«لكي نبصر يجب أن يكون هناك ظل ونور. إن جسد المتصوف أو الفيلسوف أو الرسام العربي الإسلامي يخترقه
النور فيصبح شفافا لا يمكنه أن يُرَى لانعدام النتوءات (Les reliefs). إنه مسلم لصوت، من
أين يأتي هذا الصوت؟ لنا كامل الحق في تأويل هذا الآخر الذي يتكلم؛ ومن
هنا يبدأ علم الجمال العربي الإسلامي»[2].
(1-1)
هل يمكن الحديث في الأدب المغربي المعاصر عن أدب
صوفي؟ ما هي العوامل التي تؤدي إلى ظهور الكتابة الصوفية في الأدب
الحديث؟ ما هي الخصائص الفنية والدلالية والأجناسية التي تجعل من نص ما
كتابة صوفية؟ وما علاقة الكتابة الصوفية الحديثة بتراث التصوف العربي
الإسلامي القديم؟
دون توهم الإجابة المباشرة عن تلك الأسئلة الكبرى، يمكن الحديث - بصفة عامة - عن وجود مستويات من الكتابة
الصوفية في الأدب المغربي المعاصر؛ وهي كتابة، أيا كان مستوى تراكمها،
ليست على نمط واحد، وتتعدد مناحيها بحسب الجنس الأدبي الذي تنتسج ضمنه،
فضلا عن مستويات وحدود تعاطيها للمرجعيات الصوفية الكبرى. في هذا السياق، يمكن التمييز بين توجهين رئيسين:
أ) توجه يمتح من معين التصوف
على سبيل التوظيف الفني - الجزئي
لبعض مكوناته الفكرية والروحية والفلسفية والجمالية.
ب) التوجه الذي ينحو منحى التشميل والانغماس الكلي في تعاطيه للتجربة الصوفية. وضمن هذا التوجه الثاني، نضع النص موضوع المقاربة الحالية.
(1-2)
إذا كان من الممكن افتراض وجود وجهة نظر قد تعزو
ازدهار التصوف - بصفة عامة - إلى تفشي الأزمات المجتمعية
التي تعصف بكل القيم الإنسانية النبيلة، بحيث يشتد عوده كرد فعل ضد
الفشل الذي تُمنى به حركات التغيير؛ فإن وجهة النظر التي نقترحها في
سياقنا هذا تذهب إلى قراءة «الكتابة
الصوفية الحديثة» قراءة إيجابية
بما هي إغناء للأدب المغربي في إطار نظرية الأجناس الأدبية. فانفتاح الأدب على حقل التصوف من شأنه أن يمكن الممارسة الأدبية
من امتلاك خصائص أجناسية جديدة، ومواصفات فنية ودلالية - وجودية ترتكز على أسس جديدة
نذكر من بينها:
-
إمكانية الاندراج ضمن أفق يستجيب لمشروع علم جمال عربي
إسلامي محتمل.
-
مد الجسور بين الكتابة المعاصرة وأصول وروافد التصوف
الإسلامي وغير الإسلامي.
-
بلورة رؤية جمالية صوفية ذات خصوصية تاريخية، ضمن مسارات
التصوف المعتدلة أو المتطرفة، الساذجة أو الفلسفية.
-
معانقة المبدأ الإنساني في الكتابة.
-
دمج الأدبي / الجمالي
ضمن السياقين: العرفاني والمعرفي.
-
المراهنة على مبدأ المجاهدة النفسية في صوغ تجربة
الكتابة، أو انخراط التحقق النصي في التجربة الصوفية - الواقعية للمؤلف.
في ضوء هذه المنطلقات العامة، تندرج مقاربتنا لنص «مدارج الليلة الموعودة» الصادر حديثا، باعتباره نصا يؤسس استراتيجيته الكتابية ضمن أفق
انتظار مزدوج: أفق التصوف وأفق
التشكيل (التصوير الصباغي).
