كاد الموتُ أن يشبه دخولَ الحمام
لولا أن ولوجَ الحمَّام يعقبه خروج فيما الموت هو الخروج نفسه». هيا انزعْ حذاءَك ياصاحِ وتهيأْ لدخول موتك كمَا تدخلُ حَمَّامَكَ...»
برأسي صداعٌ ودوارٌ، وأنا ممدود
وسط هالةٍ من البخار، والعرقُ ينسَاب مني انسياب السَّيل المتوحش... وهذه الكُتَل
البشرية المحيطة بسَريري تبدُو لي سوى دمىً تحكِي الخيانة من عالم بعيدٍ. أما
أصواتُ الأطفال اللاعِبِيَن في الزقاق فتتهاوى على مسامعي، من النافذة المحاذية
لسريري، كنباح جِرَاءٍ مسعورةٍ... ومن شاء الوقوف على ذلك بنفسه فلْيَتَنَاوَلْ
علبة أقراصٍ من الأسبرين وهُو في أقصى درجات الْحُمَّى ثُمَّ لِيُجْهِدْ
أَسْنَانَهُ في تكسير عُنُقِ زجاجةٍ سميكـةٍ.
أنا الآن جسدٌ مُفْلِس وما هذا
العويلُ الذي يحيط بي إلا إعلانٌ عن إفلاس آخر.. عما قريب سأصير جثة هامدة لن
يُتَخَلّص من رُعبِها إلا بحملها كَكِيسِ إسمنت وإحكام مواراتها تحت التُّرَاب...
الدَّفْنُ هو أبلد تعبيرٍ عن كوميديا الوجُودُ البشري. يالهول الغبن الَّذِي يُصيب
الأحياءَ! فَهُم حينمَا يموت أحدُهم يُسقِطون عليه أفكارهم وأحاسِيسهم من مساحَة
تواجُدِهمْ، فيعاملونه كمَا لو كان مازال حيا: يَبْكُونَـهُ، ويُلْبِسُونـه،
ويُعَطِّرُونَهُ... أرى الآن مُغَسِّلِي يمسِكُنِـي ويَلُمُّنِي بين يَدَيْهِ كما
يَلُمُّ الخَبَّازُ قطعة العَجِينِ فأنهض وأُوسِعُه ركْلا ولكْما وأنا أُعَنِّفه:
«مَا مَعْنَى مَا تَفْعَلُهُ بِي الآنَ؟ إِنَّنِي ما عُدْتُ
إِنْسَاناً. أَنَا اٌلآنَ مَمْحُوٌّ دَاخِلَ حِيَادٍ مُطْلَقٍ، وَسَأَمْكُثُ فِيهِ
حَتَّى وَإِنْ هَجَرْتُمْ جُثَّتِي أَوْ أَحْرَقْتُمُوهَا أَوِ
اٌلْتَهَمْتُمُوهَا.»
أُرَكِّزُ بَصَرِي على الساعة
الحائطيةِ وعقاربُها مُثَبَّتَةٌ في الخامسة مساءً وأنا مُلْقًى فوق السريرِ وشريطُ
وقائع حياتي يمرُّ أمامي بسُرْعةٍ مذهلةٍ، فلا أقوى على المتابعة... يَعْصرُنِي
الألَمُ والدُّوَارُ يُزَوْبِعُنِي...
أخَذَ جسَدي في التمطُّطِ من
حَوْلي كعجينٍ رَخوٍ أو سائل لزجٍ فلم أعُدْ أتبيَّنُ حُدُودِي... تغيَّرَتْ نبرة
الأصواتِ المحيطةِ بي فصار إحسَاسِي كمَن أنهكَهُ الجُوعُ والعَيَاءُ، وأحرَقَهُ
القيظُ في غمرة سفرٍ لا بِداية له ولا نِهاية، إلى أن تهَاوى بين الإغمَاءِ
واليقَظَةِ. أسمعُ أصْوَات آلات لم يَسْبِق لي أن سمعتُ مثلها قط، وصفَّارَات إنذار
هائلـة، وخوَار ثيران ذات كبر مرعبٍ. وعندما يضع أحَدٌ ممن حَولي يده على جسمي
فإنِّي لا أتبيَّنُ مكَان وضعها ولا المسَاحة التي تشغلها. كلُّ ما أحسُّ به هو
ألـمٌ فرحانٌ يجتاح جسدي ويتمطَّطُ من حولي إلى ما لانهاية...
