تلك القصص التي
ليس لها بداية، ولا لها نهاية، يمكنك قارئي أن تبدأها من حيث شئت وتنتهي
حيث شئت دون أن تشعر بأنك أهملت كل الحقيقة في ثنايا صفحة نسيت أو تناسيت
أن تقرأها، كما يمكنك أن تقرأ كل الصفحات دون أن تشعر بأنك أمسكت برأس
الخيط وستصل إلى آخره... لكنك ستقرأ، ربما فقط لأنها تسليتك أو لأنك لا
تجد شيئا يملأ أوقات فراغك غير كتاب ملقى على طاولتك أو على رف من رفوف
مكتبة يكسوها الغبار، لتجد بين حديه قصة ليس لها بداية ولن تعرف لها نهاية،
هي قصتي، هي اهتزاز صوتي، خافتة ستصلك ذبذباته، أنصت قليلا. اقرأني،
لا تحاكمني،
فلن يكون حكمك عادلا مهما أوتيت من موضوعية، فلعنات الظلم تمطر الجميع
باسم الحق والموضوعية، وحده الإنسان النائم بداخلك سيعرفني...
سيعرفني، سيعرف
أنين آدم الخطاء، التواب...
سيسمع أسئلة
حيرته المكتومة..
لماذا؟ لماذا
كتب علينا الشقاء؟ ومتى ستنتهي رحلتنا الرتيبة مع العذاب؟
ستسقط
أسئلتي بداخلك، وستسمع دويها، صداها، صوت الإنسان النائم بداخلك..
إن كنت أخاك...
بل سأكون أخاك الضائع يوم علموك أن تصبح راشدا، كيف تتخطاه لأجل مصلحتك..
صوت الإنسان
المخدر بداخلك سيجيبني أنتظره....
صوتي يرتفع
فجأة.. لا ألقي له بالا، وكأنه شيء ينفصل عني، جدران اللباقة وحسن السلوك
حطمتها الآن دون مبالاة.. يأخذني غضبي بعيدا عن كل ذلك، بعيدا إلى حيث
تتفجر أعماقي المقهورة، لا وألف لا، قوانيني ما عادت تؤمن لي أدنى شروط
المعاملة، علموني قديما أن صوتي عورة، أمي قالت لي أن الحرة لا يتخطى
صوتها حدود كيانها، ومن حسن حظي أن الله خلقني بصوت رقيق خافت جنبني
الكثير من الملاحظات السخيفة، إلى أن أجبرتني الحياة على... الصراخ،
الصراخ هو لسان الحق، ولا يمكن للحقيقة أن تكون بصوت خافت،
ارتفع صوتي
فجأة، الكل ينظر إلي كما لو أني أنطق بالكفر..
أفواههم
مفتوحة، عيونهم مفتوحة، آذانهم مفتوحة... وحدها عقولهم أحسستها تغلق في
وجهي...
يصمت محدثي..
يتعالى صوتي أكثر فأكثر، ويغيب حضوره أكثر فأكثر،
أتعجب في
داخلي، كيف لصوت امرأة أن يلغي حضور رجل مثله، هل أخفته؟
هل أدهشته؟ أم
فقط هولا يسمعني.. لا أهتم، الشيء الذي تفجر من داخلي لا يمكنني الآن أن
أوقفه، فليسمع هو وليسمع كل الحضور ما أقول، حتى وإن لن يسمعني أحد،
فسأقول، لا بد أن أقول..
- " أنا لست
طالبة صدقة، لن أشحذ منكم حقا ضيعتموه، حقي يرهنه التاريخ مقابل أوراق
الفضيحة. هل أسمح، ليس مخولا لي أن أفعل.. لن يرض التاريخ بتنازلي،
سأؤجله...
لكنني لن أكسر، لن تلوى ذراعي باسم الحياة والاستمرار والمستقبل الوردي
المرقط بالوعود...
فأنتم
تلبسوني ثوب قربان الوطن وتتاجرون باسمي في كل القضايا المشبوهة وبداخلي
تنزف دماء أحزاني أنهارا،
هل تدرك
فعلا من أكون؟ هل تعلم ما الحق الذي تدعي الدفاع عنه؟
حقي لن تكفله
لي"المنح" ولن تعوضني كنوز الدنيا عما ضاع من عمري..
هل تدرك يا هذا
من أنا؟؟ هل تعلم أي حكاية يحملها الملف الذي بين يديك؟
هل قرأته فعلا؟
لن تقرأ فيه شيئا.. لأنك عاجز عن الفهم، وما أنا بالنسبة لك سوى رقم في
سنوات حياتك العملية، مجرد خطوة نحو نجاح وظيفي، أو ترقية..
لكن أنا...
أنا كل الذي لا
تفكر فيه، كل الذي لن تجرؤ على التفكير فيه أبدا،
أنا كل الذي
يعني وببساطة شديدة... فشلك.. يلغي وجودك.. لذا لا يمكن لعقلك الصغير أن
يدر كني..
"
انخفض صوتي،
وهدأت ثورتي قليلا، أتعجب هل ما زال على الخط يسمعني،
يعود صوته من
بعيد، من بئر سحيقة، من وهاد عميقة، لست أعلم إن كانت أحلاما أو ذكريات..
لكنني أحسستها أشياء وضيعة، تسكن في حضيض نفسه
تترنح على حافة
كرسيه، تكاد تسرق منه.. تكاد تضيع...
