محمد أمنصـور

النقـد الروائـي بالمغـرب

 

لعل إحدى أهم خصائص الثقافة الوطنية تتمثل في حرصها الشديد على الاحتكام إلى مبدإ التأزيم (La mise en crise). وهذا ما يجعلنا نلاحظ أن المغاربة يراجعون أوراق بعضهم البعض في مسافات زمنية محدودة، وهي ظاهرة صحية في الثقافة الوطنية بجميع المقاييس. في هذا السياق تندرج هذه الدراسة التي تتناول موضوع الخطاب النقدي الروائي بالمغرب، ذلك أننا نمر الآن من مرحلة النقد إلى مرحلة نقد النقد، في إطار هذه المراجعة المنهجية للمسارات المعرفية التفصيلية في ثقافتنا المغربية.

إن أول ما يمكن أن نسجل على تجربة النقد الروائي في المغرب هو كونها ما تزال تعيش مسار تكون مستمر ومفتوح. تكون يتيح لنا كلما تأملناه في تعاقبيته أن نسجل بعض اللحظات الأساسية للنقد الروائي في علاقته بـ «النظام الثقافي» الوطني. فهناك مرحلة أولى نسميها مرحلة ما قبل ولادة الرواية المغربية، وهي لحظة كان من سمات نظامها الثقافي هيمنة محددين اثنين: السلفية والوطنية، وهناك مرحلة ثانية وهي لحظة الولادة الجنينية للرواية المغربية المعاصرة، وتبدأ مع ولادة أول عمل روائي مشهود له بشرعية الريادة (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون في منتصف الستينيات. وقد سجلت الرواية المغربية لحظتها الثانية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات في ظل محددين جديدين ميزا النظام الثقافي لمغرب ما بعد الاستقلال، هما الصراع في أفق الماركسية، والديمقراطية. أما المرحلة الثالثة، فتبدأ مع منتصف الثمانينيات وفيها سيشهد موضوع النقد الروائي المغربي انشطارا إلى اتجاهين، هما اتجاه الرواية الكلاسية الساعية إلى تمثل القواعد واتجاه الرواية الحداثية أو التجريبية الهادفة إلى خرقها، ويمكن أن نضع عنوانا لهذه المرحلة ما يمكن تسميته - تجاوزا - مرحلة الليبرالية والتوافق!

في سياق تفاعل مشروع النقد الروائي المغربي مع محددات هذا النظام الثقافي الوطني يمكن أن نقف عند محطات أساسية اجتازها النقد وهو يخوض رحلة تكونه، نذكر منها:

أ - لحظة فقدان الموضوع والمنهجية، أي لحظة ما قبل ميلاد الرواية المغربية المعاصرة والنقد المواكب لها. وفيها كان المثقف أو مشروع الناقد الروائي بالمغرب يبحث عن موضوعه الروائي المفقود في بقاع المشرق العربي مع تجربة نجيب محفوظ وغيره. إما للتعريف بالرواية العربية كتجربة رائدة أو للإشادة بالنموذج الذي ينبغي أن يحتذى.

ب - لحظة النقد الانطباعي أو اللغوي أو التاريخي الموازي للحظة ميلاد الرواية الأولى.

ج - لحظة النقد الروائي - الواقعي مع أحمد اليابوري، ومحمد برادة، وحسن المنيعي، وإبراهيم الخطيب، وإدريس الناقوري، ونجيب العوفي، وعبد القادر الشاوي، وحميد الحميداني.

د - لحظة النقد التجريبي، وهي لحظة التعدد المنهجي مع انفتاح النقاد - ضمن سيرورة المثاقفة - على البنيوية التكوينية، والشعرية البنيوية، وشعرية باختين، والسيميائيات، وجمالية التلقي، إلخ.

إننا لا نستطيع أن نتكلم عن نقد روائي في فراغ؛ بل في ارتباطه كلغة واصفة باللغة الموصوفة، بمعنى أن نشأة وتطور هذا النقد لا ينفصلان في مدهما وجزرهما عن نشأة وتطور / الموضوع مشروع الرواية المغربية المعاصرة. لهذا لابد من التأكيد على الوضع الاعتباري لكل من الرواية والنقد المغربيين باعتبارهما يعيشان - معا - لحظة تكون مستمر ومفتوح. أي إن مشروعهما غير ناجز أو مكتمل، فهما يعيشان بداياتهما المتواصلة.

