( أ) لعبـة التجنيـس: السيـرة والتاريـخ
(1-1)
هذا نص متعدد، نسيج متداخل من الأنماط الخطابية،
وأفق مركب لبلورة أكثر من سؤال. «أوراق» كتابة سيرية كما يؤشر على ذلك العنوان الفرعي، لكن: هل يخلص التحقق النصي لصفاء قالب السيرة؟
إن أبسط مستلزمات السيرة الذاتية وفق معايير فيليب لوجون التي
يحددها في كتابه «الميثاق
الأوتوبيوغرافي»[2] تتمثل في استيفاء السرد لشرط التطابق بين المؤلف والسارد
والشخصية الرئيسية، أي في توحد ضمائر / مكونات الثالوث الفاعل في إنتاجية السرد. والمتأمِّل لكتاب «أوراق» يجد أنه ينزاح عن هذه المعايير منذ البداية، أي انطلاقا من
الميثاق السردي الذي يعقده المؤلف الفعلي مع قارئه الواقعي. فهو ميثاق سردي من نوع خاص: «سيرة
إدريس الذهنية»، وكأن التخصيص
والتبعيض يلغيان منذ البداية انتساب أو تماهي هذا الفرع مع مختلف فروع
شجرة جنس السيرة الذاتية المتشعبة. فبحصر موضوع الكتابة السيرية في حدود تيمة الذهن، تكون
استراتيجية النص قد راهنت على نبذ مختلف الأطر التجنيسية المحتملة
والتي تحف بجنس السيرة الذاتية من «مذكرات» و«بيوغرافيا» و«رواية شخصية» أو «قصيدة سير - ذاتية»،
إلخ. وهو استقطاب قرائي يمارسه
الإرشاد القبلي لرفع التعويم والالتباس عن أفق انتظارالنص / القارئ المفترض معا. من هنا التهيؤ لمتابعة حياة الجزء
/ الذهن بدل الكل /
الشخصية، وهو تهيؤ تبلوره اللعبة التبئيرية للنص بمجرد ما يجد القارئ
نفسه في إطار محكي استرجاعي، نثري، يعمل على صياغته سارد متخيل له وجود
مفترض يؤهله لإلقاء الضوء على ذهن إدريس بما هو مسار فكري وعاطفي، أي
باعتباره قصة تشكل قيم ذلك الذهن بشكل خاص. ولعل هذا الأفق القرائي الاحتمالي هو ما يحفز على طرح أسئلة من
قبيل:
- ما الفرق بين السيرة الذاتية وفق الاصطلاح المتعارف عليه
والسيرة الذهنية كما يمثلها التحقق النصي في «أوراق»؟
-
هل يمكن كتابة سيرة ذهن الإنسان بمعزل عن بقية مكونات
شخصيته / تجربته الحياتية؟
-
ما هي آثار هذا التخصيص / التبعيض على طبيعة تشكل السيرة بما هي قالب أدبي له أوفاق
ومواصفات محددة؟
(2-1)
ودون الانسياق لتقديم أجوبة متعجلة أو تبسيطية
لهذه الأسئلة ذات الطابع المنهجي، قد يكون من الملائم الانتباه إلى
خدعة العنوان الفرعي. فمن الذي
يرغب في توجيه أفق انتظار القارئ صوب موضوع غيري / ذهن إدريس باعتباره موضوع
السيرة المرتقبة؟ (...) لقد تمت
الإشارة منذ البداية إلى المؤلف الفعلي (عبد
الله العروي)، فهو صاحب
المصلحةالأولى في ممارسة هذا الإيهام. إيهام المتلقي بالطابع الغيري (أو
الآخري) للكتابة، وخداعه بإضفاء
صبغة انشطارية على الذات (عزل
الذهن / الجزء عن الشخصية / الكل)،
غير أنهما - خداع وإيهام - تكمن خلفهما مقصدية الخلخلة
