس، كفاه ثَفِنَتَانِ، صوته أجش، لكن وجهه صورة طبق الأصل لوجهه هو، وخاصة قوة الأسنان وبياضها.

- عرفت الطبيعة، درستها دراسة مدققة، حفظت المنطقة بجبالها وشعابها وأوديتها وخوانقها وجداولها، بأشجارها وحيواناتها وطيورها، صرت أعرف متى يورق هذا النوع من الأشجار أو ذاك، أنواع الثمار، فوائدها الغذائية للماعز وللأبقار، هل هي مفيدة أو ضارة، سامة أو غير سامة، هل تغير طعم الحليب واللبن أم لا، أصبحت أعرف أنواع الأعشاب المداوية، النوع الذي يصلح لكل مرض، أعرف موعد تكاثر الوحوش والطيور... تكونت بيني وبين هذه البيئة، بجمادها وأحيائها علاقة وطيدة، فصرت أفهم أصوات الطيور والحيوانات... باختصار فقد صرت إنسانا خاصا، لا أعرف المراء والمداراة، أرعد وأجهم إذا أثارني أحدهم كما ترعد وتتجهم الطبيعة في الشتاء، وأنشرح وأفرح كما تنشرح الطبيعة في الربيع، رفاقي كلب وناي وقطيع من الماعز. لم أكن أغادر قبيلة بني حسان إلا مرة واحدة في السنة، في شهر شعبان، أغادرها إلى ضريح مولاي عبد السلام، أتبرك به وأدعوه كي ينير لي الطريق ويدلني على قبيلتي.. يهديني إلى معرفة قبيلتي...

- وهل حقق لك المولى عبد السلام أمنيتك؟

- لا تتعجل! مولاي عبد السلام غير بعيد عن قبيلة حسان. يحج إليه الزوار من كل مكان، يقال أن الشخص الذي يزوره سبع مرات متتاليات ينال أجرا كبيرا، أجرا يعادل الحج، يقصده الفقير لطلب الغنى، والعقيم لطلب الذرية، والعليل للاستشفاء، والمظلوم لأخذ حقه من الظالم، يقصده ذووا الحاجة المتعسرة... أما التجار فيتخذون موسمه مناسبة للبيع والشراء.. أما أنا، فلا أكتمك يا أخي مزيان، سأبوح لك بسـر.

بقي مزيان مشدوها يتابع حديث أخيه، ذهب القنط الذي سكنه بالأمس كما ذهبت الرغبة الملحة في مغادرة القرية.

- أي سر تريد البوح به يا أخي محمـد؟

- لولاه، لولا مولاي عبد السلام - نفعنا الله ببركته - لما اجتمعنا أنا وأنت ثانية في بيتنا هذا، يجب أن نعترف ببركته.

- تقصد أنه هو الذي جمعنا ببعضنا؟

- ما في ذلك أي شك.

- كيف؟ هل زارك في المنام ودلك على بيتنا وقبيلتنا؟

- إذا كان الناس يزرونه سبع مرات كي تقضى أغراضهم فأنا زرته حوالي عشرين مرة. لم أكن أطلب منه سوى شيء واحد، هو أن يرشدني إلى أهلي وقبيلتي، أن أعرف لقبي كي يكف الناس عن تسميتي بـ«ابن الغابة».

مولاي عبد السلام يعمل ما فيه مصلحتك يا مزيان من غير أن تعلــم.

- قل لي يا أخي مزيان، أخبرني كيف سيكون حالك وماذا تفعل إذا وجدت نفسك على حين غفلة متبوعا بعجوز في السبعين من عمرهـا أو أكثــر؟

- ماذا تعنــي، تتبعك؟!

- يعني أينما ذهبت تقتفي أثرك، تجري وراءك، تراقبك بعينيها كي لا تفلت منها

- أين ومتى حدث هـذا؟

- في مولاي عبد السلام! قل لي كيف سيكون رد فعلك؟

- تصَنَّعَ مزيان الجدَّ وقال:

- قلت إنها فتاة في السبعين... سأطلب منها عنوانها وأبعث بمن يخطبها لـي.

ضحك محمد حتى استلقى على قفاه وبانت أسنانه المتراصة، ثم عاد لجديته وقــال:

- قلت لك إنها عجوز في السبعين، موشومة الوجه واليدين، مقوسة الظهر، أطرافها ترتعش، تستعين على المشي بعصا طويلة، بشرتها كمشتها السنين ورسمت فوقها خرائط من التجاعيد، لكن نظراتها ظلت حادة وثاقبة.

- لقد شوقتني يا أخي محمد، إنها كاملة الأوصاف، أتعرف عنوانهــا؟

- يظهر أنك تحب المزاح يا مزيان.

- لكنك لم تقل لي من تكون تلك العجوز؟

- لقد أدخلت الرعب إلى نفسي لما وجدتها تتبعني في ضريح مولاي عبد السلام، أينما أذهب تتبعني ولا تريد فراقي، أجري، فتجري ورائي مستعينة بعصاها، أندس بين الناس في الازدحام فتندس ورائي، أتظاهر بالحاجة للدخول إلى أحد المراحيض فإذا بي أجدها أمامي تنظر إلي نظرات خاصة، لصقة عجيبة! حيرتني وأخافتني.

- لماذا تحار وتخاف؟ إسالها عن مرادها وتخلص منها، فربما كانت معجبة بك وبشبابك!

- يبدو يا مزيان أنك نسيت ما حكيته لك عن طبعي، قلت لك إني عشت بين الغابات وليس لي تجارب كثيرة في الحياة. خفت منها، وسوس لي الشيطان في رأسي، قال لي:

«احذر هذه العجوز، فهي ساحرة خطيرة، جنية متقمصة جسد إنسان، تريد الاقتراب منك لتسحرك وتسكنك». كدت أن أصيح بأعلى صوتي أستغيث، لم أقدر. قلت مع نفسي: ما هذه المصيبة يارب؟ ماذا تريد مني هذه العجوز؟ أي شر ينتظرني منها؟ ما السبيل إلى التخلص من شباكها؟ أجئتُ لزيارة مولاي عبد السلام طالبا بركته أم أتيتُ لأجد نفسي متبوعا بعجوز في السبعين؟ نفذ صبري وصبرها لم ينفذ. توجهت إلى صاحب الضريح، رفعت كفي إلى السماء أطلبه وأتوسل إليه أن يخلصني منها ومن شـرورها.

- وهل استجاب لدعائــك؟

- يئست وتعبت من الجـري، فقلت في نفسي: ما لي خائف منها إلى هذا الحـد؟ كيف يمكن لعجوز أن تخيفني؟ قوتها وهنت، وأنا في كامل قوتي وشبابي، سأتوقف وأرى ما تريد، شريطة ألا أتركها تمسني بيديها، وإذا حاولت أن تفعل فالويل لها مني، سأصرعها.

سأل مزيــان: تصرعها؟!

- ذلك ما كنت نويت فعله. اتجهت إلى مكان فسيح أستدرجها إليه، شمرت على ساعديَّ وقفت انتظرها في كامل الاستعداد، أطرافي ترتعد. اقتربت العجوز، عيناها لا تفارقني، استحوذ علي خوف لم أشعر بمثله أبدا حتى يوم كنا ننام في المقابر والأسواق. اقتربتْ مني حتى صارت على بعد خطوتين، توقفت واتكأت على عصاها بيديها، سكتت تسترد أنفاسها المقطوعة وعيناها تلمعان.

- شَكْ ذَ مْحَمَّذْ؟![20]

صعقت لسماع صوتها وهي تسألني بالريفية تريد التأكد من إسمي. أخرست، لم أقـو على الإجابة، اهتز جسمي كله.

- شك ذ محمـذ...ذ مميس نعبسرام؟![21]

كررت السؤال ثانية. ابتلعت ريقي الذي جف، حركت رأسي، وقلت:

- واه، واه، نش ذ محمد إميس نعبسرام[22].صاحت العجوز بأعلى صوتها.. زلزلني صياحها.. اجتمع الناس حولنا.

- أيفروخ!... ماني ثودرذ؟ أينش تويا قاع[23]!

تعجب مزيان فاقترب من أخيه أكثر وسأله:

- من تكون هذه العجـوز؟

- إنها خالتي «هلاليـة»، تسكن هنا في القرية، سأعرفك عليها فيما بعد. بعد الحديث الذي دار بيني وبينها أخذت المسكينة تنوح وتصيح وتلطم خذيها. ارتميت عليها أتمسك بها خوفا من أن أفقدها؛ كنت خائفا منها فإذا بي أصير خائفا عليها. لولاها لكنت لازلت أرعى الماعز في الغابة ولما كتب لنا (أنت وأنا) أن نجتمع.