استرجع نفسا
هاربا، متعبا بثقل الطموح وإغراء الكراسي.. ليقول بشيء من الفتور..
"لا يمكنني أن
أدافع عن حالة منفردة، اجمعي لي أربع مائة إمضاء لحالات مشابهة، ثم سنرى"
و... أقفل الخط
في وجهي......
عندها أدركت
أنه كان يسمع جيدا ما قلته، وعندها فهمت حقا أنه لن يدرك أبدا ما كنت
أقوله.. ابتسمت في داخلي ابتسامة المرارة، ابتسامة راحة تعيسة، وقلت بصوت
مسموع، ألفت إلي أنظار زبائن المركز الهاتفي..
جئتك يا عبد
المعين لتعينني، فإذا بك أحوج مني إلى الإعانة"
خرجت متعبة لكن
ربما أكثر راحة لأنني أيقنت أخيرا أن علي إغلاق هذه الباب،
مؤقت أجل، لكن
علي أن أفهم أنهم أغلقوه، ومهما تفننت في انتقاء الدروب المؤدية إليها
فلن أجدها إلا مغلقة ومفاتيح الحقيقة لا يمكنني أن أحصل عليها،
فلماذا يضيع
العمر وأغدو على هامش الحياة وجلادي ينعمون بها دون تأنيب ضمير؟
من يسمع أنيني
كل ليل، والوحدة تغشاني كمارد لعين، توسوس شياطينها لي بألف فكرة وفكرة،
تتقاسمني الرغبة والواجب، حقي في الحلم وواجبي نحو الذكريات..آه ثقلها
يسحقني، هاجسها يقف أمامي، يسد في وجهي كل السبل..
لماذا يرهنون
وجودي باعتراف... اعتراف بسيط.. ألا يملك الإنسان القدرة على الاعتراف
بذنب اقترفه في حق الآخر ويملك كل هذه القدرة على ارتكاب الذنوب؟؟
أكاد أتصور كل
ما حدث، بل أكثر منه بكثير..
الموت؟...، ليس
جديدا علي.. ألفته.. تضحك أعماقي وأنا لا أتخيله فوق رأس كل منا، تضحك
أعماقي بمرارة وأنا أرى ضحكته الحكيمة..
صحيح أن الموت
مصيبة كبرى، لكنه قضاء الله، لكن أعظم منه مصيبة، أن يصبح قضاء البشر..
أن يملك الناس عمرك، مستقبلك، حاضرك،أن تغدو مجرد رقم في عملية خاسرة، في
عملية لا يدرك مصمموها قوانين الحساب فلتقل على كرامتك كإنسان.. السلام...
وماذا الإنسان
بغير كرامة؟
وماذا الحياة
بغير أمل؟ أن يخطط الآخرون لك يعني أنك فقدت معناك....
آه.. ماذا
يعرفون؟
وكيف يمكنهم أن
يتصوروا معرفة الألم..
نعم، ربما
تألموا يوما ما.. لأنهم سلبوا كرسيا ما، أو هجرتهم خليلة ما، أو ماذا
أيضا؟ لا يمكنني أن أتخيل أشياء أخرى تؤلمهم، لأنهم لم يسلبوا حقا ما، لم
يظلموا يوما ما، وإن حدث فبإمكانهم رد الاعتبار، رد الحق الضائع ورد
المظلمة لأن صاحب القوة هو نفسه صاحب الحق...
تجاذبتني
الخواطر المريرة، لكني لست أدري كيف أحسست براحة، وأنا أفكر أن هذا العبد
الضعيف خدمني جدا وهو يقول لي دون أن يعلم ذلك
" التاريخ
والمستقبل خطين متوازيين، فلا تتعبي نفسك بالبحث"..
قررت أن أؤجل
طلبي، وأنظر إلى الغد..
لم ألاحظ أني
وصلت بيتنا...
وجدت الطفلين
كالعادة في الغرفة يتسليان بلعبة جديدة أهدتهما أمي إياها بمناسبة
تحقيقهما نتائج مدرسية جيدة، قفز الصغير "منير" إلى عنقي ثم قرب شفتيه
الكرزيتين واستسلم لقبلته المعهودة، ما زلت أحسه رضيعا رغم أنه جاوز
الثامنة،
إحساس متناقض
يربطني بولدي،
أحمل الأكبر
همومي وهو أيضا ما يزال في سن الطفولة، أتعامل معه بمنطق الند للند،
صديق، أخ، أب، زوج، لست أدري كيف؟ لكنه كل أولئك، الذين فقدت.. هكذا
علاقتي بـ"نديم"..
أما كتكوتي
الصغير، فهو كل شيء تمنيت أن يحدث معي ولم يحدث..
هو الحب الذي
لم يعطني إياه القدر...
هو الصدفة
الجميلة التي تبزغ كشمس أول الشتاء...
هو الحلم
الساحر الذي يطول...
هو القنديل
الذي يضيء ليالي التعيسة...
هو كل الأشياء
الحلوة التي لن أرضى بشطبها من خيالي،
ولأجل هذا
سأعيش...
سألني "نديم"
بكثير من اللطف والجرأة..
"ماذا حدث معك
اليوم؟"
ثم أردف بكثير
من اللؤم... "أي أوراق تنقص الملف..؟"
هززت رأسي وأنا
أبتسم..