البدئية لأفق انتظار الجنس الأدبي / القارئ؛ وهو رهان لعبي ينسف مبدأ التطابق بين مكونات الثالوث
السردي (المؤلف ضد البطل ضد
السارد). إنه نسف يصدر عن كاتب
معروف بتعددية مراياه الثقافية، وتنوع وجوهه وأصواته وضمائره المعلنة
والخفية (مؤرخ / فيلسوف اجتماعي / روائي / أستاذ جامعي - باحث / رجل سياسة، إلخ.) مما يتيح للكتابة استقلالها النصي خارج مدارات الإسقاط الخارج - نصية، وهو تمويه فني يستهدف خلق
مسافة تباعدية بين القارئ والمؤلف الواقعيين وفي الوقت نفسه خلق سياق
تبئيري جديد للكتابة السير -
ذاتية يمكنها من الخروج على القواعد التقليدية الجامدة التي قد يكون
مبدأ التطابق أبرز تجسيد لها. أما
تجليات ذلك السياق التبئيري المركب، فتظهر من خلال تأطير ثنائي للسرد
يمارسه كل من الرواي (الذي لا
نعرف اسمه) وشخصية شعيب. فعبر حوارهما ينمو السرد ويتبلور، بينما إدريس كذهن (أو كشخصية) لا يحضر إلا كوثائق وكنانيش، أي باعتباره جملة أوراق يحضر فيها (البطل!) بالقوة ولا يتحقق له وجود بالفعل إلا عبر عمليات التوليف
والتركيب والتحقيق والتأويل والتعليق التي يمارسها الراوي، بالإضافة
إلى ما يوازي كل ذلك من أسئلة وتعقيبات شعيب. يقول الراوي:
«رتبت أوراق إدريس حسب منطق اقتنعت أنه كان يسير تفكيره،
وحدثتك، يا شعيب، بما استخلصت من تحليلاته وتأملاته. ثم حاولت أن أتخيل ما لم يخطر بباله أو ما خطر بباله وقرر
إغفاله»[3].
إنه المنحى العام الذي ستنهض من خلال عناصره الصورة المراد تشكيلها
للذهن، وهو منحى «حواري»،
متعدد «وجهات النظر»،
يستهدف «التغريب» بين الشخصية الورقية (إدريس) والشخص الواقعي (العروي)،
لكنه؛ ومن خلال رهانه اللعبي هذا، يضع تاريخ الأنا على تخوم أجنـاس
تعبيريـة تخـرج الكتابة من شرنقة الذات إلى آفاق الروائي وصناعـة
التاريخ.
(1-2)
إن ما يربط بين النسيج النصي لـ«لأوراق» وجنس الرواية لا يقف عند حدود عنصر الحكي. فهناك ذاكرة روائية تخترق رؤية النص الفنية لتربط بينه وبين
كلية التجربة الإبداعية للعروي.
ولعل أبسط مؤشر على امتداد حلقات تلك الذاكرة هو حضور إسمي إدريس وشعيب
كقرينتين مشتركتين بين مختلف روايات المؤلف[4]. وإذا كان مبدأ استقلالية النص ينفي عن إدريس «الغربة» أو«اليتيم» أن يكون هو نفسه إدريس «أوراق»
(أو شعيب «الفريق» هو نفسه «شعيب «أوراق»)،
فإن هذا الاعتبار لا يمنع من الإقرار بوظيفة الإسم ضمن كلية التجربة «العروية»؛
وظيفة تدعم دلالات الذاكرة الروائية الغنية والموحدة على صعيد الرؤية
والرؤيا معا ذاكرة تؤطرها منطلقات فكرية وفنية تستهدف الانخراط في
تأسيس المشروع الروائي - السردي
العربي، بالمغرب. أي تمكين
الكتابة النثرية من امتلاك هوية حضارية وتجنيسية تلتحم ضمنها الممارسة
السردية بالنظرية خارج مدارات التقليد، وفي سياق التجديد غير المتعارض
مع مبدأ الخصوصية.
