أيام وينقضي
شهر جوان...
تنتهي الامتحانات
وتبدأ العطلة، أنتظر ذلك بملل، أعرف جيدا ما العطلة.. الزيارات الأسرية التي
تأتي في أي وقت وتطول، عشرات الأطفال الذين يتوافدون على البيوت لا ملاذ
لهم من صراخ أمهاتهم والعصا التي تنهال على ظهورهم الصغيرة غير بيوت الأهل
التي تبتسم في وجوههم وتعض الشفاه من فرط الغيظ والقهر مستسلمة لعادات لا
تملك جرأة ولا حيلة لتغييرها ولا تجد بديلا لها، الأعراس، الاحتفالات التي
لا تنتهي، بكل شيء وأي شيء، الماء الذي يعادي الحنفيات ويجبرنا على تغيير
نظام الاستهلاك، الاستحمام بحساب وتنظيف البيت بحساب، غسل الملابس أيضا
يخضع لنظام دقيق قد يفقدك متعة استخدام ملابسك ساعة تريد ذلك.. طوابير الأطفال
والشيوخ أمام حنفيات الأسر الميسورة التي تملك آبارا تتبرع بشيء من خير الله
لعباد الله...
ولن أفكر في
الحر.. لن أتذمر من قيظ يجبرني على التفكير فقط في كيفية للتخفيف من
شدته، أقضي الليل مختنقا أنتظر ساعات الفجر، نسمات الصباح الندية محملة
بنفس الشمال المريح، وأقضي النهار في انتظار نسمات الغروب وانكسار الشمس
في الأفق.
لن أفكر
في تلك الأيام المشتعلة التي تسرق عمرك وتغرقك في الملل والتعب والفوضى،
وتأخذ نصف وزنك عرقا..
هذه السنة لن
أفكر في كل ذلك.
ستأتي (العطلة)
بكل عقوباتها، لكنني لا أخافها.. أخشى شيئا آخر هذه المرة.
اليوم الأربعاء
25 جوان.. يفصلني عن الموعد شهران و.. كل هذا و.. هذا فقط.. سيحدد مصيري،
ستأخذ حياتي بعده بعدا آخر، بل أبعادا أخرى، وجديدا ليس بالضرورة ما
أريده، لكنني قررت أن أدخل التجربة، مضطر لأفعل ذلك، لا أملك خيارا آخر،
لا أملك شيئا أخسره..
أنثر على مكتبي
أوراقي، جواز سفري، تذكرة الذهاب، التأشيرة، بطاقة تعريفي، شهادة ميلادي
وإقامتي وكل شهادات حياتي التعليمية، بطاقة الإعفاء من الخدمة الوطنية،
بطاقة الإقامة بالحي الجامعي للذكور بل عدة بطاقات تثبت أنني أقمت في الحي
الجامعي لـ"بن عكنون" سنوات طويلة، كل ما يثبت أني ابن هذا الوطن، جذوري
في هذه الأرض... وآلامي تتفرع منه؟
تجتاح جسدي
موجة برد شديد، أشعر بصقيع يستقر في فؤادي، غربة فظيعة، يعتريني حنين......
كل هذه الشهادات تحيط بي وأنا أشعر بالغربة والوحدة الرهيبة..
أمر على ألبوم
صوري، أنتزع صوره، صورة صورة، تحضرني مع كل واحدة فيها ذكرى عزيزة، أو
شوق لعزيز فقدته، أتحسر من داخلي وألعن ذلك الشخص الذي قيد ذاكرتنا،
عذبنا، بهذا الاختراع، الصورة، الذاكرة،
التاريخ، نريد
أن ننسى، نحن أمم تحيى على النسيان أو تتذكر فقط لتندب الأطلال وتتحسر
على المآثر..
اختراع لعين،
ابن الـ...
أقف دقائق أمام
نفس الصورة، أتألم في البداية.. ثم، أبتسم وقد عادت إلي لقطات من أيام،
من أحلام نسيتها، أقرأ على ظهرها..
25جوان 1988
جامعة الجزائر.
أتعجب للمفارقة
العجيبة
-
يا
للصدفة...أصرخ متعجبا بادئ الأمر ثم، أردف بشيء من المرارة:
- Le hasard fait bien des choses ….*
.............................................................
(
أفضل أن نأخذ
صورة عند باب المدرج، أو عند هذه الصخرة، تحت الشجرة، هذا المكان رائع
ويحفظ الكثير من الذكريات المرة) يقترح وليد.
( تناقض مذهل،
مكان رائع، خضرة وظلال ونسمة عليلة.. وذكريات مريرة، كفاك تذمرا يا أخي،
أي مرارة هذه؟) ترد عليه حياة بنزق.
يجيبها معقبا
على الفور فاتحا باب النقاش الذي لا نمله..
( بل قولي..
أني أمهد للأشياء الحلوة بشكل مثير، لا تنسي أيضا أن السنوات الجامعية
الطويلة، حملت الكثير من المتاعب والصعاب، ولم يكن يخفف من شدتها إلا
الجلوس معا تحت هذه الشجرة والمناقشات البيزنطية التي تنتهي دائما بشجار
مثير، أليس صحيحا ما أقول.. الأشياء الحلوة دوما تنتهي بمرارة؟) يلتفت
إلي، مستنجدا برأيي كعادته.
وقبل أن أنطق،
تسارع حياة..
