مطاع صفدي

الأمركة تعيد تاريخ الغربنة بدون ثمارها المدنية

 
 

الباحثون عادة عن اهم احداث العام الذي مضى سوف يجمعون ولا ريب على اعتبار تدمير برجي نيويورك ومبنى البنتاغون انه هو الواقعة التي لا شبيه لها بكل المقاييس، لكن الاخطر منه بلا شك هو خروج امريكا الى العالم بالارادة الامبراطورية السافرة التي سوف يترتب عليها اشمل واعمق تحول في مفهوم الاستراتيجية الكونية واتجاهها وطرق ممارساتها، بما يمس امن كل دولة ومصالحها الحيوية. فكان سهلا علي امريكا الانزلاق من مبدأ محاربة الارهاب الى تبني الارهاب المعاكس. وهو الاقوى والاخطر لانه سيغدو ارهاب دولة الامبراطورية العظمى، ذات الامكانيات غير المحدودة في وسائل الطغيان والتسلط على حريات الامم واستقلالاتها الوطنية، وبدءا من امتها بالذات.

ذلك ان محاربة الارهاب المتحررة اصلا من تعيين الهدف المجسد يمكن استخدامها ضد اية اهداف متنقلة من شعب إلى آخر ومن كيان سياسي إلى اي كيان، فالارهابي المضاد يعطي لنفسه حرية اختيار العدو، ثم قذفه بشتي النعوت السلبية واختلاق الجرائم التي تلصق به دون السماح له بتفنيد الجرائم تلك، وفي خطوة ثانية يجري اتهامه وادانته والحكم عليه بالاعدام، اي بتسيير الجيوش ضده، وعقد الاحلاف، واحتلال جواره، ثم الاستيلاء على فضائه، والامعان في قصفه بأثقل انواع القنابل الصاروخية، واستخدام ادق الوسائل الالكترونية في تدمير الاهداف، ما يعني ابادة البنى التحتية للمجتمع، ومعها القرى والمدن، ودفن الوف الناس تحت الانقاض، انها حرب التهلكة الشاملة للبشر والحجر معا، وقد اصبحت عدة هذه الحرب جاهزة، بما هي الثمرة العليا لتطور التقنيات العالية، كأنما ذروة الحضارة هي ذروة التدمير والقتل الجماعي الاسرع والافعل.

الامبراطورية ليست سوى المصطلح الفني الذي يعني مبدأ سيطرة القوة المطلقة اللاغية سلفا لمواقع الممانعة او الاعتراض، والامركة ترشح نفسها لتجسيد هذا المصطلح واحتكاره لذاتها منذ انهيار (الاخر) الوحيد الذي كان بامكانه معارضتها وهو الوجه الاخر للامبراطورية كذلك، المتمثل سابقا في المعسكر الاشتراكي، الا ان التناقض الذي تقع فيه الامبراطورية هو انها في الوقت الذي لا يسمح قيامها بانوجاد القطب المضاد، فانها مع ذلك تكون في امس الحاجة إلى هذا الانوجاد، ذلك لان القوة ليست قوة مجردة لكنها ممارسة مادية محتاجة إلى تلك التمارين الواقعية التي تعرض امكاناتها التدميرية، وتقدم امثلة حية ويومية عن جبروتها.

ان دخول الانسانية عصر الارهاب وصنوه الارهاب المضاد، هو تدشين مرحلة الامبراطورية الكليانية الذي يفتتح تاريخا جديدا لعالم اليوم والغد، سيحمل اختلافه العنيف إلى مختلف الكيانات الدولتية، فمن خصائص عصر الامبراطورية انه لن يبقي ثمة كيانا خارجها، حتي نقائضها فسوف تختمر في جوفها وتولد من رحمها، وتنتصب ضدها، لكن ملء ساحتها الاصلية، ذلك ان شمولية الامبراطورية تفرض عليها وجودا من النوع التجريدي فهي مضطرة إلى تدبير معارك تجسيدها ومصارعتها بأعلى امكانيات عنفها الذاتي، ضد تلك النقائض عينها التي ولدتها. انها النقائض التي تسمح لها بالانتقال من مستوي التجريد إلى مستوي التجسيد. فهي بصورة ما أشبه باللاتاريخ الوهمي الذي ينتظر تأريخه الواقعي، حدوثه الوقائعي، ذلك انه بدون تلك الوقائع تتبدد الامبراطورية كأعلى وهم لأوهامها نفسها.

