قـــال: اِدَّخـرْ ما نشتـري لكَ به كفنـا وقبـرا.
قلــتُ: أنـا الآن مُكفَّـنٌ وقبري محكَم المواراة علي...
لو ملكتُ لأنفقت جثتي وعقلي كُلا، خلال هذه البقية المتبقاة من
حياتي، حتى إذا حانَ الموتُ لم يجد مني سِوى هيأةِ إنسـان وزنُه
بضع غـراماتٍ أو أقـل، طولُه بضع سنتيمتـرات أو أقلُّ، يُكابِد
الوجودَ ولا يعْقِلُـه...
لو ملكتُ لبذَّرتُ وأسرفت في التبذير حتى إذا جاءت المنية مضيتُ
وبنفسي حسرة على ما سيكونُ قـد فاتنـي إنفاقُه مـن عقلي، وجيبي،
ولحمي، وعظمِي، ودمـي...
لو ملكتُ لخلعتُ عني هذه الجثة كما يخلَعُ المرء لباسَه وانصرفتُ
صامتا عاريا وحيدا كما ينصرفُ الكبش إلـى مجزرتـه...
*
*
*
قــــالَ: قـد أردتُ إسعـادَك بهديـة، فأيُّ الأشيـاء أحبُّ إلى
نفسـك؟
قلـــتُ: لا يخفى عليكَ أنني الآن كهْـلٌ. وإن شئت إسعادَ عجـوز
فـلا تهبهُ شيئا يُمْلَكُ، هبْهُ شيئا يُنْفَقُ، لأنك إن
تُهْدِهِ شيئا يملكُ فستكُون كمن عمد إلى قطعة لحمٍ أو سمكٍ أوثق
ربْطها بخيط ثم دلاَّها إلى قطٍّ جائع حتَّى سَالَ لعابه. لكنْ
كلما وثب الهـرُّ على قطعة اللحم أوالسَّمَك رفعهَا ممسكُهَا
فبعُدَتْ عن الحيوان الشقي وقعدَ يتأملها ببصرٍ منكسرٍ
حَسِيـرٍ...
قــــــالَ: إذن فسأتحفُـك بزيـارة متحـفٍ.
قلــــتُ: أما وَسِعَكَ هذا المتحف الذِي نحنُ بدَاخِلِه
محفُوظِين
)أومعروضين(؟
ما نحن، لو انكشفتْ عنا حُجُب الأزمنة السَّحِيقة القادمَة، في
أعينِ حَجَافـل الأقوام التي من داخلنا هي آتية؟ ما الذين
سبقُونا، الذين منهمْ أتينا، لو أزاحَ النسيان حُجُبَهُ، وأسدلَ
الزمان ثنياته، ونهضتْ كلُّ رملةٍ وصخرةٍ، وذرَّةٍ وجمجمةٍ
قائلةً: «هذَا مَكَانِي»؟ مانحن لَوْ انفتق رَتْقُ هذا المدَار
البَشَرِي، الذي نحن بداخلِه مَسْجُونِين، وانكشفتْ عوالـمُ
وكائناتٌ أخرَى؟...
متاحـفُ تـزحف وراء متاحف.. متاحف تقبع داخلَ متاحف.. متاحف
تُتَاخِمُ متاحف.. إنِّي لأتمزَّقُ شفقةً وحسْرَةً علَى الذي راح
يُفَتِّشُ قمامات الأزمنة وتفاهاتِ ما يُدْعَى تاريخا حتى إذا
عثر على فضلاتٍ حفِظها وقالَ: «إنمَا هذِهِ أشيَاء ثمينةٌ لا
يليـقُ بهـا إلاَّ متحـفٌ».
*
*
*
قـــالَ: «إن المرءَ عندما يسمَعُ كلامَك هذا ليُخَيَّل إليه
أنَّك قدْ هبطتَ لتَوِّكَ من كوكبٍ آخـر!»
