بسمـة فتحـي

الجبّارة الصغيرة

الإهداء: بالطبع، إليكِ (سُندس)، حيث أنتِ...

(1)

كنتُ أبرر عجزي عن الكتابة، أنني أنتظر نهاية حتمية، لا التباس فيها..

و كنت أكتفي بممارسة الألم، و تأمله، و اختزانه، لاختزاله في قصة قصيرة، أقوم بضمّها إلى أوراقي الكثيرة المبعثرة، لتعليبها في دولابي الأمين، و عدم السماح لأحد أن يعبث بها، خوفاً من الأعين البراقة، الفضولية، والألسنة المتشعبة، المتعطشة لخبر جديد، و كذلك كي أطمئن نفسي أنني نسيتها، ببشرتها النّديّة الطرية كعجين الصباح المُختمر، و أصابعها الطويلة الرفيعة ذات الأظافر اللؤلؤية، و عينيها الصغيرتين وأنفهما الذي كأنه رُسم بفرجار هندسةٍ لا يُخطئ الزاوية أبداً، وصوتها الناعم الحنون الذي نادراً ما سمعته..!

(2)

لم يكن يلفتني إليها سوى تكوُّر بطن أمها، و انتفاخه شهراً بعد شهر بها، و لم أكن أتصور أن تلك الكرة المحشوّة هناك، سوف تغدو هاجسي الأوحد، و المنافس الحقيقي لظلي على دوام رفقتي، و بوصلتي التي لا تمتلك إلا عقرباً يتيماً لا يعرف الإشارة إلا حيث اتجاه الحزن الممزوج بالشفقة والتساؤلات الملحة دون مجيبٍ مقنعٍ، فلم أعد أقتنع بالمبررات القائمة على (النصيب)، (هكذا شاء الله)، (التحاليل الطبية تقول)، و(صور الأشعة تُشير إلى أنّ..)، نعم لم أعد أقتنع أبدا..

(3)

مؤكد انّ الأطفال (ملائكة) و أنا أقسم بعكس ذلك، أنهم (جبابِرة)، خاصة إن سكنهم العِند، و قرروا –صائبين- عدم الاستمرار في سيرك الحياة باذخ التناقض، و مغادرته سريعاً، مخلفين ورائهم تراكمات من الأفكار، و العِبَر، و الذكرى و الكثير الكثير من الصمت الباكي. لذلك، أكاد أقسم أيضاً إن (جبارتي) الصغيرة لم تصرخ، و لم تسقط دمعة واحدة من عينيها -اللتين بلون كَرز أيار الأخضر، حين ارتطمت أول نسمة من نسمات الأرض، برئتيها الصغيرتين، لا لشيء سوى أنها قررت أن لا تلوثهما طويلاً به..

(4)

في الليلة التي حلَّقت روحها حيث خالقها، قمنا –أمها و عمتها الكبرى و أنا- بزيارتها في المستشفى، ولم يكن مسموحاً لنا بذلك، ربما لأنهم –الأطباء- باتوا يدركون أن ساعتها الرملية لم يتبقَ فيها إلا حبات قلائل، لتنتقل حيث الضفة الأخرى من الحياة، لكننا و بعد استعطاف الطبيب، دخلنا إليها بشكل منفرد، و حين أتى دوري، حضنتُ يديها، كانتا باردتين كثلج كانون الثاني، موشومتين بوخز الإبر التي تركت آثاراً زرقاء في يديها الطفوليتين وكذلك كانت هناك بقعاً حليقة من رأسها الصغير، من أجل إبرة أخرى، تدخل مصل التغذية –اللعين- الذي لطالما ردّت مُحتواه عنها باستفراغه، وكأنها تذكرنا بالحقيقة الطبية التي تقول "أن الاستفراغ ليس مرضاً بل ردة فعل"، قمتُ بتقبيلها، نظرتُ إليها، خُيِّل إليّ أنّ ريشاً أبيض بدأ ينمو على يديها، لتتحولا إلى جناحين، تحلق بهما، -مفعمة بالقوة، و الثقة و الصحة، إلى ملكوت الله الأمر الذي شجعني أن أقرّب فمي حيث أذنها اليسرى أحمِّلها أمانه، أن : "يا سندس عندما تصلين إلى الله، سلّمي لي عليه و أخبريه أنني أحبه رغم كل شيء.."

