محمد أمنصـور

جماليـة التمثيـل والمحتمــل

الضوء الهارب[1] / محمد برادة

 

 

«إن مراجعة إشكالية التقييم الأدبي والروائي تقتضي ربطه بالصراع من أجل السلطة في مجال التواصل الاجتماعي والثقافي، ومجال توليد الدلالات داخل المجتمع المغربي، أي وضع التواصل الجمالي إلى جوار التواصل اليومي، مع الانتباه إلى أهمية ربط القيمة الفنية للرواية بالوضع الاعتباري المؤسساتي حتى لا يتم عزل التلقي الجمالي عن مجالات أخرى»[2].

مشروع قـراءة أولـى

من الإيهام بامتلاك ناصية الحكي إلى الإقرار بالعجز عن الذهاب إلى حتف المحكي، تتأرجح رواية محمد برادة الجديدة «الضوء الهارب» مثيرة لدى القارئ أكثر من سؤال. ولعل السؤال الجوهري هو سؤال الفضاء المكاني: طنجة.

إنها رواية تمتح متخيلها من مرجعية المكان. به تتقدم، وعبر عناصر فضائه تنسج حكايات أبطالها. وحيث تتنازع بطولة الرواية قوتا المكان والزمان، فإن العيشوني وغيلانة وفاطمة لا يشكلون سوى شخوصٍ ثانوية في مواجهة هذا القدر - الكرنطوب ذو الحدين: الزمان والمكان.

الحد الأول يشخصه عمر الفنان العيشوني الممتد بين زمنين: زمن غيلانة وزمن فاطمة. والحد الثاني تشخصه أبعاد مدينة موزعة بين أكثر من ذاكرة، طنجة الدولية ما قبل الاستقلال، وطنجة الوطنية ما بعد الاستقلال. وفي كل الأحوال فإن تشخيص «الزمكان» يتخذ من الاستيهام والاستذكار والحلم مفاتيح لفك مغالق المدينة وأبطالها الجدد، أما نسغ العلاقة بين الشخوص والفضاء المكاني، فيبدأ من الجنس أولا، والجنس أخيرا.

ذاك أول انطباع تتركه طنجة «الضوء الهارب» لدى القارئ المتعجل! الجنس إله العالم تقول طنجة (الضوء الهارب)، لكن أي جنس؟

تحاول مونولوجات وتأملات واستيهامات العيشوني العزف على التوتر الفاصل بين الإباحي والإيروتيكي. ترفع تيمة الجنس ومحور الجسد إلى مرتبة الخطاب الحكائي «البسيكو-درامي» المرهون لتشخيص المتذكر النفسي ومنسي الجسد، بينما تجنح شخصيتا المرأتين / العشيقتين، إلى الركوع والتعبد في محراب هذا الإله، بما يعني ذلك من تحويل للجسد إلى قربان في ملكوت قدر أعمى.

*

* *

ليست طنجة حكرا على بول بولز، أو محمد شكري، أو أحمد المرابط، أو تيمد، أو غيرهم من ضحايا ابتذال نهاراتها وتوهُّج عربداتها الليلية. فهي بذاكرتها الأسطورية وتناقضات جسدها المنهوك باللَّذَّة المحرمة، فضاء مفتوح لكل كاتب يلسعه عقرب الكلمة وعشقها. من هنا يتأسس عبور محمد برادة لفضاء طنجة بجسد مسحور، ومتخيَّل مأخوذ برغبة الكتابة في شرك المرأة؛ إنما أية امرأة؟

هنَّ نساء لا يعرفن مقاومة الغريزة. يجابهن الزمن، لكن الغواية تطوح بهن في مدارات يتسربل فيها العشق بالعصيان. وبهذه المعاني، فإن محكي المرأة في رواية «الضوء الهارب» محكي للأعماق الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والفنية لجسد مدينة، لأجساد نساء، لوحات كيانات تتلفع بهاجس البحث عن الثابت (وليس الساكن) [...]