لقد ميزنا في دراسة سابقة[1]، ما يمكن أن نصطلح على تسميته بالتمفصلات الكبرى للرواية المغربية (موضوع النقد الروائي المغربي)، وهي:

أولا: لحظة البحث عن التجنيس (أو صفاء النوع الروائي) بما هي لحظة تداخل للروائي بالسير - ذاتي، حيث اقتران مفهوم الرواية لدى الروائي بمبدأ التعبير عن الذات (أو استراتيجية الأنا).

ثانيا: لحظة البحث عن موقع في التاريخ الموضوعي، حيث يؤدي هاجس الواقع والواقعية إلى فتح المجال أمام مفهوم للرواية يتأسس على مبدأ الانعكاس المرآوي (في أفق وهم تغيير الواقع الخارج - نصي عموما)

ثالثا: لحظة معانقة التجريب، أي لحظة التمرد والخروج من خانة الكلاسية والبحث، خارج ثوابت الجنس وأوهام التاريخ، عن كتابة مفتوحة وهي لحظة اكتشاف الروائي للرواية كنواة للأدبية، فضلا عن إعادة اكتشاف السارد - في السياق نفسه - كمحفل سردي يتيح إمكانيات متعددة للروائي في الانفصال عن نصه. إنها لحظة المرور من استراتيجية الأنا إلى استراتيجية النص - المعبر، حيث يتحول نسيج الكتابة الروائية إلى جسد تعبر فوقه نصوص أخرى قديمة وجديدة، خاصة وعامة، نثرية وشعرية، روائية وعبر أجناسية، وهي، إن شئنا، لحظة قتل المؤلف الفعلي من طرف السارد داخل نصه.

إن موضوع الرواية المغربية المتأرجح في تكونه بين هذه اللحظات الثلاث هو ما يحدد وجهات النظر المنهجية والإجرائية للغات الواصفة. ذلك أنه لا يمكن لناقد روائي جاد أن يختار منهجا ما أو يتبنى خلفية نظرية ما في غياب الإدراك التام أو الإحاطة الواعية بموضوعه، والذي هو التراكم الروائي المغربي مدرجا في سياق مستجدات العلوم الإنسانية. وهنا نطرح سؤالا لا نجيب عنه، وإنما نتركه معلقا للمستقبل، والسؤال هو: كيف يتطور النقد الروائي المغربي في ظل غياب مسار خاص للعلوم الإنسانية ضمن نظامنا الثقافي؟ (خاصة وأن تصليب أرضية هذا النقد الروائي ترتكز - بالضرورة - على قوة الموضوع من جهة، وأصالة (توازُن) المثاقفة من جهة أخرى).

وضمن اللحظات الأساسية السابقة، يمكن أن نتوقف عند لحظة النقد الواقعي باعتبارها نمطا أصليا لتجربة النقد الروائي المغربي المعاصر وإن كانت هذه المرحلة قد وقفت عند حدود معينة لم يكن ممكنا لها من الناحية المعرفية ولا من الناحية التاريخية تجاوزها. هكذا تميَّزَت بمجموعة من الخصائص نسجل من بينها:

أ - المراهنة على حكم القيمة (أو التقويم بالمفهوم الذي يعني التمييز بين الجيد والردئ.)

ب - موضعة النص الروائي إيديولوجيا (أو التصنيف الإيديولوجي للرواية ضمن خندق الثقافة التقدمية أو الثقافة الرسمية)

ج - الفصل الآلي بين الشكل والمضمون.

د - ربط النص بالمؤلف وقتل السارد (وليس قتل المؤلف كما نَعْرف مع البنيوية)

هـ - ربط النص بالمرجع الخارج - نصي (الواقع / الطبقة / التاريخ / الحزب (...) إلخ.

و - وهم الانعكاسية (أو تكريس وعي العلاقة المرآوية من خلال إغفال العنصر الفني - الجمالي وتحجيمه كشكل أو تذويبه كجمالية ضمن العناصر التاريخية والاجتماعية والاقتصادية (...) إلخ.