"طلب أربع مائة
إمضاء، حتى يناقش الطرح الجديد للقضية"
"ولماذا طرح
جديد؟ ألم تطرح بشكل مناسب كل السنوات الماضية؟"
"بلى، لكن
الآن... ماذا بوسع الميت أن يقول وهو بأيدي دافنيه، الزوجة لها أولاد
والأولاد يكبرون ومصاريفهم تكبر... وهذه الورقة مربحة للتنازل"
يقاطعني
بحماس..
" أنا لست ولد،
أنا رجل، ويمكنني أن أعيلكما، سأعمل أي شيء، أبيع التبغ الحلوى، لا يهم،
لا تطلبي مساعدة من أحد، على كل لا شيء يغنينا عن أبي"
مددت يدي نحوه،
فارتمى في حجري، مسكين رجلي الصغير، حملته الكثير،
صار علي أن
أغير طريقتي في الحياة، لزاما علي الآن أكثر من ذي قبل، لأن الأمور إذا
سارت على هذا المنوال فسأخسر كل شيء في يوم من الأيام،
فعلا كل شيء.....
تذكرت ما قاله
المسؤول..
التاريخ
والمستقبل خطان متوازيان، طبعا لا يمكنهما أن يلتقيا أبدا، خطان متوازيان
ومتعاكسان في الاتجاه..
ومهما اتسعت
المسافة بينهما، فإنها تظل شريطا معبأ بالتأويلات، بالاحتمالات،
بالذكريات،
" لا
تربط مستقبلك بالماضي، الحياة أمامك جديرة بأن تفتح لها قلبك وعقلك
وروحك، أن تهيئ نفسك لمستقبل سيكون حياتك وأنا، من جهتي، أعاهدك ألا أفتح
صفحة هذا الموضوع بعد اليوم، لأننا من أجل والدك، لن نتركهم يصنفونا في
خانة المؤجلين عل هامش الحياة، تصور مضى على....."
( ماذا يمكنني
أن أسمي ذلك؟ موته؟ رحيله؟ اختطافه؟ سجنه؟ تهريبه؟ هروبه؟؟؟ أي المصطلحات
أنفع لمستقبل ابن فقد حضور والده، واضطر للعيش دونه على أمل عودته، أمل
قاتم، هاجس خانق.. أنا غير متأكدة.. بل أكاد أجزم.. أنني لا أملك القدرة
على أن أعيش ثانية أياما كتلك التي عشتها زمان... لدي هاجس يسكنني، بأنها
لو عادت لن نكون فيها إلا مجرد أشباح تطارد تلك الذكريات، تلك الأحداث،
التي ستطفو على سطح حياتنا تفقدنا متعة الأمان، ابني لن يفهم ذلك..)
أفقت من شرودي
لأجد "نديم" فارق حجري، وانهمك في النقر على أزرار لعبته الإلكترونية،
وجهان لهذا
المسكين،
رجل يذكر جيدا
ما حدث.. يعيش مع روح أبيه الغائب، وينوب عنه في إحساسه بالمسؤولية
نحونا، وطفل يلهو بلعبة سباق السيارات، لست أعلم أي الدورين يحب، الأرجح
أن يكون بداخله إنسان آخر يسخر من اللعبتين معا، ويهيئ نفسه لدور أكبر..
لدور أخطر..
أرخى الليل
سدوله، وأنا ممددة على الفراش، عيناي لا تبارحان منظر الطفلين النائمين،
كم هو ساحر منظر الأطفال في نومهم، إنه منظر البراءة والصفاء والأحلام
الحلوة، منظر الاستسلام والعجز أيضا، أكثر ما أحس بمسؤولياتي..
عندما ينامان،
أحس أنهما لن يعيشا بدوني، لا يمكن لأحد أن يحميهما كما أفعل، أتخيل
الأرواح الشريرة تحوم فوق رأسيهما، آه لو كان بمقدوري أن أدخل أحلامهم
لفعلت، لرسمت لهم عالما من الألوان الزاهية، حيث الأفق الرحب الأخضر
المنقط بالسلام والعافية، حيث الآمال البيضاء الناصعة ترفرف على الرؤوس،
حيث جبال الحب
تعلو فوق كل التضاريس الموجودة، تنساب منها جداول الود تروي ضما القلوب،
حيث شمس الحق تذيب الجليد المتراكم على العقول، حيث نسيم العدل ينعش
النفوس، حيث الطبيعة راعيا على الجميع، تجزل العطاء حين تحنو وتنصف حين
تمارس قوانينها.. هل لهذا العالم خلاق؟ حتى الطبيعة أمنا الأولى، أمنا
الكبرى، لا تعرف العدل... لن يكون لعالم كهذا وجود إلا في أحلام
الكبار... أما الأطفال.. فهم أكثر منا موضوعية، يحلمون بأشياء تختلف
تماما،
بنزهة في حديقة
الأطفال.. بلعبة جديدة، بقطعة حلوى، هناك أيضا من يحلم فقط..
بقطعة...
خبز... أو قطعة لحم.. أو فقط... بعودة أب... مفقود...
أحسست بتعب
شديد ولم تكن لدي رغبة في النوم، بداخلي شيئان متناقضان، يتصارعان، الغد
والأمس،
لم أفكر سابقا،
في الغد، على الأقل بالطريقة التي اخترتها اليوم..