(2-1)
يسجل صدور هذا الكتاب لحظة انبثاق جديدة في
الكتابة السردية المغربية المعاصرة، وذلك بالنظر إلى الاستراتيجية التي
يُرَاهن عليها في تأسيس أدبيته، وهي استراتيجية تتخذ لها من «فن التصوف» والفن التشكيلي مرتكزين أساسين. هكذا يمكن الحديث عن التفاعل بين هذين المكونين ضمن نسيج النص،
بحيث يغذي الرافد الصوفي مادة الكتابة، بينما يؤطر المكون الصباغي تلك
المادة ويصوغها رؤيويا ضمن معمار نصي تسنده مقامات اللون / النور. فعنصر اللون يحضر كإطار للوحات السرد من منطلق هاجس الرؤية
الصباغية المحايثة لتشكل تكوينات النص. الصباغة كلون، واللون كنور ينطوي على سر أعظم يقود الكتابة إلى
الرغبة في امتلاكه والاتحاد به.
إنه الوعي الحسي، والحدسي، والجسداني بالكتابة، حيث هاجس لذة العين
يكمن خلف الوقائع السردية، والمواقف والرموز والأحداث والفضاءات
والشخوص شبه - الروائية. وبهذا المعنى، فإن الرافد الصوفي يسند نمطية الشخوص، ومتذكر
السارد، وتشخيص الأطروحات الفكرية للنص، كما أن الرافد التشكيلي يجعل
من تلك العناصر مادة خام للتكوين النصي والأسلبة الرؤيوية ضمن مسافة
تراوح بين الحدسي والبصري، بين الضوئي والظلي، بين المرئي واللامرئي،
بين النثر المرسل المفتوح وقماشة الحكي العرفاني. من هنا التأطير الهيكلي للنص إلى مقامات لونية: مقام الأحمر، مقام الأصفر، مقام الأزرق، مقام الأبيض، مقام
الرمادي، مقام الماء، مقام الأسود. وهي مقامات - مدارج في
النور تشكل صورة لمسار سؤال فلسفي - جمالي كامن في خرقة النص:
سؤال اللون. ولأن الصباغة لون،
ولأن اللون نور، فإن المقامات رحلة بحث عن مصدر النور، أو - بصيغة أخرى - رحلة البحث عن آخر مقام صوفي،
ألا وهو مقام الاتحاد مع موضوع الرغبة. وماذا عساه يكون موضوع الرغبة هذا سوى السر الأعظم أو «النور الشعشعاني» جامع الألوان وملتقى الافتتان الضوئي؟ يقول محمد علوط في سياق
الحديث عن المقامات بين حدي «التلوين» و«التمكين»:
«يتشكل النص من مجموع مقامات / تلونات تصعد وفق مرقى تشكيلي للون، ينطلق من الأحمر رمز الشهوة
والجمال، مرورا بألوان أخرى أهمها الأبيض رمز التنزيه عن الشهوة، وهو
أيضا الرمز الشمسي، رمز التعيين والوضوح
(ابن عربي)» ورمز الحقيقة
وتجلياتها، وصولا إلى الأسود محل الستر والخفاء، وعالم الاحتجاب، وعالم
الجلالة والهيبة ومصدر النور (الحكمة
الإلهية عند ابن عربي)».
ويضيف:
«في هذا المسار تتقاطب قوتين في صراع عنيف: الماء رمز الحياة، والنار:
رمز المكاره التي يقتحمها السالك حتى يصل إلى المنزل الأول، ما سماه
الكاتب بمقام كل الألوان، أو جامع المقامات.
هذا المقام الأخير، هو الغاية والمنتهى، وهو الليلة الموعودة التي
يحتجب عندها كل غيب، وتنطوي على موطن النور الذي تصدر عنه معرفة أصل
الأشياء.. وهو في النهاية مقام "التمكين"»[3].
