د· حسن حنفي

 تجربة السلوك العربي

 الدروس المستفادة من العراق المحتل

 

 

وكما أن للعدوان الأميركي نتائج على العراق، والنظام العربي، والنضال الوطني، والخطاب العربي فإن له أيضا نتائج على السلوك العربي· وأكثر ما آلم النفس مناظر السلب والنهب لحضارة العراق وتاريخه وروحه وثقافته وأحشائه بعد تسليم بغداد بلحظات· صحيح أنه يمكن القول إنهم رعاع من داخل بغداد أو من خارجها حملتهم عربات النقل لتشويه صورة العراق الحضارية مما يعطي شرعية للعدوان الأميركي ودعواه بتحديث المجتمعات وتمدين الشعوب· وصحيح أيضا أنه يمكن القول إن هذا النهب والسلب طبيعي من شعب محروم، تمتع قادته بالقصور، وحصلوا على مباهج الحياة بدعوى القومية والنضال ضد الاستعمار والصهيونية ومع ذلك فالتراث الوطني مثل التراب الوطني ليس ملكا لأحد فردا أو جماعة بل ملك التاريخ· وهكذا تم بيع تاريخ العراق وعقله ودينه وحضارته وثقافته وفنه في أسواق النخاسة العالمية· يهرب خارج العراق حتى يبقى في متاحف الغرب· الشرق يبدع والغرب ينقل· الشرق ينهب ما أبدعه· والغرب يحفظ ما نهبه هو من قبل إبان الحقبة الاستعمارية الأولى أو إبان الحقبة الاستعمارية الثانية التي بدأت بغزو العراق بعد احتلال بيروت· لم يعد للعراق تاريخ، وهو يدمر الماضي والحاضر والمستقبل بعد أن أثبت المؤرخون والعلماء أثر حضارة ما بين الرافدين في الفلك والدين خاصة على الحضارتين اليونانية واليهودية· واستقرت في الغرب الجذور والثمار، المنبع والمصب، البداية والنهاية· كل القامات تسوى بالأرض، لا فرق بين تماثيل بابل وآشور وتماثيل صدام، الأولى تحت الحراسة الأميركية، والثانية ملفوفة بالعلم الأميركي ومجرورة بالجرار الأميركي· وكان الشىء الوحيد الذي لم يدمر وحرسته القوات الأميركية هو وزارة النفط، الحضارة الأميركية الجديدة· لقد دمرت بغداد من قبل بأيدي التتار ولكنها تدمر اليوم بأيدي أهلها· لقد دمر التتار حضارة لم يصنعوها في حين يدمر العراقيون حضارتهم التي صنعوها عبر التاريخ، اللهم إلا إذا قيل، إن البابليين والآشوريين كانوا صناع حضارة، أما حفدتهم فجوعى مقهورون· ومما آلم النفس أيضا مشهد قتل الإمام عبد المجيد الخوئي نجل الإمام الخوئي الأكبر داخل مسجد الإمام علي لخلاف بين فرق الشيعة على رغم ما ورد في بعض التقارير أنه كان يدافع عن مظلوم مهدد بالقتل فقتل ظلما· فإذا سقط طاغية بغداد الذي كان حاميا للنظام العام، ويغتال بنفسه من يريد من زعماء المعارضة، شيعة وسنة، فإن الاغتيال سنة عربية يمارسه الشعب بعد أن يسقط الطغاة· وإذ ما استطاعت قوات التحالف التخلص من طاغية بغداد ونظام حكمه فإنها سعيدة ببقاء القتل والاغتيال سنة ثابتة وقانونا تاريخيا في الشعب العراقى· يدمر نفسه بنفسه· ولا يطيق حل الخلاف بين الفرق إلا بالتصفية الجسدية· فتاريخ العرب والمسلمين هو تاريخ قتل الخلفاء منذ عمر وعثمان وعلي والحسين· وبالإضافة إلى الاغتيالات الفردية قد تخطط قوات التحالف للاغتيالات الجماعية عن طريق إشعال نار الفتنة بين الشيعة والسنة والأكراد، صراعا على السلطة أو من أجل حصول كل طرف على أكبر قدر منها· وقد يدفع ذلك قوات التحالف إلى تقسيم العراق· وقد بدت بوادره بتقسيمه إلى ثلاث مناطق، الشمال للأكراد، والوسط للسنة، والجنوب للشيعة، حقنا للدماء، وخلقا لكيانات طائفية وعرقية ودويلات صغيرة حتى تصبح إسرائيل أقوى دولة طائفية عرقية في المنطقة، وتأخذ شرعية من الجغرافيا السياسية المحلية وليس من أساطير المعاد و شعب الله المختار والأرض الموعودة والميثاق· وإذا ما تم اختيار مجالس محلية يمثل العراقيون فيها طبقا للنسب العددية بين الطوائف والأعراق، بين العرب والأكراد والتركمان والشيعة والسنة وكأن المواطن العراقي لا وجود له كوطني إلا بعد انتسابه العرقي أو الطائفي· فتضيع وحدة الوطن بغياب المواطن· ويتأكد تقسيم الوطن بتأكيد تقسيم المواطنين· ولا جوار بينها إلا بالسلاح وإراقة الدماء، وإضعاف الوطن، ونهاية الدولة الوطنية التي طالما ناضلت في الماضي ضد الاستعمار والصهيونية· ولماذا يظل الغرب يزهو على العرب بأنه حضارة التعددية السياسية، والرأي والرأي الآخر، والنظم البرلمانية في حين لم تعرف الحضارات الأخرى إلا الرأي الواحد، والحزب الواحد، والفرقة الناجية؟ ومما آلم النفس ثالثا مشاهدة مناظر الانقلاب على النظام، وضرب صور صدام بالحذاء، وتشويه منحوتاته على الجدران، وقلب تماثيله أمام تهليل الناس، مأجورة أو تلقائية· فمعبود الأمس أصبح طريد اليوم· فكيف للناس أن تصدق سلوك الشعب العربي وتحترم ولاءاته المتقلبة من النقيض إلى النقيض؟ وأين كان الشعب العراقي طوال مدة الطاعة والولاء والتأليه طالما يكبت في نفسه كل هذه المعارضة ويضمر كل هذا العداء للنظام ورموزه؟ هل كان منافقا في طاعته صادقا في ثورته أم راضيا في طاعته مدعيا في ثورته؟ وماذا عن التسعة وتسعين اسما التي أعطيت للطاغية متشبها بأسماء الله الحسنى مثل: العروبي، الغيور، القائد، الأخ، الرئيس، الرمز، المنتصر، الفارس، الحبيب، الباني، المهندس، الرجل، الفخر، الضمير، الراعي، البطل، الإبن، الهبة، الإشعاع، الأب، الرائد، الحامي، الحلم، القمة، المحرر، القرة، الصانع، العبقري، النموذج، الباعث، المعلم، الربان، الرب؟ العرب هم العرب يعبدون آلهتهم المصنوعة من العجو في الصباح، ويأكلونها في المساء· وقد وقع الانقلاب نفسه من النقيض إلى النقيض بالنسبة للقومية العربية، أيديولوجية حزب البعث العراقى· فبعد أن كانت هي الأيديولوجيا الوحيدة المسموح بها في العراق أصبحت محرمة وممنوعة بعد حل حزب البعث العربي الاشتراكي القومي والقطري· وكانت أول الجرائد الصادرة بعد تسليم بغداد جريدة الحزب الشيوعي العراقي في الداخل، و الزمان التي تصدر في لندن بعد أن أصدرت في البصرة، وأصبح البطل خائنا، والخائن بطلا· وتحول الحلال إلى حرام والحرام إلى حلال· كيف يصدق الرأي العام الدولي، وكيف تحترم القوى الدولية هذا السلوك العربي المتقلب، و الله أكبر على علم العراق؟ فهو ليس أقل من السعودية إيمانا بوضع لا إله إلا الله محمد رسول الله على علمها· إيمان بإيمان، وإسلام بإسلام، وانتهازية سياسية في كلتا الحالتين، باسم الدين· هل هذا عود لفرعون، تدون آثاره على حوائط المعابد أثناء حكمه ثم تــُزال وتمحى ممن يأتي بعده؟ هل هذا هو النظام الياباني الذي يبدأ فيه التاريخ باعتلاء الإمبراطور على العرش، وكلما أتى إمبراطور جديد يأتي بتاريخ جديد؟ وكيف تتم مقاومة قوات التحالف في الجنوب، وقتالها في أم قصر والفاو والبصرة ثم مصافحتهم وتقبيلهم في الشمال؟ كانوا أعداء محتلين في الجنوب فأصبحوا أصدقاء محررين في الشمال، يانكي في الجنوب مخلصين في الشمال؟ ولقد اتهم العرب باعتبارهم ساميين من قبل، في القرن التاسع عشر لدى مروجي النظرية العنصرية في الاستشراق عند رينان وليون جوتييه، أن الساميين يفكرون ويسلكون بالنقيضين على مستوي المادة في البارد والساخن، والسكر والمالح، والكريه والطيب، وعلى مستوى الفكر في البطولة والخيانة، والنبوة والجنون، والعلم والجهل، والنقل والإبداع، والحجاب والسفور، والستر والتجلي إلى آخر ما هو معروف في أحوال الصوفية· والتقلب بين النقيضين من طبائع الشخصية العربية· وهو أشبه بما قاله فلاسفة الوجود المعاصرون، الوجود قائم على العدم عند هيدجر وسارتر·