(2-2)
لقد اشتغل العروي بعلم التاريخ، لكن اشتغاله ذاك
لم يحل دون اهتمامه وتعاطيه لفن الرواية. لذلك لا نستغرب عندما نجده في «أوراق» يمد الجسور بين حقلي التاريخ والأدب، ويعمل على تدشين حوار
خلاق، معرفي وفني وفكري ومنهجي بين صناعة التاريخ وفن السيرة. فالنص يتقدم لقارئه كثمرة تلاقح عضوي وبنيوي بين الحقلين، وهو
زواج أجناسي يضع لعبة السرد في مفترق الطرق بين عدة قوالب وأجناس
تعبيرية
(...)
يقول عبد الله العروي في كتابه «ثقافتنا
في ضوء التاريخ»:
(...) «عندما نجمع عددا من الوثائق، بعضها مكتوب وبعضها مادي
أثري، بعضها أدبي وبعضها إداري، بعضها يهم الفكر وبعضها يهم الأوضاع
المعاشية، ثم عندما ينتهي كل متخصص من استغلال تلك الوثائق في دائرة
اختصاصه، ماذا نفعل بها؟ هل نكتفي بجمعها وتلخيصها وترتيبها أم نحاول
أن نخطو خطوة أبعد من ذلك؟ يجمع الناس على أن عمل المؤرخ ليس عمل
الإخباري أو الموثـق. ينتظـر
الناس من المؤرخ شيئا آخر غير التحقيق، والتلخيص والترتيب. ما هو هذا الشيء
الآخر؟»[5].
إن الجواب عن هذا السؤال سيختلف إذا ما أجرينا تحويرا على النص
واعتبرناه موجها للمؤرخ الأدبي، أي لكاتب السيرة الذاتية. فبافتراضنا أن مؤلف السيرة هو مؤرخ من طراز خاص (موضوعه - تاريخ الأنا)،
فإن الشيء الآخر سيكون هو ...
الخيال! لكنه خيال من نوع خاص، أي
إنه ليس خيالا منطلقا من غير قيود أو ضوابط، وإنما هو خيال أشبه ما
يكون بحدوس المؤرخين التي تلجمها المعطيات والمنهجية العلمية، فضلا عن
الأفق الاحتمالي للحقيقة المفترض أنهـا تاريخيـة.
في ضوء هذه الدلالات، يمكننا الوقوف على بعض الظلال الوارفة التي
يلقيها علم التاريخ على خلفية جنس السيرة، وذلك عبر ما يمكن الاصطلاح
على تسميته - تجاوزا - بـ «التناص المنهجي»! بين فن السيرة وصناعة التاريخ. فعلى غرار ما يقوم به المؤرخ في اشتغاله على تواريخ الأمم
والدول والعمران والحضارات، يعمد الراوي في «أوراق» إلى جعل الوثيقة أو الكناشة مادة خام ومنطلقا لإنتاج السرد
السيري حولها وعبرها، وذلك من خلال تذييلها بحواشي تتخلل نسيج الكتابة (أفكار وتعليقات وتصويبات
واستدراكات واعتراضات وإعادة موضعة ثقافية أو سياسية أو فنية أو علمية،
إلخ.)، وهو الإطار العام للسرد
السيري في «أوراق» الذي تبدأ معالمه وخرائطه في الانكشاف منذ الحوار الاستهلالي
بين الرواي وشعيب، حين نقرأ:
«هذه أوراق إدريس، خذها أنت أقرب الناس إليه، وإلا اشتراها
البقال ليحرقها أو يغلف بها الحمص. الكتابة حرفتك. افعل بها
ما تراه نافعا. يحتفل الناس
بالأربعينية، لنحتفل بعشرينية إدريس.. عشرين سنة في ظلمات الاحتلال وعشرين سنة في نور
الاستقلال...
-
ليس هو وحده في هذا المجال...