*

* *

يوثث الشفوي والبصري (الحسي / الحواسي - عموما - محلي «الضوء الهارب»). تطفو المعرفة النقدية للمؤلف الواقعي (أو الفعلي)، تتخلل بعض الشقوق. ينبجس تنظيم الجنس. أما كشف أوراق اللعبة وإعلان مبدأ الاحتمال، فلا ينتصب إلا مع حضور تلك اللحظة الزفزافية؛ لحظة انفلات النفس، لحظة استنزاف الروائي لطاقة الرواية، فالانطفاء عند العتبات حيث يكون على كل شيء أن يبدأ!

غير أنه بعد رسم لوحات بارزة الملامح لدواخل شخوص الرواية، لا يحدث شيء من فعل الرسم في حد ذاته. ومفهوم الرسم هنا مُضَاعَفٌ: رسم في القماشة ورسم في الواقع. إنه مادة تشكيل للمعيش وردم للهوة المفتعلة بين الرؤيا والواقع. من هنا جنوح مسارات الرواية إلى تمثيل الآفاق والهواجس المجردة التي تسكن الفنان في حلمه الفني ومشروعه الوجودي. ومن هنا - أيضا - ينهض الجسد كمسرح أو مرآة لذلك التمثيل. فهو الأداة وهو الموضوع في آن، لذلك فإن خرائط الكتابة لا تتقدم إلا كتوار بين لغتين: لغة الجسد ولغة اللوحة.

*

* *

لقد عمدت رواية «الضوء الهارب» إلى تغييب الموضوع الكبير في مقابل المراهنة على تيمات رئيسة تلقح رحم المحكي: الجنس - السياسة - الغـرب.

وباللجوء إلى توظيف تقنية «المذكرات» وتضمين «الرسائل» يكون الروائي قد تحايل على تعبه «الزفزافي» باستجلاب نفس مغاير، يكسر طولية المحكي وخطيته من جهة، ويفتح أفقا مختلفا للسرد من جهة ثانية.

أما التاريخ العام للمدينة / طنجة، فيلوح كشبح باهت لأسطورة تتأبى على التمثيل. وكأن الراوي يعي حدود قدرته على بعث طنجة أسطوريا فيلوذ بالمعلومات التاريخية يسردها سردا مدرسيا لا تشخيص فيه ولا إعادة أسلبة. أو كأنه يجد نفسه محاصرا بانعدام الرغبة في إعادة تشخيص ما تمَّ حكيه من لدن الآخرين. هل ذاك مأزق كل كتابة تبتغي عبور جسد مدينة مفتضة عالميا؟

كيفما كانت الأجوبة الممكنة - أو المُتَاحَة - حول حدود النفس الروائي في رواية «الضوء الهارب»، فإن إشعاع ضوء الكتابة الأكثر حرارة، القادم من رسالة فاطمة، قد أتاح دينامية منعشة لسرد ما قبل الدفاتر.

فها هنا، تتألق الكتابة الشبقية كذاكرة جسدانية، كمكابدة مأساوية كبحث معضل عن حلول وهمية لمصائر جسد، زمن،، حلم، عمر مرهون للمغامرة، ولو أن مختلف العلائق البرانية للشخوص الروائية تظل باستمرار معبرة عن روح المواجهة والتشابك. ولو أن (...) هل هذا هو ما يبرر سيادة خطاب الاسترجاع؟ على أية حال فبقدر ما كانت الذاكرة سيدة الموقف، بقدر ما أتيح لعنصر الزمن أن ينظم مختلف مكونات النص، فيتأسس كمبدأ ناظم للسرد والرؤيا، كبطل ضمني، أن يتقاسم الأمكنة (وطنجة خاصة) نفس القيمة والوظيفة.