- تمورث نثفجاحت نكوم وينت ميدن، ثمورث، تمورث[24].

- ذكرتني بالأرض، سألتها عمن أنا، وعن اسم قبيلتي، وعن الطريق التي يجب علي أن أسلكها... كشفت لي عن إسم القبيلة والدوار، حفظتهما عن ظهر قلب، نقشا في ذاكرتي نقشا.. عدت إلى بني حسـان في اليوم نفسـه.

- ولم ترافقها؟

- والثروة؟ ثروتي، ماذا أفعل بها؟ ثروتي التي كونتها هناك.

- عن أي ثروة تتحدث؟

- خلال مقامي الطويل في بني حسـان، اجتمع لي تسعون رأسا من الماعز، صار قطيعي أكبر من قطيع الحاج القشقاشي.. ورغم ذلك لم تتغير نظرة الناس إلي. بقيت في أعينهم ابن الغابة، وبقي الناس هم الناس... تخلصت من الماعز. بعته بثمن زهيد، وأسرعت بالمجيء.

- ومتى حدث هــذا؟

- قبل سنتين فقط. فكرت في أن أسوق الماعز إلى هنا، ولكني خشيت أن أتيه في الطريق، أو أستغرق زمنا طويلا وأتأخر عن الوصول.

- لا، لن تستغرق أكثر من سنة أو سنتين.

- أنت تخلط الجد بالهزل يا مزيان. لو كنت فعلت ذلك لما تكمنت من مقابلة ذلك الدراز الذي حمل إليك الرسالة، هذه هي القصة.

- لكن لماذا لم تكتب إلي فور عودتك؟

- لم أتذكر إسم القبيلة التي تركناك فيها - تغزوت - إلا عندما سمعت إسمها من الدراز.. الاعتقاد الذي كان لدي هو أنك قد مت.

- فعلا كنت مت، والفضل في عودتي إلى الحياة يعود إلى أبي السي علي.

أطرق مزيان لحظة يفكر، ثم ســأل أخاه:

- وأبي؟ وأمي؟ لم تحك لي عنهما أي شيء!

زم محمد شفتيه، هز رأسه وقال:

- لا أعلم عنهما أي شيء، سألنا عنهما كثيرا، هناك من قال لعمي شعيب أنه رأى أبي في الناضور، وهناك من قال أنه شاهده في تطوان، وهناك من ادعى أنه رآه في مراكش... ذهب عمي أركاز لهذه المدن... سألوا وبحثوا عنه، لكنهم لم يعثروا على أي أثر له...

- أتعتقد أنهما لا زالا على قيد الحياة؟

- لا أدري، وأنت؟

- لدي إحساس خاص.

- نهض الأخوان، وكان الوقت يقترب من منتصف النهار موعد ذهابهما لبيت عمهما شعيب لتلبية دعوته لهما.

- أتعرف يا أخي محمد أني قد اشتقت كثيرا لعمي شعيب وأني متلهف على رؤيته في أقرب وقت ممكن؟

لفَّهُ محمد بنظرة خاصة، وأجابـه:

- هل اشتقت لعمي أم لماكي؟

- إليهما معا.

- ذلك ما لاحظته منذ الأمس، لكن قبل أن نذهب لبيت عمي أريد أن أطلعك على شيء، سأريك أرضنا أنا وأنت، الأرض التي تركها لنا أبونا.

اخذ محمد يشير بأصبعه إلى الحقول المزروعة بالفول والجلبان والشعير وهو يتحدث. أما مزيان، فكان يتابعه بعينيه فقط، ذهنه كان مشغولا بالتفكير...

من كان بوسعه أن يصدق؟ حتى الأمس فقط، من كان يصدق أنك تمتلك أرضا هنا في هذه القبيلة؟

هل كنت تصدق أن لك هنا أخا وأعماما وأخوالا؟!

- تحركا وأخذا الطريق لبيت شعيب. أثناء سيرهما سأل مزيـــان:

- احك لي عن ماكي بنت عمي.

الحقيقة أن ماكي بنت غريبة الأفكار والتصرفات. إنها كالنصرانية تماما. عمي شعيب قلق جدا من سلوكاتها. يعيش معها في صراع ومشاكل، لا تشبه بنات القرية في شيء، دائما ينعتها بالحمقاء... باختصار، إنها غريبة بين أهلها.

- لكنها جميلة، أليس كذلك؟

- من هذا الجانب أنا متفق معك، ولكن يا أخي مزيان عليك أن تعلم أن تكـون الفتاة جميلـة ليس هـو أن يكون لها وجـه جميـل، وقد رشيق، وشعر ذهبي، وشفاه رقيقة حمراء، وأنف صغير، وعينان حالمتان...

- الله، الله.. أتمم أخي محمد.. أتمم لا فض فوك...أرى أن الغابة قد علمتك أشياء كثيرة.

- IV -

وجداها جالسة قرب المنزل فوق صخرة تحت ظل شجرة لوز، تلمع، تخطف البصر. تجاهلها محمد وقصد المنزل. أما مزيان فقد انجذب نحوها. آية، رائحة أزهارها عطرة، بياض فاتن، عنقها يثير الشهـوة...

أجابته عن تحيته الصباحية وهي لا تكف عن مداعبة خصلات شعـرها المذهب:

- بونجور مزيان.

خرجت الكلمات من بين شفتيها الرقيقتين نغمة موسيقة، نغمة لم يلحنها فنان. طربت أذنه، سُرَّت عيناه، اهتز... رؤيتها تحت ضوء الشمس أجمل بكثير من رؤيتها على ضوء المصباح الغازي ليلة أمس. أي بياض وأي شعر؟! تناسق كبير في الأعضاء، سبحان الخالق! سبحان الخالـق!

لأجل أن يسمع صوتها يسألها عن أي شيء، المهم أن تحرك شفتيها. نسي مزيان نفسه أمامها ، نسي عمه وأخاه وكل شيء.

قالت ماكي:

- أبي في الداخل يسلخ خروفا «قتله» بوحشية وهمجية الشعوب البدائية، «أسَّان ويايا»[25] يتفرجان عليه وأمي في المطبخ.

- وفي بلجيكا؟! كيف تحصلون على اللحم؟

- نشتري اللحم من عند الجزار.

- وكيف وجدت القرية؟ هل راقتك؟

توقفت عن مداعبة شعرها، جمعت ركبتيها، عبست، هزت كتفيها ونطقت:

- لقضاء أسبوع أو أسبوعين، لا بأس... يمكن احتمالهما... لكن شهر، لا، C’est trop!

أخذه العجب. تذكر حركاتها لما دخلت عليهم ليلة أمس: يداها في جيبيها، خطواتها، وطريقة تحيتها له، نعت أبيها إياها بالحمقاء...

- لم أفهم... ماكي!

- تفهـم ماذا؟ C’est simple!، أرغب في العودة إلى بلادي.

- لكن عمي قال إنكم قد عدتم نهائيا إلى المغرب.

- هم وحدهم عادوا نهائيا، pas moi!

هل صدقت ما قاله لك أخوك محمد؟ ألم يقل لك إنها «ملعوقة»؟ غريبة الأفكار والتصرفات. ماذا تحمل الفتاة في دواخلها؟ أي مرض أصابها؟ لا شك في أن بعقلها خلل... لكنها جميلة إلى حد الفتنة. أيمكن لهذه المخلوقة أن تجمع كل هذا؟ لا تستعجل... اعرفها أولا، جادلها، وناقشها قبل أن تحكم، وإن اقتضى الحال جابهها وقارعها بمنطقها، المهم أن لا تستسلم.

- ألا تأتين لندخل إلى البيت؟

يسيران جنبا لجنب، قامتها الرشيقة بطول قامته رغم أنها لم تتم الثامنة عشرة بعد، خطواتها رقصة متناغمة، تمشي متنصبة، مرفوعة الرأس، أطرافها تتحرك بحرية. قوة خفية تجذبه إليها، مغناطيس، تيار لا يقاوم. فما أن احتلا بجسميهما مدخل المنزل حتى ارتفع صوت عمه شعيب مرحبـا.

- مرحبا بابن أخي مزيان.

تجاهلت أباها ومحمد كأنهما غير موجودين، مالت يسارا نحو المطبخ. تعانق مزيان وعمه شعيب، فسمعه يقول له:

- قل لي يا مزيان كيف استطعت أن تكلم تلك الحمقاء وتحلل عقدة لسانهــا؟

- أصلحها الله يا عـم.

قل له إنها ليست حمقاء، قل له إنها فتاة رائعة. لاتخف، فهو عمك. لا شك في أنه متحضر، لا شك في أنه قد تأثر بالأوروبيين أثناء مقامه هناك... في أوروبا يسعدهم أن تتغزل بزوجاتهم وبناتهـم...