( هذه القاعدة
غريبة فعلا، أي معلم درسك إياها؟ أظنك تخرجت من جامعة التشاؤم والظلام..)
( بل لتقولي من
جامعة الجزائر..ها ها ها،
الدنيا، الناس،
العالم بكل ما يضعه أمامي يوميا من تجارب، إنه الواقع..
ألم تنتهي
إقامة آدم وحواء، الجميلة، في الجنة، على هذه الأرض، لا لذنب سوى أنهما
أكلا تفاحة؟؟ إنها عقوبة، فتصوري يا ذكية ما هي عقوبة من يولد في هذا
البلد؟) كان يقولها بسخرية مبالغ فيها،
-
هكذا أنت دائم
التذمر ولا ترى من الحياة إلا وجها واحدا..
كان كلما يقول
جملة ينهيها بـ" اسألي علي " مستشهدا بي رغم أني لم أشارك في الحديث، كنت
بعيدا عنهما يومها، أتذكر ذلك جيدا.. كنت منشغلا في أمر آخر وهو أين
سأقيم بعد ذلك؟ هل أعود إلى القرية، وأعمل مدرسا في الطور الابتدائي؟ أم
أبقى في العاصمة وأكمل دراساتي العليا في التاريخ؟ لكن أين أقيم؟
لاحظت " حياة "
شرودي...
- أسأل من يا
أخي؟ "علي" غارق في أحلام اليقظة اليوم.
- أي أحلام؟ لا
مكان في عقلي للأحلام؟ الواقع ويا ربي بالكاد أستوعبه..
- إذن ما خطبك؟
يبادر وليد بحماس.
- الإقامة؟
أجبت بتثاقل.
- ربك يفرجها،
نسينا، الصورة، على رأي امرئ القيس، اليوم خمر وغدا أمر.. يقولها وليد
ويجرني لنأخذ صورا بمناسبة التخرج.
كان وليد صديق
الطفولة، جئنا من نفس القرية ودرسنا نفس التخصص، كان كثير المزاح، لكنه
متشدد لرأيه ولا يعجبه العجب، دائم السخط والتهكم على كل شيء، أسلوبه
اللاذع في السخرية من كل شيء وكل واحد، كثيرا ما كان يورطني معه في
مشادات كلامية أو حتى أكثر..
أما حياة،
فكانت تدرس تخصصا آخر، علم النفس، لكن تعرفت عليها من خلال وليد، فهي
ابنة خاله القاطن بالعاصمة والذي كان يغرقنا في خيره وكرمه، فهو رجل
أعمال كبير، كثير السفر والتجوال، متفتح إلى درجة أنه كان يدعوني إلى
بيته كلما عاد من الخارج عن طريق "حياة"
"حياة"
عكس"وليد" جدية وتحلم بالتغيير، تدافع عن حرية المرأة وتطورها، عن حقوق
الطفل، عن البيئة.. عن الحيوانات.. كانت تبحث عن قضية..
*****************************
أقلب الصورة
جيدا، وليد، حياة، علي.. 05/07/88.. آه حدثت أشياء كثيرة من يومها.
استرخيت على
الكرسي، ملقيا الصور على المكتب فاجأني صوت أمي وهي تدخل الغرفة.. كانت
تهم بأخذ شيء منها لكنها لاحظت جواز سفري..
- هل قررت
الرحيل؟
-
لست أدري، ما
رأيك أنت؟
-
آه يا بني أنا
مثلك، أريدك أن ترحل وأريدك أن تبقى.. أريدك بقربي وأريدك أيضا أن تهرب
من هذا الجحيم.
- هل تعلمين ما
الجحيم يا أمي.. الجحيم ما أعيش فيه، الجحيم بداخلي، الجحيم هو الحقد
الذي عشش في فؤادي، هو الغربة الموحشة في عقلي.. هو أن أنظر إلى هذه
الصور وأشتاق إليهم جميعا، فلا أجدهم.. حياة.. قتلوها لا لشيء سوى لأنها
مسكونة بحب
الحياة.. وليد ضاع.. انضم إلى الجماعات المسلحة لا لشيء سوى أنه كعادته
يسخر من كل شيء.. حتى الموت..
وأنا... أين
أنا في كل هذا.. ما زلت أقطن الحي الجامعي وأنا أدخل عامي السابع في
التعليم الجامعي، لا مسكن، ولا أمن، ولا حب ولا...،
-
لا أفهم شيئا
مما تقول.. لكن.. أينما ترحل يا ولدي، ستجد الحياة والموت..
خرجت أمي، لم
تضف شيئا آخر..
وقفت عند
النافذة، أطفال يتعاركون على الرصيف صوت نساء من الشرفات.. شمس تميل إلى
المغيب.. ريح رطبة تهز الستار تدغدغ وجهي، شيخ بعمامة بيضاء، عصافير برية
تكتظ على شجرة المطاط التي تحتل ركن الشارع، صوت أمي وهي تنهر أختي
الصغرى، رائحة الأطعمة المنطلقة من البيوت.. مذياع الجارة الفظة المشاكسة...
أشيائي التي لن
أجدها في مكان آخر.. صحيح أن الحياة والموت يا أمي في كل مكان.. لكن هناك
أشياء صغيرة.. تصنعهما بشكل مختلف..
رجعت إلى
مكتبي، لملمت صوري وأوراقي، وركنت الجواز على جنب..
تمت القليعة
15/12/2003
|