إن الإثارة لم تكن ديدن النص. لذلك تمَّ التقتير في النزوع التجريبي. فمن تمديد خيوط شبكة الحبكة الكلاسية، إلى الغوص في حيوات الدواخل للشخوص الروائية، لكن في حدود مبدأ الاستذكار الخطي. وفي المقابل، هناك ذلك الانشداد العضوي إلى نكهة المكان. ذلك الحرص على جعله بؤرة الإثارة الأساس. وغير خاف أن اقتحام مرجع كفضاء مدينة طنجة يعد في حد ذاته مغامرة غير مأمونة العواقب! ومع ذلك يمكن القول إن محمد برادة قد حاول أن ينتزع من المتخيَّل العالمي طنجته ولسان حاله المضمر يقول:

(لكل طنجته، وهذه طنجتـي)

مشروع قراءة ثانيـة

منذ الوهلة الأولى، يوحي التركيب الفني لرواية «الضوء الهارب» بالبساطة. فالتأطير السردي يتبنين عبر تناوب الساردين - المشاركين (العيشوني / غيلانة / فاطمة) على الحكي الاستذكاري. كل شخصية ترسم لنفسها (أو لغيرها) لوحة محددة الخطوط والألوان والظلال أو النسب والأبعاد. وهو استرجاع يضع الذاكرة موضع تمثيل لغوي يستقطب الوصف والسَّرد والحوار والمونولوج مستغورا دواخل الذوات بما هي مرايا للمتذكر النفسي، والاستيهام المنطوق، والحلم المحول إلى معيش ممكن. وبهذا المنحى، ينبذ النص / الحلم، التمثيل الخارجي للأحداث والوقائع السردية مراهنا على نواظم اللاشعور والذاكرة والحلم في تحريك التيمات المحورية للقص: الجنس والجسد - الرسم والفن - طنجة وفضاءات المدن - التأمل و...، إلخ.). وضمن السياق نفسه، تتفاعل في هيكلة النص عدة مبادئ منظمة، نذكر منها:

أ - مبـدأ التحويـل:

ويمكن رصد تجلياته عبر العناصر التالية:

1 - تحويل المجرد (أو اللامرئي) إلى مشخص، والإشارة هنا إلى مستويات تشخيص الاستيهامات والأحلام والأفكار والذكريات والمونولوجات على صعيد الكتابة.

2 - تحويل مبدأ الرسم (مفهوما وممارسة) إلى إطار وهوية للكتابة، ويتجلى تفعيل الكتابة السردية بواسطة الرسم من خلال كيفية بناء الشخوص الروائية، وتخلل المكون - البصري لمختلف مراحل ذلك البناء.

والإشارة هنا إلى مفاهيم: الحركة والكتلة والشكل والضوء واللون والخطوط والظلال والأعياد والنسب والتعبير... إلخ. يقول العيشوني:

«كل ما تقع عليه عيناي الآن أستبطنه بأشكال مخالفة وأحار كيف أعطيه وجودا مستقلا داخل اللوحة التي سأرسمها. أنت بجانبي تخطرين بقدميك العاريتين عند مدخل هذا الشاطئ وأنا أراك هناك في الأبعد تنبثقين حورية من ثنايا الموج أو طائرا بحجم سحابته يتجه صوب السماء... أرى اللون الوردي والأرجواني، الأزرق الفاتح والفيروزي، الأحمر الفاتح والمرجاني وبقع الضوء المتناثرة في أشكال هندسية متحررة من صرامة الخطوط»[3].

3 - تحويل اللغة إلى موضوع للتشخيص الأدبي، وذلك عبر بذر التعابير واللهجات والنبرات العامية ضمن سيرورة التعبير الفصيح، مما يفسح المجال للتعدد اللغوي بما هو مظهر من مظاهر ردم الهوة بين التواصل الاجتماعي للشخوص الروائية والتواصل الجمالي بين القارئ المفترض والرواية ككائن لغوي، وكنموذج بارز لدينامية جدل الوظيفتين الجمالية والمرجعية على صعيد اللغة، يمكن الإشارة إلى حكاية (مرض الزين)[4] لأحمد المرابط. وهي عنوان بارز في الرواية للزواج السعيد بين الشفوي (العامي) والمكتوب (الفصيح)، بين التواصل اليومي (الاجتماعي) والتواصل الجمالي (الفني).