فلقد اتبعت الأمركة حربها الكونية، في عصرها الامبراطوري على المركز العربي، خلال ما سمي بحرب الخليج الثانية باختراع العولمة الشمولية كانعكاس ربحي اطلاقي لنصرها على المركز العربي، فطالبت دول الارض قاطبة برفع حدودها القانونية والسياسية عن اسواقها، وفتح جميع ابوابها امام هجوم المال العاري من اية بضاعة سوى قوته الخاصة. فقامت بذلك سلطة تجريدية هائلة لاول مرة في اركيولوجيا القوة المطلقة، اسمها الاستثمارات الفلكية، انها تشخصن صولات وجولات المال عبر ايقاع الزمن الفعلى لانتقال الارقام الالكترونية في ذات اللحظة بين جهات الارض الاربع. فلم يعد يسمع العالم الا عن تلك الاندماجات المتسارعة بين الشركات العملاقة وسيطرت بذلك لغة (التريليون) بدلا من اللفظ الطويل المطاط آلاف آلاف المليارات. وانتهت الالفية الثانية على وقع حروب الاموال على بعضها. ومثلما تأججت نيران تلك الحروب الشفافة الصامتة سراعيا وفجائيا، كذلك اخذت بالانطفــــاء والتلاشي.

اذ ان المال لا يصلح وحده بضاعة لذاته، لا بد ان يخترق الاخضر واليابس فكانت ثورة الاتصالات التي ادخلت قسراً عنها قبائل البشرية كلها في عصر حوارات الافراد والشعوب فيما بينها، ما دفع بأجواف العالم وما تخفيه من الارواح المقموعة، لان تتصدر مقدمات المسارح كلها، من الكلمة والصورة من الرأي والرأي المضاد، من اسافل الاهرامات واعاليها، فكأن العالم كله اصبح متدافعا جميعا إلى كل مقدمة من اية مؤسسة او كيان او فن او ثقافة، هذا التبشير باشتراكية الفعل والقول والحركة في كل ما يخص حياة الناس افرادا وجماعات، هو تبشير بولادة نوع الامبراطورية الاخري المضادة. انه نوع التبشير الذي ينقلب إلى النذير المخيف لأهل الامبراطورية الاولي. فالانسانية جمعاء موشكة على القيام هبة واحدة. وعندئذ تفقد الصياغة الامبراطورية مركزية رقابتها وضبطها. ويلوح في الافق ما لم يكن في الحسبان وهي ولادة عالمية العالم الحقيقية. انها الخطر الماحق للامبراطورية الذي يحطم جدليتها الخاصة بقواها الذاتية، اي ان عالمية العالم هي العدو الحقيقي للامبراطورية الذي يفاجئها، ولا يخرج من لحمها ودمها ولا يأتي صنيعة لحركيتها من اجل استمراريتها ونموها السرطاني المطلق.

 فلا يتبقي للامبراطورية من وسيلة اخيرة للدفاع عن كينونتها الباطلة سوى استخراج هيكليتها الاصلية من تحت عباءات العولمة الانتصارية ببهارج الازدهارات المفتعلة. انها هيكلية العنف الخالص، وافضل وسيلة لتفعيله ونشره ملء وضد المجال العام من سياسة واقتصاد وثقافة وانتاجية سوية لارادات الحرية والعدالة وسعادة الانسان الحقيقية، هي وسيلة تفعيل العنف الخالص إلى الارهاب، وتقسيمه إلى ادوار وتوزيعها على اقطاب حركية متناقضة. فالامبراطورية تتعري اخيرا كعنف خالص ووسيلة الارهاب/ الارهاب المضاد معا. وهكذا يمكن نشر العنف الخالص بجناحيه هذين على المجال العام لانسانية الالفية الثالثة التي يبدو انها كتب عليها الا تكون شاهدة على نهاية التاريخ وتتويجه بتحقيق عالمية العالم، اي هذه المدنية الموعودة منذ جاهلية الغاب، ولكنها قد تكون المتورطة في اعادة انتاج اهوال التاريخ وقد تمكنت من استكمال ذروة خصائصها التدميرية تجاه ذاتها وذات الاخر في وقت واحد.

 هكذا تعلق بشرية العصر الالفي الثالث بين فكي الارهاب ونقيضه المضاد. وهما معا من فصيلة واحدة: هي جذرية العنف بما هو التعبير الاول والاخير عن الامبراطورية. واذ تحاول الامركة ان تجسد الامبراطورية، وان تكون تعبيرها الوحيد المحتكر لكل خصائصها، فانها تفتعل مظاهرها المؤكدة لسلطانها الواقعي. وأهم هذه المظاهر ولا شك هي عروض الحروب وتمثيلياتها الرهيبة والمتنقلة من مسرح اممي إلى آخر. فالامركة رشحت نفسها اذن لتكون التجسيد الاحدث، وربما الاخير، لثقافة الامبراطورية، ورموزها التقليدية وافاعيلها المتدخلة في اخص شؤون الكيانات الحضارية والسياسية القائمة في عالم اليوم والغد.