وبصفة عامة، عدم إقرار استقلالية الرواية كأدب عن غيرها من الحقول والمرجعيات غير الأدبية. تلك كانت الحدود المعرفية والتاريخية للنقد الواقعي، لذلك يمكن القول عن المفهوم الذي كُرِّسَ للممارسة النقدية خلال السبعينيات، إنه كان - بقوة الأشياء - مفهوما ينتصر لنقدٍ «براني» تتوخى منه اللغة الواصفة إبراز الوظيفة الاجتماعية للنص على حساب مختلف الوظائف الأخرى (الفائدة / المتعة / الجمالية، إلخ.) فضلا عن سؤال الماهية.

لقد طغت - على ما يظهر - الوظيفة النفسية (ولا نقول النقد النفساني لأن هذا الأخير ظل غائبا عن مشهد النقد الروائي برُمَّته) التطهيرية بمعنى ما، المقترنة بالطابع الدعائي. لقد كانت هذه التجربة نقدا برانيا تطهيريا، لأنه اقتصر على تفسير شبكة علائق النص بالكاتب والمجتمع والطبقة والسلطة والتاريخ تفسيرا تبريريا أحاديا، ومن ثمة فقد استعان بجهاز مفاهيمي نادرا ما كان يمت بصلة إلى النقد الروائي، لأنه كان مجرد أدوات سياسية - إيديولوجية. لقد عرف النقد الروائي المغربي مع اللحظة الواقعية في السبعينيات أزهى فتراته، وذلك قبل أن يصل إلى مفترق الطرق في مرحلة لاحقة. كانت درجة احتدام الصراع بين القوى المجتمعية خلفية موضوعية لنضوجه، لولا أن تعدد هواجسه ستضعه في مفترق السبل، ونذكر منها:

أ - هاجس دعم مشروع الرواية المغربية في عملية تأسيس ذاتها من الداخل بما هي جنس أدبي طارئ (وهو الدعم الذي لا يخلو من ميل إلى الاختيار المدرسي لمدى تمثل الروائيين لقواعد الجنس الروائي وأوفاقه المنصوص عليها في الغرب)

ب - هاجس إدراج الرواية في سياق الصراع المجتمعي وتوجيه دلالاتها في منحى الأطروحات الإيديولوجية (أي في منحى إمكانية أو وهم السيطرة على الواقع أو التاريخ. بمعنى أن النقد الروائي سيضطلع بعملية فرز المؤلفين والأبطال الروائيين المستجيبين لنداء الجماهير، الحريصين على تغيير الواقع، المنادين بانتصار المبادئ المناهضة للسلطة وطبقتها، القائلين بحتمية التاريخ، عن غيرهم من الشخصيات والروايات الشاردة عن إرغامات الإيديولوجية).

ج - هاجس تأسيس لغة واصفة للرواية المغربية المعاصرة غير مسبوقة في الحقل الثقافي الوطني على صعيد بقية الأجناس الأدبية. لغة تنشد امتلاك منهجية محددة، وأدوات نقدية صارمة تتوخى تأويل الدلالة الاجتماعية للنصوص (أي موضعتها وتصنيفها إيديولوجيا على صعيد ما يسمى بالخارج - أدبي).

إن هذا المنعطف من مسار تجربة النقد الروائي بالمغرب سيسفر عن فراغ معرفي ومنهجي لدى النقاد بإزاء أسئلة التجنيس والدلالة والتلقي، وذلك من جراء «السهو» النسبي لهذه الممارسة النقدية عن تأسيس مشروع الرواية والنقد الروائي من داخل الوعي بنظرية الأدب فإعطاء الأولوية لوَهْم الفِعْل في التاريخ على حساب تكريس وعي نظري جمالي وحس نقدي سيشكل تأخرا معرفيا، نظريا ومنهجيا في مسيرة هذا النقد (أي إنه تأخر أو تطور معاق نابع من حالة التأسيس المزدوج التي كان يعيشها كل من جنسي الرواية والنقد)

التوتر الآخر الذي سيكشف عنه هذا المنعطف، يتمثل في ظهور ما يسمى بالرواية الحداثية جنبا إلى جنب مع الرواية التقليدية، وهو توتر سيعرف مداه الأقصى مع مباغتة مجموعة من الروائيين (المديني وعلوش والتازي) لمعايير أفق انتظار النقاد بإصدارهم لروايات مثل (حاجز الثلج وزمن بين الولادة والحلم...) فهذه النصوص وما سيليها من روايات عزالدين التازي، وأحمد المديني، والميلودي شغموم، ومحمد الهرادي، ومحمد برادة،ومحمد الشركي، إلخ. ستدخل مسار التأسيس الروائي ضمن منحى جديد يراهن على التجديد والتحديث في مستوى الخطاب الروائي والمادة الحكائية أيضا، كما يتوخى خرق القواعد التقليدية للمحكي الروائي وخلخلة ثوابتها العامة. وهذا يعني أن الرواية المغربية - ضمن مسارها التأسيسي - ستراهن على خطين متوازيين: خط الرواية الكلاسية الساعية إلى المحافظة على القواعد، وخط الرواية الحداثية الهادفة إلى التحرر من تلك القواعد بخرقها والتمرد عليها.