- تريد أن يطمس ذكره؟
من قال لك إنه كان يرغب في أن يحفظ ذكره؟ من يضمن لنا أن ما ترك هو
أحسن وأصدق ما كتب؟ ألا يكون الأهم ما حجبه عنا واختفى بوفاته؟ الأوراق
بلا شك غير متسلسلة، أساليبها لا شك متنوعة. إذا رتبتها على كيفي ربما حملتها معنى غير الذي أراده إدريس،
ربما أعطيت عنه صورة غير مطابقة للحقيقة. وإذا نشرت كل ما فيها على حاله ربما ألحقت به الضرر. قد أعطي عنه صورة أقل وفاء من تلك التي خططتها عندما جعلت منه
شخصية خيالية.
-
استعملت اسمه وأقواله وحوادث حياته بدون إذن منه. الآن حان الوقت أن تؤدي له حقوقه.
-
تقول: هذه الأوراق
اكتب سيرة إدريس»[6].
إن هذا الحوار - الاستهلالي
بين الراوي وشعيب، يضع القارئ في صورة المنحى العام لاستراتيجية
الكتابة في «أوراق»،
وهو منحى يجنح بمسارات السرد صوب الإشكالية المحورية لعلم التاريخ: إشكالية وفاء المؤرخ للحقيقة التاريخية / الموضوعية. وإذا كان موضوع التأريخ هنا ينحصر في تيمة الذهن، فإن هذا
التضييق الموضوعاتي لم يمنع من استحضار مختلف حيثيات / إواليات الكتابة التأريخية،
خاصة وأن أوراق الشخصية الأساسية (إدريس) التي خلفها بعد موته، تمثل جملة كنانيش تنطوي على مادة غزيرة (مقتطفات / مقالات / قطع أدبية / محاضرات / دراسات، إلخ.) بحيث تعكس مختلف اهتمامات ذهن إدريس الفكرية والسياسية والفنية
والعاطفية لمدة زمنية حاسمة في تاريخ المغرب تمتد كما يقول شعيب «عشرين سنة في ظلمات الاحتلال
وعشرين سنة في نور الاستقلال».
إن تمثيل ذاكرة الأنا، وكتابة تاريخ ذهنها وفق منهج يستهدف خلق جدل
متواصل بين الذهن / الخاص
والتاريخ / العام، ليعد أمرا
حيويا ومبادرة طليعية في حقل ومجال التأسيس السردي بالمغرب. فمن جهة هناك اقتباس مهارات صناعة التاريخ المتمثلة في جمع
الكنانيش القديمة ومعالجتها ترتيبا وتأويلا وتعليقا، ومن جهة أخرى،
هناك تلك النظرة التاريخية وذلك المنزع العلمي اللذان يضيفهما التمازج
الأجناسي والرؤيوي والأسلوبي على الكتابة، وهو تلاحم تركيبي بين فن
السيرة وعلم التاريخ يعيد إلى الذاكرة سؤال / مسألة..
«علمنة الظاهرة الأدبية»،
حيث الخيال الأدبي يمتلك عمقا معرفيا ومنهجيا لا مجال للعشوائية فيه أو
الارتجال!
لقد أسفر هذا المنحى المزدوج في الكتابة عن معمار نصي فريد تنعكس
معالمه وخطوطه العريضة في الفهرس الذي وضعه المؤلف في خاتمة الكتاب،
وذلك للتأشير على المحتويات التي جاءت مرتبة ومبوبة في شكل ثلاثة أقسام
وتسعة فصول، يحمل كل فصل من بينها عنوانا فرعيا، وهي:
(العائلة / المدرسة / الوطن / الوجدان / الضمير / الهوية / العاطفة / الذوق / التعبير / التأبين). وواضح من خلال هذا النص -
العنواني، أن الوثائق والكنانيش قد خضعت لتصنيف وترتيب يجعل المؤلف - بمقتضاهما - كل فصل ينهض على رصيد وثائقي
بعينه. أما علاقة الراوي بتلك
المادة الخام / الوحدات النصية،
فتتجلى من خلال إنتاجه لحواشي تتوزعها ضروب التعليقات والتعقيبات
والتأويلات والاستنتاجات. وهي
عناصر ينمو من خلالها السرد، ويتكامل عبر نسيجها الشكل الفني مع المادة
السردية.