قلــتُ: «اعلم أيها الـرفيق أنَّك لستَ سِوَى كبشٍ يعلف ليلة
مجزرةٍ آتية لاريْبَ فيها، لـنْ تُؤخَّر عن الموت إلا مقدارَ ما
يقضيه الجزَّار في نحـرِ كبـشٍ أول وسلخـه لينتقلَ بعد ذلكَ
مباشرةً إلى كبش ثان. فاعدُدْ بالسَّنَوَاتِ ما تبقَّى لك! أنا
الآن واقفٌ قبالة موتي كلما أبصرتُ جثتي استحوذ عليَّ ما يستحوذ
عليكَ عندما تصرع أضحيتك وتنصرف تتأملها بنظرة إشباعٍ غامضةٍ
متحسِّرَة متأسفة. متى نحرْتَ خرُوفاَ أو كبْشاَ وعلقتَ جزْرَتَه
اذكرْنِي، فما ذلك الكبشُ إلا أنا. أنا الآن ميتٌ، لكننـي
أتكلَّم. أمَّا أنت فصامتٌ، ولسْتَ ميتا ولا أنتَ بحي، لأنك
سَجِينُ وهْـمِ الخلود. أنا الآن أعرفُ أن حياتي مرْسُومةٌ في
فاتورة قُيِّد عليها سنةُ موتي، وشهره، ويومه، كلٌّ في أجلٍ
دقيـق. هل تعرِفُ أنتَ متى ستمُوت وأينَ وكيفَ؟ أنتَ تؤجِّلُ
موتك كُلَّ يومٍ، والمنية لنْ تمهلك إلى الأجلِ الَّذِي ترغبُ
فيه أو تتوهمه. فقـد يداهِمك الرَّدَى غـذا في الصباح الباكرِ من
حيث لـن تحتسِب. أنا الآن مُوشِكٌ على الانمحاء، أبيتُ غير
طامـعٍ في الإصباح، وأُصْبـِحُ غير طامع في الإمْسَاء، ما كلُّ
ساعة جديدة عندي في الحياة سوى هبةٍ أخْرَى يهبني إياها فائـضُ
حياتي. أنا كلامُ صمتك ونُورُ عمَاك. أنا صرخةُ الموتِ الكامِنَة
فيك كلما حنَّتْ إلى الكلام لجمتَها وعقَلتَها وأقعَدْتَهَا. أنا
صوتُ المـوتـى.
*
*
*
قـــالَ: «مـا الحيـاة؟»
قلــتُ: «عورةٌ إن لم تستدبـرها استدبَرَتْكَ. قطعةُ برازٍ
تُحِيط بالمرء حيثمـا يضع قدميـه يقـع فيها. اصطبلٌ واسـعٌ ما
الناس بداخلـه إلا أكباشٌ تعلف ليلة مجزرة آتيـة لا ريب فيها.
َوهْمٌ يركب رأس المرء فيخال نفسَه مركزاً والكونَ محيطاً وينسى
أنَّ الكونَ هـو المركز فيما لا يعدو هـو محض محيطٍ وهميٍّ
عابـر.
الحياة حلمٌ لا يصحو المرء منه أبدا؛ الحيُّ يحلم داخل صحوه،
والميت صاحٍ وسَط حلمـه. الحيـاة أمانـةٌ مُودعـةٌ في جثة كل
امرئ؛ يضةٌ يحملها المرء بمنتهـى الحرْصِ في كفـه، بيد أنـه إن
أحكَـمَ الشدَّ عليها هَوتْ وسقطت ثم انكسَرَتْ مـن حيث لم يحتسب
وفي الوقت الذي لم يتوقعـه، وإن أمسَكَها برفق هوَتْ وسقطتْ ثم
انكسرتْ من حيث لم يحتسب وفي الوقت الذي لم يتوقعه. الحياةُ
مزبلةٌ كبرى ما البشرُ فيها سـوى نفاياتٍ ذات روائح عفنة نتنة
تزكم الأنف ويقشعر لها الجلد. هي إفـلاس شيءٍ ما أو موتٌ في
حالـة إفـلاس.