وكخلاصة لتوترات هذا المنعطف يمكن أن نتحدث عن مأزق وهم تأسيس خطاب نقدي من خارج التمثل الواعي لنظرية الأدب وما تمليه من قضايا نظرية ومنهجية، كما يمكن أن نتحدث عن مأزق انشطار الموضوع أو مباغتة المتن الحداثي للتراكم الروائي الحاصل ضمن دائرة المد الكلاسي، ويمكن أيضا أن نتحدث عن مأزق استمرار مشروع التأسيس الروائي في ظل الثنائية (رواية كلاسية ورواية حداثية). وكل هذه المستويات ستؤدي إلى لحظة إرباك كبرى - كما يمكن أن نطلق عليها - لمعايير أفق انتظار النقد الواقعي، خاصة إذا أضفنا إلى كل ذلك مسألة السرعة الهائلة التي عرفها تقدم العلوم الإنسانية في مجال النقد الأدبي ونظريات الأدب والأجناس الأدبية خلال العقود الأخيرة.

بعد استنفاذ تجربة النقد الواقعي لدورها المعرفي والتاريخي، ستبدأ لحظة التأسيس الثاني للنقد الروائي المغربي المبني على الانفتاح والمثاقفة، وهذه الولادة الثانية للنقد الروائي المغربي ستعرف انطلاقتها في منتصف الثمانينيات بعد اضطرار النقاد إلى الانفتاح على مرجعيات نظرية ومنهجية مغايرة تمكنهم من امتلاك تصور جديد ومفهوم مغاير للنقد الأدبي أو التقويم النقدي. في هذ االسياق ستظهر الترجمات الاستراتيجية لمحمد برادة وإبراهيم الخطيب، وملفات مجلة «آفــاق» لاتحاد كتاب المغرب حول البنيوية التكوينية وجمالية التلقي وتواصلات... إلخ. والنتيجة أننا سنجد في الحقل الثقافي الوطني تواجد مجموعة من المناهج المتباينة من حيث المنطلقات النظرية والأسس الإبستيمولوجية جنبا إلى جنب، مؤسسة بذلك علاقة تجاور وإقصاء متبادل بدل التعاقب والتكامل. ومسألة تعدد المناهج في ظل هذا الوضع، ستقودنا إلى طرح سؤال جوهري يتعلق بصميم هذه الممارسة النقدية في المغرب أي بهويتها التي لا يمكن أن نحسم على وجه الدقة؛ هل تتأسس على التعدد أو التجانس؟ وهل «التثاقف الأعرج» مع الغرب - فرنسا، وعلاقة الصدى بالصَّوت تدخل ضمن المفهوم الصحيح للتعدد المنهجي أم إن الأمر لا يعدو أن يكون شيئا آخر؟

إذن، يمكن أن نتحدث في الثمانينيات والتسعينيات عن مشروع «قطيعة» مع اللحظة السبعينية، وتبدأ من المنعطف المشار إليه لتفرض أسئلة يمكن طرحها على الشكل التالي:

- ما الذي يدفع النقد الروائي بعد هذا التراكم المحدود إلى إعادة النظر في منطلقاته النظرية والمنهجية والإجرائية: هل هو الموضوع (أي طبيعة التراكم الروائي الموجود)؟ هل هو أفق التقدم «المنهاجي» الغربي الحاصل على صعيد العلوم الإنسانية (موازاة للتراكم الروائي الغربي اللصيق به)؟ (وإذا لم يكن بد من المراجعة؛ فهل يكون البدء من مراجعة علاقة النقد بالنسق الثقافي الوطني والتراكم الروائي المحلي أم من مراجعة علاقته بالعلوم الإنسانية في سياق المثاقفة، أم تشمل المراجعة المحددين معا؟ وفي كل الأحوال فإن من بين الأسباب التي اضطرت النقد الروائي في الثمانينيات إلى الانفتاح على منطلقات مرجعية جديدة، نذكر فقر التجربة السابقة والانفتاح المتدرج للدرس والبحث الجامعيين على المناهج الغربية والتقدم الحاصل - في هذا المجال - بفرنسا وأوربا، وهي عوامل كانت كافية لأن تجعل النقد الواقعي يستنفذ ممكناته المنهجية والإجرائية ويعلن عجزه عن مسايرة تحولات المتن الروائي المغربي.