كيف يقاتل الأميركيون في الجنوب، ويصافحون في الشمال، يخنقون في الجنوب ويتعانقون في الشمال؟ هل سُلِّمَت بغداد بفعل الخيانة؟ هل هذه سمة في الشعب العراقي منذ استدعاء الحسين من شبه الجزيرة العربية إلى الشمال ثم التخلي عنه ليلقى الشهادة وحده؟ كيف يجمّع العراق الرأي العام العربي والدولي حوله في أكبر تظاهرات شعبية منذ حرب فيتنام في الستينيات ثم ينفرط العقد من حوله بعد تسليم بغداد وانفراط حبات العقد بعد قطع الخيط؟ هل هي ازدواجية في الشخصية العربية بين الظاهر والباطن، بين العلن والسر، بين القول والفعل، بين الإنشاء والخبر، بين الخيال والواقع، مقابل ازدواجية المعايير لدى الولايات المتحدة الأميركية، معيار في العراق، عصيان قرارات الأمم المتحدة والعدوان على العراق، ومعيار آخر في فلسطين، احتلال إسرائيل لكل فلسطين والعدوان على الشعب الفلسطيني وعصيان معظم قرارات الأمم المتحدة· معيار مع العراق بالعدوان، وآخر مع كوريا بالحل الدبلوماسي·