- وعمي أركاز؟ ألم يحضر بعـد؟

تراه في الطريق، سيكون هنا بين الفينة والأخرى. مواعيده جد مضبوطة. هيا نجلس.

أمسك شعيب مزيان من يده واتجها معا إلى سقيفة مفروشة بالزرابي والمخدات، طاولة مستديرة فوقها صينية امتلأت واجهتها بلوازم الشاي، وآلة تسجيل ومذياع. أغلب التجهيزات مستوردة من أوروبا. وعند مدخل المنزل حيث كانت تجلس ماكي رأى سيارة ميرسديس حمراء لوحة أرقامها مكتوبة باللون الأحمـر.

«الملعوقة»، الحمقاء، المجنونة، لسانها معقود العودة إلى بلادي! كلمات مرت بخياله متلاحقة.

قال شعيب: ليتني كنت سمعت كلام أمي...

ماذا سيقول لك هذه المرة؟ يبدو أنه لم يسمع كلام أمه أبدا. نظر مزيان إلى وجه عمه متعجبا متسائلا.

- كانت على صواب عندما وقفت في وجهي تمنعني من الذهاب إلى بلجيكا. لو طاوعتها لما رأيتني اليوم أعيش في مشاكل مع أولادي. آراء الوالدين، يا مزيان، يا ولدي، يجب على الإنسان أن يتبعها ويعمل بها حتى ولو ظهرت في البداية مجانبة للصواب...

- سيكبرون يا عـم وتنتهي مشاكلهم، الأولاد زينة...

- أتعرف بماذا تنعتني تلك العاقة المتمردة التي تنحدر من صلبي؟... تقول عني دون أن تستحيي: «متوحش، متخلف، أمي، غير منظم...» هل هناك مغربي يرمي والديه بمثل هذه الأوصاف؟

لم يجد مزيان كلمات ليجيب بها عمه، فيما لازم محمد الصمت.

- اشتغلت هناك سنة ثم عدت إلى هنا كي أتزوج. كانت أولى ثمرات زواجي. كانت في صباها رائعة وجميلة.. لما كنت أسافر وأتركها هنا كانت صورتها لا تفارقني أبدا.. شوقي إليها كان نارا.. لم أطق فراقها.. مللت من حياة الوحدة.. أخذتها معي وأمها كي يؤنساني في وحدتي. أدخلتها لدار حضانة الأطفال، فالمدرسة الابتدائية والثانوية... هي الآن تتحدث بعدة لغات: الفلامانية، والفرنسية، والإنجليزية... تتفاهم مع الألمان والهولانديين، والدانماركيين... زارت كل البلدان الأوروبية تقريبا، اليونان، النرويج، إيطاليا، سويسرا، دون الحديث عن فرنسا وإسبانيا... لكن ياخسارة!

من أين لك أن تقدر عليها يا مزيان؟! احسب أوراقك جيدا.

- تعلم اللغات يا عم شيء جميل ومفيد، مزية وليس عيبا، والسياحة أفيد. إنها فتاة محظوظة.

صـاح بعصبية وصوت عال:

- وأين الريفية؟! وأين العربية؟ أين الأصل؟ تكتب اللغات الأجنبية وتقرأها، لكنها لا تعرف ولو حرفا واحدا بالعربية، هَـهْ؟! «مْوَا كُونِيطِرْ بَارْلِي فرَانْسِيسْ، وي، مْوَا طْرَافَايِّي لاَ بَا، بُّو بَارْلِي بُّولِيتِيكْ، طُّو، سُوسْييطِي، مْوَا وي» ، لكن أختي مينوش أين لها أن تعرف هذا، ورغم ذلك لا تكلمها إلا بالفرنسية.

- وأين كنتم تقضون عطلكم السنوية؟ ألم تكونوا تأتون للمغرب؟

- بلى، هنا في المغرب، وبالضبط في القرية، ولكن ماجدة لم تكن تأتي معنا، لم تكن تأتي بسبب طبيعة عملي. كنت أشتغل هناك في شركة لصنع المشروبات، لذلك كان موعد عطلتي السنوية لا يتزامن مع موعد عطلتها هي، كنت آخذ عطلتي دائما في فصل الشتاء، في الوقت الذي تكون فيه هي مشغولة بالدراسة، وفي فصل الصيف عندما تكون هي في عطلة أكون أنا في العمل، ولهذا أيضا كانت تسافر إلى الدول الأوروبية مع صديقاتها.. لو كنت أعرف أن النتيجة ستكون هكذا لكنت قومت اعوجاجها - محركا يديه علامة على الضرب - وليكن ما يكون.. هل تعلم أن عددا كبيرا من الآباء وصلوا مع أبنائهم هناك إلى حد إيداعهم في الكوميساريا؟...

دخل أركاز، قطع شعيب كلامه في موضوع ماكي وأوروبا، انشغلوا بمواضيع أخرى. وفجأة خيم صمت على الجميع، واستداروا إلى صوت ينبعث من المطبخ:

- ميـرد، ميرد، ميـرد، فوطي موا لابِّي.

قال أركاز:

- ماذري ميا! كاياطي نينيا، كي كارا طينيس إيخا؟![26]

تكهرب الجو فجأة، صعد الدم إلى رأس شعيب، إلى عينيه وأذنيه، وقف واتجه نحو المطبخ. علم مزيان بنواياه، فتبعه. ظهرت ماكي وأمها. وجه أمها اصطبغ بلون أصفر، أما هي فكانت عادية باستثناء مسحة خفيفة من القلق على وجهها.

اتجه شعيب بالكلام لزوجته أولا:

- ماذا هناك؟ et toi, qu’est-ce que t’as? أبمثل هذه الألفاظ يستقبل الناس أفراد عائلتهم؟! أما خجلت من نفسك؟!

رفع يده إلى السماء، لكن مزيان كان أسرع منه، أمسكه واستعطفه. تذكر مزيان مشهدا قديما، مشهدا وقع في مسجد تزرين قبل ربع قرن...

- إنها (أمها) ترغمني، تريدني أن أضع كحلا على عيني، وأن أخلع سروال الجينز وألبس تنورة.. إنها تعرف أنني أتوفر على كحلي وسواكي في حقيبتي.. فيما يخص لباسي، فأنا حرة.

ازداد وجه الأم احمرارا، فخفضت رأسها إلى الأرض.

- بدل أن تساعدي أمك في المطبخ، فتتعلمي منها فن الطبخ... تحدثين فوضى؟

- لا حاجة لي لتعلم طبخكم، سآكل في المطاعـم.

- هيهات! وأين المطاعم هنا؟

- أعد لي جواز سفري.. أحذرك.. أنا لست من الفتاة أو النساء اللائي يعشن حياتهم تحت سلطة الرجل؛ الأب، والزوج، والأخ، ولست أدري... أعد لي جواز سفري.. أنا لم أولد لأكون سلعة كنسائكم وأمهاتكم اللواتي لا شغل لهن إلا الإنجاب...

- جواز سفرك؟! - قال شعيب - نجوم السماء أقرب إليك منه.. إنك تحلمين يا عزيزتي، تجرين وراء السراب.

- أنا بلجيكية الجنسية ولست مغربية...

- إنها تريد العودة إلى بلجيكا - موجها الكلام إلى مزيان - أتقوى على تصديق هذا يا ابن أخي؟ حصلت على جواز سفر بلجيكي، فإذا بها بلجيكية...

- إذا لم تعد لي جواز سفري فسأسجل شكاية ضدك، سأكتب إلى الحكومة البلجيكية.

- من هذه الناحية أنت حرة، اكتبي وسأتكلف بنقل الرسالة إلى ترجيست وإيداعها في البريد، لكن جواز السفر لا، لا يا حبيبتي، لن يصبح أبوك أضحوكة في القبيلة.

- أريد فقط أن أعرف، ما دخلكم في حياتي؟ وما شأني أنا بعاداتكم وتقاليدكم؟ أنا أرفض الخضوع لأي سلطة ضاغطة أيا كان مصدرها. أنا حرة.. حرة.. هل تعرفون ما معنى الحرية؟

- اسكتي يا بنت - قالت أمها - كفي عن مخاطبة أبيك بهذه النبرة المتحدية.

- أنت، أنت التي أغريتني بالمجيء إلى هنا. قلت لي: شهر واحد ونعود.. أنا لا أفهم لماذا تخشون قول الحقيقة. لماذا لم تقولي لي صراحة بأنكم تزمعون العودة نهائيا للمغرب؟! لماذا؟! لماذا؟!...