في ضوء هذه النقلة الجديدة للترجمة والاقتباس والانفتاح على الأصول النظرية والمرجعيات النقدية الغربية، ستعرف التجربة النقدية الروائية تحولا في مستوى جنس الكتابة النقدية نفسه، ومفهوم النقد الأدبي - الروائي بطبيعة الحال. ستزحف الدراسة الأكاديمية على المقال الصحفي ويتداخل مفهوم الناقد بمفهوم الباحث، مما سيؤدي إلى ظهور نقاد جدد يستهدفون من العملية النقدية وصف النصوص الروائية أو تأويلها كبنيات سردية وليس كمضامين تعبر عن / أو تعكس واقع المؤلفين (أي إنه سيتم وضع حد لمجموعة من المغالطات وسوء التفاهمات من مثل الخلط بين البطل الروائي والمؤلف، أو الشخصية الروائية والشخص الواقعي، أو المكان النصي والمكان الواقعي، إلخ. وذلك عبر إدراج النص الروائي ضمن سياقه الأدبي الخاضع لمقتضيات نظرية الأدب).

ضمن هذا التوجه، يمكن أن نذكر أسماء كل من سعيد يقطين وحسن بحراوي وقمري بشير وعبد الحميد عقار، ممن سنسميهم بالنقاد الجدد نظرا لما رسموه لأنفسهم من أهداف تتوخى علمنة الظاهرة الروائية على صعيد الخطاب النقدي، أي السعي إلى إنجاز مقاربة علمية لها كتوجه إما «السردولوجيا» أو «السيميائيات» أو «الشعرية الباختينية»... إلخ. أسماء يتقدمها الرواد =أحمد اليابوري، ومحمد برادة، وحسن المنيعي) ممن ظلوا يواكبون كل المراحل عبر تجديد مرجعياتهم وتوجيه «الرأي العام» الأدبي في اتجاه مزيد من الوعي بمقتضيات نظرية الأدب. كما تعقبها أسماء أخرى أكثر فتوة من مثل فريد الزاهي وعبد الرحيم العلام وعبد الفتاح الحجمري وعبد الإله قيدي ومحمد علوط... إلخ. إنها جميعا أسماء تتراوح بين الريادة والتجديد؛ لكن عندما يتعلق الأمر بمشروع مثل إنجاز الأستاذ سعيد يقطين[2]، فإننا نجد هذا التوزع بين المنهجية الغربية والمتن الروائي المشرقي، بينما لا يكون للمغرب من هذه المعادلة إلا الباحث الفاعل، وهذا ما يجعلنا نتساءل - في إطار إشكالية الهوية - هل هذا النوع من الممارسة النقدية يمكن اعتباره نقدا مغربيا بالمضمون الاستراتيجي للكلمة أم إنه يدخل ضمن سياق آخر، بمعنى تمثل وتطوير البحث العلمي الأكاديمي خارج النظام الثقافي، وبعيدا عن العلاقة بالموضوع (موضوع المغرب الذي يعنينا بما هو سؤال في الخصوصية دون أية شوفينية). سؤال يبقى مفتوحا بالنسبة للعديد من الممارسات النقدية الرائدة والمجددة التي لا تطرح بشكل واضح هذه الحيثيات المرتبطة بمشروع تأسيس نقد روائي مغربي يطمح إلى تأصيل أرضية نظرية ومنهجية لها كعمق موضوع الرواية المغربية.