بَدَأْتُ أستأنسُ بوضعي الجسَدي
الجدِيدِ، فأصبح وُقوفي وقُعُودِي وتحرُّكِي، من قبل، ليْسَ غريبا عني فَحَسْب،
بَلْ ومستحيل التَّصَوُّر؛ كأنه لم يكن سِوى خيانةٍ عظمى... يُزْعِجُنِي صوتُ
الباكين المحيطينَ بِي الذي يصِلُ إلى مسامعي كصدىً تتقاذفه جبالٌ بعيدة لأنَّه
يُكَسِّر أصواتَ الطيُور، وأسْرَابَ الرَّيَاحِين، والفضاءات المترامية من حولي،
وروائح الملائكَة التي تغَازِلنِي... أخذ السَّرير يسْبَحُ بي في الفضاءات
الواسعـة. أريد أن أتكلم. لاأَقْوَى على الكلاَمِ... أُطلِقُ صرخة عُظْمَى. أتوهم
أنها هزَّت الجدْرَان، إلا أنها في الحقيقة لم تتردَّد إلا في أعمـاق وحْدَتِي:
«أَنَا وَحِيـدٌ! أَنَا وَحِيـدٌ»!
وفجأة أخذت هذه الوحْدَة تنكَسِرُ
داخل سيل موحشٍ من رعْشَاتِ الإنزال. تَنْعَصِرُ عروقي، وينتشر دَبيبٌ في عِظامي
كافَّة أُحِسُّ معه بأن مخي قد تحول إلى سائل يغلي. تجتاحني زَغْدَاتٌ تسلمني إلى
عياء تام. أفتح عيني.. عَقَارِب الساعة مثبتة في الخامسة والرُّبع مسـاءً، وأنا
ملقى علَى السَّرِيرِ، وشريطُ حياتي يمرُّ أمامي بسُرْعةٍ مهولةٍ.
يَعْصِرُنِي اٌلألَمُ والدُّوَارُ
يُزَوْبِعُنِي...
أُثَبِّـتُ أذنيَّ في ما يحيط
بي. عادتْ أصواتُ الأطفال اللاعبين في الزُّقاق تَتَهَاوَى على سمعي كنباح جراءٍ
مسْعُورةٍ. استسلمتُ لنومٍ عميقٍ ملفوفا وسط خَيْبَةٍ سوداءَ، ومن بعيد كان نداءُ
الموتِ يسْتَدْرِجُنِي:
«هيا انزعْ حِذاءَك يَاصَاحِ وتَهَيَّأْ لِدُخولِ موْتِكَ كَمَا
تدْخلُ حَمَّامَك»...
*
* *
خَلَعتُ حذائي وملابسي دافعا
عَرَاءَ الكَائنِ بداخلي إلى تخومِه القُصْوَى التي لم تكن جثتي إلى ذلِكَ الحين
سِوَى انفلاتٍ مَارِقٍ منها؛ توضَّأْتُ بوقودٍ وصلَّيت على نفسي بابتهالاتِ وتراتيل
التِّيبِتِ الْجَنَائِزِيَّةِ التي يُردِّدُها الرَّاهِبُ وهو يفصل رأسَ الميِّت عن
جثته وينفخُ الهواء في أذنيه وأنفه حَتَّى إذا انتهَى هَشَّمَ الرَّأْسَ بحجرٍ صلبٍ
وانصرف يفصلُ لحم الجثة عن عظامها بِمِدْيَة طويلة حادة، ثم ألقى بالجُثَّةِ
المحلولةِ إلى أسراب النُّسُور والغِرْبَانِ...، صلَّيتُ على نفسِي ثم سكبتُ
الوقودَ على الكتُبِ والفِرَاش وجَسَدِي، وأطلقتُ النارَ من عُقَالِهَا
الْمُقَدَّسِ، وجَلَسْتُ أتفرَّسُ فِيَّ مَلِيّاً. أطلقتُ صرخةً مرعبة، ثم انقضضتُ
علىالموت لأنني ظللتُ إلى تلك اللحظة أومنُ بأنَّه جبانٌ حقيرٌ إذا لم تسبق إلى
مُداهَمَتِه بادَرَ هو إلى مُداهمتِك بوجهٍ بَشِعٍ قذرٍ تفوح منه رائحةٌ كريهة.