قاطعها أبوها وهو يضرب الأرض برجليه:

- اسمعي، ماجدة، ابنتي، أنت ريفية ومغربية، من هنا، من هذه الأرض.. هنا رأيتِ النور لأول مرة، وهنا ستموتين.. جواز السفر الذي تحلمين به قطعته ومزقته تمزيقا...

- ولكني بلغت سن الرشد، لم يبق لي سوى ستة عشر يوما...

- أنت هنا قاصرة، وستظلين قاصرة حتى ولو كنت في سن التسعين.

عاد شعيب ومزيان للجلوس مع أركاز ومحمد، وتركاها تغمغم بالفلامانية والفرنسية. لا أحد عرف ماذا كانت تقول، أكانت تسب وتلعن أم ماذا؟

نسي مزيان نفسه في قريته الأصلية. زال الضيق الذي كان يحس به في اليوم الأول. أخذت الأيام تنساب بسرعة. ضيافات.. عشاء عند هذا العم، غذاء عند هذا، وفطور عند ذاك، من بيت لبيت.. لم يعد مزيان ذلك «الأبوهاري». أصبح مزيان بن عبد السلام، ابن القرية، وصاحب ذلك البيت وتلك الأرض. شغلته ماكي وازدادت رغبته الملحة في التعرف عليها أكثر.

قالت له خلال إحدى الجولات بين الحقول رفقة أخويها حسن ويحيى:

- لقد صدمتني الحقيقة التي كنت أجهلها.

- أية حقيقة؟

- قبل المجيء إلى المغرب، كنت أحمل أفكارا عن المجتمع الريفي.. كنت أعتقد أنكم هنا تتمتعون بحرية أكثر ما يتمتع به الناس عندنا «هناك»...

- الحرية؟!

- أقول إن الإنسان الفرد «عندكم» مسلوب الحرية، ذائب في الجماعة. الأنا لا مكان لها، ولا وجود لها إلا داخل الجماعة.. وجود المرء رهين بوجود المدشر والقبيلة.. وفي هذا يتساوى الرجل منكم والمرأة...

ها أنت يا مزيان قد دخلت معها في «حمقها»

- طبعا، الفرد لا يمكن أن يعيش بدون أفراد جماعته.

- أنت تقصد المنافع بلا شك.. أما أنا فأقصد العادات والتقاليد والطقوس والأعراف... باختصار، اقصد كل ما له سلطة على الفرد والجماعة، الأشياء التي تختزل الأنا إلى النحـن...

- أرى أنك تنظرين إلى هذه الأشياء من زاوية خاصة فقط.. أتنكرين أن العادات والتقاليد تساهم في تماسك البنيان الاجتماعي وبقائه؟

سكتت قليلا تفكر. رأى زهرة حمراء في أحد الحقول. أسرع نحوها وقطفها، ثم قدمها لها، وواصل حديثه:

- أتريدين أن يقوم المغاربة بتقليد الآخرين وتقمص شخصيتهم؟ هل تريدين أن نأخذ معايير الأوروبيين وقيمهم؟ أن نتخلى عن جذورنا؟ هل تظنين أن الحضارة الأوروبية «موديل» يتحتم على كل الشعوب أن تتبعه إذا ما أرادت «التقدم»؟

- ولم لا؟ ما دامت كل الشعوب غير الأوروبية تلهث وراءها؟ حضارة أوروبا هي الحضـارة...

- إذن، أنت تنفين دور الشعوب غير الأوروبية في بناء الحضارة البشرية؟ شعوب بلاد الرافدين، المصريو، الهنود، العرب، وغيرهم؟

- لكن لماذا بقيت هذه الشعوب متخلفة ولم تصل إلى ما وصلت إليه أوروبا؟

- الأجدر بك أن توجهي السؤال للأوروبيين أنفسهم. إسأليهم عن الأكتاف التي بنوا عليها حضارتهم؟ وعلى حساب من شادوها؟ المركزية الأوروبية عبارة عن خداع بصري، اعتقاد خاطيء شبيه بالاعتقاد الذي كان يسود قبل كوبرنيك...

- والمرأة؟ لماذا تعتبر المرأة عندكم مجرد شيء من الأشياء التي يملكها الرجـل؟

- المرأة - يا ماجدة، وهذا من حقك أن تفتخري به أمام الأوروبيات - المرأة العربية والمسلمة كانت هي السباقة إلى الحرية. كان ذلك قبل أن تعرف نظيرتها الأوروبية الحرية بقرون. في صدر الإسلام كانت المرأة العربية تتمتع بكامل حقوقها في الملكية والتصرف بأموالها، في اختيار زوجها، وفي إبداء رأيها في المسائل السياسية والقضايا العامة، فجابهت الخلفاء والحكام، وحاربت، وتعلمت، وتثقفت...

- لكن، كيف تفسر وضعها الحالي؟ مهمشة، مضطهدة، مستغلة من طرف الرجل، تكثر من الإنجاب، وجاهلة لا تعرف القراءة والكتابة...

- وفي أوروبا؟

- On est libre chez nous!

- نعم، لكن هل تعني الحرية عندكم استعمال المرأة في إشهار البضائع والسلع الاستهلاكية؟ إذا كانت المرأة عندنا تخضع لسلطة زوجها كما تقولين، فهي في أوروبا تخضع لسيطرة زوجها ورب عملها. أما كثرة الإنجاب، فتلك خاصية من خصوصياتنا... المرأة التي تنجب أكثر عدد من الأبناء تشعر عندنا بزهو وافتخار وأمن.. قولي ماكي: أين يقضي العجزة بقية أيامهم في أوروبا؟

- في دور العجزة! ولماذا هذا السؤال؟!

- تخيلي نفسك منبوذة في دار للعجزة، تخلى عنك الجميع...

- لكنني في عز الشباب!

- أعرف أنك شابة ورائعة الجمال، ولكن...

- قاطعته:

- ميرسي على المجاملة.

- بل هي الحقيقة، أنت فاتنة... لكنك لم تجيبي عن سؤالي.

تجنبت الإجابة عن السؤال الموجه إليها وسألت عن موضوع آخر:

- لكن، كيف تفسر تصرفات أبي معي؟ لماذا يسحب مني جواز سفري ويرغمني على البقاء هنا؟

- ذاك أمر طبيعي... ثم كيف تفسرين تصرفاتك أنت معه؟ أبوك لديه مبررات ودوافع...

- مثلا؟

- أولا أنت ابنته، قطعة غالية منه، يحبك ويخاف عليك، وهذا طبيعي بالنسبة لأب له بنت بمثل جمالك.

- تتحدث كثيرا عن الجمال!

- قد يكون ما ذكرته لك هو المبرر الظاهر. أما المبرر الدفين، فأعتقد أن والدك قد تعرض هناك لضغوطات وإحباطات نفسية واجتماعية لم يتمكن من تفريغها على «أعدائه»، ومن الطبيعي أن يبحث عن موضوع بديل، موضوع يكون في متناول يده، أنت مثلا.

- غير معقول ما تقوله!

- هذا مجرد افتراض لا غير!

- والسبب؟! لماذا أنا بالضبط؟ لماذا لم يختر أمي أو أية فتاة أخرى غيري؟

- لأنك تتشبهين بالأوروبيات، فيرى فيك موضوعا للإنتقام. حاولي أن تتغيري وتتكيفي، وسترين...

- أتغير؟!

- وإلا لن يفهمك أحد. اندمجـي.

- أنت أيضا تريدني أن أكون صورة لهؤلاء النساء، ألبس كما يلبسن، وأفكر كما يفكرن، أنام وأنجب؟! لا، لا، لن أستطيع التنكر. مستحيل. أريد العودة إلى بلادي. لن أتقهقر قرونا إلى الوراء. أنا حرة ولي طريقتي في الحياة. سيبيريا! منفى!

توقفت ماكي عن السير. تأملها مزيان جيدا. كانت قد قطبت ما بين حاجبيها تفكر. رأى مزيان أنها أشبه ما تكون بأنشودة رائعة. كل شيء فيها فاتن وساحر، شعلة متقدة أنوثة. جسدها يثيـر شهـوة الميت. رآها ذاهلة، فأراد أن يقتلعها من ذهولها:

- لن نتركك تعودين لبلجيكا قبل أن نخضب يديك بالحناء، ونضع كحلا في عينيك، وليس قبل أن نسمع دقات الطبول والغيطة في بيت عمي.

انفجرت ضاحكة وقالت:

- ها ها ها... أتزوج؟ لا أفكر في هذا. ليس قبل إتمام دراستي وضمان مستقبلي.

- وماذا تدرسين؟

- أعتقد أنني سأتخصص في دراسة التاريخ أو الفلسفة.