وهنا نكون قد وصلنا إلى ما أطلقنا عليه في سياق سابق[3] «الجروح النرجسية» للنقد الروائي المغربي. فهذا النقد - بصفة عامة - يعتبر نقدا تجريبيا، وهي مسألة إيجابية، لكنه الإيجاب الذي لا ينفي وجود العوائق والجروح من مثل تداخل النقد الأدبي مع التحليل الأكاديمي (أو العلمي للأدب). وهنا دور الدرس الجامعي في التحسيس بضرورة علمنة الظاهرة الأدبية. أي في لفت الانتباه - في ضوء نظرية الأدب ونظرية الأجناس الأدبية - إلى الاستقلال النسبي للظاهرة الأدبية، وبصفة خاصة عن اللعبة السياسية التي جعلت من تبعية الثقافي للسياسي في الستينيات والسبعينيات عنوان مرحلة بكاملها.

فبقدر ما سيعمل النقد الروائي على تحرير نفسه من عوائق تلك التبعية، بقدر ما سينساق إلى ضرب آخر من التبعية يمكن أن نؤشر إليه دون المبالغة في التأكيد على طابعه المأزقي، ونقصد تبعية النقد الروائي للدرس الجامعي والبحث الأكاديمي، الأول يسقطه في النزعة المدرسية البيداغوجية، والثاني، يخلخل بنيته التجنيسية، وذلك من خلال ما أشرنا إليه سابقا لدى حديثنا عن النقاد الجدد، أي زحف الدراسة الأكاديمية على المقال الصحفي، والمسألة هنا تطاول هوية الخطاب النقدي، مقوماته وطبيعة تشكله كجنس قائم الذات، على أنه لا ينبغي أن يفهم من هذه التبعية أنها سلبية بالكامل، ذلك أنه من إيجابياتها، تجاوز النزعة الذاتية المحتكمة إلى الوظيفة الانفعالية، والخروج من قفص نظرية الانعكاس وفق تمثلها السبعيني المغلق، والتحرر من أحكام القيمة والنزعة التصنيفية والمصادرات الإيديولوجية، وحضور هاجس الموضوعية والعلم وما يقودان إليه من سيادة مفاهيم التحليل والموضوعية والوصف والنسبية.

أما ما يمكن أن نسميه - تجاوزا - بالسلبيات، فيتمثل في إقصاء المتلقي العادي (أو غير المختص) من دائرة التواصل النقدي، وجنوح جنس هذا النقد الروائي إلى مستويات معينة من الهجانة يعكسها غياب انسجام المصطلحات والأدوات الموظفة مع المنطلقات النظرية أو الأسس المنهجية. وهي هجانة يؤكدها تداخل مفهوم «التقويم الأدبي» بمفهوم «التحليل الأدبي»، تداخل يعود إلى التنازع الذي نفترض أنه قائم بين الصحافة والجامعة على هذا النقد ويتجلى كاختلال أجناسي في نسيجه، هو التائه بين مقتضيات البحث العلمي (المشترط للمسافة الزمنية والتروي والعمق في تمثل الخلفيات النظرية) وبين الحرص الشديد على احترام مبدأ الملاءمة.