4 - تحويل أجناس تعبيرية مغايرة (المذكرات / الرسائل / الحكاية الشعبية / النشرة الأخبارية المتلفزة... إلخ.) إلى تقنيات ولبنات لهيكل المعمار السردي العام للنص وفق تكوين له التداخل الأجناسي نسغا. وضمن هذا الأفق يرد تحويل بعض سجلات التعبير السمعي - البصري إلى إوالية تجنيسية لتفعيل النقد الإيديولوجي والسخرية من إرسالية الخطاب الإعلامي - الرسمي نقرأ:

«.. وفي مجلس النواب خصصت جلسة بعد الظهر لرد السادة الوزراء على الأسئلة الشفوية الموجهة من النواب المحترمين (...) ولاحظ السيد وزير المالية أنه لا يوافق على التعبير الذي أصبح متداولا على الألسنة وفي الصحافة وهو تعبير «انزلاق الدرهم» لأن الدرهم لا ينزلق وإنما ينزل ويصعد حسب المقاييس الموضوعية التي تفرضها المحافل المالية العالمية، وعليه فإن الانزلاق كلمة لا تخلو من سوء نية ومن تشكيك في سياستنا الاقتصادية الرشيدة. وعلينا، يضيف السيد الوزير، أن نتجنب منذ اليوم استعمال كلمة انزلاق حتى لا نزيد من بلبلة المواطنين، فالدرهم ولله الحمد له أقدام ثابتة، وبها يصعد أو ينزل وحتى عندما يسرف في النزول فإن ذلك يكون بمثابة استعداد للصعود فلا داعي للقلق وعلى الجميع أن يحترم العملة الوطنية وأن يعاملها بالكلمات التي تليق بها. وقد صفق نواب الأغلبية طويلا لتوضيحات وزير المالية المفعمة بالغيرة والحماس...»[5].

وواضح ما لهذا التوظيف من خلفية تندرج ضمن العنصر السَّابق (3)، حيث يتعاضد التشخيص الأدبي للغة مع التوظيف الفني للسجلات السمعية - البصرية، وهو توليف أجناسي له التداخل وتكسير خطية البناء الروائي.

ب) مبـدأ التناسـخ:

ويتجلى على صعيد القصة من خلال مستويات نذكر منها:

1 - تقمص فاطمة لشخصية أمها (العشيقة التاريخية للعيشوني)، ومحاولة استساخ (محاكاة) تجربتها مع فنان الرسم والجنس. يقول السارد:

«وداخل سرير العيشوني ارتعش جسدها بقوة، بحرية، كأنما استرجع ضوابطه المعطلة منذ أشهر كانت تغرس أصابعها في ظهره تستحثه أن يغوص أكثر في بحيرتها الدافئة... وكانت أطياف غائمة الملامح تلوح لها كأنها قدود مياسة في مهرجان الشهوة، وقد تألق مهيمنا، وجه أمها المهللة لما ترى»[6].

«- هل كانت تجربة أمي تسكنني وتجتذبني؟ أم هي كبرياؤها استيقظت بأعماقي عندما قررت أن ألجأ إلى التحدي؟»[7].

«- عندما زرتك ذلك المساء بطنجة (منذ أكثر من سنة ونصف؟) كنت أفعل ذلك بدافع من الفضول، لأنني راغبة في أن أستكمل صورة أمي من خلال التعرف على عشيق شبابها»[8].

«- كنت أستطيب ما تحكيه أمي عن المدينة وناسها في تلك الفترة «الذهبية» فوجدتني مشدودة إلى نوستالجيا أيام لم أعشها»[9].

2 - تقمص فاطمة لشخصية Mademoiselle Beaunon في رواية الكاتب Jacques Laurent، المعنونة: Mademoiselle Les dimanches de ومحاكاتها لدرجة التطابق أو التناسخ الروحي والجسدي!

ج) مبدأ الرغبة:

ويتجلى من خلال الحضور المهيمن لتيمة العشق بوجهيها الإيروتيكي والخلاعي (الحب / الجنس)، حيث تتخذ لها من جسدي غيلانة وابنتها فاطمة مدخلين لنشر بذور كيمياء شبقية تتماهى بمقتضى تفاعلاتها لذة الجسد، مع لذة اللوحة، كجسر ممتد بين لذة الكتابة ولذة القراءة.