انتهت الجولة بين الحقول. مر الوقت الذي استغرقته كحلم رائع، كلحظة مسروقة من حياته. انتهت الجولة الحلم. وفي الليل عندما آوى مزيان إلى فراشه استعصى عليه النوم. ترك العنان لأحلام اليقظة التي أسرته. وهل هناك أفضل من الليل لتوارد الأفكار والخواطر والأخيلة؟ يستعرض كلام زوجة عمه شعيب ويفكر: «كانت ابنتي ماجدة طفلة عادية، لا ندري ماذا أصابها على حين غفلة.. أصبحت تميل إلى العزلة والانطواء على نفسها.. لا تكاد تنسى الحديث عن بلجيكا وانتقادنا أو توجيه اللوم إلينا...» أما أخوه محمد فقد أسر إليه قائلا: «لقد علمت من زوجتي أن عمي شعيب وزوجته يعتقدان أن ابنتهم قد سكنها جني، جني نصراني، وقد عرفا ذلك من فقيه ساحر، وقد سمعت أن الفقيه طلب من عمي مبلغ أربعة آلاف درهما ليقوم بصرع الجني وطرده من جسمها».

سأل مزيان: وأنت يا أخي ما رأيك في ماكي؟

- تطلب رأيي أنا الذي عشت في الغابة؟

- ولم لا؟!

- إذا كان لابد من ذلك، فسأستمد رأيي من الغابة.

- ليكـن.

- هذيك الملعوقة دبنت عمي، فحال شي شجرة كانت مغروسة في تراب مزيانة قلعوها وداوها لتراب ماشي مزيانة

- V -

ها أنت قد عدت إلى عملك. سافرت شخصا وعدت شخصا آخر تماما. ذهبت تحمل الهموم والمقالق، وعدت تحمل الإسم والحب والذكريات... في الحافلة تفكر فيها، في العمل، في الشارع، وفي كل الأمكنة تحاصرك صورتها...

تحدثها، تناقشها.. تعيش معها في الحب، في المستقبل والأولاد والبيت، تخطبها.. تتزوجها، تؤثت قصرك بأفخم الأثات.. بالآثاث التي تليق بمقامها.. تلبسها أجمل الملابس.. عش أحلامك. تتجول وهي جنبك في شوارع المدن التي رايتها والتي لم ترها بعد.. تركبها أجمل السيارات وأفخمها.. تسافر بها في البواخر والطائرات.. تزور الجزر البعيدة التي لا تعرف فصلي الخريف والشتاء.. رايتها في فصل الربيع الأخضر فلا تريد أن تعيش في غير الربيع.. تنام في أفخم الفنادق وتتعشى على ضوء الشموع وأنغام الموسيقى الهادئة.. عش حياتك.. حتى الأحلام حياة.. انثر الأوراق النقدية بسخاء وبلا حساب على الخدم الذين ينحنون احتراما لك ولزوجتك الجميلة.. لن تخسر شيئا.. غير أثات بيتك مرتين أو ثلاثا في السنة.. أي آراء هي آراؤك؟ أي أفرشة، ولوحات، ومزهريات، وثريات، ودواليب، وحجرات، وأضواء... والأهم، الأهم من بين كل هذا ماكي التي تتحرك داخل هذا القصر. بدونها ليست للاشياء قيمة. تراها في كل الأوضاع: ونائمة، جالسة، واقفة بقامتها الرشيقة، تعطي الأوامر للطباخين والخدم... عش حياتك في هذا الترف بالمجان.. عش حياتك بلا مرض ولا مشاكل تثير الأعصاب.. أنت تكره المشاكل وتبغضها. أجمل ما حملته معك من سفرك هو الأحلام.. احلم ولا تضيع الفرصة....

بعد أسبوع فقط من عودتك إلى الرباط حضر أبوك السي علي. جاء مباشرة بعد توصله برسالتك التي أخبرته فيها بما حدث.

- اِحك يا مزيان يا ولدي؟ كيف حدث؟ ولماذا أخفيت أمر الرسالة عني؟

- أخفيتها لأني لم أكن أصدق ما جاء فيها. لم أشعر حتى وجدت نفسي مسافرا إلى بني عمارت وحصل ما حصل.

تحكي لوالدك ووجهك إلى الأرض...

- لا بأس يا بني. حسنا فعلت. أنا واثق من أنك لن تواخذنا على أننا لم نخبرك بالحقيقة منذ البداية. فلا شك أنك تعرف السبب يا بني. بأي شيء كانت ستنفعك الحقيقة؟

تستمع لوالدك السي علي أكثر مما تتكلم. لم يكن لديك ما تقوله له.

- كنت أحمل هما ثقيلا يا بني، يجفوني النوم كلما تذكرته، ناران، الشرع والعاطفة، لقد عرفت الآن والدك الحقيقي؟ أليس كذلك؟

- كان اسمه عبد السلام.

- حسنا، مزيان بن عبد السلام،... مزيان بين علي، لا فرق. بالنسبة لي ستبقى دائما ابني، ونفس الشيء لأمك حليمة. أنت ابني، ولكني لست أباك، أنت...

رددها السي علي ثلاث مرات إلى أن اختنق صوته. قمت تعانقه وتقبله على جبينه وفوق عمامته.

- نعم يا بني. أنت ابني، ولكني لست أباك.

- حاضـر يا أبي، حاضـر.

هل يمكن لك أن تنكر ذلك؟

- لقد حان الوقت با ولدي كي تغير إسمك ولقبك وبطاقتك.

- حاضر يا أبي، سأفعل.

أوراق! الأبوة في القلب، وفي الذاكرة، في الدم...

- قل معي يا ولدي، يا مزيان، قل...

- أقول ماذا؟

- قل: باسم الله الرحمن الرحيـم...

أجهشـا معا بالبكاء.

- قل با سم الله الرحمن الرحيم«وما جعل أدعياءكم أبناءكم، ذلك قولكم بافواهكم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين.» صدق الله العظيـم.

- منذ الآن يا بني أنت مزيان بن عبد السلام.

لم تفتر أعينكما عن البكاء.

- لا تدع أحدا ينسبك إلي. لا تسمح لأحد بذلك. هذا أمر الله، وأمره نهي.. غير بطاقة تعريفك، ولا تنادني بكلمة أبي.

- حاضـر يا أبي.

- منذ الآن.

- حاضـر يا أبي، أمرك.

أي الناس يستطيع مناداة أبيه باسمه ولو في خفاء؟! لن تسمح لك نفسك بذلك ولو في الرسائل التي تكتبها إليه.. أبوك هو أبوك.

- مقدمك إلى بيتنا كان فيه خير كثير. سعدنا بك. لم تنقطع الخيرات عنا. أنت نفسك شاهد على ذلك...

كنت قد استعْمَمْتَ كل إخوة السي علي، واستخولت كل إخوان وأخوات حليمة. الكل يناديك بـ «مزيان بن أخي، مزيان بن أختي»...

حضور والدك إلى الرباط كان بداية لتحقيق أحلامك الكبيرة. لو لم يأت في ذلك الظرف بالذات لكانت حياتك قد اتخذت مسارا آخر...

- قل يا ابني. إني أرى أنك لم تستفد من تجربتك التجارية! كأنك لم تبع ولم نشتـر أبدا! إلى متى ستظل تصنع وتعطي لغيرك لينتفع بما تصنعه؟!

لم أفهم ما كان يقصده. تعلمت الصنعة على يد المعلم الوكيلي كي أصير صانعا وإلا فلماذا أخذني إليه بنفسه؟ ثم إني أصنع وأبيع؟

- يجب أن تستغل هذه الموضة التي غزت العالم.

- عن أي موضة تتحدث يا أبي؟!

- الهيبي! هؤلاء الخنافيس الذين يملأون الشوارع، ألا تفتح عينيك؟!

- هل تريد أن أصير هيبيا مثلهم؟!

ابتسم في البداية على جوابك، ثم قال بجد:

- أعوذ بالله، حاشا أن أكون قد ربيت هيبيا في بيتي، لم تفهم؟! كيف لا تفهم؟! ألا تنتبه لما يلبسه الهيبيون ويعلقونه على أكتافهم؟ من المفروض أن تكون أنت أول من ينتبه لذلك؟ هل رايت واحدا منهم لا يعلق شكارة جلدية تغزوتية؟ الذكور كالإناث، كل الصناع في تغزوت أصابهم الهوس. كنت أتساءل: أين تذهب تلك الأعداد الهائلة من الالشكارات المطرزة التي يصنعها الصناع؟

- لكني أصنعها وأبيعها للبازارات يا أبي.

- وهل صنعها كبيعها؟ اِسال التجار بكم يبيعونها، كما قلت لك هي موضة وتزول.. يجب أن تستغل الفرصة. تاجر في الشكارة، أنا ساجمع لك من هناك، وأنت تبيع هنا.