الحيـاة حياتان: حيـاة فوقنا وحيـاة تحتنـا. أما التي فوقنا فهـو
هذا القِدْرُ الذي ما نحن فيه إلا حبات توابل لا نعلم متى
سَيُطبخُ ولا ما يُطْبَخُ فيه ولا من يطبخه. وأما التي تحتنا فهي
هذه الكائنات والأشياء التي نصنَعُ بها ما نشاءُ وهي لا تـدري
مـا نفعلُـهُ بهـا ولا لمـاذا نقـومُ بذلك ولا مـنْ نحـن...»
قــــالَ: كيــف ذلك؟
قلـــتُ: تأملتُ المرءَ فوجدتُه لا يخلو من أن يقيمَ في قبرين.
قبر يشيده هو لنفسه، وقبـرٌ يشيده الآخرون له. فأمَّا الذي
يُشيِّدُه لنفسه بنفسه فيُسَمَّى منزلا أو بيتا، وأمـا الذي
يُبْنَى له فيسمَّى قبرا. ومتى مرَرْتُ بحيٍّ من أحياء الأحياء
عجبت لسُمُوِّ الذوق الذي يَبْنِي به كل شخص قبـره. أمـا أنا
فأتمنى أن لا يكون لي قبرٌ أصـلا...
*
*
*
قـــالَ: «ما المــوت؟»
قلــتُ: «هو أن يكُفَّ المرْءُ عن أن يكون مِلْكاً لنفسه. أن
يتحوَّلَ إلى كلمة تتقاذفها وتتلاقفها الألسُن والآذان. عبورٌ
إلى الجهة الأخرى حيثُ لافكر، ولا كلام، ولا صمت، ولا سمع، ولا
بصر، ولا ألم، ولا فرحة؛ انتقالٌ إلى حالةٍ أخرى يصير فيها
الوجودُ ذكرى آتيةٌ من المستقبل والحاضرُ أفقٌ يلوح من ماضٍ
سحيقٍ. الموت صحوٌ لا يحلم فيه المـرء أبدا؛ الميت صاح داخل
حلمه، والحيُّ يحلم داخل صحوه. المـوت إفلاس شي ما أو حياة في
حالـة إفـلاس.
المـوتُ موتان: موتٌ لكَ وموتٌ عليكَ. أما الذي لك فهو أقربُ
إليك من حبلِ وريدك، يُلازمك كجلدك وعظمـك. وأمَّا الذي عليك
فأنتَ حبلُ وريـدِه، ما أنتَ إلا نعـلاه أو ظلـه.
قـــال: «قد أشكَـلَ علي أمـرك فما عدتُ أدري أوَحَيٌّ أنت أم
ميت. أوَميِّتٌ أنت الآن أم حـي؟».
قلــتُ: «أنا الآن مولودٌ، وبقيةٌ، وعائدٌ. فقد مِتُّ أربع مرات
أو خمس على الأقل: مرَّة غرقتُ، فقيل انتُشِلْتُ. ومرة ارتميتُ
من شرفة قنطرة وِسْلان الشاهقة العلو، فقيل نجوتُ. ومرة جرعتُ
حصى ورَمْلاً وأكياس عقاقير قاتلة، فقيل أنقِذتُ. ومرَّة ألقيتُ
بجثتي تحت عجلات القطار، فقيل أفلَتُّ... والآن وقد ابتلعني
المـاء، وحولتي عجلات القِطَـار إلى أشلاء مبعثرة... من أنا؟
أأنا ميتٌ عـاد إلى الحياة أم مولودٌ جديـدٌ خرج لتوِّه مـن
رحِمِ أمـه؟ أأنا بقيَّةٌ من حياتي التي قضتْ في البحر أو داخل
ألسنة النيران أم جثةٌ غسِّلتْ وكُفِّنَتْ ودُفِنَتْ وتحلَّلَتْ
فصارت عظاما وترابا؟...»، هذا ما لا أتوقف لحظـةً واحدة عـن
طرحه. وكلما أعياني الجوابُ قلـتُ: «أنـا ذلك كلّهُ: مولودٌ،
وبقيـةٌ، وعائـدٌ».