إنه النزوع الشبقي للكتابة الذي يستنطق مكبوت الجسد عبر تعرية مختلف العلائق السردية والخبيئة بين الشخوص الروائية، وهي علائق لا تنهض على أي مفهوم أخلاقي أو ديني أو شرعي، وإنما تتقاطع جميعها عند مبدأ الرغبة بما هو ناظم للسرد. ويمتد هذا التصور الجسداني لعلائق الشخوص ضمن قصة الرواية ليطاول مفهوم الكتابة نفسه، حيث يتناسخ مفهوم العلاقة الشبقية بالجسد مع مفهوم العلاقة الفنية باللوحة. فالرسم والجنس والكتابة تتحول جميعها إلى ممارسة واحدة، متناسخة، متداخلة، متطابقة، وكل هذه العناصر المؤثثة لمتخيل النص تتراكب كخطوط وألوان وظلال وكتل وأحجام وحركات وأضواء، مما يضفي على عنوان الرواية تعددية في المعاني والدلالات الإيحائية، إذ لا نستطيع أن نحسم في التأويل:

* هل الضوء هو الزمن المفقود؟

نقــرأ:

«هناك أيضا مسألة التحايل على سطوة الزمن، هل نستطيع أن نمتلكه، أن نروضه؟ هل مشكلتنا هي دائما مع الزمن؟! أي وجه يجعلنا أقرب إلى حقيقته؟»[10].

* هل الضوء هو الجسد / الأجساد المشروخة لغيلانة وفاطمة والعيشوني؟ هل هو استحالة تجمعها والتقائها؟ هل هو اللا انفصام؟

يقول العيشوني:

«أنا بعيد عن غيلانة بعدها عن ابنتها، وهما بعيدتان عني بعدي عن حركة الموج التي تطالعني كل صباح من هذه الشرفة، كل شيء يؤكد بدهية هذا الانفصام، فكيف استمر أزعم للنفس بأن هناك أفقا للتجمع والالتقاء؟»[11].

* هل الضوء هو المكان الموزع بين الأسطورة والتاريخ: طنجة الدولية، وطنجة ما بعد الاستقلال والجيل الذي يليه: أحلام الخسينيات والستينيات والسبعينيات التي ستتكشف عن أوهام؟

* هل الضوء هو الواقع المحلوم به؟ الذاكرة المفقودة؟ المرأة المستحيلة؟ الحاضر المحاصر بالماضي والمستقبل؟

هل هو الـ «جري وراء لحظات تجدد المتصرم والمنتهي، الواقع في قبضة الاستنزاف»[12].

ليكن ما يكون، فهو - بالضرورة - كالرغبة، قد تأتي وقد لا تأتي، قد تتحقق وقد لا تتحقق، وفي كل الأحوال، فهي مرهونة للهروب!!!

د) مبـدأ الاحتمـال:

ويتجلى بسفور مع استعمال تقنية الخطاب الميتا-روائي في الصفحات الأخيرة، عندما يضعنا الراوي في خضم مختلف الاحتمالات التي واجهته أو يمكن أن تواجه أي روائي مفترض يرغب في أن يحول مذكراته مع غيلانة وابنتها إلى (رواية). يقول العيشوني:

«لكن ما خططتُه في هذه الدفاتر غدا عزيزا لدي، جزءا من «آخر» كامن بأعماقي، لذلك لا أريد أن أمزقه، فكرتُ، أمس أن أعطي نسخة منه لأحد أصدقائي الروائيين المحترفين ليتخذ منه نواة لرواية مثيرة يتولى هو صياغتها، أكثر من ذلك، سأعرض عليه احتمالات تبدو ممكنة لصياغة قصتي مع غيلانة وفاطمة وما حصدته خلال ما يقرب من ستين سنة»[13].

ويسجل الاحتمالات الثلاث، مع الإشارة إلى أنه قد يكون هناك احتمال رابع وخامس عند تحويل هذه المذكرات إلى رواية:

«صديقي الروائي هو الذي سيختار إذا وافق على كتابتها، الشكل والتفاصيل والصياغة»[14].