كنت دائما أنظر
إليه بعيون الماضي، فبدا لي قاتما أسود،
لكنني اليوم
أدركت أن للحياة منطقا لا بد أن نخضع له، وإذا خالفناه عرضنا أنفسنا
للتلاشي،
من أجل طفلي
سأعيش، لن نقضي العمر في محاربة طواحين الهواء... وقبل أن أغلق هذه
الغرفة المعتمة بمآسيها، المكتظة بذكرياتها الحلوة والمرة، علي أن أعيد
ترتيبها بشكل جيد وأحافظ على وجود أشيائها كلها، غرفة الماضي لن تباع
مقابل منحة وضيعة.
تقلبت في فراشي
طويلا، كان الجو حارا ونافذة الغرفة مشرعة، ونور القمر جريئا، يخترق
جفوني المغلقة، تدغدغني إشعاعاته، تبعث في حيوية وتحفزني على التفكير
الهادئ المستنير..
ثم... فجأة
عبرتني فكرة..
علي أن أدون
كل"أثاث الغرفة" قبل أن أغلقها، علي أن أكتب تاريخي قبل أن يذهب مع عجلة
الأيام، علي أن أخرجه مني، علي أن أنسخ له صورا أخرى أحفظها في مكان ما
حتى لا تضيع، وحتى لا تمنع عن ولدي متعة الأحلام.. فهل هذا ممكن؟
هل يمكن
للإنسان أن يعيش بدون ذكريات؟
طبعا لا، لكن
لن أترك الماضي يقف حاجزا أمام المستقبل، لن أتركه يمضي بي حيث يريد، لن
أتركه يوجه حياتنا المناحي الذي يريد،
أنظر إلى
أيامي، أقلب رزنامة عشر سنوات خلت ماذا أجد؟
ملفات، أوراق
لا تنتهي، ركض وراء منظمات حقوق الإنسان، التي لا تفرق بين الحق
والواجب... ركض في المحاكم.. مشاوير لا تنتهي، كل يوم علي أن أفكر في
وجهة جديدة، أو عودة أخرى وأخرى و...، لا تنتهي..
عودي الأسبوع
القادم، بعد شهر.. بعد عام... وما الأعوام بالنسبة لحشرات مثلنا ولأجل
ماذا كل هذا؟ ليقال لي شيء أعرفه...
ستلومني يا
قارئي، ستنظر وتفلسف وتحاكم، كطبيعة كل البشر عندما لا يتعلق الأمر بهم،
شعارات ومواقف لا تحملها سوى الكتب، ستعتبر قراري استسلاما،
ضعفا.. أو حتى
خيانة.. لكن ربما يوما ما ستفهم عندما تحكم عليك الحياة، قراراتها لا
تناقش، فأين يمكنك أن تقدم الطعن، ستبكي، ستندب حظك السيئ، ستنقم على
الذين سلبوك حقك،
ستحاول أن تصرخ
ليسمع أحد صوتك.. لكنك لن تسمع إلا صدى صوتك..
وتدرك يومها
أنك فعلا وحدك، وأن القدر، قدر يصنعه بشر مثلك، نجح في إلغاء وجودك، في
تهميشك، عندها ستفكر ربما مثلي في إثبات وجودك بطريقة أخرى أو تمضي عمرك
مشفقا على نفسك.. ستهون على الناس ...، ستهون على نفسك...
*****************************
قمت من سريري،
حملت محفظتي، حيث أحتفظ بكل أوراقي وملفاتي، لم أخرجها كعادتي، لم أنثرها
على طاولتي، لم أعد ترتيبها ككل مرة أملا في أن يخرج منها شيء يخلصني من
تعبي... لا بل أخرجت قلمي وكومة ورق و... بدأت أكتب...
عندما نكتب
الأشياء، نخرجها منا، ننتهي منها، وأنا أريد أن أنتهي من كل هذا.....
*************************
أحمل سنواتي
العشرين وكثيرا من الملل والخوف وشيئا محتشما بداخلي ينبض ببطء وثبات..
إنه الأمل..
أحمل حقيبتي
الرمادية ومعطف أختي الكبرى، هي لا تحتاجه لأنها قعيدة البيت وأنا ليس لي
خيار آخر لأن أبي يرفض خروجي من البيت تجنبا لجلب الانتباه،
"
البسي أي شيء،
فأنت ذاهبة للدراسة وليس لمعرض أزياء، انتبهي لذلك جيدا وإلا فمصيرك
البيت"
طبعا أنتبه
جيدا، وإن كان في ذلك إحراج كبير، لكن لا بأس ما دام يتركني أدرس.
سأحقق طموحي
العلمي وكل طموحاتي في الحياة أبي رجل طيب في داخله لكنه ابن بيئته،
وكثيرا ما يظلم أمي أو أي واحدة منا بسبب ذلك، حتى جدتي المسكينة لم تكن
تسلم من تشدده،
إذا دخل البيت
تغير كل شيء، لا تسمع سوى صوته يجلجل في غرفته العلوية و... قدمي أمي
كدبيب النمل تروح وتجيء، تصعد وتنزل، تحمل صينية القهوة أو الشاي، أو دن
الوضوء.. أو فقط تركض دون هدف..
لكنها كانت
تعبد أبي، لست أعلم إن كان ذلك خوفا أم حبا؟
لا تضجر من
أفعاله أبدا، لا تشتكي من ظلمه وجبروته، ولا تقبل أن تتلفظ إحدانا في حقه
بسوء،
"
هو رجل البيت،
وهو دائما على حق..."