*
*
*
قـــال: «هـل أنـت متحسِّرٌ علـى شيء؟»
قلــت: «بنفسي حسرتان: حسرةٌ على هذا الحاسُوب البديع: رأسي الذي
سيدمر بعدما جمع ما لا يُعَدُّ ولا يحصى من المشاهد والأشخاص
والأفكار التي أنفقتُ في جمعها سنوات طوال من الحبو،
والرَّضَاعَة، والجرْي، والقِرَاءة، والضحِك، واللعِـب،
والبكاء... وحسرةٌ على كوني بعد محوي لن أستطيعَ أن أتحسَّرَ على
الإطـلاق...
*
*
*
قـــالَ: «هــل لك وصية فنحققهـا بعـد موتـك؟»
قلــتُ: «تـركتُ فيكم خمـس وصايـا:
الأولى: لا تحققوا وصايا الموتى على الإطلاق، لأن ما يُدعى
وصاياهم يكـُفُّ عـن أن يكُون كذلك بمجـرد ما يموتـون. أما أنا
فلن أوصِي أحدا. حينما سأموتُ وأتحـوَّلُ إلـى جثةً هامدةً،
سأصيـر عَـدَما مجسَّدا. سأتشيؤ. فافعلـوا حينئذٍ ما سيبدوا لكُم
بذلك الشي الذي سأصيـرُ إياه بعـد موتـي.
الثانيـة: إذا اختلى رجـلٌ منكم بامرأة أو اختلتْ به وقضى
كلاكُما حاجته من الآخر فلا تقولا منفردين: «اقتنصْتُ كذا لذة من
صاحبي/صاحبتي» أو «أنزلتُ كذا مـرَّة» أو «نلتُ كذا رعشة من
جسَدِ الآخـر»... بل قـولا مجتمعين: «أنزَلْنَا كذا مـرَّةً»، أو
«ضَاجَعْنَا كذا مرَّةً» أو «نلنا كذا رعشةً»، لأنَّ لا أحد
منكما في الحقيقة يكونُ اقتنصَ لذتـ«ـه» من جسد الآخر. كلُّ ما
تكونان قد فعلتماه، بعدَ الجماع،ِ هـو أنكما نِلْتُمَا رعشـةً أو
رعْشاتٍ من جسدٍ غَائبٍ، قد يكُون هو جسد اللـذة الأكبر، مـا لم
تكونا معا لا تعدوان مجرَّد أداةٍ في يد هذا الجسَدِ الذي يقتاتُ
بالاستلذاذ من جِسميكما، الذي «يُضَاجِعُ بِكُمَا». وعليه،
وبلُغة الحساب هذه المـرة، إذا تضاجع رجل وامرأة منكم وأنزلَ هو
مرَّاتٍ أربع واستجابت له هي في كل مرَّة بإنزالـةٍ، فما ينبغي
القيام به ليس هو أن يقول الرجلُ: «ضاجعتُهـا أربع مرات» وتقـول
المـرأة: «ضاجعتُه أربع مرات»، وإنما هو يقـول الإثنان معـا:
«لقد ضَاجَعْنَا ثماني مـرَّات»...
الثالثـةُ: إن رُمتم فحصَ تاريخ النَّوع البشري أو استحضار
المسالك التي قادتْهُ إلى ما أنتم عليه الآن فلا تبحثوا عن
مخطوطاتٍ ولا تستنطقوا مآثر ولا بنايات. استحضروا أضرحةَ
النِّسَاء. متى يرقد الرَّجُل منكم بجانب المرأة، ويلتحم جسده
بجسدها، ويلج بسِرِّهِ سِرَّهَا، وتضعُه نشوةُ الالتحام في حال
بين النوم واليقظة...، فَلْيفتحْ جيِّدا عيني النَّوْع بداخله.