وإذا كانت «أوراق» قد صهرت في بوتقة صوغها الأدبي، الخاص والعام، الفردي والجماعي،
القديم والجديد، الذاتي والموضوعي، المجرد والمشخص، إلخ.،
فإن ذلك التعدد السردي ما كان ليتحقق إلا ضمن رؤيا فنية وخلفية أطروحية
ستجعل من لعبة التجنيس مجرد مدخل فني وإطار جمالي لبسط مختلف مرتكزاتها.
(ب) الخلفية
الأطـروحية: البطولة المرجأة
واضمحلال التاريخ
(1-3)
من خلال القراءة الخطية لعناوين الفهرس،
يمكن الحكم بأن «أوراق» كتاب أخلاقي بامتياز.
فالمراهنة على تأليف سيرة الذهن، هي مراهنة - في الآن نفسه - على رصد مسارات القيم الفردية
والجماعية (قيم الوطنية والتربية
والحب والدين والفن والأخلاق عموما)،
أي تلك القيم التي تحكمت في تشكيل ذهنية جيل بأكمله يدعى جيل
الاستقلال، جيل وجد نفسه باستمرار أمام سؤال نيتشه الكبير والدائم:
«كيف يجب أن نتصرف؟»، وفي
محاولاته المتكررة والمتنوعة للإجابة، قدر له أن يعيش التحول في
الواقع، وتمزق التحول في الوعي المدرك لذلك الواقع. فبين الطموح والإحباط، بين النهوض والتراجع، بين الحلم
والكابوس، بين القوة والضعف، بين الانتصار والهزيمة.. سيتشكل وعي مشروخ منفصل عن الواقع الموضوعي، وعي لم يعرف إدريس
وجيله كيف يصرفونه مع المعطيات الواقعية أو كيف يجعلونه مطابقا للواقع
المتحول فكان الإخفاق. والحكم
بالإخفاق على تجربة إدريس الذهنية ينطوي على إدانة شاملة لوعي جيل
بأكمله. الجيل الذي واجه إشكالية
الاختيار منذ شبابه في لج الثنائية الحادة والمحيرة:
(الاستعمار / الاستقلال - الوطنية / الخيانة - الغرب / الشرق - الدين / الدولة - الإسلام / المسيحية - الرأسمالية / الاشتراكية - الالتزام / الفوضوية - الانخراط في تاريخ الجماعة / إيثار الذات والمراهنة على
تاريخ الأنا... إلخ.)،
وحيث ساد التردد وغموض المواقف في مواجهة تلك الثنائيات المتداخلة
والمتحركة، لم يكن مدُّ التاريخ يعرف الانتظار أو الإرجاء. فبعد الاستعمار جاء الاستقلال، وبعد سيادة الأحلام الرومانسية
بالاستقلال دقت ساعة بناء مغرب الاستقلال، والمرور من الحلم إلى البناء
لم يكن في طراوة الأحلام الفردية للنخب المثقفة، بقدر ما كان في صلابة
الكوابيس الجماعية التي ستواجه «النخب
السياسية»؛ وبهذا المعنى، فإن
جذور الإخفاق الذي تبلور «أوراق» رؤيتها الأطروحية حوله تجد امتداداتها في البنى السياسية
والاجتماعية والفكرية، فضلا عن مسؤولية الأفراد ضمن الجماعات واتجاهها. يقول السارد:
«اعتقد إدريس أن الشعب المغربي أفلت بأعجوبة، فكان كمن أنقذ
بعد يأس، غمرته الفرحة أولا ثم عاد إلى نفسه فرأى الواقع.