كنت أتعجب منها
ولم أفهم تصرفاتها تلك... حتى...
*******************************
كان يوما
ربيعيا ساحرا، وكنا على أبواب امتحانات نهاية السنة، وكعادتي مع
الامتحانات، شعرت بالفرحة على غير طبيعة زملائي، كانت الامتحانات بالنسبة
لي، أشواطا أقطعها لأصل إلى مبتغاي، وهو الشهادة التي ستؤمن لي مستقبلا
علميا طالما تمنيته، ولأن الطاقة التي كان يختزنها كياني، تحركت بداخلي
منذ تعلمت أن.. أحلم.. ولأنني بدأت أحلم منذ تعلمت أن أفكر.. ولأنني فكرت
منذ بدأت أحس بالقهر.. فكانت الطاقة تضغط علي لتتحول،
وبما أن"للطاقة
أشكالا مختلفة يمكنها أن تتحول، وأن هذه التحولات لا يرافقها ضياع في
الطاقة مطلقا، بحيث إذا اختفى جزء منها فلا بد أنه يكون موجودا على شكل
آخر، فإنها محفوظة دائما."
كان علي أن
أدرس.. وفقط ذلك، كسبيل فريد أفرغ فيه شحنتي.. وأحولها نحو المناحي التي
أريد.
دخلت البيت
مبكرة على غير عادتي، أمي طلبت مني أن أعود الظهر، لأن أبي يريد ذلك،
طبعا حاولت أن أفهم لكن أمي أغلقت باب السؤال،
" قلت
أبوك يريد ذلك، وأنا لا أعرف شيئا،" اضطررت للتخلف على الأعمال
التطبيقية، وعدت في الموعد.
فور دخولي
البيت قابلتني أختي الكبرى "فاطمة" ملوحة بيديها تطلب مني السرعة، لحقتها
إلى المطبخ فوجدت كل شيء يشير أن في البيت ضيوفا من نوع خاص، طاقم القهوة
الذي جلبه أبي منذ عامين من السعودية لم يخرج من الخزانة من يومها،
والصينية الفضية التي تعتز جدتي بها لا نراها إلا من خلف زجاج خزانة خشب
الجوز التركية الصنع، وأنواع الحلويات البديعة.. كل هذا يشير أن في الأمر
خبرا ما..
نظرات "فاطمة
"المازجة بين الأسف والغيرة أعطتني جوابا فوريا.
- "من عندنا؟"
سألت فاطمة المنشغلة عني بترتيب الأواني،
- " خطاب،"
رمتها في وجهي وعادت إلى عملها
صعقني ردها،
فهمت على تعبير وجهها الشاحب.. أنهم خطابي..
طبعا لم يكن
ذلك الخبر إلا ليزيد علاقتي بأختي الكبرى توترا، لكنني ساعتها فكرت فقط
في دراستي... خطاب يعني زواج والزواج يعني نهاية الدراسة وتبخر أحلامي
وطموحاتي التي ناضلت من أجلها طويلا.. صبري على أبي، وعلى كل الحصار الذي
ضربه حولي طيلة السنوات الأخيرة...
لا تخرجي هكذا..
لا تتحدثي مع
الذكور.. لا ترفعي رأسك وأنت في الشارع..
لا تتأخري
دقيقة واحدة عن موعد الدخول إلى البيت..
لا أريد
علاقات.. لا صديقات.. لا غريبة تدخل البيت وتعرف أسراره.. لا... لا...
إياك وعكس ذلك، أطعت أبي في كل ما طلب لأنني وضعت نصب عيني أشياء أكبر..
ظننت أنها ستعوضني عن كل الممنوعات، التي لم أهتم كثيرا بها.. مادمت أحقق
نجاحا بعد نجاح على الصعيد الدراسي.. وتركت المستقبل للأمل الأكبر..
والآن..
لم أفكر في
الخاطب أيضا، وماذا يفرق عندي.. أكيد أنه من أبناء أصدقاء أبي ومن شاكلته..
جلست على حافة
الكرسي، أفكر فيما سأقوله حتى انطلق صوت أختي نبيلة..
- أمي تشير
إليك بالدخول، احملي صينية القهوة، وانتبهي جيدا.. لا أظنك قادرة على حمل
صينية قهوة بشكل لائق...، والله.. الدنيا حظوظ...،
أردفت بكثير من
الاستهزاء..
نظرت إلى
الطابق العلوي، فقابلني وجه أبي الحازم، نظراته الحادة نحوي وهو يحدث
جدتي في عجالة قبل أن يلتحق بضيوفه.. تحركت بداخلي رعشة شديدة، لم أفكر
في شيء، لحظتها، تحركت ككائن آلي لأحمل الصينية دون أن أعير مظهري أدنى
اهتمام، ربما ذلك أفضل لي..
****************************
وتسارعت
الأحداث، وتحولت الطاقة التي كنت أصرفها للتحصيل العلمي إلى تعلم أصول
الطبخ والنظافة وقواعد الأصول الاجتماعية،
طبعا لا تضيع..
لكنها فقط تتحول..
وتحولت أشياء
اختزنتها بداخلي ولم أصرح بها لأحد..
إلى أوجاع تارة
ومسكنات تارة أخرى..