آنذاك سيَرى جحافل كل منْ مضَوا منذ العصور السحيقة؛ سيسمَعُ
وقعَ الأقدام والحوافر، وقرع الطبول وأنَّات المزاميـر، ويشاهد
دخان البارود، ويستنشق طراوة أعشاب البدءِ التي نثر فيها الإنسان
«الأول» أولـى خطواته... متى يفعل المرء منكم ذلك يرَ أنه ما كان
ليكون لو لم يرقد منذ الأعصر السحيقة رجلٌ بجانب امرأةٍ، ويلتحم
جسده بجسدها، ويلج سِرُّهُ سِرَّهَا، وأنه هو الآخر، بفعله ما
يفعله الآن، لا يعدو مجرَّد ناقلٍ لأمانة النَّوع التي تلقاها من
أسلافه الذين تلقوها بدورهم ممن أضنانا البحث عن معرفته دون أن
نَصِل إليه... وعليه فمستودع تاريخ النَّوع هو سرُّ النساء؛
وبولوج السِّرِّ تتحقـق وتتجدَّد وقائع هذا التاريخ وأحداثه.
ومتى أردتم وضع حدٍّ لهذا التاريخ أو استئصال النـوع من البريـة
ابذروا كراهية الأطفال في نفوسكم، ثم اعزفوا عنِ الجمـاع.
الرابعـة: لا تتباهوا بمحبة الأطفال أو تتخذوا من الاكثرات
لمصيرهم ذريعةً للبقـاء في هذِه الحياة. منْ ضاقتْ بـه سبُل
العيش وأرادَ التخلص منها فليعجِّل بوضع حدٍّ لحياته، لأنه عندما
يرُومُ القيام بذلك ويتراجعُ قائلا: «لولاَ هؤلاء الأبناء لما
تردَّدْتُ لحظةً واحدةً في وضع حدٍّ لحياتي، لكنني أتخيلُ ما
سيُلحِقه بهِم موتي من غبنٍ وحزنٍ وغمٍّ، أتخيَّل ما سيُصِيبهم
منْ وحدَة وضياعٍ ويتْـمٍ...»، عندما يفعل ذلك، فإنه يكُون مخطئا
مرَّتين: مرَّة لكونه يعتقدُ أنه هو الذي يحبُّ أطفالَه، والحالُ
أن شيئا ما هو الذي يحبهم من خلاله، شيئا قـد يكون هوَ الحياة
نفسها أو النوع البشريِّ نفسه. ومرَّة أخرى
)يكون
مخطئا(
لأن وطأة اليُتْم والضيَاع والوحدة التي يتخيلها ستلحَقُ
بأطفاله، تلك الوطأةُ لاتقيمُ إلا في ذهنه
)متى
رأيتم أبناءً ثقُل عليهم فُقْدان الأب أو الأم إلى أن استحَالَ
عليهم استحمال الحياة بدونهما؟(.
فمهما بلغتْ درجة تعلقهم بهذا الأب، ومحبتهـم إياه، فإنـه ما
يكادُ يقضي أسابيع في القبرِ حتى يقطـع النسيـان حبلَ المحبة...
بكلمة واحدةٍ، من ضاقتْ به الحياة وأراد التخلص منها فليُعَجِّل
بوضع حدِّ لنفسِه دون أن يكثرت لمآل أي شيءٍ يخلِّفُهُ وراءَه.
فالحياة تتكفَّل بجميع الأشيـاء من بعـده!
الخامسـة: لا تحكموا على أظنائكم بالإعْـدام حتَّى لا تجعلوا من
الغبن العالق بكُم غبنين. إن تفعلوا تكونوا كالمرء يقرض الآخرَ
مبلغا ضخما فيُبَذِّرُه المقترض إلى أن يستحيلَ عليـه إرجاعَـه
فيقلبَ اللعبة وينتحرَ مخلفا وراءَه دائنه يفترس رئتيه غضبا
وحنقا. كأنِّي به يقولُ لغـريمه متحدِّيا: «والآنَ الحقْ بي إنِ
استطعْتَ!»، فليلْحَقْ به إن استطــاع...