- ماذا رأى بالتحديد؟
-
رأى الشعـب فقيرا جاهلا مريضا. رأى تلك الآفات والعاهـات
لأنه لم ينغمس كغيره في العمل الإداري اليومي. وبالمناسبة أذكر أننا نحن الذاهبين إلى فرنسا والعائدين منها
كنا ضحية سراب. ظننا أيام الحماية
أن كل ما يوجد على أرض الوطن ملك لنا فتخيلنا المغرب أكثر تقدما مما
كان في الحقيقة. وعند الاستقلال
أدركنا بغتة أن كل ما كنا نشاهد هو ملك لفرنسا وللفرنسيين وأننا حتى لو
أردنا اقتناءه لما استطعنا ذلك إلا بعد زمن طويل. بدت لنا الهوة السحيقة بين الواقع والأماني. فهمنا أن الانطلاقة ستكون مـن نقطة وطيئـة جدا جدا.
-
فعمت إذن الخيبة وبدأت الردة.
-
لجأ البعض إلى التطرف كوسيلة للهروب من مواجهة الواقع. أما إدريس فإن القسم العمومي من فكره قد تقلص وتضخم القسم
الخصوصي. تحول متعلـّق عواطفه من
هيئة توهمية تدعي الوطن إلى شخص ملموس»[7].
إن هذا النص / المقتطف، يضع
القارئ في صورة / لب الإشكالية
المركزية التي تؤطر الرؤية الفكرية والخلفية الأطروحية لسيرة «أوراق». ومن خلال المفردات والصيغ التعبيرية التي ترد فيه (السراب / الهوة السحيقة / الواقع / الأماني / القسم العمومي / القسم الخصوصي / التوهم / الوطن...) يمكن استخلاص أهم عناصر /
دلالات النسيج الرؤيوي الذي ينتظم الحمولة الأطروحية للنص. وهي الخطوط العريضة لإشكالية ذهن إدريس باعتباره «لا بطل» النص، أو الشخصية المحورية المصادرة في «بطولتها الإيجابية»!. وانهيار البطولة هذا متأت من تلك الفجوة التاريخية التي خلفتها «صدمة الاستقلال» لدى جيل كان يحلم كثيرا بنهوض تاريخي وحضاري قوي ستبزغ شمسه مع
فجر الاستقلال، فكافح من أجل ذلك بالسلام أو سافر إلى الغرب لامتلاك
سلاح المستقبل (المعرفة). غير أنه ما إن دقت ساعة الحرية حتى وجد (الجيل) نفسه مرعوبا أمام صخرة الواقع العنيد، ومجبرا على مواجهة
الحقيقة المرة: التخلف الشامل في
كل البنيات والتأخر التاريخي المضاعف في الوعي والواقع (...) وهكذا، ستتبخر الأحلام
والأماني، وكمثال على أسلوب الهرب والنكوص، يبقى إدريس في فرنسا سنتين
بعد إحراز المغرب على استقلاله (...) وهو الواقع الخارج عن إرادة إدريس والذي صمَّمَ على تجاهله إلى
تأخره عن القيام بواجبه والمشاركة في بناء المغرب المستقل، وهو
الاختيار الذي أقدم عليه دون استكشاف كل عواقبه»[8].
إن الهرب من مواجهة الواقع، والتخلي عن ركب الجماعة، والمراهنة على
الخيار الفردي في ظل وضع متسم بالركود والتخلف والتأخر التاريخي، لهي
الأسباب الرئيسية التي ستقود إدريس إلى بلورة مشروع لـ «البطولة المرجأة»،
أي ذلك الرصيد القيمي للفرد (الثقافة!) خارج الفعل التاريخي بمعناه العمومي. فعندما يعجز الفرد عن الانخراط في مد الحركة التاريخية على
الصعيد السياسي (بالمعنى المباشر
للكلمة)، يتضخم القسم الخصوصي من
تكوينه، فتكون تلك «الانتصارات» الوهمية للذهن كتعويض عن الإخفاقات الفعلية في الواقع. إخفاق الجماعة، وإخفاق الفرد ضمن تلك الجماعة.