Les secrets de la nature sont cachés, quoiqu’elle agisse toujours ,
on ne découvre pas toujours ses effets
ولم يستطع
أحد أن يعرف أسراري، رغم أني كنت دوما فعالة في كل الأدوار التي منحت
لي.. لم يستطع أحد أن يكتشف آثار ذلك... لأنني كنت طاقة تتحول
باستمرار... لكنها أبدا لا تضيع.. لم يفهم أحد هذا حتى...
****************************
بعد شهرين...
الزغاريد
تملأ البيت، والنساء في أبهى زينتهن ترقصن وتدندن..
"صحاب
البارود
يا صحاب
البارود والكرابيلا.."
رائحة
الكسكسى والمرق باللحم الطيبة تسد الأنوف..
البنات
الصغيرات البريئات بضفائرهن وأربطتهن الحريرية وأثوابهن البيضاء أو
الوردية، في لون الملائكة وخفتهن، تتقافزن فرحا والأحلام تصنع نشوتهن..
تدرن حولي كالفراشات الحمقاء يملأها حب الحياة وزركشة الأفراح..
وأنا...
وأنا الجالسة على كرسي كبير، عالي، أعلى من كل كراسي المجلس ووسادة مطرزة
بالذهبي،
وأنا التي
تلاحقها الأنظار، تحاصرها من كل جهة.. أرسم على وجهي، الذي لا يشبهني
كثيرا.. ابتسامة مفتعلة غبية كلما قاطعتني تلك النظرات الفضولية.. ورأسي
يذهب بعيدا
يذهب إلى
أسرار تحفظها أعماقي، وأحاسيس أداريها بذكاء،
أفكر في ذلك
الحلم العذب الذي يبادلني نظرات هادئة ساحرة، أفكر في لغة العيون
المتلألئة، إشعاعات متوهجة حالمة،
أفكر في ذلك
الذي رافقني كل سنين الدراسة دون أن يكلمني يوما واحدا، شاءت الأقدار أن
تجمعنا حتى في مدرجات الجامعة، وترافقنا دون أن يصارح أحدنا الآخر
بمشاعره، لم يكن لذلك داع، فهمنا أن قلبينا يدقان بوتيرة واحدة، لم نكن
بحاجة إلى الكلام، ذلك الفتى الذي أحب، سر كبير، منذ البداية كنت أعلم
أنه سيبقى كذلك وإلى الأبد..
عرس، وبيت،
ورجل حياتي، قدر علي أن أعايشه، أن أوجه بوصلة مشاعري فيه، كل الطاقة
التي تتخبط داخلي علي أن أحولها قنوات حاضري، لن آسف على شيء، لن أتحسر
على ما كان.. وما الذي كان، لم أمني نفسي بشيء ولم يعدني أحد بشيء،
فلماذا الحسرة..
أشارك
الحضور فرحتهم، ويشاركني الحضور تمثيلي المتقن، كلنا كان يلعب دورا في
مسرحية وزعت أدوارها عشوائيا، وشاءت يومها الأقدار أن أكون البطلة، أظنني
نجحت في لعب دور العروس المتلهفة السعيدة، وأظن الجميع نجح في دور السعيد
بسعادتي..
*****************************
وعلى عكس ما
توقعت، تعودت على وضعي الجديد وتأقلمت مع أهلي الجدد بنجاح، وأحببت
القرية وجوها وأهلها وطبيعتها الرائعة، مروج خضراء على مدى الأفق، ونسمة
نقية وهدوء يبعث على الاسترخاء وتقبل الحياة بصدر رحب،
ولعل من أهم
العوامل التي ساعدتني على الإحساس بالراحة هي طبيعة المكان وبساطة أهله،
والأهم من
كل هذا، أني وجدت رجلا يحتويني، ويمنحني الإحساس بالاستقرار، بدأت أتعلق
به وبدأ شعوري نحوه يزداد إعجابا يوما بعد يوم، لعل أهم ما يشد المرأة
إلى الرجل هو إحساسها فقط بأنه فعلا رجل... وأظنني مع هذا فهمت ما كانت
تقصده أمي، ليس الحب الرومانسي هو ما يصنع الاستقرار في العلاقات
الزوجية، ليس ذاك ما نحتاجه لنرتاح في واقعنا ونرضى به، بل الاحترام
والإحساس بالاستقرار، أما الأحاسيس الأخرى فهي تصلح للأحلام الحلوة، التي
قد لا تطول وإن كانت عذبة وما يجعلها أحلاما حلوة أنها لا تكتمل..
ومرت ست
سنوات....
حصيلتي فيها
ولدان... وست خراف.. وبقرتان، وثلاثون دجاجة، وقطعة أرض أصلحتها وزرعت
فيها بصلا و طماطم و بقدونس وكزبرة.. ولقب الفلاحة..
أضف إلى
ذلك، راحة وسكينة كبيرة وعزلة عن العالم..
وتحولت طاقة
التحصيل العلمي والحب العذري، إلى عمل متواصل ونوم قليل، وأدوار وزعتها
علي بالتناوب وأظنني نجحت فيها بشهادة الجميع،
فكنت ألبس
دور الزوجة من الخامسة مساءا حتى الصباح.. ودور الأم كل النهار، ودور
الكنه كلما تطلب الموقف ذلك، ودور الفلاحة و....و...