 وها هي تستخدم المنطق الامبراطوري لتأمر بقسمة العالم لمن هو معها اي من اتباعها ومن رعيتها، ولمن هو ليس كذلك، وقد يكون عليها وليس لها. فالمنطق الامبراطوري لا يقبل المساومة، هو ضد التسوية مقدما. لا مجال للموقع الثالث ما بين موقعي الحاكم والمحكوم، القاضي والمتهم. اي الغاء مساحة الدفاع. اذ ان الامبراطورية تجرد الدفاع من فعاليته مقدما ما دام ليس له ثمة مكان شاغر يقع خارج سلطانها المطلق. فهل في مستطاع الامركة ان تحقق فعلا هذا الشرط الاصعب الذي هو علامة الامبراطورية وامتيازها الاصلي. اي بكلمة واحدة هل تنتوي الامركة حقا خوض معركة الغاء (الاخر) بما هو كذلك، سواء كان الاخر حليفا او صديقا وليس هو العدو فقط. لكن النوايا وحدها لا تكفي ان لم تردف بالاستطاعة والمقدرة. والامركة تجرب مشروعها الامبراطوري من المدخل العربي الاسلامي كالعادة.

 وقد شهد العالم اولي مناورات الاستطاعة المتخيلة عبر هذه المحاولة في اصطياد العالم ضمن شبكية الارهاب معه وضده. وها هو يصارع توريطه في القسمة المفروضة عليه والمعركة لا تزال في لحظة انفجارها التدشيني. وليس ثمة ما يوحي ان المسافة سهلة العبور بين تمني الامبراطورية والاستطاعة في ادراكها. وقد يجدر تذكير الامركة خلال تجاوزها لهذه المسافة بالتجارب الامبراطورية السابقة. واقربها هي (الغربنة). اي ذلك المشروع المعروف باسم المركزة الاوروبية فقد مثلت الغربنة التجربة النموذجية عبر ما يسمي بتاريخ الحداثة لمشروع تأحيد البشرية حسب انماطها الفكرية والسلوكية، وضمن علاقة النموذج بالنسخ المطبوعة عنه واجتازت مراحل الرومانسية السياسية بكل شطحاتها التي استغلتها البرجوازية الصاعدة لتنمية الصناعة من جهة والاستدلال على ثروات العالم غير الصناعي واسواقه.

 ووصلت إلى مرحلة انتاج الايديولوجيات الكليانية من نازية وفاشية ثم شيوعية وخاضت كل حروب القرنين التاسع عشر والعشرين لتصل اوروبا اخيرا إلى الحداثة الواقعية حيثما تقر بحدود القوي الوطنية، وتعترف للآخر بكيانات مستقلة سياسويا على الاقل، لكن الثمرة النهائية لهذا التحقيب الحضاري الشاق كانت هي هذه المدنية التي تفاخر اوروبا بها الحضارات الاخري جميعها. واهم عنوان لهذه المدنية هو شرعة حقوق الانسان المطبقة اولا بالنسبة لمجتمعاتها، مقابل الغاء ايديولوجيا الحروب العالمية في سياستها الخارجية، وعلاقتها المعتدلة مع بقية الدول.

الا ان الكارثة الفكرية هي ان الامركة تعيد تاريخ التجربة الاوروبية بكل حمولتها من التناقضات الرهيبة التي كلفت شعوب الغرب اهوال الامبراطوريات العسكرية وحروبها الكونية. مع الفارق وهي ان امبراطورية الامركة عاجلت نفسها بانفجار الارهاب وضده داخل بنيانها الموهوم، في الوقت الذي تواجد فيه عالمية العالم بكل ما لم تعرفه فيها بعد من اشكال المعارضات القادمة

 

عن مجلة: واعربـاه

 

موارد نصيـة

منتدى الفكر العربي

 

 

 

المحتـوى

إدوارد سعيـد: حال العـرب

محمد شحـرور: الإصلاح الديني قبل الإصلاح السياسي

نصر حامد أبو زيد: ما قبل 11 أيلول 2001 لا ما بعده. تجديد الخطاب الديني ضرورة معرفية وليس استجابة لاستحقاقات 11 سبتمبـر

د. حسن حنفـي: تجربة السلـوك العربي

جوزيف سماحة: أرماجـدون

د. يوسف مكي: في العلاقة بين الحرية والإرهاب

أدونيـس: حجاب على الرأس أم حجاب على العقل؟

 نعوم تشومسكي: أمريكا أكبر خطر يهدد السلام العالمي

 مطاع صفدي: الأمركة تعيد تاريخ الغربنة بدون ثمارها المدنية

 جابر عصفـور: هوامش للكتابة. الكتابة والإرهـاب

 عبد الإله بلقزيز: الإسلام والغرب في الخطاب الإحيائي

 

 

 

 

جماليـــات إضـــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.