واقتلعك أبوك من صمتك سائلا:

- هل تحتاج إلى أموال؟

لا، لا،...

- إذن لا تتأخر فتضيع الفرصة منك.

وانتقل الحديث إلى ما هو أهم، إلى ما يشغل بالك:

- شيء آخر أود محادثك في شأنه.. بعد أن عرفتَ والدك، فحتى إذا ما صار لك أولاد لن تكون هناك مشكلة.

- الأولاد؟، قلتَ تسأل نفسك.

- هل فكرت في الزواج؟

صوته لم يخترق أذنيك فقط، بل هزك هزا عنيفا.

الزواج والأولاد؟! في الأحلام أنت تزوجت وولدت، وأولادك كبروا، ذكورا وإناثا، تخلقهم حسب المواصفات واللون والجمال...

- لم تجبني، هل فكرت في الزواج؟

- لا. نعم. لا، ثم نعـم!

قلت له بين الحيرة والاضطراب:

- ماذا تعني بـ «لا»، «نعم»، «لا»...؟

- أريد القول: امهلني قليلا وسأخبرك في الوقت المناسب.

عاد أبي إلى تغزوت بعد أن فتح لي عيني على التجارة. عملت بنصيحته، ففتحت محلا لبيع الشكارات الجلدية. لم تكن البضائع تستريح من السفر.. ما أن تصل من تغزوت إلى الدكان حتى تطير إلى أوروبا. الوضع الاعتباري للهيبي تحدده الشكارة، والقديمة منها بالخصوص. أما إذا كانت مقطعة، ومتسخة، فآي، ثم آي...

ابتكر طريقة خاصة لجعل الشكارة تبدو قديمة. يراها الهيبي، فيعتقد أنها تعود إلى عهد عاد وثمود، إلى ما قبل العصر الحجري بمليون سنة أو أكثر! تطلى الشكارة الجديدة بالزيت، وتعرض للشمس أو ترقد في روث البهائم، تمسح بالكحول وماء جافيل، فتبدو «رائعة».

لم تكن هذه الطريقة ترضيني، يعز علي أن أرى قطعة جميلة تتحول إلى شيء يثير النفور والاشمئزاز، ولكن الأوروبيين هكذا!! قال لي صديقي الهولاندي وزبوني «فان ديرك»: تدبر الأمر مسيو مزيان، اجعلها تبدو قديمة، ضعها في الاصطبلات أو في أي مكان شئت.. ما يهمني هو أن تزودني بالشكارة القديمة، أفهمت؟ كيف؟ تدبر الأمر!

كل الشكارات يمكن أن أقوم بتوسيخها وتدنيسها ما عدا شكارة المعلم الوكيلي معلمي وأستاذي. لن أغير من جمالها وفنيتها ولو أغناني الهولاندي بإعطائي أموال هولاندا كلها.

انطفأت الرغبة في الدراسة. أطفأتها ماكي والأموال. بدأت أتردد كثيرا على بني عمارت بمناسبة وبدون مناسبة. لم يعد «الأبوهاري» هو الأبوهاري. أصبح مزيان بن عبد السلام الأزرق صاحب ذلك المنزل. صار ابن القرية، ويتحادث بالريفية، لا يحتاج إلى أحد كي يرشده إلى بيتهم.

و«ماكي» تتغير. لم يعد أحد يناديها بهذا الإسم، بما في ذلك حتى أخويها حسن ويحيى. تغيرت طريقة حديثها لباسها. بدأ لونها يميل إلى لون اللوز.. حتى طريقة كتابتها للرسائل صارت تأخذ طابعا خاصا. أحلى اللحظات لدي كانت هي تلك التي أجلس فيها لاقرأ ما تكتبه لي. أسمع صوتها يحدثني. أشعر بفرحها، بحزنها.. كتبت تقول في إحدى الرسائل الأولى:

«أنا حزينة أشد ما يكون الحزن. لم تعد لدي رغبة في الحياة. فقد قام أبي بإحراق الكتب التي جلبتها معي من هناك، وكسر آلة الكمان التي كنت أعزف عليها من حين لآخر لأبدد الرتابة»

أضافت تقول في الرسالة:

«أتساءل: لماذا يحرق أبي كتبي؟! ولماذا يكسر كماني؟! لماذا يفعل كل هذا وهو الذي كان أدخلني منذ صغري إلى معهد للموسيقى؟ ولماذا كان يدفع واجبات الدراسة هناك ويشتري الآلة كيف تستطيع يا مزيان أن تفسر الفرح الذي كان يشعر به عندما كان يستمع إلى اساتذتي يثنون علي وعلى مهارتي وإجادتي في عزف القطع الموسيقية؟ ما الذي غيره هنا؟ ما الفرق بين أن أعزف الموسيقى هنا أو هناك؟»

تتكرر الزيارات لبني عمارت.

قال لي أخي محمد:

- لو تأخرت قليلا لوجدتها قد تزوجت! كثيرون هم الذين يرغبون في الزواج منها، لكن عمي يردهم. رد الأول، وهو شاب جميل يعمل في ألمانيا، رد الثاني لأنه مزواج مطلاق، ورد الثالث لأن أمه «واعرة»....

أسرعت إلى بيت عمي شعيب، وجدتها في المطبخ تساعد أمها. ترتدي تنورة فضفاضة طويلة، ورأسها معصب بمنديل مزركش...

- هذه هدية بسيطة إليك يا ماجدة.. ساعة يدوية وبعض الكتب التاريخية.

تلقت الهدية وشردت بذهنها.

- ألم تتعملي بعد إتقان فتل الكسكس وتهييء البغرير؟ ماجدة؟!

- لقد ذكرتني بعادة كنت نسيتها تماما، الهدايا!... لم أتلق ولو هدية واحدة منذ مدة، ولو وردة!

- لقد تغيرت كثيرا.. ماجدة.. تغيرت، لكن جمالك ازداد عما كان عليه.. لقد وافقك جو البلد.

- حتى السجناء يخرجون من سجنهم منتفخيـن!

- قيل لي: أنه جاءك خُطَّاب.

- سمعتُ بذلك - ضحكت ثم اضافت - لقد تشيأت.. أصبحتُ بضاعة يتعامل بها من غير إرادتها... لا أدري ماذا سيقول اصدقائي وصديقاتي الأوروبيين لو جاءوا ورأوني على ما أنا عليه الآن!

- سيقولون إنك صرت أجمل مما كنت.

- وأنت يا مزيان؟ كيف ستعامل أولادك في المستقبل؟

- كما تريدين أنت.

- وماذا تفضل؟ ولدا أم بنتا.

- سيكون عندنا أولاد كثيرون وبنات كثيرات.

- كم؟ - ضحكت ثم اضافت - ثمانية، عشرة؟ عشرون؟

لم أغادر القرية هذه المرة حتى قضي الأمر. كلفت عمي أركاز بالمهمة. قال لي عندما أخبرته برغبتي:

- أومري! شوفرينا برا إلشوفرينو!... مرابيوسا، طرانكيلو[27].

تم الأمر، وعرجت على تطوان. كنت على موعد هام هناك.... فرصة. اشتريت قطعة أرض فوقها منزل على الطريق المؤدية إلى المضيق...

بعد مدة كنت سأنفجر بالضحك داخل أحد المكاتب لولا أن سألني أحد الموظفين:

- هل هناك أمر؟

مددت له شهادة طبيب المصحة وشهادتي التلقيح ونسخة من عقد الزواج.

- أريد تسجيل هذين التوأمين.

توأمان دفعة واحدة.. مسكينة زوجتي ماجدة التي كانت تريد بنتا لا غير.

سألني الموظف: اسم الطفل الأول؟

- اكتب: عبد السـلام.

- والثاني؟

- علـي.

- اسمك أنت؟

- مزيان بن عبد السلام.

- أم الطفلين؟

- ماجدة بنت شعيب.

تحققت الأحلام كلها تقريبا ماعدا شيء واحد ظل يشغل فكري باستمرار: أين أبوك عبد السلام؟ أين اختفى؟ ولماذا لم يظهر حتى الآن؟

- VI -

صخرة صماء.. قلب فولاذي....

ماذا ستفعل إذا عشت حياتك كلها تنتظر شيئا ولما وقع بين يديك تركته يفلت منك ويضيع؟ مزق ملابسك، واخرج عاريا إلى الشارع.. افقأ عينيك اللتين لم تتمكنا من النظر جيدا إلى ما حولهما.. إلق بنفسك من قمة جبل...

- أقسم لك يا عيسى أنني منذ الصباح وأنا أشعر أني سألتقي اليوم بشخص عزيز.