واعتقدت أن
هذا كل شيء.. حتى...،
*****************************
قمت يومها
الفجر كعادتي، تفقدت حظيرة الحيوانات أزودها بالطعام والماء وأحلب
البقرة، وأجمع البيض، لأعود إلى البيت قبل قيام الصغيرين،
وجدت
"مصطفى" في المطبخ يحضر القهوة على غير العادة، لم يكن يفعل ذلك مطلقا،
بادرته بالسؤال..
-" مفاجئتين
دفعة واحدة !! لم تذهب إلى المسجد لصلاة الفجر كعادتك ولم تحضر القهوة.
-" لست أدري
ما بي، أحس بضيق شديد، لا أرغب اليوم في لقاء أحد، أريد فقط أن أبقى
معكم، ما رأيك في أن أساعدك في تنظيف الأرض وجني المحاصيل؟"
-"من يسمعك
تتحدث هكذا يخيل إليه أننا نمتلك المتيجة كلها.."
قاطعني صوت
صفارة ضاغطة القهوة، أطفأت الفرن وهممت بتحضير الصينية وإذا بأصوات
تتداخل في فوضى خارج البيت تثير انتباهنا، نباح الكلاب وأزيز محركات
السيارات وطرق على الباب الخلفي المصفح، طار قلبي وتحرك "مصطفى" ليرى ما
يحدث، ونظرا لما كان يحدث أيامها من اغتيالات واختفاء لكثير من الناس في
قريتنا وضواحيها، حاولت أن أمنعه،
" دعني
أنا أخرج وابق هنا أرجوك.."
"و لمَ
الخوف، لما التخفي، أنا لم أفعل ما يستدعي الخوف، وليس لأحد عندي حساب"
"وهل تظن كل
الآخرين مذنبين؟ لست مطمئنة، دعني أرى من النافذة من هم؟"
نظرت من خلف
الستار والأصوات ترتفع بإلحاح متزايد: "مصطفى الطيب".. "مصطفى الطيب"..
كانوا
يلبسون الزي الرسمي لرجال الدرك، ومحركات سياراتهم لا تتوقف عن الهدير.
خرج.. وركضت
خلفه..
فتح الباب
وأشار لي بالتنحي، كنت أنظر من شق الباب..
" السلام
عليكم.."بادرهم بالتحية.
لم يرد أحد
على تحيته..
"عليك أن
تتبعنا.."نطق كبيرهم في غلظة.
" لكن
لماذا؟"، علق حائرا..
"إجراءات
بسيطة، بعض الأسئلة لملء بعض الملفات".
"وما علاقتي
بالملفات التي عندكم، أنا إنسان في حالي، ليس لي علاقة بالسياسة ولا
بقضايا الأمن."
"لا تضيع
وقتنا، هيا اركب.." أخذ أحدهم يدفعه داخل السيارة المصفحة.
" دعوني
أنزع العباءة، وألبس حذائي"
" لا داع...
ستعود بعد.. قليل.."
لم أتمالك
نفسي، فهمت جيدا ما يحدث، حدث هذا مع الآخرين، خرجت مسرعة.. أتوسل إليهم
أن يتركوه، لكن كبيرهم كان يقول في وقاحة..
"لا تضيعي
وقتنا، سينام في حضنك هذا المساء
ضحكوا..
ضحكوا كثيرا... وطأطأ "مصطفى" رأسه..
أحسست بيد
صغيرة تجذب طرف ثوبي وسمعت بكاء "نديم"...
" من هؤلاء
يا أمي..."
ضممته إلى
صدري وأنا أمسح دموعي والسيارة تنطلق بجنون مخلفة وراءها زوبعة من
الغبار... وأحمد يشيعنا... بنظرات لا يمكن لي أن أصف حرارتها و.. غضبها..
ونقمتها... و.. عذابها...
أجبته
بثبات... كاذبة...
"لست
أعرفهم... إنهم الغرباء... إنهم زوار قادمون من كوكب آخر.. ليسوا منا..
لا يعرفهم أحد... لا يعرفهم أحد..."
رغم أن تلك
الوجوه لم تكن غريبة عني..
************************
ويمر
الشهر.. حزينا، كئيبا، متعبا، مخيفا،
كل يوم نسمع
أخبارا عن رجال اختفوا، لأسباب نجهلها، كنا نؤول ذلك، نقرأ كل
الاحتمالات،.
زوجي لم يكن
يأبه بالسياسة وأمورها، كان يصلي أوقاته كاملة، أحيانا في البيت وأحيانا
أخرى في المسجد، لم يكن شديد المخالطة، ليس له أصدقاء كثر وصديقه الوحيد
"نور الدين" لا يصلي إلا الجمعة، والأعياد، ورمضان، فلماذا يحدث له ذلك؟
لا ينتمي
لأي تيار ولا أحد له عنده أي حساب فلماذا هو؟ ولماذا الآخرون؟ ولماذا
يحدث كل هذا؟؟
يمر علي
الشهر وأنا أنتظر أخبارا تواسيني، كلما دخل أخوه" محمد"، أتوقع أن يحمل
لي خبرا ما، مجرد خبر... لكن الأخبار لم تكن تأتي أبدا...
ما كان علي
سوى تحمل ساعات الانتظار المريرة... وبدأ الآخرون يملون أسئلتي "ماذا
فعلتم اليوم؟ هل من أخبار؟ لماذا لا تقصدون منظمات حقوق الإنسان؟
لماذا لا
تقدمون شكوى لوكيل الدولة، لرئيس الحكومة، لرئيس الدولة؟
ماذا
تنتظرون؟ حرام والله العظيم حرام..."