إن تغير المواقف وارد للأفراد وللشعوب بناء على تدبر ووعي بتغير الأزمان والعصور· فلا شىء ثابت في التاريخ إلا قوانينه وسننه· أما الانقلاب من النقيض إلى النقيض عند الشخص نفسه ولدى الجيل نفسه وفي الزمن نفسه فهو تقلب في العواطف والأهواء وإضرار بمصالح الشعوب·

وماذا عن المقابر الجماعية التي يتم اكتشافها بين الحين والآخر في ثرى العراق، أطفالا ونساء وشيوخا بعد تعرف الأهالي عليها، وظنهم هجرة الأحباب إلى الخارج؟ وما الفرق بين الهجرة تحت الأرض والهجرة خارج أرض الوطن؟ يكاد يصاب العربي بالخزي أمام هذه التصفيات الجسدية للمعارضين دون تهمة أو محاكمة أو دفاع مشروع عن النفس· هل يصدق العالم إذاً ملفات حقوق الإنسان في الوطن العربي التي تنشرها جمعيات حقوق الإنسان ومنظمات العفو الدولية؟

إن العرب الآن بين خيارين، الدفاع عن العراق كأرض ووطن وشعب وتاريخ ضد الاحتلال الأجنبي، وفي الوقت نفسه الدفاع عن نهاية الطغيان والتسلط والقهر وممارسات النظام العراقى· هل يحزن العربي لاحتلال العراق أم يفرح لنهاية نظام التسلط والطغيان؟ وهل لابد أن تـُحمل الديمقراطية على أسنة الرماح وفوهات المدافع، وأن يأتي الفرج على أيدي قوات الاحتلال؟

لقد اختلط كل شيء في الوجدان العربي، الصديق والعدو، الحق والباطل، الصواب والخطأ، الوسيلة والغاية، الإيمان والكفر، البطولة والخيانة، الماضي والحاضر، السلطة والمعارضة، الملاك والشيطان·

قد يعجز العربي عن التفكير إلى حين· كما قد يعجز عن السلوك والفعل فترة بعد اختلاط الأوراق· فالتاريخ يتحرك، والمخاض ما زال قائما، وطلقات الطلق ما زالت تضرب· فلم يظهر المولود الجديد بعد· وربما تنتهي آلام الوضع بصوت الوليد بعد أن تحرك في الرحم، خارجا بالرأس قبل الأقدام، ومستنشقا هواء العالم صارخا: لا تكرروا التاريخ، اجهاض النهضة العربية الأولى في عصرها الليبرالي، وإجهاض النهضة العربية الثانية في تجربتها القومية الاشتراكية· واحرصوا على نهضة عربية ثالثة تبدأ بالحرية· (الاتحاد)

 

 

موارد نصيـة

منتدى الفكر العربي

 

 

 

المحتـوى

إدوارد سعيـد: حال العـرب

محمد شحـرور: الإصلاح الديني قبل الإصلاح السياسي

نصر حامد أبو زيد: ما قبل 11 أيلول 2001 لا ما بعده. تجديد الخطاب الديني ضرورة معرفية وليس استجابة لاستحقاقات 11 سبتمبـر

د. حسن حنفـي: تجربة السلـوك العربي

جوزيف سماحة: أرماجـدون

د. يوسف مكي: في العلاقة بين الحرية والإرهاب

أدونيـس: حجاب على الرأس أم حجاب على العقل؟

 نعوم تشومسكي: أمريكا أكبر خطر يهدد السلام العالمي

 مطاع صفدي: الأمركة تعيد تاريخ الغربنة بدون ثمارها المدنية

 جابر عصفـور: هوامش للكتابة. الكتابة والإرهـاب

 عبد الإله بلقزيز: الإسلام والغرب في الخطاب الإحيائي

 

 
 

 

 

 

 

جماليـــات إضـــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.