لم يخنه قلبه، ولكنه ضيع الفرصة، طارت وربما إلى الأبد. المدينة كبيرة، سكانها يقدرون بعشرات المئات إن لم يكونوا بمئات الآلاف.

في تطوان، صباح أحد أيام شهر غشت، أقف بباب أحد بازارات المدينة العتيقة. الشمس محرقة والجو راكد. وقفت بالباب أهُمُّ بالتوجه إلى أحد المقاهي. لا أدري ما الذي أوقفني وشدني إلى مكاني. عيناي تنظران إلى القامات المتقاطعة أمامي في الشارع، وفي الوقت نفسه لا أنظر إلى شخص محدد، نسيت نفسي واقفا، شردت إلى أن سمعت صوتا موجها نحوي، يعيدني إلى نفسي.

- السلام عليكم، أهو عيسى؟

- مَزيان!

كانت تفصل بيني وبينه سنوات طويلة، عينت أنا بوظيف، وغاب هو بين تطوان وطنجة وبني عمارت. تعانقنا بحرارة، حرارة ذكريات الطفولـة.

- لو لم أترو قليلا، أو تأخرتَ لحظة لما التقينا يا مَزيان.

- هزني من كتفي، وقال:

- منذ الصباح وقلبي يخبرني بأنني سألتقي بشخص عزيز علي.

ماذا لو عرف الآن؟ كيف ستكون الصدمة؟! خيبة!

- كنت أهم بالذهاب إلى إحدى المقاهي، هل لديك ما نع لمرافقتي؟

- وهل يعقل أن أترك الفرصة؟!

آثار النعمة بادية على وجهه، لباسه وحركاته. أطل برأسه إلى البازار وسال:

- أين ابن عمي؟

ابن عمه من جهة السي علي مالك البازار صديق مشترك.

- ابن عمك لم يحضر بعـد.

أمسك مَزيان بيدي وجرني.. نقطع الشارع في اتجاه المدينة الجديدة، نتدافع بين الأمواج البشرية، روائح عطر غالية ورخيصة، اصوات نساء ورجال، لا جدوى من الحديث، هو يتقدمني وأنا أتبعه ودائما يدي بيده. خرجنا من الشارع الضيق، وأصبحنا في ساحة الفدان. صارت المدينة القديمة خلف ظهرانينا. تنفسنا وصرنا نسير جنبا إلى جنب. لم يتغير في مَزيان أي شيء. قال لي:

- سآخذك إلى مكان هادئ.

- أنت الآن ابن تطوان.

- بل ابن تغزوت.

- لن أتركك اليوم تفلت مني. ستعرفني على تطوان.

نسير على الرصيف الأيمن لشارع «مونيمنطال». لم تفارقني يده. مال جهة اليمين، وقال:

- سندخل من هنا. نتناول قهوتنا ونتحادث في هدوء. لن يزعجنا أحد.

ساحة فسيحة تحيط بها العمارات من جوانبها الأربعة. هدوء تام. لن يعرف الساحة عدا من كان ابن تطوان أو كان مقيما فيها. في أول مقهى جلسنا، ظهرانينا لواجهة المقهى الزجاجية، ووجوهنا إلى الساحة؛ دكاكين ومتاجر، مقاهي قبالتنا، على اليمين والشمال، طفت بعيني في الساحة، لافتات بالإسبانية: «ريسطورانطي موديرنو» قبالتنا، «كافي لا أونيون» على يسارنا قرب منفذ الساحة على شارع محمد الخامس.

نضحك، نتحادث ونسترجع الذكريات. أشاركه الحديث، ولكني في داخلي أغلي، أكاد أنفجر. أريد أن أساله عن قصة عثوره على أسرته، فأعدل عن السؤال كي لا أتدخل في شؤونه الخاصة، أقرر، فأعدل، ثم أقرر...

مددت له علبة سجائر:

- سيجارة أمَزيان؟

- لا، شكرا، أقلعت عن التدخين منذ مدة.

- أبسبب الانقطاع عن التدخين صارت صحتك جيدة؟!

- الحمد لله، الحمد لله. لا ينقصنا أي شيء.

حضر نادل المقهى وقدمنا طلباتنا. تشجعت، وهجمت على حياته الخاصة:

- أُهَنِّئُكَ يا مَزيان على عثورك على أسرتك، فقد وصلني الخبر.

مال بجسمه إلى الوراء، ثم قال:

- الأقدار يا أخي.. الأقدار.

- من كان يصدق أنك لست ابن خالي السي علي؟!

- بل وجه السؤال إلي أنا.. اِسألني أنا إن كنت أشك في ذلك.. لقد وقع لي شيء كالسحر، غابت عني أشياء ولم أتذكرها إلا بعد عثوري على أسرتي.. أين كانت؟ لست أدري!

- وما الحكاية؟

- القصــة...

توقف مَزيان لما أحضر النادل طلباتنا ليضعها أمامنا. استدرت بجسمي إليه حتى صار وجهي في وجهه، ووجهت إليه السؤال ثانية. اعتدل في كرسيه، رفع رأسه، استنشق كمية من الهواء، ركز بصره في خط مستقيم، ثم فتح فمه يحكي:

- كان أهلي تخلوا عني طفلا صغيرا في مسجد تزرين عـام...

توقف عن الكلام ليقول لأحد ماسحي الأحذية: لا.

فتح فمه ثانية.

- كان أهلي قد تخلوا عني سنة سبع...

- سلف لي واحد درهم ألمرضي الله يرحم إمَّاك! - صوت رجل يستجدي بطريقته الخاصة، وقف أمام طاولتنا. سكت مَزيان للمرة الثانية، توجهت بالكلام للرجل وقلت له:

- اجلس يا عم واطلب أي شيء... شاي، قهوة...

استدرت مرة أخرى نحو مَزيان أنظر في وجهه، وجدته سارحا بفكره. تغيرت ملامح وجهه على حين غفلة، علامات غريبة.

- أتمم يا مَزيان. أرجو ألا يقاطعك أحد آخر.

أخذت أتابع القصة بتقاطعاتها وتشابكاتها. المجاعة، والخوف، والقهر، والاستعمار... توقف مَزيان عن الحكي لما وصل إلى يوم تركه في مسجد تزرين. هذه المرة أوقفه نادل المقهى. أقبل صوب الرجل المتسول الجالس معنا على نفس الطاولة، ينهره ويشتمه بصوت عال.

- «أوم» من هنا مشي فحالك أهذ الموسخ!، قال النادل صائحا ينطق حرف القاف همزة.

نظرت إلى الرجل، شيخ هرم، رفع عصاه بين ركبتيه، أخذ يلوح بها في وجه النادل وهو يقول بانفعال شديد.

- اسمع يا هذا، يا ابن الجروة، الجروة بنت الكلبة، أقسم لك بنفسي الخبيثة... فإما نتصرف لعملك تغلق فمك الأعوج وإلا كسرت هذه العصا على رأسك، تفو، تفو...

عجبت لقوة العجوز. »لاشك في أنه كان قويا في شبابه»، قلت أخاطب نفسي.

تجاهل النادل قسم العجوز، وحاول أن يطرده بالقوة.

- أوم من هنا، امش في حالك، شَانِّي عندك؟ ما لا تسمع شي؟

لم أر شخصا في حياتي بمثل خفة العجوز. أمسك عصاه من طرفها، ووضع طرفها الآخر في صدر النادل، ثم دفعه بها بكل اما أوتي من قوة.

- تفو، تفو، تفو عليك وعلى هذه الدنيا. لم أقتل في شبابي، لكن يبدو أنني سأقتُل وأنا شيخ. اذهب عني أيها النادل الحقير ولا تفسد علي لحظاتي، تفو، تفو... اذهب.

قال مَزيان: لقد افسد علينا هذا النادل لحظاتنا.

خفت أن يعدل مَزيان عن متابعة الحكي، فتدخلت لإصلاح ذات البين بين النادل والعجوز.

- أرجوك أيها الكرصون لَبِّ طلبات الرجل، فأنا الذي أمرته بالجلوس، لا تفسد علينا جلستنا.

طلب العجوز شايا، فانصرف النادل، لكن العجوز استمر يتف ويغمغم هامسا. استانف مَزيان الحكي. امتلأ صدري حقدا على الاستعمار، وتأثرا وإشفاقا على أسرته، على أبيه وأمه ميمونة، وأخيه، وحتى على علوش. انتقل مَزيان من الفترة المظلمة في القصة إلى المرحلة السارة. تعجبت من العمل الذي قام به علوش. وفجأة سمعت حركة خفيفة. أدرت وجهي نحو مصدر الحركة لأجد العجوز يتناول سيجارة من علبة سجائري الموضوعة فوق الطاولة. أشعلتها له، واستدرت بسرعة.