(3-1)
إن هذا الكتاب كتابة مفتوحة بالمعنى الذي يجعل
السرد متمفصلا بين مسالك فنية ظاهرة، وأخرى دلالية باطنية غير مطروقة
أو مستهلكة في الكتابات التي تراهن على تمثل وإعادة إنتاج قواعد
الأجناس الأدبية. ومن بين تلك
المسالك، استجلاب الأصوات والقصص والأسماء والرموز والوقائع والأحداث
الأصلية عبر بؤر شبه - شخوص
روائية تكثف الدلالات، وتنمذج شبكات المعنى (الشيخ، الولد، المرأة، مريم،
السيدة، الغريب، الطبيب، الممرضات، الشاب، الهاتف، إلخ.)،
وهو مسلك يمسك بزمام شبكته التبئيرية سارد يتقن لعبة توزيع الوصف
والحوار ضمن مساحات السرد المنفلت من قبضة الجنس الأدبي الواحد، القار
الحدود، المتسم بالنقاء النوعي الخالص!... سرد تؤسسه جدلية ظهور الأصوات واختفائها، مما يمنح سيرورة
الكتابة طابع الكشف والإشراق المتجدد، بحيث تتناوب بموجبها مسارات
الشخوص ظهورا واختفاء، حتى ليمكن القول بأن جدلية الظاهر والباطن هي ما
يتحكم في دينامية التفاعل بين مادة السرد وخطابه؛ بين قصص الكتاب
ومختلف عمليات الأسلبة. من هنا
تلك الجمالية الفنية، الصوفية النسغ، حيث الأحداث لا تتسلسل، والصور
الوجدانية - الصباغية لا تترابط؛
لكن سيرورة اللون / النور، تضفي
على المقامات خصيصة التواشج الروحاني العميق الممتد بين سراديب الرؤية
البصرية وكهوف الرؤيا القلبية.
بين سلطة المشاهدة بواسطة العين وسلطة الإشراق أو رؤية الأنوار بواسطة
القلب.
(4-1)
إن مقامات الألوان في «مدارج الليلة الموعودة» تتقدم كلوحات تشكيلية مأخوذة بحديث الرؤية وهاجس اكتشاف لذة
العين انطلاقا من العشق كتيمة مركزية تتخلل النص في مختلف أبعادها
وتجلياتها: العشق الإلهي مندرجا
ضمن رؤية تقود إلى الجانب الجسدي لله، والعشق البشري منشطرا بين
الأبعاد الجنسية والعذرية الفالوكراتية، والعشق كإمكان والعشق
كاستحالة، وعشق الأصل وعشق الصورة، إلخ. وهي ضروب من الحب تتمظهر في الكتاب عبر حبكات حكايات - صغرى، أبطالها عشاق متفانون في
الوجد، والتوله، وألم اللذة، ونار التمنع، وحرقة الوصال، ورغبات
الجسد، وتيه الترحال، والسفـر، وعنف المجاهدات النفسية.
(4-2)
وبالإضافة إلى تلك التيمة - الأم، تتفرع عبر نسيج النص
مجموعة من الثنائيات الضدية التي تقذف في رحم الكتابة بذورا دلالية
تتفاعل رؤيويا لتفرز أنساقا إيجابية تصب في الرؤيا الشمولية - الصوفية للنص؛ من ذلك ثنائيات:
(الأزلي / الزائل - النور / العتمة - الجسد / الروح - الأصل / الصورة - البصر / البصيرة - الحب العذري / الحب المثالي، إلخ.)،
وهي مكونات موضوعاتية تنتظم بين حدي «التلوين» و«التمكين»
- على حد تعبير محمد علوط -،
ناسجة حكايات وشخوصا شبه - روائية
تصهرها ألوان الرؤى والأحلام والذكريات والاستيهامات.
إنها الكتابة المفتوحة، المحلقة خارج الزمان والمكان، المولدة
لأسماء وأصوات ورسائل وضمائر متكلمة تتوازى وتتقاطع عند بؤر فكرة الأصل
ومبادئ المجاهدة النفسية والرغبة والموت ومقامات الألوان. المقامات التي تتجه:
«نحو الليلة الموعودة، تلك الليلة التي تمحي عندها التلونات،
وتختفي المقامات، ويصير فيها الفرق جمعا، والتعدد واحدا، تلك العتبة
الميتافيزيقية التي تحتمل اجتماع الصورة والأصل، وتوحد الظاهر والباطن،
المعلوم والمجهول، الواحد والكثرة، الحقيقة والظل»[4].