إن تفعـلُوا تُغبنُوا، لأنكُم فيما تعتقدون أنكُم «تعاقِبون»
ظنينكم فإنَّكُم لا تفعلـون سوى إرسالِـه إلى وجهـةٍ غريبةٍ عن
كل عقاب: لن يُستسَاغ حكمُ الإعـدام إلا إذا توفَّرَ شرطان:
الأول أن يكون من ينفـذ فيه ذلك الحكمُ يحيا بعـد موتـِه فيحسُّ
بأنه قد حُرِم من الحياة باعتبارها «امتيازا»، بأنّه قد عُزل
وحده عن الأحياء. والثاني أن تكُونوا أنتم غير فانين علَى
الإطلاق، فتلتذوا بكونكُم بإعدامكم ظنينكم إنما أرسلتُموه إلى
مساحة لنْ تطأهَا أقدامكُم أبدا. وحيث أن الشرطين ينتفيان فأنـا
لا أرى لحكم الإعدام أي معنى».
*
*
*
قـــال: «إن كلَّ قتلٍ للمجرم لَيَحْمِلُ في طَيَّتِـهِ
عِبْرَتَيْـنِ: أولى يأخذها الأحياء أو المجرمون المحتملون:
فكلُّ شيءٍ يتم كما لو كان القاضي بإصداره حكم الموت في حق شخص
ما إنما يحذِّر الآخرين قائـلا: «حَذَار أن تفعلوا كذا. لئن
فعلتم لأعجلَنَّ بموتكم فأحْرِمَنَّكُمْ مما كنتم ستستمتعـون
بـه، ببقائكم على قيد الحياة، لو لم ترتكبوا ما اقتضى قتلَكم».
الثانيةُ يأخذها الشَّخصُ نفسه الذي سيُعدم، لكنه يأخذها فقط
خِلال الفترة الزمنية الفاصلة بين النطق بحُكْم الإعدام وبيـن
تنفيذ هَذا الأمر. فخِلال هذه الفترة يحيا الظنين موتَه؛ يتحسَّر
دون أن تنفعه حسـرَة. يمـرُّ كلُّ شيءٍ عنده كأنَّه يتلقى في
كلِّ لحظة قولة تأتيه من صوتِ القانونِ مرددة: «هـا أنتَ الآن
حيٌّ. لكن اعلم أنك في يَوم كَذا، ساعة كذا ستحرَمُ مما أنت إياه
الآن. ستُقتل. ستُعدم. ستُمحى...».
قلــت: بهذا المعنى، فإعـدامُ الفرد يتم خلال حياتـه وليس بموته.
أما حينما يُقتلُ فعـلا فإن فعلَ القتـل نفسِه لا يصبح
إعدَاما... وحيث إننا جميعا سنموت فوُجـودنا مماثل تماما لتلك
المرحلة
)إن
لم تكن هي عينها(
التي يجتازها من سيُعدم، من وقتِ النطق بالحكْم إلى لحظة تنفيذه.
إننا جميعا أحياءٌ وأمواتٌ في آن واحد».
*
*
*
قــال: «فمنْ يميتنا؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمكن تشبيهه بقـاضٍ؟ ثمَّ
عندما يميتنـا هلْ يشعـرُ بالإحساس نفسِه الذي يشعُـر به القاضي
وهو يتلفظ بحكم الإعدام؟ هل يقتلنـا لتقديم عِبرة ما لكائناتٍ
أخرى
)كما
ذَكَرْتَ أنتَ قبْل قليلٍ بشأن أولى عِبْرتي الإعدام(؟
من هي تلك الكائنَات؟ أين توجدُ؟ أيُّ ذنب ارتكبناه حتى يقتلنا؟
لماذا تمَّ تفضيلها علينَـا؟...»
قلــت: معذرة، ثم معذرة. إنِّـي محاصَرٌ بمـداري البَشَرِيِّ.
مَسْجُونٌ داخلَ جُدْرَان عَقْلِـي. لَسْتُ أدري!.»
|