ومن خلال رصد الاحتمالات الثلاثة، يتضح أن الرواية - بالكيفية التي كتبت بها قد راهنت على الاحتمال الثالث[15]، وتقنية إيراد الاحتمالات المتعددة والممكنة لكتابة نفس المادة الحكائية ترجع عند محمد برادة إلى روايته الأولى «لعبة النسيان»، حيث يقدم السرد وهو يفكر في نفسه: «إمكانات ثلاث لمنظوراته وأنماطه (مشروع بداية أول / مشروع بداية ثان / ثم صارت «البداية» هكذا (...) وهي توحي بمعضلة الكتابة التي هي محاولة دائمة للاستقلال المتصل: أي بناء هوية التلفظ والملفوظ المنفصلة - المتصلة بمرجعها الواقعي. كذلك فإنها تصريح بالانفتاح وعدم الاستقرار والتعددية، إذ لا يمكن القول بأن مشاريع البداية ينسخ بعضها بعضا نسخا مطلقا، ولكن ثمة تراكب وتحاور بينها، يجعلها مندمجة في بنية النص التركيبية والدلالية، اندماجا يعبر عن وعي الكتابة قدر ما يحدد مستوى من مستويات المكتوب والواقع أن التشكيل التركيبي للبداية ما هو إلا مؤشر إلى اختلاف الخطاب الروائي في لعبة النسيان، وتمهيد لاستقبال تعدد سؤال الكتابة وتحوله في إطار ذلك الاختلاف[16]، فهل يتعلق الأمر بتكرار للتقنية أم هو التناسخ والاستمرارية في تكريس احتمالية الكتابة الروائية؟[17].

إنها جمالية المحتمل، بما هو وعي محايث لسيرورة المحكي. رؤية فنية، ومنطق في السرد ينبذ وهم اليقين السردي ليضع أفق الرائي في صميم التعدد القرائي المنفتح على تعدد إمكانات التأويل، وهو نفسه - مبدأ التعدد - مؤشر الوعي الذي يطاول لعبة التبئير التي تخضع لتناوب الساردين - المشاركين بموازاة تعددية محفل المخاطب النصي:

رقـم

المخاطب النصـي

رقـــم

الســــارد

1

فاطمــة

1

العيشـوني

2

العيشونـي

2

فاطمـة

3

العيشـونـي

3

غيلانـة

وواضح ما لهذا التناوب على زمام السرد - في إطار التبئير في درجة الصفر بلغة حنين أو - ضمن رؤية من الخلف، فوقية وعالمة بكل شيء من دور في ترسيخ احتمالية المحكي. فهي سيرورة محايثة للكتابة، مضمرة تارة ومعلنة طورا، يتم الإعلان عنها في نهاية رواية «الضوء الهارب» تمشيا مع هاجس يسكن المؤلف محمد برادة باستمرار ويتمثل في حرصه المتواصل على كشف أوراق اللعبة الروائية، من منطلق استيحاء التصورات النظرية حول الرواية والكتابة، أي من منطلق تأكيد الهوية التجريبية لتجربته الروائية التي لا تزال قيد التشكل من منظور يرى بأن التجريب هو الوعي بالتجريب.


 

[1] - محمد بـرادة، الضوء الهارب، نشر الفنك، البيضـاء، طبعة أولى، 1993.

[2] - «الرواية المغربية في معترك الصراع من أجل السلطة في مجالي التواصل وتوليد الدلالات: محمد برادة في مكنـاس»، إنجاز محمد أمنصـور، جريدة الاتحاد الاشتراكي، 30 نوفمبر، 1993، الصفحة الأخيرة.

[3] - الروايـة، ص. 56.