(4-3)
أما تبلور الأنساق الإيحائية في الكتابة، فيتدعم
عبر تشغيل متخيل السرد خارج الأنساق التقريرية، وفي تحرر شبه مطلق من
التعيينات المرجعية. فأسماء
الشخوص والأمكنة، وأمداء الأزمنة قائمة من دون قرائن إحالية. وبهذا المعنى، فهي ترقى إلى ضرب من النمذجة المكثفة للمرجع
الواقعي. إنه الجنوح التدرجي
للكتابة صوب مطلقية التعبير الجمالي المولد لسلطة الرمزي القائم بين
حدي التاريخي والنبوي: فلا هي
كتابة توثيقية / تسجيلية تعكس أو
تستنسخ التاريخ، ولا هي مجرد نداءات نبوية تكرر أو تبتدل المكون النبوي
في الكتابة. فالشيخ ومريم والولد
والسيدة والطبيب والممرضة والهاتف والشاب
(علي)، إلخ. كلها رموز تكثف وتنمذج مختلف ما تنطوي عليه الشخوص والمواقف
والحبكات من دلالات في واقع السالك / الصوفي الحديث. والرمزي
بقدر ما يجرد المشخص فهو يشخص المجرد كذلك؛ لكن، بلغة إشكالية تتجاذبها
قوة الباطن وضعف بعض تجليات الظاهر! فهي لغة ممتعة بروحانيتها وكيمياء حروفها؛ لكن، مؤلمة ومتألمة
بجروح جسدها اللغوية، لما يعتوره من تعثرات نحوية وإملائية بالغة النزف[5]،
حتى ليمكن القول بأنها لغة موزعة في مقام عطب مزدوج بين العطب المدرسي،
من جهة الأخطاء اللغوية الكثيرة، والعطب الوجودي، من جهة علاقتها ككائن
وجودي في العالم بحدود النص!..
غير أنه مقام لا يمكن، بأية حال، أن يحجب عن بصيرة التلقي الجمالي،
السراديب العميقة لرؤيا النص، وطبقات محكيه الصوفي، الباطني، العرفاني،
الكاشف عن مجاهدة النفس، وترحال البحث في حقيقة العشق، وسؤال الذات، ولغز العالم، بين قدسية الإلهي ومدنس الجسدي[6].
(5-1)
إن «مدارج
الليلة الموعودة» كتابة تمتح من
فن التصوف وعلم النفس التحليلي والطب العقلي وقطوف التراث الباذخ لابن
عربي، وابن طفيل، والغزالي، وأفلاطون، وروسو، ونيتشه، وفرويد، ولاكان،
وهيدجر... إلخ.،
لذلك فهي كتابة تأسيسية يسكنها هاجس المثاقفة، في أفق تكريس وعي أدبي
جديد يستجيب لمشروع علم جمال عربي إسلامي ينتظر التأصيل! كتابة تنسج علائق بين آفاق المعرفة الأجنبية وآفاق التصوف
العربي الإسلامي. كتابة توحد
الأضداد، وتردم الهوة بين المقدس والمدنس، بين الذكوري والأنثوي، بين
الأصل والصورة، بين النور والظل، بين الخطاب المعرفي والحكي العرفاني
القائم على إدراكية الحدسي وتخييل اللاشعور. يقول الشيخ:
«لقد ولدت تعويضا لأخي الذي مات في ربيعه الثاني ولقنت هذه
الحكاية منذ صغري. قيل لي دائما
وفي ظرف تام أنني النسخة ولست الأصل. جيء بي من أعماق أمي لأعوض الآخر. عشت دائما أبحث عن طريقة لجلب الحب وحتى أكون في مستوى المائت،
بدأ تفكيري يشتغل في اتجاه الموت منذ أول يوم وقفت فيه على قبر أخي
الأصل. هل أنا عوضته فعلا؟ وإذا
كان، فيجب علي أن أموت مكانه حتى أعوضه فعلا»[7].