من علوش إلى قصة حبه لماكي، وزواجه منها. سألته:

- وهل لك أطفال؟

ضحك وقال:

- ثلاثة، ذكران وأنثى، عبد السلام، علي وزليخة.

- نفس أسماء آبائك؟!

- وستكون لي حليمة، وميمونة، و...

- على ذكر والديك، ألم يظهر أثر لأبيك عبد السلام وأمك ميمونة؟

كان لسؤالي وقع كبير على نفسه. لاحظت ذلك في وجهه وحركاته. ليتني ما كنت سالته. هز رأسه يمينا وشمالا علامة على النفي. تنهد، ثم قال:

- ليتني أعثر عليهما. إن ما ينغص علي حياتي الآن هو التفكير فيهما. كل ما كان ينقصني في حياتي حققته، ما حلمت به وما لم أحلم به: ثقافة، أموال، زوجة، وأولاد... إلا العثور على والدي، فشلت في ذلك... إذا كان قد ماتا فحتى قبريهما لن أتمكن من معرفتهما. لن يكونا كقبور سائر الناس، وإذا كانا لازالا على قيد الحياة، فأين هما؟ لماذا لم يعودا إلى بيتهما وأرضهما؟ كنت أتمنى أن أسمع أبنائي يتلفظون كلمة «جدي».. أتمنى لو أعثر عليه كي أحقق له ما لم يستطع تحقيقه في زمانه. لقد عانى من المجاعة، والتشرد، والضياع، والآلام... من جراء التخلي عن أبنائه، عني وعن أخي محمد.

- لاتياس يا صديقي.. لا تياس.. حاول.. ابحث..

- لو كان أبي لا يزال حيا لكان قد عاد لرؤية إخوته شعيب وعبد القادر ومينوش.

سكت مَزيان يفكر، فسكتت بدوري. وبعد لحظة حرك يده، نظر إلى ساعته اليدوية. فعلت مثله. قال لي:

- سنتغذى اليوم معا.

لما اعتذرت اتفقنا على أن نلتقي مساء. قام فتعانقنا، وودعته. أخذ يبتعد. يقصد مدخل الساحة الذي دخلنا منه. تتبعته بعيني إلى أن توارى خلف الجدار.

انتبهت للعجوز الجالس قبالتي بعد اختفاء مَزيان مباشرة، وجدت أنه كان هو الآخر يتابعه بعينيه. أخذت أتفحصه: كأس الشاي لا يزال فوق الطاولة كما كان، لم يشرب منه ولو نقطة واحدة، ترسب الثفل في قاعه، وريقات النعناع ملتصقة بجنباته سوداء ذابلة، السيجارة التي أشعلتها له قبل مدة احترقت عن آخرها، رمادها يتدلى إلى الاسفل على شكل قوس. معطف شتوي لا لون له، طاقية صوفية تكاد تغطي أذنيه المنتصبتين، شرم صغير في أسفل الأذن اليمنى، انثناءات وانكماش في عنقه.. إطراق وصمت.

انشغلت بتأمله، كأنما أحس بنظراتي إليه، فرفع وجهه نحوي. التقت أعيننا، لم أجد ما أقوله له سوى: اشرب كأسك يا عم! إنك لم تشرب كأسك!

- لقد شربت! شربت حتى الثمالة.

قال كلامه بهدوء بالغ، قطرة سائلة على خطم أنفه، أسنانه بيضاء قوية ومتراصة أتاح لي رؤيتها نطقه لكلمة: شربت.

والقطرة؟! هل هو يبكي؟ والأسنان؟ أي رجل في مثل سنه لا يزال يحتفظ بأسنان بيضاء متراصة؟!

شغلني الرجل، شيء ما شدني إليه، لست أدري ما هو، أهي أسنانه؟ أذناه المنتصبتان؟ أم نبرة صوته: «سلف لي واحد الدرهم ألمرضي الله يرحم إماك»

تذكرت نبرة صوته فعدت إلى تدقيق النظر فيه ثانية. إطراق وصمت، خيل إلي أنه سبق لي أن عرفته، وجهه ليس غريبا عني، صورته ونبرة صوته...

- أين ومتى رأيت هذا العجوز؟!

أجهدت نفسي في استحضار المكان الذي سبق أن رأيته فيه. لم أفلح! بدأ السؤال الملح يكبر، يكاد الجواب يطفو على صفحة الذاكرة، لكنه سرعان ما يختفي. تقترب الصورة من الاكتمال في الذهن، يكاد اللسان أن ينطق... ثم يغيم كل شيء.

ملعونة هذه الذاكرة!

مللت من التحديق فيه، انصرفت وتركته، لكن المخيلة ظلت تشتغل في خفاء...

قطعت الساحة في اتجاه المنفذ المؤدي نحو الشمال إلى شارع محمد الخامس. اصطدمت عيناي بلافتة «كافي لا أونيون» (مقهى الوحدة).

اتحد، يتحد، يتوحد، متحد، توحيد، وحدة...

ترددت الكلمات المشتقة من «الوحدة» في ذهني بدون شعور.

دخلت إلى الشارع. أصعد في اتجاه ساحة الفدان. أنظر إلى واجهات المتاجر من حين لآخر. توقفت عند واجهة أحد المتاجر «بزار الأطلس». الذهن مشغول بصورة العجوز والعينان تنظران من خلال الواجهة الزجاجية لما بداخل البازار. مصنوعات جلدية مطرزة من تغزوت، ملابس فاسية، حلي صحراوية، زرابي من تازاناخت، زربية رباطية حمراء من نوع «إكسطرا» ازدانت حواشيها بأشكال هندسية رائعة. ركزت بصري على أرضية الزربية للحظات، مكثت كذلك إلى أن غبت. اختفت الأشكال، ولم أعد أرى شيئا... وفجأة استيقظت من غفوتي. لما استيقظت كنت قد عثرت على حل اللغز. أخذت أؤنب نفسي على فشلي في إجراء مقارنة بين الوجهين، بين الصوتين، والأذنين، والأسنان.

قفلت عائدا إلى مقهى الساحة والحل بين يدي، طفت بعيني بين الكراسي، لكني لم أجده. أية صخرة؟ كيف سيكون حال ابنه عندما يعلم أنه كان على بضع سنتمترات من والده؟ فرغم السنين الطويلة لا زال عبد السلام هو هو.

 

 

 

 

[1] رأس السنة الفلاحيـة.

[2] هو ابن المقيم العام، قتل في إحدى المعارك.

[3] بو ورد، وباب الحيط، وبو زينب، وباب الصليب كلها أسماء لمراكز جيش التحرير وقواعدهم قرب المنطقة.

[4] الباسبورطي: إسبانية تعني جواز السفر، وديخي باسار: إسبانية أيضا، وتعني رخصة المرور.

[5] السكويلا: كلمة إسبانية تعني المدرسـة.

[6] أغلقت الآن: La escuela de artes indiginas

[7] أزيلت تلك القبور حديثا وبني مكانها مسجد ووكالة للبنك الشعبي.

[8] الريف في المغرب لا تعني البادية عكس الحاضرة، بل تعني منطقة خاصة في الشمال.

[9] فوندا ميكيل: مطعم مشهور في تركيست كان يديره أحد الإسبانيين.

[10] شخص أحمق ليس إلا!

[11] الجبلي بالريفية.

[12] أين تهتم؟

[13] وأنا؟

[14] أنت عمتي، عمتي مينوش.

[15] (بالإسبانية) وا أسفاه!.

[16] أبناء القحبة.

[17] كلمة جد قبيحة.

[18] مساء سعيد جد مسرورة بالتعرف عليك.

[19] بلجيكا. هكذا ينطقها أهل الشمال عامة.

[20] أأنت محمـد؟

[21] أأنت محمد بن عبد السـلام؟

[22] نعـم، نعـم، أنا محمـد بن عبد السـلام.

[23] أيها الطفل. أين تهت؟ كدت أنساك.

[24] أرضكم الفلاحية أخذها الناس، الأرض، الأرض...

[25] أخواها: حسـن ويحيى، هكذا نطقت إسميهما.

[26] (بالإسبانية) أماه! اخرصي يا بنية، أي وجه هو وجهك يا بنت؟!

[27] (بالإسبانية) يا رجل! بنت الأخ لن تكون إلا لابن الأخ!... رائعة! اطمئـن.

 


 

14:41:17

عبـاس خليفـي

 

المحتــوى

القسـم الأول

 I

 II

 III
 IV
V
VI

القسـم الثانـي

I

II
III
IV
V
VI
 

 

L

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ النشر 27 ينايـر 2002.