وشيئا فشيئا
انقطعت عني الزيارات، لم يعد أحد يسأل عني، أصهاري، إخوتي، جيراني، صار
الجميع يتحاشاني، أخذت وقتا لأفهم أنهم خائفون، ولم يكن مخولا لي أن أخرج
وأتحمل مسؤولياتي بنفسي، فضممت ولدي ورحت أعد الأيام..
*****************************
ويمر العام،
ثقيلا، تعيسا، مشؤوما، تعبت فيه كثيرا وتألمت أكثر..
الأرض حولي
يبست وذبل زرعها، الجدول المحاذي لها، جف وتلاشى،
خرافي مات
نصفها وبعت الباقي بنصف الثمن... والناس نسوني ونسوا "مصطفى".. وصارت
الدنيا بالنسبة لي كهفا مظلما.. أتلمس أحجاره، أبحث عن طيف حياة، فلا
يجيبني إلا الخراب والموت..
أبي رحل..
اشتقت إليه كثيرا.. احتجته كثيرا.. أهفو إلى غلظته.. إلى صوته القوي
مجلجلا في البيت.. إلى نظراته الحادة اللائمة، إلى نظامه الصارم الذي لا
يناقش، إلى صوت قدميه على البلاط.. أحتاج إليك يا أبي...
"مصطفى"
أيضا رحل، رحل معه الأمان والاستقرار و"السترة".. هكذا تقول أمي
" الرجل
هو حجابك، هو سترتك"
فهمت ما
كانت تقوله أمي عندما جاءني "محمد" ذات صباح...
"من غير
اللائق أن تبقي وحدك في البيت، نرى جميعا من اللائق أن تأخذي الأولاد
وترحلي إلى المدينة عند إخوتك، هذا آمن وأليق.."
فهمت أن لا
معنى لوجودي بينهم، لوجودي في هذه الأسرة ما دام زوجي غائب لم أعد أعنيهم
في شيء.. بل صرت عبأ ثقيلا يقلق راحتهم ويتعب ضمائرهم.
رحلت..
***********************
بدأت معركتي
الحقيقية مع الحياة، وحدي.. كان علي أن أعيل أبنائي، وأكفل لهم حقهم
الضائع،
بحثت عن
عمل.. تعبت كثيرا في ذلك وصرفت الوقت الأكبر في إقناع إخوتي.
وواصلت
البحث على زوجي، ركضت كثيرا خلف منظمات حقوق الإنسان، والمحاكم، كل
الهيئات المعنية، نسيت نفسي وسط الدوامة والتعب.
ما زال
القمر يتوسط السماء ومجموعات النجوم التي أعرف أسماءها جيدا تتدلى متوهجة
تمنحه صفة الكمال، ملك على كرسيه والجواري الحسان تصنعن قدسيته..
ومازلت
أكتب، تذكرت القمر وأنا اصل إليه...
ذاك الذي
عاد لينظر إلي.. لتتحدى يأسي وحزني، عيونه..
ذاك الذي
تناسيت.. الذي ألغيت مشاعري نحوه.
عاد ليحدث
الفوضى في حياتي، ليزيد آلامي حدة
أما كان
يكفيني ما كنت فيه؟
لم يسبق له
وأن حدثني.. لكنه في ذلك اليوم قرر أن يفعل..
" اسمحي لي
يا سيدتي.. أريد أن أكلمك.."
تمالكت نفسي
وأجبت في حدة علها تخفي توتري واضطرابي..
"ليس المكان
مناسبا ولا الظرف كذلك.. أنا مستعجلة، في وقت آخر"
لا زلت أذكر
تلك النظرة اللائمة، التعبير القاسي على وجهه، حين تركته وواصلت سيري..
لكن هل كان
بإمكاني أن أحدثه...
على يمينه
وجه "نديم" وعلى يساره وجه "منير"، بيني وبينه وقف "مصطفى"
وغير بعيد
عنا.. كان أبي يرمقنا بلوم شديد..
هل كان
بإمكاني، أن أسمعه.. وأنا أعرف أنه لم يتزوج بعد.. وما نساني قط.
لم أكن
بحاجة لأسمعه.. قلبي يفهم جيدا نظرته.. لكن..
بعد ستة
أشهر يبلغني خبر وفاته...
*****************************
كيف تتوقع
حياتي بعد كل هذا يا قارئي؟
توالت أحداث
كثيرة علي، وما زلت معلقة.. أرملة؟ متزوجة؟ مواطنة؟ مغتربة؟ مؤجلة على
هامش الحياة حتى إشعار آخر..
أهل زوجي
أخذوا البيت ورموا أثاثي في الخردوات.
إخوتي
تزوجوا وولدوا و.. لعلك تدرك الباقي...
الذئاب حولي
كثر.. ومخالبي تكسرت..
الحياة
شحيحة معي وأنا أهفو إلى صدر حنون...
الصدر
الحنون...
"ماما لما
لا تنامين؟ اتركي ما في يدك وتعالي بقربي، أشعر بالخوف"
جاءني صوت
"نديم" لينتشلني من وساوسي.. أقفلت المحفظة على أسرارها دسست أوراقي
وتمددت بقربه.. ضممته إلى صدري وقد رحل القمر...
القليعة...6/6/03
|