أسيا علي موسـى

4- آه.. مريم.

 
 

"عندما تصلك رسالتي هذه، أكون قد فارقت عالمينا حزنا، وقهرا، واغترابا.."

بهذه الكلمات ختم رسالته، طوى الورقة على أربع، وضعها في الظرف ثم أغلقه بإحكام وحمله إلى أقرب مركز للبريد.

عبر الشوارع بسرعة تشبه الركض وكأنما اجتهد في توفير الوقت لموعد مهم.

وقف أمام صندوق إيداع الرسائل، هم بإلقاء الظرف لكنه توقف فجأة وكأنه تذكر أمرا هاما،

سرح طويلا في غفلة عن استعجاله السابق، قرب الرسالة من وجهه تشممها طويلا، لثمها برقة في البداية ثم بلهفة وشوق، أودعها أنفاسه المضطربة ثم استسلم لنوبة بكاء حادة ..

تساقطت دموعه الغزيرة، ارتجفت شفتاه وجعا وخوفا وانكسارا..

وعندما أفاق من نوبته راعه ما آل إليه حال عنوانه المكتوب بلغة فرنسية متمايلة الحروف وكأنها زهور برية تحني قاماتها مستسلمة لنسمات غربية تكنسها الجهة الشرقية..

Gisèle Belcourt……France

تلاشت الحروف الزرقاء، محترقة بملوحة دموع تتساقط عليها كحمم بركانية أرسلتها أغوار نفس تغلي حرقة ويأسا.

" حتى دموعي التي ذرفتها يوما على كتفك، عندما كنت راحلا إلى بلدي ذات صيف للقاء الأهل والأحبة وأنا أودعك على باب بيتنا الأنيق...

تلك الدموع التي جاءت تنبئني بامتداد المسافات بيننا والتي ظللت أتجاهلها لوقت.

كنت أحوط خصرك بيدي كطفل يتشبث برائحة أمه، لكنك لم تكوني بحرارة أم..

كنت باردة كقطعة ثلج خرجت لتوها من البراد...

حتى تلك الدموع لها شهية الانتقام، لا تريد أن تغفر لك تلك البرودة.."

قالها وابتسامة مرة تمسح تقاسيم وجهه الشاحب الهزيل وآثار المرض بادية عليه،

استحال وجه الغلاف بقعا من البلل، لم يفكر طويلا في استبداله، بل أعاده إلى جيب معطفه الصوفي الداكن، كل ما يحمله منها كذكرى..

رفع رأسه إلى السماء، رمادية كانت، وقد بدأ رذاذ أمطارها يدغدغ وجهه..

" ما ألذه من إحساس، ذاك الذي يأتي به أول المطر... لكن من الأمطار الخفيفة تفيض الأنهار"

رفع ياقة معطفه عندما لسعته سياط الريح الشمالية، أحس بالبرد، بالوحدة، والغربة، انتفض وولى هاربا..

عبر الشارع الموالي، ثم تثاقلت خطواته، كأنما تعمد تأخير موعده، نظر إلى ساعته، ثم إلى الطريق.

السيارات مسرعة تغوص عجلاتها في الحفر التي تناثرت على الطريق فتطاير الماء الذي تجمع بها على جنباته.

الماء تحته ومن فوقه، على كل جسده، لا ينفع المعطف، بحركة جنونية نزعه وألقاه عنه..

بعض المارة مُسْرعي الخطى يختطف إليه نظرة تعجب، ثم واصل سيره، الكل راكض كما الفئران الخائفة تبحث عن جحرها المعهود،

وحده كان يمشي الهوينى، فما كان يخيفه لا ينفع معه الجري..

لكن ربما.. فقط الهروب..

اختلط الماء بالتراب، واقتربت السماء من الأرض، تمطرها برعد وبرق وماء... وخوف

تذكر قول أبيه "المطر يأتي بالخير" لم يكن يجرؤ على التعقيب وهو بعد طفل صغير..

"لماذا لا يأتي المطر صامتا، لمَا كل هذه الأصوات التي تخيف، أنا أكره البرق وصوت الرعد"

ولأنه كان رجلا والرجال، كما يقول والده، "لا يخافون"..

فانه كان يتظاهر بالنوم، ويرتعد تحت الأغطية، بعيدا عن الأنظار،

هو اليوم أصبح رجلا.. لا تخيفه الرعود، درسوه عن أسباب حدوثها، لكن ما يخيفه الآن لم يدرسه إياه أحد..

كلب شارد مر بجواره مبللا، يهز ذيله، ينبح مستنجدا، باحثا عن مكان يأويه،

"هل تتألم الكلاب المتشردة؟ وهل تراها أتعس من تلك التي لها سلاسل ويجرها أصحابها؟"

لكن ما له وما للكلاب المتشردة، على الأقل هي لا تعرف القوانين الوضعية التي أحالت حياته جحيما.