[4] - يروي صديق العيشوني حكاية مرض الزين على الشكل التالي:

«اختصر لك في القول: كانت عندي 16 سنة، وكنت تنعمل لابوكس والساعة اللي تنفضي من لانتريما تنمشي لعند عمتي وكنت تنجبر عندها واحد البنت الجمال ديالها ما نكدبش عليك باقي ما شفتو إلى يومنا هذا. وكانت البنت مريضة بمرض تنعيطو له «مرض الزين» كان تيعجبها تبقى بغرط المراية سوايع وسوايع، واحد النهار سألتني عمتي قالت لي شنو ظهر لك تتزوج؟ قلت لها مع هاذ البنت نتزوج ما نكرهشي. جات هي قالت لي خسارة عليها عيانة شويش على ود الوقت ديالها علاين كامل تتقضيه بغرط المراية. غبت على عمتي واحد الشهر ورجعت زرتها وسولتها على البنت قالت لي: راه ماتت مسكينة، شنو وقع لها؟ قالت لي مشات بغرط المراية وبدأت تتبدل عليها وكتدل وتتعوط شعرها وتتعيب حالها... الزين اللي عطاها ربي ما قنعهاش، وطلعت للسطح وسيبت راسها، هاذاك المرض القبيح ما عندو دوا الله يحفظنا ويحفظ جميع المسلمين...»، ص. 33، الرواية.

[5] - الروايـة، ص. 18 / 19.

[6] - الروايـة، ص. 23.

[7] - الروايـة، ص. 121.

[8] - الروايـة، ص. 132.

[9] - الروايـة، ص. 122.

[10] - الروايـة، ص. 168.

[11] - الروايـة، ص. 168.

[12] - الروايــة، ص. 168.

[13] - الروايــة، ص. 175.

[14] - الروايـة، ص. 176.

[15] - يلخص الاحتمال الثالث (ج) قصة الرواية (مادة التأليف) في عشرة أسطر كما يلي: «يبدأ النص من زيارة فاطمة للعيشوني في بيته (أي لي أنا وقد تحولت إلى شخصية روائية) يحفزها على الزيارة الفضول والتعرف على عشيق أمها، تعيش مغامرة معه، تتخللها حوارات واستفسارات عن أمها وعن حياته، ثم ترحل بدون أن تخبرها عن وجهتها، تأتي غيلانة، بعد أكثر من سنة، لزيارة العيشوني وقد بدأت تغزوها أمارات الشيخوخة لتشكو له مرارتها من ابنتها... بعد فترة يتوصل العيشوني برسالة من فاطمة تحكي له عن حياتها في فاس ومغامرتها بباريس واصطيادها لعريس ثري لإنقاذها من التسكع وبيع جسدها (يمكن للروائي إذا اختار هذه الصيغة، أن يورد فقرات من دفاتري، كما يمكنه أن يستشهد بشذرات منها وهو يعيد تشخيص بعض المواقف...»، الروايــة، ص. 165.

[16] - الصديق بوعلام، «تنويعات حول لعبة النسيـان»، مجلة فصول، المجلد الثامن، العدد 3 / 4، دسمبر 1989، ص. 165.

[17] - انظر معالجتنا لهذا الجانب في الفصل الأول من الباب الثاني الذي خصصناه لرواية «لعبة النسيان» في رسالتنا الجامعية المشار إليها سابقا «استراتيجيات التجريب...».

 

 

موارد نصيـة

د. محمد أمنصـور

خرائط التجريب الروائي

المحتــوى

تقديـــــم

القسـم الأول: (قضايا نظرية)

مفاهيم التجريب الروائي في المغرب. رصد ومساءلة

النقد الروائي بالمغرب

الغائب في المشروع الروائي المغربي

القسم الثاني: (قراءات)

تخوم الروائي: السيرة ملجأ للتاريخ المنهار . «أوراق / عبد الله العروي

جمالية التمثيل والمحتمل. «الضوء الهارب» / محمد برادة

إشراق الحكي العرفاني. «مدارج الليلة الموعودة» موليم العروسي

حكايات الاسم الضائع. «شجر الخلاطة» / الميلودي شغموم

الحكي خارج المدار البشري: «حديث الجثة» / محمد أسليم

كتابة الرؤيا: الرواية كوعي لغوي بالعالم. «الجنازة» / حكاية وهم» / «طريق السحاب» / أحمد المديني

رواية البحث عـن الأصـول بيـن التدوين والتخييل. جنوب الروح / محمد الأشعري

 

 

 

 

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.