إن الخط الفكري الذي راهنت عليه الرؤية الأدبية والأطروحية لكتاب
العروي يتمفصل بين أوهام الانتصارات الذهنية والإخفاق التاريخي للبطل
وجيله، وهو خيط سيبلوره قالب السيرة الذهنية كناظم دلالي ونوعي لضروب
الجدل المعاق بين بطولة الذهن الفردي وبين أنقاض التاريخ أو البطولات
المنهارة للجماعة. من هنا تنهض «أوراق» كصرخة في وجه انحلال التاريخ الجماعي، كنداء ضد تفكك الحلم
المحجوز لجيل الاستقلال الذي خضع لهزة «الحرية»،
التي لم تكن أقل عنفا من هزة الاستعمار سواء على صعيد الواقع أو على
صعيد القيم الموازية لذلك الواقع.
الهزة / الزلزال الذي رجَّ ذهن
إدريس، وحاول الراوي أن يقدم لنا صورة عنه من خلال جمع الوثائق
وترتيبها وإعادة قراءتها وإنتاج حواشي أدبية وفكرية عليها ضمن لعبة
مرايا يتقابل فيها الخصوصي بالعمومي، الذاتي بالموضوعي، الفكري
بالعاطفي، السير ذاتي بالتاريخي... إلخ.، وهي تقابلات تنبني
إما على التعارض أو التمفصل أو التراكب
(...) بحسب السيـاق الذي ترد فيه والوظيفة التي تضطلع بها.
(ج) الميتا - روائي أفقا للبحث عن زمن
الرِّوايـة:
(1-4)
إن المنحى
التعددي للسّرد في «أوراق» يجعل من الكتابة تتقدم كمفترق طرق بين عدة أجناس تعبيرية تأتي
في مقدمتها فنون النَّادرة والأقصوصة والمقال النقدي والمحاضرة
والمناظرة والرواية (...) وفيما
يخص هذا الجنس الأخير، فإن الذاكرة الروائية - المشار إليها سابقا - تتخلل متواليات السرد على صعيد
الحكي والتأطير الرؤيوي لجدلية المجرد والمشخص. فالأحداث والوقائع الذهنية والسلوكية المستذكرة تتمحور حول
شخصية إدريس ناسجة فضاءاته الخاصة وذكرياته البعيدة وفق طقوس حكائية
شفافة لها خلفية «تقعرية» تتناسل بمقتضاها قصص الذهن والشخص. وقد امتد الجدل المذكور بين المجرد والمشخص ليجد تجليه الأقصى
في الفصل الذي يحمل عنوان «التعبير». ففي هذه المرحلة من السرد ينزاح الخطاب الميتا - روائي عن دائرة السيرة، ليطرح
عناصر مفهومية تخص نظرية الرواية من زاوية الهاجس التنظيري المحايث
لرؤية النص، وهكذا نقرأ:
«الرواية العصرية كلها حنين
-
الرواية أم رواية الرواية؟
هناك آلاف الروايات وهناك التجربة الروائية كعملية بحث وتعميق مستمر
وكلاهما يتميز بالحنين، في عالم أقل أو أكثر اتساعا، بوعي أقل، أو أكثر
صفاء. ماذا نفهم من الحنين إن لم
نفهم الفصام؟
نقرأ الرواية كسيرة، لماذا لا نكتبها كذلك! إلا إذا كان هناك قانون يقضي بأنها إذا كتبت كسيرة لم تقرأ كذلك
والعكس بالعكس.
وأصل الحنين هو التعلق بالواقع الذي بدونه لا تقوم الرواية. الحنين هو الاتصال بزمنين، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، عدم
التفريط في أي منهما لأن منطق الرواية هو الكشف عن تلازمهما»[9].
