محمد أسليــم

احتــواءات وتنكــرات

11

وَقَفَتْ ملفوفـةً وسط جلبابٍ أزرقَ بوجه شاحب حزيـن وعينيـن غائرتين أحاطت بهما نُطَعُ سَوَادٍ أحالتهما إلى ليلين موحشين. وَقَفَتْ في وضعٍ مقابلٍ لنا (وكنا أكثر من خمسين، جالسين على طاولات كتلاميذ)، ثمَّ احتوتنا داخل مجالها البصري بنظرة منخطفة نشوانـة ذاهلة أعدمت الزَّمنَ ونصبت الصمت سلطانا. انزلقنا إلى فضاء عينيها الواسعتين بسُرعةٍ أحدثتْ فينا دواراً شديداً.. تكلمتْ عيناها بهُدوء مرعب فقالتا: «أنا الرُّعب. قد لبِستُكم الآن حِدادا على من فقدتْه دون أن أعرفه. وبعد حينٍ سأكمِلُ بهجة هذا الفُقدان بسحقكم جميعا بأنيابي الحادة هـذه!».

اتجهتْ نحـو البـاب. أحكمتْ إمساك قبضته. جرَّتْه إليها قليلا، ثم أغلقتْه بدفعة ارتجت لِدَوِيِّهَا الحيطانُ والْمَفَاصِلُ. لاستعـادة وضعها السابق، المقابلِ لنا، قطعت المسافة الفاصلة بين البَاب والمكتب وهي تتهَادى كالرَّاقصة. أبدتْهـا مشيتها كالتي يطاردُها العفريتُ وهي تحاولُ التملُّص من وخزاتِه بإحداث التواءاتٍ جسدية ابتهاليةٍ. أثناء ذلك كان جسدُها ينسابُ خارج الجلباب في هدوءٍ، مفتول العضلات، قصيراً، مكتنـزا، كفرس دريـرٍ. استعادتْ مكان وقوفها الأول، ثم امتطتْ صهوةَ كلام طَال وتدجَّج بالإشارات والابتساماتِ إلى أن أثـار فينا الرُّعبَ ومحا جغـرافية القاعة وفْـقَ نظام صهَرَ لحمنا بخشب الطاولات ولبس علينا الموقف، فلم نَعُدْ نعرف أأستاذةٌ كانتْ هي أم تلميذةٌ، أهي التي كانت تتكلَّم أم نحـن، أم أن كِـلانا كـان صامتا والكلامُ يتكلم من بعيـد...

 

انتهـى الكـلامُ.

التحقتْ آذاننا بالعاصفة تنـزف دما ودخانا، فتتشكَّل منه أشبَاحٌ أثيرية تتراقـصُ في الهـواء، ثم تنزل بهيئاتِ حسَـانٍ جميلات سرَّحتْ كل واحدة منهن شعرَها القصيرِ بأناقة متناهية، وأتقنتْ إبراز حمرة شفتيها، ولفَّتْ قامتها الرَّشيقة وسط جاكيت جلدٍ أسود وسروال «دجين» أزرق... أجهدتُ عينيَّ في مداعبتهنَّ لكنهنَّ كنَّ يجبنني جميعا بإجابة واحدة: «لاتستعجلِ الأمورَ، فبعد قليلٍ سنلبسُ جلبابا أزرق...»

 

عُدْنـَا إلى القاعـةِ.

تربَّعَتْ كرسيا في وضعٍ مقابل لنا. انفجرتْ ضحكاً.. تسلَّلَتْ يداها داخـل جيبين بالجلباب محادييـن لخصرِهَا، ثم رفعتاه قليلاً إلى أعلى، فأطلَّ من فتحتي الجلباب السفليين شيئان كالسَّاقين. كانا ملفوفين باحتشـامٍ وسط سِروال من الصُّوف رمادي اللَّون كثيـف النسيج، غيـرَ أن ذلك لم يمنعهمـا من التصلُّب أثناء اختيالها في المشي فبدتا ساقين كسَاريتي رُخام ترسِلان بريقا يخطفُ البصرَ. استقرَّت يداها داخل الجلباب تُعلنان الموتَ باحتكاكٍ دائري يأسرُ العيون وسَط شبَاكٍ من الخيـوط. عمَّت القاعة حرارةٌ جحيميةٌ. تضبَّبَ الفضاء وتعذَّرت الرؤيةُ إلا من خِلال التَّرَاقص وبه. تتـراقصُ أجسادنا والطَّاولات داخل الحمَّام الذي صـارتْ إياه القاعـةُ. أحسستُ برغبة في القي. حشوتُ فمي بالسَّبَّابـَةِ والوُسْطى إلى أن انقذفتْ أمعائي نحوَ الخارِج. أوقفتني برودة انسلَّتْ إلي من جسدِها المرتعش المقابلِ لي، وكان يرتعشُ، فألفيتُها ترتعـش ضحكـا ومن ورائهـا ذيلُها يعلن الفرحةَ يمينا ويساراً. كنتُ علَى وشك الاعتقاد أنها كانتْ كلبةُ لو لم يكُن جلبابُها في تلك اللحظة يتبرقع ببقـع سائـلٍ لـزجٍ. انتهى الضحكُ وبدأ الكـلامُ:

«أنـا الرُّعْبُ لَبِسْتُكُمُ الآنَ حِدَاداً على من فقدته دون أن أعْرِفَه، وبعدَ حيـنٍ سأكْمِلُ بهجةَ هذا الفُقدان بسحقكُم جميعا بين أنيابـي الحادَّة هـذه!».

 

بِرَأْسِــي صُـدَاعٌ وَدُوَارٌ.

أَنْسَحِـبُ مِـنَ الْقَاعَـــةِ.

 

*

*        *

 

بجانب إحْدَى محطَّات الأوتوبيس انتصبتْ متنكِّرَةً بهيأة جدَّتِي وقد اتكأتْ على جدار عمارة. تحت سماءٍ حريريةٍ صافيةٍ تدلَّتْ قدَماها الصغيرتان مغلفتين بنسيج من الصُّوف الأبيض السَّمِيـك.

كـان ذلك هو كلُّ ما تراءى لي قبلَ أن أرفـع عينيَّ لأجِدَ جميعَ ذلك كان في وضع تدلٍّ، محكم الشَّدِّ إلى كُرةٍ يذكِّرُ اتِّسَاعُ عينيها وزرقتهما برأس ما يُسَمَّى الإنسان. ما إن وقعتْ عيناها عليَّ حتَّى احتوتني بذهولٍ فرِحٍ نَشْوانٍ ونادتني وهي تشغـر شفتيها لعبور ابتسامةٍ مريضةٍ. اتجهتُ نحوها، لكن ضحكتها أبدتْها كالمكشرة عن أنيابها تترقبُ فريستها. أخذتْ ركبتاي تصطكَّان فـزعا ورغبة. تذكرتُ القاعة، والعاصفـة، والحمَّـام. واصلتُ التقدم نحوها، إلا أن كل ما حولي كان بعدد تقدمي في الخطوات يُمْسَخُ: لقد تحوَّلتْ هي والمحطة والعمارة إلى أشباح جامدة داخل صورةٍ فوتوغرافيةٍ، وخـلالَ ذلك كان الفضاءُ يعبق بروائح ندٍّ وريحـانٍ. انتابني شعورٌ بالإغماء، فأُغّمِيَ عليَّ. مغمى عليَّ كنتُ أتأملُ يديها الصغيرتيـن تندَسَّـان في هدوءٍ داخلَ جيبي الجلباب وتنخرطان في حركةٍ ميتة. حرَّكـتُ رأسي مرات عديدة وقفزْتُ بقـوة ونططتُ أختبرُ وضعي: كنتُ مازلتُ ميتا وكـانَ الثوبُ الأبيضُ ماانفَكَّ يلفُّني. ابتعدتُ عنهَا كيْ أحتويها داخـلَ مجالي البصريِّ، لكن بقدرِ ما كنتُ أزدادُ بعدا عنهـَا كانتْ هيَ تزداد قـربا مني... وكانَ ذلك يجعـلُ جسدها وحشا يلتهمُ كلَّ ما حولهُ؛ غابتْ المحطة، والعمارة، والطريقُ، والسيَّارات... وملأَ جسدَها الفضاءَ. كان عَليَّ في تلك اللحظة أن أكـفَّ عـن محاولتي تلك كيْ أتخلص من الصدْمَات الكهربائيَّة التي ولَّدها التقـاءُ عيني بعينيها... لكنَّ قلبي كانَ يخفق بدقاتٍ مسْمُوعةٍ وعُروقي ترتعـشُ، وأذناي وأنفي ينزفان دمـاً ودخانـاً...

أخيـرا وصلَ الأوتوبيسُ إلى المحطةِ. قِئْتُ عينيَّ وملأتُ جيوبي وحقيبتي بالندِّ والريحانِ، ثم امتطيتُ الحافلة. من داخل الحافلـة - بقدر ماكنتُ أبتعدُ عنها - كان جسدها النحيفُ يتقلص داخل مجالي البصَرِي ويأخذُ درجاتٍ متفاوتة فـي الصِّغـر إلـى أن استقرَّتْ في شكل ذرَّةٍ...