ثوانٍ قليلةٌ جدّا كانت كافية
لانتفاخ جسَدي. أحسَسْتُ بأنَّ جثتي قد تضاعَفَ حجمُها خمس مراتٍ والشحم بداخلي
يغلي ويحاولُ عبثاً أن يتسلل من ثقوب جسَدي التي كانت قد انغلقت تماماً... خلال ذلك
كانت النَّار تصدِرُ حنينا موحِشا كرياح البحْر الهوْجَاءِ، وكانت الغرفة قد تحولتْ
إلى عُلبةٍ من نار، ولذلِكَ لم يحدث انفجارُ جُثَّتِي سِوى صوتٍ خافتٍ كصوتِ
انطفاءِ جمرةِ نَارٍ أو قطعة حديدٍ ساخنةٍ في بقعة ماء. وفيما تكَوَّنَتْ فوق جلدي
قشرةٌ خشنةٌ سميكةٌ تمزَّق بطني لعنفِ الانفجار وأخذَتْ الأمعاء وفضلات الأكْلِ
والشَّحْم في الغَلَيَان والذوبان، فتحولتْ إلى رائحةٍ كريهةٍ تثير القشعـريرة
والرغبة في القيء. وفجأة تَهَاوى عقلي كمنزلٍ داهمه زلزالٌ عنيفٌ فتَشَتَّتَ
الإحساسُ بداخلي وتبعثرت أعضائي. ولم أكن أعرِف من قبْل أن ذلك كانَ سيُحَقِّقُ
رغبةً كانت قد خَطَفَتْنِي منذ أن هبَّتْ عليَّ نسمةُ هذه الجهة الأخْرَى؛ فقدْ
كنتُ أرغب في أن تتفكَّكَ جثتي وتنتقلُ من شكلها الحالي إلى شكلٍ قَنَوِيٍّ ينفصل
فيه كلُّ عضو عن الآخَرِ ويشتغل بمعزلٍ عنه داخل هيأةٍ مُثَبَّتَة في الحقولِ،
والمحيطاتِ، والأفلاكِ، والهواءِ الطلقِ، والكائناتِ البرِّيَّةِ...
ولم أكُنْ بتلك الرغبة إلا
أَجْثَتُّ نفسي الزمن الحالي لأستقرَّ في عُمْقِ زمنٍ آتٍ لاريب فيه سيشهدُ فيه
العالَـمُ تَكنَجَة تُتَبِّتُ كل شيء في كُلِّ شيء إلى أن يتحوَّلُ الكون
برُمَّتِهِ إلى مجرد آلة صغيرة تشتغل من تلقاءِ نفسِهَا، آلةٌ مَا الزمنُ الرَّاهنُ
بالمقارنة مَعَهَا إلا عصر حجـريٌّ آخـَر.
*
* *
جُمِعَ رمادُ الجثة بعدما عُزِلَ
بعنايةٍ متناهيةٍ عن رَمَادِ الكتب والفِرَاش والخشبِ والملابس ثم وُضِعَ في كيسٍ
طاهر مُعَطـر أنيق أُجْرِيَتْ عليه كافة ترتيبات الطقوس الجنائزية، ووُرِيَ داخل
قبر كبير...