إنها فكرة الأصل والحنين إلى ردم الهوة بين الصورة والأصل لمعانقة
الجذور والخلاص من ظلية النسخة بموازاة الخلاص من تلوث وكثافة الجسد،
وسرابية الوجود الفاني، ومحدودية الجنس الأدبي المقولب! فعبر هذا النزوع المتوتر لنسج علائق جدلية بين الأضداد، وردم
الفجوات بين المتناقضات، ينمو النسيج - النصي وتنمو في سياقه رؤيا مأخوذة بمسالك سردية تقود إلى ممارسة
الحفر وفق إستطيقا تركيبية تمتح من التصوف والفن التشكيلي، لتنسج لوحات
حكائية عرفانية تنهض على أنقاض كل ما هو برهاني أو بياني. لوحات مادَّتُها الخام العناصرُ الأولى للكون:
(الإنسان والحيوان والنبات والتراب والماء والهواء والنار). لوحات يتوسط مقاماتها اللون الرمادي، لون الغلاف ولون المقام
الخامس في رحلة البحث عن النور.
(5-2)
إنه لون خيانة الأصل. أليس حصيلة احتراق الأجساد والعناصر الفاسدة التي يتبدل لونها
الأصلي بفعل النار، لتتحول من صورتها الطبيعية إلى رماد (النسخة المحوّلة، المشتقة من
الأصل بفعل الاحتراق). يقول الشيخ:
«اسمعوا أحبائي! لقد
انقضى أجلي، وإن متُّ فاحرقوني وضعوني في جرة واهدوني إلى مريم. فإن قبلت ففي ذلك ملاذي وإن هي رفضتْ فلا أدري مآلي»[8].
فهذه وصية ترد في مقام يوحي لنا بأن الرمادي لون ظلي بإزاء بقية
الألوان النورانية. غير أن
الرمادي من الرماد، والرماد مشتق من الجسد بعد الاحتراق. احتراق الجثة الموصى عنها من لدن الميت؛ وإذن فهو لون يتهيأ من
تنفيذ وصية الشيخ الهالك عشقا، الموزع بين حتمية تلاشي مادة جسده وحلول
روحه العاشقة في اللون الرمادي.
لون العبور من ضوء الحياة إلى البياض والسواد، أو لون الخروج المتدرج
من الصفاء إلى هجنة التركيب وتداخل كيمياء العشق والموت والبعث، وكل ما
في المقامات من ألوان.
(5-3)
إنه التلوين الصباغي لرؤيا السرد الذي يمكن رصده - أيضا - في مقام الأزرق، حيث توضع
الكتابة في مسلك البحث عن مستتر الحقيقة: حقيقة الوجود، وحقيقة الذات، وحقيقة الجسد، وكل ما تنطوي عليه
الزرقة من أسئلة ودلالات:
«...
حملتها ذات يوم وطِرتُ إلى جزيرة زرقاء / وضعتها على بساط أزرق وذهبت
للبحث عن ماء لأبلل ثيابها. كنت
وحيدا في تلك الجزيرة. كانت زرقة
البحر والسماء تؤلم بصري. وجدت
أكداسا من الحرير الأزرق منتشرة تحت شجرة عظيمة (...) فجأة لاح لي، من خلال ضباب
عيوني، شيء يشتعل زرقة ثم يختفي.
جمعت همَّتِي وجريتُ ثم جريت حتى سقطتُ مغشيا علي ولم أستفق إلا وأنا
مسند رأسي إلى ركبة الطفلة التي ما استطاعت من قبل أن تثير همتي. كان الفضاء كله أزرق، الرمال زرقاء، الحجارة زرقاء، الأفاعي
التي تتبختر حولنا زرقاء والنمل أزرق. نظرت إلى يدي ورجلي فكانت زرقاء. استسلمت»[9].
إن الأزرق هنا نور يغطي قماش الكتابة ويمسح شكلها. فالفكرة والشكل يتحدان.