في زخم اندفاع الحافلة بدا فضاءُ العربَة الضيق مكتضّاً بروائح العَرَقِ، والموتِ، ووسـخِ الإبط، ونتانة الفخذين، والعظام المهشَّمَة، واللُّحُوم القذرة، والدِّماء المتخثرة، والجثت المتحلِّلَةِ، والديدان المتوحِّشَة... بدا ذلك كلُّه متنكرا وراء فسيفساء من المرَاهِمِ، وعُطُور التَّجْمِيل، وأصابع الحُمْرَةِ، والابتسَامات السَّخِية.. التبَسَ عليَّ الإدراك بالرؤية فلمْ أعد أعرِفُ ما إن كنتُ في تلك اللَّحظة داخل الحافلةِ أم خارجها، حيّاً أم ميتا. وحَالَ انشغالي بهذينِ السؤالين كانَ سائلٌ لزجٌ يتدفَّـقُ داخل الحافلةِ، وكانَ الضَّحِك يقصف كالرَّعْدِ.

 

*

*        *

 

وصلتُ إلى غرفتي فكانَ الكفنُ، والندُّ، والزعفرانُ، والرَّيْحَانُ، والعصفُ، وماءُ الورد بصدد الإنتهاء من الإعدَاد لطقسِ استقبالي اليومِيِّ في جو رتيـبٍ... قلــتُ: «هيـا أخرج بحثاً عن نفسي عسَانِي أعثـرُ عليَّ في هذه المرَّة»، ثمَّ اتجهتُ صوب مشهد طبيعي التحق حديثا بشجرةِ نسابتي. خُطْـوَةٌ. خطوتان. ثلاثـة... أخطو. يجب عليَّ أن أقبع في منتهى الحذرِ لِكيْ لا تتماسَّ قدمايَ فأتعثر وأسقط. إنْ يحدثْ ذلك أجِدْ صعوبةً كبـرَى في استِعَادَةِ وضع المنتصبِ لثِقْل هذا السّكافاندر وانتفاخه حولَ جثتي، وسينفجرُ ما بداخلي طوفانا من القَلَقِ يُغرق هذا الحي وسكانه. نظـرةٌ. إثنتان. ثلاثة... أنظرُ. يجبُ عليَّ أن أشحذ عيني بمنتهَى الدقة والإتقان لإزالة الحجب التي تلُفُّ هذا الكوكبَ التي نـزلتُ به. إلا أنني بقدر ما كنتُ أحـرصُ على ذلك لم أكنْ أجد نفسي إلا فارغا ولا يحيط بِي إلا الفراغُ. كنتُ ممتلئا بفرَاغِي وفارغا بامتلائي. فكَّرْتُ في شكلٍ أنفجر به، فوُضِعَ الدم بداخلي في حالة مدٍّ. سأحيل هذه الفجوةَ الفاصلةَ بين هذا الحيِّ والجبـل المقابل له إلى مَسْبَحٍ و...، لكنَّ عيني احتوتا الـ«كَادِيمْ»، فتراءَى، من الموقع الذي كنتُ واقفا به، في حجم حشرةٍ صغيرةٍ. صغيرةٌ صغيرةٌ جدّاً كانت تلك الحشرَةُ النموذجية، وكانَ بوُسْعِي أن أحيلَهَا إلى مسحوقٍ - ولم يكن ذلك يكلِّفني سوى خطوتين: واحدةٌ فوق قنطرة وِسْلاَنَ وأخرى فوق معمل الإسمنت - لو لم أغرق في تأمُّل أجزاء جسدي بإدراكٍ دَيْنَصُورِيٍّ. نعم، كنتُ دينصورا، وكانت خطواتٌ قليلـةٌ كافيةً لتحويل المدينة بمجملها إلى رميمٍ تحتَ قدمي. لكنني تذكرتُها وهي واقفةٌ أمام محطة الأوتوبيس: لم ينقصني في تلكَ اللحظة سوى أذنين طويلتيـن لتأخذ غباوتي الهيأة المناسبة. فقد كانت عينها الواحِدَة باتِّسَاعها وسط الرَّمْش اللَّيلي ونصاعةِ زرقتها مُعَادلا للنظامِ الشَّمْسِيِّ بأكملِه، أو كانتْ نظاما شمسيا من نوعٍ آخرَ. أمَّا أنا فلم أكُنْ كلبا كمَا اعتقدتُ خطأ ولاحتَّى حشَرَةً. كنتُ مجرد ذَرَّةٍ. ولكي أعبر من أقصى رمْشِ العين الواحدة إلى أقصاه الآخر كان يجبُ عليَّ أن أستغرقَ دورة زمنيةً كونية كاملةً! التفتُّ إلى سائرِ الكائناتِ المجهرية المتجمهرة تحتَ إبطي وفي معِدَتِي وشعـر رأسي، فتساءلتُ عمَّا إذا كان مجرَّد عُبُورها إلى قدمي يتطلَّبُ منها امتطاء مرْكباتٍ فضائيَّةٍ وصواريخَ ما لم يستحلْ عليها إدراك توفُّرِي فعلا على قدمين فتتقلَّص مسافَة العُبُورِ في الصَّدْرِ والسُّرَّةِ...