«التاريخ تتابع الأحداث، الحب تموج الوجدان، كل رواية سيرة،
إما من الحب وإلى التاريخ لاكتشاف المجتمع في قلب الذات، وإما من
التاريخ إلى الحب لإنقاذ الذات من الغرق في خضم التاريخ.
هذا هو زمن الرواية. كل رواية
عندما تكون ذات صدى ذات هالة».
إنه الخطاب - الميتا روائي
الباحث في النص عن زمن الرواية، وهو خطاب ينبثق من قلب السيرة ليضعها
على تخوم الروائي، كما أنه نواة نظرية تصلح أن تقوم كعماد لممارسة
العروي الروائية، ذلك أن مراجعة أعماله السردية تقود القارئ باستمرار
إلى الوقوف على مبدأ الحنين بما هو فصام وسيرة وتعلق بالواقع. فمنذ «الغربة» و«اليتيم» والعروي يسعى إلى تشخيص اتصال زمن الذهن بأزمنة الواقع، وتجسيد
تلازم خلفية الذات بخلفيات الموضوع. وبهذا المعنى، فإن سيرة أوراق كتابة سردية لا تخلو من نَفَسٍ
روائي، وهو مكون يتبلور من خلال جدلية الذهني بالتاريخي كأطر مرجعية
تضيء إخفاقات الفرد في قلب الجماعة. إن العروي وهو يطرح في أوراق مغامرة الراوي في البحث عن صورة
ذهن إدريس المطابقة لحقيقته المرجعية، فلأنه من زاوية أعم يخوض مغامرة
البحث الشمولي عن زمن أسمى: زمن
التاريخ المغربي والعربي، وهو الزمن الذي تفتقده الرواية الغائبة عن
وعيها أو زمن الرواية المفقود في الوعي والكتابة العربيين. إنه الزمن الذي يتوسل إليه بالحفر في المعيش الاجتماعي،
والمتذكر النفسي، والمتخيل الثقافي بكل ما يستقطبه من قضايا وأسماء
ونظريات تدخل الأفق السَّرْدِي ضمن صميم الحداثة الكونية لثقافة العالم. فمن نيتشه، إلى هيجل، إلى بروست، إلى جيد وجويس وعلال الفاسي
وجان جونيه وبريخت وروبيرتو روسيليني وجان فيلار وإزنشتين، إلخ. أعلام وأنماط ثقافية أصْلية تؤثث متخيل السرد السيري المفتوح
على تخوم الروائي مضفية عليه عمقا معرفيا يصعد بالسُّؤال إلى الإشكالية
المركزية، القديمة / الجديدة: إشكالية الهوية. فخلف مبدأ
البحث عن صورة إدريس الحقيقية، وخلف مبدأ البحث عن القالب الملائم
لتجنيس «أوراق»،
وخلف رحلة البحث القرائية بين الفصول، لا يملك قارئ النص إلا أن يسترجع
ويحين سؤال العروي الشاب، السؤال الكبير الذي طرح منذ بدايات الوعي
العربي بالنهضة، وذاك هو سؤال: من
نحن؟... فهل من سائل بعد هذا من
هـو إدريس؟
[1] - عبد الله
العروي، أوراق، المركز الثقافي العربي، 1989، طبعة أولى.
[2] - فيليب لوجون:
- Le pacte autobiographique, Coll. Poétique, éd. Seuil,
Paris, 1975
[3] - أوراق،
ص. 243.
[4] - صدرت للعروي
الروايات التالية:
-
الغربـة:
(1971) عن دار النشر المغربية، البيضاء.
-
اليتيـــم:
(1979) عن دار النشر المغربية، البيضـاء.
-
الفريـــق:
(1986)، عن المركز الثقافي العربي، البيضـاء.
-
أوراق: (1989)،
عن المركز الثقافي العربي، البيضـاء.
[5] - عبد الله
العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، 1983، ص.
27، ط. 1.
[6] - أوراق،
ص. 7.
[7] - أوراق،
ص. 120/121.
[8] - أوراق، ص.
244.
[9] - أوراق،
ص. 216/217.
|