أثناء دفنهِ، كان الرَّمَادُ
داخِل الكيس مَهْوُوساً برغبة النُّهوض وإشباع الدافنين لكماً ورَكْلاً وهو
يُعَنِّفُهُمْ قَائِلاً:
- مَا مَعْنى مَا أَنْتُمْ
فَاعِلُونَ بِي الآنَ؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّنِي اٌلآنَ مَمْحُوٌّ دَاخِلَ حِيَادٍ
مُطْلَقٍ، وَأَنَّنِي سَأَظَلُّ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ الآنَ حَتَّى وَإِنْ
نَثَرْتُمُونِي فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَبَّرْتُمْ بِي النَّبَـاتَ؟!
كان الرمادُ صائبا. ولمـا كُنْتُ
أعتقد أنه كان صائبا لم أكنْ أنا الآخرُ سوى امرئٍý مغبونٍ : فقد كنتُ أُسْقِطُ
عليه أفكاري من ضفَّة وُجُودِي وأعامله مِثْلَ حَـيٍّ. أما علمتُ أن الرماد كانَ ما
عادَ إنسانا، وأنَّهُ كَانَ قد مُحِيَ داخل حيادٍ مطلقٍ حيث سَيَمْكث مهما تكن
المعرفة التي أُشَكِّلُهَا فِي شَأْنِـهِ؟!
*
* *
إن أُحادِيَةَ حركة الموْتِ التي
تُحِيلُ إلى استحالةٍ كلا من رجوع الرَّماد إلى هيأته، والميت إلى قبره، ودخول
الأحياء إلى روضة الموتى بضمَانة مُسبقة لعودة أكيدة، هيَ الصورة الْمُثْلَى لجبنِ
الموتِ وبشاعته. فهُو لا يملكُ أدنَى درجةٍ من التفكير، ولا يشتغلُ إلا كآلة
عمياءَ. إنه لا يفعلُ دائما سِوَى إدخَال المرء إلى الموتِ أو إخراجه )من الحياة(،
لامجالَ عندَهُ إطلاقا لإدخاله وإخرَاجِه معا، في آن واحدٍ... وكَوْنُهُ كذلك يجعله
ذا صلةٍ بالجنون أكثر من أي شَيء آخر، ولذلك فالسَّبيل الوحيد للانتقام منه هو
تسْديد لَكمَاتٍ عنيفةٍ لوجهِهِ من الموقع نفسِه الذي يسدِّدُ مِنْهُ الأسْوِياء
لكماتهم إلى المجانيـنِ.
ضعْ بالتناوب قدما في الموتِ
وأخرَى في الحياة، ثم امْضِ بسرعة قُصْوَى وانظـرْ ماذا يجري...
لما عزمتُ على وضع حدٍّ لحياتي
بتناول كميةٍ كُبرى من العقاقير وإحْرَاق جثتي، ولما دَبَّجْتُ قبيل ذلك خِطاباً
أوضِّحُ فيه أسْبَاب انتحاري وأبرئ فيه سَاحة كل منْ يُحِيطُون بي من أي تهمةٍ قـد
تلصق بهم بسَبَبِ موتي، كنتُ غبيا مرتين:
مرَّةً لأنني التمسْتُ الحل
لمشاكلي ومُعَانَاتي في عالمٍ يلغي كلَّ مَاضٍ في وضعٍ جديدٍ ليس بمقدرتي معرفة ما
هو لكونه يَتَنَافَى مع كلِّ معرفةٍ إن لم يكن هو المعرفَةُ نفسُها لكنَّهَا لا
تتحقق إلا بحتف الكائن لأنَّ حتفه هو وُجُودِها وَوُجُودِه هو حتفها. فعندما كنتُ
ممدَّداً في الفراش أحتضرُ، وعندَمَا كانتِ النَّارُ تلتهم جثتي كانَ بابُ المعرفة
قَدِ انْفَتَحَ أمامي على مِصْرَاعيه، وبعدد خطـواتي نحو الموْت كُنْتُ أزداد علما،
إلا أن نقلَ معرفتي إلى الآخَرِين تعذَّر علي لسَبَب بسيطٍ: فقد كنتُ بصدد الخروج
من المدَارِ البَشَرِيِّ. أما الآن وقد عُدْتُ، فإنني كلَّمَا استحضرتُ شيئا من تلك
المعرفة لم يأتِ إلا بهيأةِ أعشاب بريةٍ، وأمواجٍ هوْجاءَ، وسُحُبٍ سوداءَ، وعواصف
مزمجـرةٍ...