 

*

*        *

 

أمسكتُ خطَّافا أقلب جسدَ عشيقةٍ لي وهـي ملقاةٌ فـوق مِقْلاَةٍ. وجدْتُهُ مازال نيئا فأيقنتُ أن وحدتي لازالتْ وحيدةً ما تزداد دهاليزُها إلا تشعُّبـا واشباكاً سيَّمَا حينما أدركتُ، لأول مرَّةٍ، من خلال التهاب جَسَدِي أنني لستُ الآخر سوى هيكلٍ عظميٍّ أو جثَّة متفسخـةٍ عفنة ملقاةٍ فـوق مِقْلاَةٍ، والمقلاتين مجرد توابلَ داخل قدر محكم الإغلاق ينتفخُ فيكَلِّفُنَا، حال تطلعنا لإزاحة غطائه، صنعَ مركباتٍ فضائية وصواريخَ تتحسَّسُ ما بجوانبه، ويتقلص فيصير حيّاً صغيرا يسْتَنْسِخُ بالتواءات أزقته الضيقة تشعباتِ وحدتي واشتباكاتِها. وحيداً وحيداً أتحرَّكُ داخل هذه الوحدة، محاطا بغرفتها الزُّجاجية الدافئةِ، واضعاً عيني في حالةِ تأهُّبٍ قصوى لالتهام كلِّ ما يعترضها. بَيْدَ أنني لا أجدُنِي باستمرار سوى شظيةٍ داخل تفسُّخَات العالم لحظة اصطدام الاحتواءات البَصَريَّةِ التي تعصرُنِي فأتحول إلى فيضٍ يُغْرِقُ هذا العالم أطفالا... «غريبٌ ذلك» كنت سأقـولُ، فاندفع مني في اللحظة ذاتها جيشٌ من الأطفال وسطَ ضوضاء من البُكَاء والحبْوِ والرَّضَاعَةِ ينبهُني إلى رتابة الحدثِ وتكراره اليوميِّ في المقهَى وساحة المدرسةِ والحافلاتِ والسُّوق...

من عُمق ذهولي النَّشْوَانِ أخذت أتأمَّلُ باقات الشُّعُور المقصوصة علَى الطَّرِيقة الغربية، واللُّحُوم الرخوة الطرية المدجَّجَة بالحِلْيِ والحلَلِ، وحمرة الشفاه القانية كبقع الدم وسطَ الوُجوه الغارقة في مَرَاهِمِ التجميل، وفسيفساء الألبسةِ والألوانِ... إلاَّ أنه من وسط الصدْمَاتِ الكهربائيَّةِ، ومنْ وراء السَّرَاوِيلِ، والأقمصةِ، والتَّنُّورَات، والدفاترِ، والحقائب، والعُطور، وحاملاتِ النُّهُود... من وراء ذلك كله كانَ الجلباب الأزرقُ ينساب نحو الخارج معلنا أنَّ ذلك لا يعدُو مجرد نسخةٍ مزَوَّرَةٍ للجمَاجِم المهشمة، والجثَتِ المتعفنة، والسِّوَاك، والكُحْلِ، والندِّ، والريحان... وبقدر ما كـان الجلبابُ يتراءى، والعطورُ تعبقُ كان المَوت يُغازلني ناصبا أمامي أضعاف مَا نُصِبَ أمامي من الشِّبَاكِ في القاعة والسَّاحَة ومحطة الأوتوبيس ولحظـة اندفاعِ جيش الأطفالِ منِّـي...

 

 

 

نصوص سردية

حديث الجثـة

المحتــوى

ساعة الاحتضـار

عـودة ميــت

هذيــان ميـت

صوت الموتــى

احتواءات وتنكرات

حـديث الجثـة

نـداء المـوت

خارج المدار البشـري

عَتَبـَـةُ الْمَحْــوِ

لغــة الأعضـــاء

فتنة الآلهة أو الموت واقعيا

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.