كل هذا نوجزه بالقول، إن هناك ضياعا أو ما يشبه الضياع في مشروع تأسيس هذا النقد، مما يرجعنا إلى طرح سؤال هويته بحدة. إذ ماذا عساه يكون هذا المسمى نقدا روائيا؟ ما هو؟ وما أفقه؟ ما المقصود بالنقد الروائي في المغرب؟ هل هو النقد الصحفي الذي تروجه الجرائد والملاحق الثقافية والمجلات، أم الدراسة الجامعية التي تغزو الصحافة وتخضع عملية التقويم الأدبي لأوفاق ومعايير منهجية صارمة؟ هل النقد الروائي هو تلك المتابعات الصحفية ذات الهدف التعريفي - الإعلامي التي تجتر أحكام القيمة والنزعة الذاتية، مع الميل إلى التصنيف واختزال التوجهات أم هو النقد التحليلي المحتكم إلى منطلقات نظرية ومنهجية صارمة، والهادف إلى الإمساك بقواعد لعبة النص بغض النظر عن مسؤولية اللغة الواصفة في دعم دينامية التواصل بين القراء والنصوص؟ ألا تشكل الدعوة إلى حتمية تعدد القراءات وضرورة تخلي النقاد عن أية وصاية على القراء ضربا من التخلي عن المسؤولية التاريخية والأدبية والأخلاقية لهؤلاء النقاد في تنظيم الحقل الأدبي وتوجيهه وترشيده واستكشاف تياراته ومدارسه؟ كيف يتم رصد وفحص هوية النقد الروائي؛ هل بالتمييز بين أنواعه (الأكاديمي والصحفي والمختلط) أم بالبحث في مرجعياته وفحص مدى انسجام منطلقاته النظرية مع طبيعة توظيفه للأدوات الإجرائية؟ كيف نفهم ذلك الإقصاء المتبادل بين أنواع النقد الأكاديمي والصحفي والمختلط؟ وهل مجرد الانتقال من مستوى الانشغال بالبنية المفسرة بما حولها إلى مستوى البنية المستقلة عما حولها كافٍ للقول بتجدد هذا النقد وأصالته أو وجوده و تجريبيته؟ ألا يكمن مأزق هذا النقد في اختلال وتيرة نموه قياسا إلى وتيرة نمو المتن الروائي المغربي - موضوع الدراسة؟ ألا يكمن ذلك المأزق في اعتباطية عملية الاقتباس والترجمة، وخضوعهما للنزوات الفردية؟ وهل كان على فعالية لوكاتش وغولدمان وبارت وتودوروف وجنيت أن لا يقتحم أفق انتظار هذا النقد وقرائه إلا بعد منتصف السبعينيات؟ وهل كان على «البوليفونية» أن تنتظر ترجمة محمد برادة لكي تصير مشاعا في الوعي النقدي؟ ولماذا شحوب النقد النفساني والموضوعاتي في مقابل «نجومية» بعض المناهج؟ وهذه القطيعة المباغتة مع المشرق العربي - على صعيد النظرية فقط - كيف نفهمها خاصة وأن أهم دراساتنا الأكاديمية أنتجت خطابات نقدية على متون مشرقية مما يطرح التباسا بخصوص هوية مثل هذا النقد الذي يأخذ مناهجه من الغرب ومواضيعه من المشرق، فلا يكون للمغرب منه إلا «دبلوم» ذلك الباحث الذي يؤسس مشروعه خارج النظام الثقافي الوطني؟ وكيف نفهم التأرجح بين التجريبية والاختبارية؟ وغياب التجانس في الممارسة النقدية؛ هل هو ظاهرة صحية أم العكس؟

في الختام، إن صلب الإشكالية، له طابع معرفي وآخر وظيفي، إذ يبقى السؤال الجوهري هو: ما هو نوع الممارسة الذي علينا إنجازه الآن؟ هل نشتغل في إطار النقد الأدبي أم في إطار علم الأدب؟ وكيف نحقق في ضوء التمييز بين العمل العلمي والعمل النقدي درجة من الملاءمة؟ وكيف نراجع منظورنا للجانب الوظيفي في ظل سياقنا الثقافي الجديد؟


 

[1] - استراتيجيات التجريب في الراوية المغربية المعاصرة: «لعبة النسيان لمحمد برادة»، «الجنازة لأحمد المديني»، «عين الفرس» للميلودي شغموم، وهو بحث أنجز لنيل دبلوم الدراسات العليا تحت إشراف الدكتور حسن المنيعي، رقم التسجيل 34 / ر.ج / 88، خزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية 1991.

[2] - سعيد يقطيـن، تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1989.

[3] - محمد أمنصـور، «الجروح النرجسية للنقد الروائي المغربي»، المنبر الليبرالي، عدد 15، السنة الثانية، نوفمبر، 1994.

 

 

موارد نصيـة

د. محمد أمنصـور

خرائط التجريب الروائي

المحتــوى

تقديـــــم

القسـم الأول: (قضايا نظرية)

مفاهيم التجريب الروائي في المغرب. رصد ومساءلة

النقد الروائي بالمغرب

الغائب في المشروع الروائي المغربي

القسم الثاني: (قراءات)

تخوم الروائي: السيرة ملجأ للتاريخ المنهار . «أوراق / عبد الله العروي

جمالية التمثيل والمحتمل. «الضوء الهارب» / محمد برادة

إشراق الحكي العرفاني. «مدارج الليلة الموعودة» موليم العروسي

حكايات الاسم الضائع. «شجر الخلاطة» / الميلودي شغموم

الحكي خارج المدار البشري: «حديث الجثة» / محمد أسليم

كتابة الرؤيا: الرواية كوعي لغوي بالعالم. «الجنازة» / حكاية وهم» / «طريق السحاب» / أحمد المديني

رواية البحث عـن الأصـول بيـن التدوين والتخييل. جنوب الروح / محمد الأشعري

 

 

 

 

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.