ومرَّة أخْرَى، كنتُ غبيا، لأنني
بكتابتي ما كتبتُه لم أكنْ أفعل – مثل ما أنَا فاعله الآن - سوى تلويثِ صفاء الموت
بضجيج كلامي وإثقالِ كاهِلِي بحمْلِ عُدَّة سَفرٍ لا يستوجبُ أيَّ زادٍ عدا العراء
أوالصَّمْت. لقَد كنتُ أحاول عبثا أن أتواصَلَ من منطقة اللاَّتَوَاصل. وهذا نص
الخطـابِ:
روضة الموتى في 60/52/1690
الآن وقد وجدتموني جثَّةً هامدة
فإني أخبركم بأنني أنا الذي وضعت نهاية لوجودي وبمحض اختياري.ليس بيني وبين أي فرد
من أفراد أسرتي أو أصدقائي ما أجبرني على محو نفسي. فقد نسجت حولي ليلي الخاص منذ
لست أدري كم من وقت، لكن المؤكد هو أن هذا الليل قد تعاظم من حولي إلى أن
صَيَّرَنِي أعمى بحيث لم أملك سوى تلبية ذلك النداء الذي ما انفك يتردَّدُ من بعيـد
ويناديني أنِ اخْلَعْ جُثَّتَكَ واْلْتَحِقْ بروضة الموتى. وفي هذا السبب وحده ما
يكفي لتغفروا لي ما ألحقته بكم من حزن وغـم...لاتحزنوا على فقداني. فأنا بموتي جعلت
حدا لحزني على فقدانكم الأسبق. صدقوا أنني لم أركم طيلة العشرين يوما الأخيرة وإن
كنت أقمت طيلتها بينكـم.
التوقيـع: جثة الْمَيِّــــتِ»
لم أفلح لحد الآن في فهم السَّبب
في وجود ذلك الرَّابط الخفي الذي يشُدُّ هذا الخطاب إلى معدتي. فكلما قرأته
تهيَّأتْ معِدَتِي للإنقذاف أمامي وحاصرتني الأسئلَة إلى أن أتحول إلى علامةِ
استفهامٍ كبْرَى وقد أخذتْ هيأة إنسَـان. أَحَيّا كنتُ أَمْ ميتاً لَمَّا كُنْتُ
أَكْتُبُ مَا كتبته؟ هَبْý أنني مِتُّ وأنَّ خِطابي قد انتهى إلى من وُجِّهَ إليهم،
فأيُّ وضعٍ يأخذه الآنَ؟ أكلامُ ميِّتٍ هُوَ أم كَلاَمُ حَيٍّ؟ إن كان كلامُ حيٍّ
فصاحِبهُ الآن ميِّتٌ، وإن كانَ كلامُ ميِّتٍ فالميتُ لا يتكلَّمُ، لكنَّ كَلامَهُ
هُنَا... ثمَّ الآن وقد صرتُ قارئ خطابَ موته، هل أنا الذي يَقْرَأُ هو أنا الذي
يكتبُ؟ من رَدَمَ الهوة الفاصلة بينَ مَوْتِي وحياتي؟ كيف عبرتُ هذه الهـوة؟ ماَ
أغبـَاني!، ثم ما أغبـَانِي! وفي انتظار أن تُرْفَعَ عني هذه الغباوة ها أنذا
أستهلكُ ما تَبَقَّى من حياتي وأنا لا أتوقَّفُ عن تـرْدِيدِ الابتهالِ التالي
بكبرياءٍ شديـدٍ:
«لَقَدْ سَدَّدْتُ لِلْمَوْت لَكْمَـاتٍ عَنِيفَة لَكِنَّ
وَجْهَهُ كَانَ مِنَ الصَّلاَبَةِ بِحَيْثُ أَدْمَانِي وَهَشَّـم عِظَامِي».
|