المدينة تغتسل من أدران خطاياها الصيفية، تجب المياه المسرعة إلى المجاري المائية، التي تبتلعها بشراهة، آثار الأتربة والغبار والأوساخ المتجمعة في الطرقات، بقايا خمول صيفي.

تذكر والمياه تتهافت على البالوعات، تدور وتدور حركات حلزونية لا تتقطع، تبدأ من السماء وتنتهي في الأرض، أو تبدأ من الأرض وتنتهي في السماء، دورة الطبيعة.. دورة حياة البشر،

تذكر الرسالة التي ترقد في جيب المعطف، الذي ستجبه المياه أيضا، ستلقي به في زاوية ما من زوايا المدينة مليئا بالأوحال..

هو كل ما حمله معه من أشياء تذكره بـ "جيزال" لكن رغم ذلك هولا يستطيع أن ينسى.. الطنين العابث بأعصابه يردد في خفوت ذلك الاسم الذي سيظل يربط بينهما وإلى الأبد "مريم، مريم، ماري كما تصر أمها أن تدعوها ".

تطوح قليلا خارج الرصيف وقد فقد توازنه عندما ذكر اسم مريم..

سيارة تمر مخترقة الشارع الفارغ، تفرمل بمحاذاته، يقفز مرعوبا، يعود إلى الرصيف متمتما..

"أما زلت تخاف الموت يا أحمق.."

عاد إلى ذهنه أمر الرسالة التي كان سيرسلها إلى "جيزال" ليخبرها بقراره الفاصل، وبأشياء كثيرة عن حبيبة قلبه "مريم"

كم اشتاق إليها، وكم تألم وهو يتذكر أمر القاضي بفصله عنها..

ما زال يحفظ كل ما كتبه، ويمكنه أن يعيده حرفا حرفا، كل كلمة فيها كانت تخرج من أعماقه...

}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}

" ترددت قليلا في اتخاذ قراري الفاصل فيما سأفعله بحياتي، كل الذي ترددت فيه كثيرا، وقوفي على قرار إخبارك به،

وتساءلت هل سيعنيك من أمري الآن شيئا بعد كل الذي حدث.. أراك تبربرين وأنت تهزين كتفيك كعادتك:

"J’en ai rien à foutre de sa vie; entre nous c’est fini "

وأنت تحدثين أمك، كانت الوحيدة التي عارضت زواجنا بشدة.

لا يهم، أفعل ذلك فقط من أجل مريم ابنتنا مريم، أو ابنتك ماري كما تؤكدين دائما...

كيف ستكبر بعيدا عني، عن وطن آخر يجري ماؤه في دمائها، عن أرض ستسمع أخبارا قبيحة عنها، عن قوم هم عشيرتها قد تزدريهم يوما أو قد يظلمونها.. هل تخبريها؟؟ هل ستقولين لها كل ما تركه لك أبوها من ذكريات جميلة... أم ستكونين...

ككل الناس.. سريعة النسيان.. وتتعلقين فقط بآخر الأشياء، الحديث يجب ما قبله...

هل تخبريها عن بلادي التي زرتها مرتين وادعيت أنك تتيمت بحبها؟

عن أمي الطيبة التي لا تعرف إلا البسمة تحدثك بها وادعيت أيضا أن ذلك وحده كاف لتتعلقي بها

عن أقاربنا وجيراننا الذين دعوك واحدا واحدا لتذوقي ملحهم، ووجدت ذلك الأمر غريبا فأفهمتك أن للملح عندنا معنى مقدسٌ...

هل ستحكين لها عن لون سماءنا، عن بحرنا وجبالنا عن قرانا ومدننا، عن حاراتنا...

حدثيها، أرجوك، عن مدينتي، ألم تقولي أنها حميمية تنزع عنك وحشة شوارع باريس الرمادية وبرودتها.

حدثيها عن مدينة لا يتداخل ليلها بنهارها، تتعانق شوارعها الضيقة (زنيقاتها) حتى الاختناق، مدينة تجلس على سفح جبل وتتوضأ من البحر

حدثيها عن بناياتها العتيقة وعن أبوابها الخشبية الخضراء بمقابضها الذهبية وإطاراتها المقوسة، عن نوافذها الصغيرة، عن أسطحها التي تغازل البحر، عن الياسمين والحبق،

غروب أفق بلادي وشروقه... ليلها، نهارها... مطرها، شمسها، هذه الأشياء التي يعرفها كل سكان الأرض.. كيف يكون لها في كل وطن طعم يختلف..؟

ومثلهم أنا لم أعرف طعما أحلى من مرارة العيش في بلادي..أراك تضحكين الآن..