واللون والضوء ينصهران في خرقة كتابة تبحث في مدارج السر الأعظم متقدمة
كطرس في الوجد يراوح بين التذكر والمحو، بين تحيين المشخص، المرئي
ونسيان المجرد. إنها الكتابة
الصباغية، الإشراقية التي تردم الهوة بين الرؤية البصرية والرؤيا
الاستبصارية؛ بين لذة العين وإشراق القلب، بين التجربة الصوفية
والتجريب الصباغي، بين انفتاح النص على سجلات علم الجمال الغربي وإدماج
تكويناته السردية ضمن سجلات التصوف العربي الإسلامي مقروءة بذاكرة
جمالية.
إن هذا النص الصوفي يسعى - من
ضمن ما يسعى إليه - إلى إقامة
كتابة جديدة تنهض على تدمير القواعد وإلغاء الحدود بين القوالب
الأجناسية، وذلك بالإرتكاز على إقامة علاقات جديدة بين الأدب وفن
التصوير الصباغي، بين الأدب وتراث التصوف العالمي، بين الأدب وعلم
الجمال الغربي والعربي الإسلامي الممكن. ورغم الهنات اللغوية القاتلة التي شابت التحقق النصي، إلا أنه
يبقى - بالرغم من كل شيء - نصا جديرا بالانتباه إليه
والاحتفاء به، فضلا عن حتمية إدراجه ضمن منحى كتابة الحداثة والتحديث
في المغرب.
[1] - موليم
العروسي، مدارج الليلة الموعودة، الجزء الأول، الدار
البيضاء، مطابع صومادي المغرب، الطبعة الأولى
1993.
[2] - موليم
العروسي، «الفن في المغرب ومشكلة
النور»، مجلة آفــاق،
العدد 2، السنة 1989، ص.
67-74.
[3] - محمد علوط، «من التلوين إلى التمكين: قراءة في «مدارج الليلة
الموعودة» لموليم العروسي»،
جريدة أنـوال، 24-03-1994،
ص. 7.
[4] - يقول الشيخ
في مقام الأحمر: «الحب بالنسبة لي
هو باعث الحياة. لكنني لا أثق به. أظن كل مرة تعلق بي جسد عذري أنني أخدع. الجسد العذري هو مبتغاي الدائم، لكنني أظن أن منطلق الغواية لدي
كان الأم. حاولت أن أقنعها أنني
أعوض أخي فعلا. لذا، ارتبط بحثي
عن الجسد بالأم وبالمرأة التي تكبرني تجربة. لا ترتاح أعضائي الحيوانية إلا في اتصالها بجسد يكبرني تجربة. كلما اقترح علي الجسد العذري التواءاته التي تدخل قي صميم
الغواية أتبرم»، مدارج
الليلة الموعودة، ص. 13.
[5] - محمد أمقران، «حول لقاء الفيلسوف موليم العروسي
مع حمهور مكتبة الكرامة بالدار البيضاء»،
جريدة أنـوال، 18-03-1994، عدد
1330.
يقول صاحب التغطية: «تحدث عبد
اللطيف الدرقاوي عن اللغة، وأتى دور عبد اللطيف دربوش الذي غيَّرَ مجرى
النقاش، أثار نقطة اللغة والأخطاء اللغوية والإملائية التي ارتكبها
موليم العروسي في هذه الرواية، المداخلة التي فجَّرَت ما كان مسكوتا
عنه، الفكرة التي أخذت الحيز الأكبر من النقاش. المتدخل قام بإحصاء الأخطاء الإملائية المرتكبة فوجدها - رغم أن الرواية مراجعة
ومصحَّحَة من طرف «مفتش تعليم»
- تعادل حجم الرواية.
وللقارئ نموذج من هذه الأخطاء حتى يكون عنوان هذا المقال ذا دلالة:
- «عويل التيار» - - «الدماغ
فوق الجمجمة» - - «الحيوانات
وهمومهم» - «الطيور وحركاتهم»
- - إشعال الشمعة عوض المصباح تجنبا للإزعاج في نفس الوقت يتم
الاستماع لآلة التسجيل، فأيهما يزعج؟»
[6] - المـدارج، ص. 76.
[7] - المـدارج، ص. 76.
[8] - المـدارج، ص. 49-52.
[9] - المـدارج، ص. 49-52.
|