(5)

لا أدري كم المدة التي بقيتها عندها، وبينما كنت أتأملها برصيدي الكبير من العجز، تذكرتُ الأوقات التي قضيتها معها لوحدي قبل نقلها إلى المستشفى والأغنية التي كنت أرنمها لها بينما أمسّد شعرها الذهبي ((طيري يا طيارة طيري، يا ورق و خيطان، بدي أرجع بنت صغيرة على سَطح الجيران...))، لكنها لم تكن تستجيب لغنائي و لمساتي على وجهها البريء..!، و بينما الآن أمسّد بيدي المترددة ما تبقى من شعرها الناعم القصير، أرعبني صفير ما، لم أدرِ مصدره لكنه كاد أن يُوقف قلبي، لأنني على يقين أنه صادر عن أحد الأجهزة الموصول بها، الأمر الذي حوّل عيني إلى فأرٍ باحثٍ عن حفرة تأويه، فبحثتا عن طبيبٍ أو ممرضة، لإنقاذها مرة أخرى من بين أنياب الموت الحادة، و لإيقاف النزف الحاد الذي حدث لأعصابي، فأتت الأخيرة وعدّلت في مُؤقّت جهاز التدفئة الذي كان يساعد على إبقاء حرارة جسدها الضعيف ضمن المعدل..!

استمر نزف أعصابي مدة لا بأس بها بعد أن صمت نقيقُ الجهاز و طمأنتني نظرات الممرضة، وكذلك قلبي احتاج إلى دقائق حتى عاد إلى ترنيمته الأولى، ربما لأنني تذكرتُ أنها كانت سوف تموت بين يدي قبل يومين، حين أشفقتُ عليها عندما لمحتُ أن الجفاف بدأ يزحف حيث شفتيها، فرطّبت أصابعي بالماء و مسحتُ حيث فمها، و أتتها نوبة اختناق، وقتها لم أعرف ماذا أفعل، لم أقل سوى ((و الله لم أفعل لها شيء، فقط رطّبت شفتيها بالماء.. لم أسقها شيء.. أي شيء..!)) لم أكن أريد أن تموت بين يدي، كما لم أكن أطيق فكرة موتها و أنا بعيدة عنها...

نهايةٌ حتمية..!

28/8/2003 الساعة الرابعة إلا عشر دقائق مساءً، و بعد أربعٍ و أربعين يوم، (الجبارة الصغيرة)، بسخرية لاذعة، غادرت قطار الدنيا دون رجعة..! تاركة قلبي فريسة لهاجس الـ ((لماذا)) و وسوسة ((ما الحكمة)) و تربّص ((الدهشة الحمقاء))، و تركتْ قلمي محموماً يبحث عن مِزراب، يستطيع من خلاله تمرير بعض حزني الماطر الهاطل من قلبي.

كما أن عشرات الصّور –التي اقتنصتها لها دون تصريحٍ منها- تبيحُ المجال لمَطارِق الذكرى بنقر رأسي دون رحمة، و لباسها الأبيض -الذي قُدِّس بدمها، أثناء عدم مبالاتها بالدنيا حين سلبتها ما تبقى من دمها- ..يعيد إلي -تارة ثانية و ثالثة ورابعة ووو ..- ذات الهواجس والوسوسات والتربصات اللعينة إلى نفسي!

 

 
 

 

موارد نصيـة

بسمة فتحـي

نجمة بين وطنين (قصص)

المحتــوى

أقاصيــص

دفء

نجمة بين وطنيـن

الجبـارة الصغيـرة

سندويش كوكتيل وعلبة بطاطا

يا..(سين)

(قماش أهل السماء)

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.