''Chacun a son penchant qui l’entraîne"

لكنني أؤكد لك ذلك رغم كل شيء، نعم أنت تقولين أن بلدك هو أجمل بلدان العالم.. أصدقك تماما في ما تشعرين به، لكنني لا أراه كذلك،

لأنني لم أكن يوما نبتة خرجت من ترابه، ولن أكون كذلك، لأن عظمي اختلط بتراب أرضي ونفسي بهوائها، ودمي بمائها...

لكن مريم.. آه مريم.. لا أريدها أن تشعر بالغربة في بلادي..أتصور أحيانا ما يمكنك أن تلقنيها..

"أبوك رجل رجعي من بلد متخلف"

أحببتني لا أنكر ذلك، سمرتي المائلة إلى البياض، عيناي البنيتان، فمي الكبير وشفتاي المنتفختان قليلا، حاجباي الكثيفان السوداوان، أهدابي الطويلة.. أغرتك وسامتي الشرقية، لوحة لم تتمكني من مقاومتها، لعلك فقط اعتبرتني تحفة قديمة، فأنت تحفلين بكل ما هو.. آثار قديمة..

(Très original)، كما تقولين..

عقدة التسامي عندك، إحساس لا يمكنك أن تتخلصي منه، وكيف لك ذلك؟؟ وعقود من التاريخ تحملها أكتافك الصغيرة.. لا أنكر.. أني مثلك.. تماما.. حملت عقدي القديمة.. عقدي التي علقت بلون جلدي، كل ما تعلمته في الطفولة، عن ذلك الآخر، الذي جاء ليغتصب أرضنا، ويستحوذ على خيراتنا، وقتل الكثير منا، الكثير، حنط وجودنا قرنا كاملا، لنخرج بعده كأهل الكهف لا نحن تحملنا الظلمة ولا نحن طقنا نور الشمس.

لأنك ولأني... وضعنا خطوطا حمراء قديمة..

ولأنك.. ولأني كلانا رفض أن يذوب في الآخر.. ولأنك.. ولأني.. مختلفان تماما... أحمقان تماما.. أشعلنا حربا لا يمكن معها أن يقوم السلام

حربنا الآن، وقودها مريم.. ماري، فمن منا يتنازل؟

كثيرا ما حدثتك أمك في الفروقات بيننا..الثقافة... التربية.. الدين.. التاريخ، لكننا ظننا الحب سيقاوم وينتصر على كل اختلافاتنا... نعم، عشنا أياما سعيدة حتى، جاءت ثمرتنا الأولى، وحملت لنا مع النكهة الحلوة أشواكا،

فأنت كاثوليكية مطبقة، وأنا مسلم يصوم رمضان ولا يصلي غالبا... لكنه يرفض أن تحضر ابنته قداس الأحد...

تتذكري الآن كل شيء.. معركة مريم كانت حربا خاسرة انتهت بسرقتي إياها وتهريبها بمساعدة بعض الأصدقاء إلى بلدي،

ثم إصرار والدي برقة ورجولة، على إعادتها إليك

- حتى الحيوانات لا يمكن حرمانها من صغارها، خذ الطفلة وعد بها إلى أمها، حاولا إصلاح أموركما معا.

توسلت إليه كثيرا وعاهدك بأن ابنتك ستعود إليك، ووعدته بأنك ستعملين كل ما بوسعك ليحدث التفاهم، وبأنك لن تقومي بأي شيء يقحم القضاء بيننا.. صدقتك...

ووجدتني بعدها مقاضا ومحروما من ابنتي ومن عملي وبيتي.. جردتني من كل شيء، وما همني منه سوى مريم..

ووجدتني أجوب الشوارع... ككلب متشرد... تعذبت كثيرا.. لعل الكلاب أيضا تتعذب؟؟؟

حتى انتهيت في مصحة للأمراض العقلية... هذا كله تعرفيه، لكن بقي أن تعرفي أني عدت إلى بلادي وما وجدت الأشياء كما تركتها، وما عدت الذي كنته.. غريبا عليهم، غريبا عني.. غريبا عليكم.. فمن أين جاءني هذا الإنسان الذي يعيش معي الآن، لا أعرفه ولا أطيقه..

"عندما تصلك رسالتي هذه أكون قد فارقت عالمينا، حزنا وقهرا واغترابا..."

أكمل جملته الأخيرة، وقد انتهى به المشي عند جسر قديم...

صرخ صرخته الأخيرة "...، آه... مريم....."

تمت، القليعة، 4/10/2002

 

 
 

 

موارد نصيـة

آسيا علي موسـى

 

رسائل اللحظة الأخيرة (قصص)

المحتــوى

1 - أكبر من الحب والذاكرة.

2- رسالة الجحيم.

3- أشياء تحترق.

4- آه.. مريم.

5- تحت الصفصافة.

6- قمر ما قبل الهروب.

7 - رسائل اللحظة الأخيرة

 
جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.