كانت تحمل
أحلامها بقصاصة إعلان في صحيفة..!
كان ذلك، حين حمل لها والدها الصحيفة بحُنوٍ مبالغ فيه وكأنها طفلة جميلة
في قماطة:
- اذهبي للجامعة غداً، الإعلان يقول أن حملة شهادة الدبلوم يستطيعون إكمال
الدراسة..
لم تسمع باقي حديث والدها، أو ربما سمعته لكن انتقال الطفل/الجريدة إليها
شتت فكرها، وجعلها مشغولة بترتيب النجاحات التي سوف تتلقاها حين تكمل الدراسة..
.زيادة في الراتب..
..الصعود درجة في السلم الوظيفي
...لن تخجل بعد الآن من كونها لا تحمل شهادة جامعية...
....أخيراً سوف يخرس ذلك الصوت الذي قال لها في يوم ما: ((خبرتك العملية
جيدة، ولكن لو معك شقفة
هالبكالريوس))
نامت ليلتها وهي مازالت تعيد ترتيب ما يجب أن تكون عليه أيامها
القادمة...
((مممم!! عليّ أن أدرس جيداً، وسوف أحاول ترتيب جدول الدراسة بشكل لا
يتعارض مع وقت عملي كي لا أقع بين فكيّ استرحام مدير عملي ومزاجيته.. وأن
أقتصد في مصروفي كي أستطيع تسديد القسط الجامعي أولا بأول والحيلولة دون
عدم تمكني من شراء كتب المطالعة.. ولا بأس ببعض النشاطات الجامعية، سوف
أساهم بمجلة الجامعة الأدبية ولا أتوقع أن يرفضوا هذه المساهمات، فقد بات
قلمي ناضجاً بما فيه الكفاية وبالطبع دون أن تؤثر هذه النشاطات سلباً على
دراستي، شيء مهم آخر هو أنني لا أريد إخبار أي إنسان عدى عائلتي أنني
أكمل الدراسة أريد مفاجأة الدنيا وأنا مرتدية روب التخرج وطربوشه ويدي
ملوّحة بالشهادة، سوف يكون ذلك خبر الموسم وقتها..))
***
في الصباح،
كان وجهها يشعِّ بنور الأمل، برغم أنها لم تنم جيداً، ارتدت بنطالَ جينز
كحلي اللون، وبلوزة سماوية طويلة واسعة، وانتعلت حذاءَ رياضة، كي لا تتعب
من كثرة المشي بين الأقسام الجامعية، كذلك حملت حقيبتها متأكدة من وجود
دفترها الملازم لها، وعلبة الأقلام.. فربما يحتاج الوضع لتدوين الأوراق
اللازمة لإتمام عملية التسجيل...
***
وصلت
الجامعة، وحين أرادت الدخول، أظهرت طفلتها/الجريدة وبطاقتها الشخصية
لحارس الأمن، الذي أبدى بشاشةً جمّة، وكذلك دخلت الجامعة بقدمها اليمنى
كي تتأكد من حسن طالع وبركة يومها، الذي لطالما تمنته حتى ظنت أنه من
المستحيلات!
سألت ثلاث فتيات عن مبنى التسجيل، مشت ثلث ساعة تقريباً بين مباني
الجامعة مرتاحة النفس مالئةً صدرها برائحة الأمل.. الجامعة جميلة، عمر
أشجار الصنوبر فيها بعمرها.. ليس هناك أجمل من رائحته ناضجاً بأشعة الشمس
ولا من صوت العصافير التي ما وجدت أمان العُلا إلا في حرم أشجار العلم
هنا..
((يا إلهي..!! كل هؤلاء يسعون للتسجيل، متى سيأتي دوري أنا؟! ليتني أتحول
لنملة صغيرة، أخترقُ هذا الحشد.. كأنه يوم النشور، وحين أصل لدوري أعود
لحجمي وطبيعتي..)
ابتسمت من تخيلها الأناني في ظاهره -وهي أن تتحول لنملة كي تتجاوز كل هذه
الأكوام البشرية .. هي التي ما برحت صديقتها تقول لها ومنذ عشر سنوات:
((أنت أطول شاب في عائلتي..!!، صحيح الشمس غابت عندكِ ولا لسه؟ لأنه
عندنا غابت))
***
- عفوا
يا أستاذ، هذا دوري..!!
عصبياً كان وهو يفسح لها المجال:
-طيب، عشو مستعجلة.. مش رايحه تطير الجامعة.. أما سنافر..!!
كادت تضحك بصوتٍ عالٍ، على كلمة ((سنافر)) هكذا يُطلق على طلبة السنة
الأولى، ولكنها لو دخلت الجامعة عند انتهائها من الثانوية لكانت تخرجت
منذ عامين..!! ولكن لا بأس بلقب ((سنفورة)) الآن، على الأقل هو لقب جميل
طفولي...
-تخصص حاسوب؟
-نعم، إن أمكن..
-إستكمالي مسائي؟
-نعم، إن شاء الله..
-اعطني أوراق شهادة الدبلوم..
وهي تخرج الأوراق بزهو سألته..
-بكم ساعة الحاسوب؟
-خمس وسبعون ديناراً....
بكم؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!
دارت حسبة الأرقام برأسها... المادة ثلاث ساعات... الساعة بخمس وسبعين
ديناراً... ستة مواد في الفصل.. وتحتاج لستة فصول ....
3x75x6x6= 8100
((هاهاها...
ثمانية آلاف دينار...!!))
-تفضل، أعتذر أنني لم أفسح لك المجال وطالبت بدوري .. الافتراضي...
هذا ما قالته للشاب الذي قال لها "أما سنافر..!" حين لمحت عقد الذهب
المبروم حول عنقه، هاربة خارج مبنى التسجيل.
***
كانت
تسير ببطء نحو باب الجامعة لتخرج مبعثرة أحلامها التي لملمتها بالأمس وهي
تردد ثمانية آلاف دينار، غير الكتب، وباقي المصاريف..!!
ثمانية آلاف دينار... كم سنة أحتاج لتجميع هذا المبلغ، إذا كان رسوم
المادة الواحدة يفوق راتبي الشهري؟!
- يا للسخرية.. كي أحصل على ((شقفة هالبكالريوس)) يجب أن أدفع ثمانية
آلاف دينار..!!
شعرت برغبة
ملحة بالبصق على الأرض، لكنها في حرم الجامعة ولا يجوز لها المساس بقدسية
العلم وأهله..!
لذلك ابتاعت ساندويش كوكتيل وعلبة بطاطا وفرشت طفلتها/الصحيفة.. وتربعت
عليها تحت شجرة صنوبر شامخة وتساءلت إن كان العصفور يدفع مثل هذا المبلغ
لبناء عشه الجامعي، وأفطرت حلمها، غير عابئة ببقعة الكاتشب التي استقرت
باشمئزازٍ على رقعة الإعلان...
22/11/2003
|