محمد سعيد الريحانـي

الفرجـة، الضباب والمشـروع

قصة قصيرة


"شيد قصورك ع المزارع

من كدنا وعرق إيدينا

والخمارات جنب المصانع

والسجن مطرح الجنينة".

كلمات : أحمد فؤاد نجم ألحان وغناء : الشيخ إمام

الضباب الصباحي يمسح معالم ساحة الفرجة وحلقياتها المسائية، يخرس صدى تصفيقات المتفرجين وما علق بالذاكرة من تعاليقهم المرحة، يطمس آثار ثقافة الأمس فلا يفلت من تضليله سوى صياح هذا الديك :

كوكو ريكو !

كوكو ريكو !

صياحه الرنان بين قصدير البراريك المتحلقة حول الساحة يستثير ردودا متفرقة من ديكة نائية.

الديكة تتنادى، تتواصل عبر لا نهائية هذا الضباب :

كوكو ريكو !

كوكو ريكو !

قطرات الندى ترتج لقوة الصياح وتنزلق بطيئة على القصدير، غاسلة الكلمات المشخبطة عليهـا :

رسوم لقلوب مغمدة بالسكاكين

عبارات منع التبول ورمي الأزبال أرقام مرتبة تناقصيا

الضباب.

صياح الديك يستحيل زعيقا وراء عبارة منع :

"ممنوع رمي الأز …"

تتوارى الحروف الأخيرة من المنع داخل براكة مع انفتاح باب وإطلالة عجوز تمسك، من الجناحين، بديك ضخم يحركها كاملة كلما انتفض بين يديها. تقف على العتبة. ترقب الخيالات الصباحية الصغيرة وهي نكنس ساحة الحي بربطات أعشاب يابسة وتنقل الأحجار وتجمع صفحات الجرائد التي يحملها المتفرجون معهم إلى الحلقيات المسائية ليجلسوا عليها

أغنية قديمة بصوت طفولي تصدح، عبر الضباب، في مكان ما جهة السقاية. صوت طفولي أنثوي يغني :

يا الجيلالي، ها هم ليك ها هم ليك

يا الجيلالي، احرش العيون، آه.

راكب على بغيلته

يتسارى في قبيلته

ما راضي بحكم النصارى ها هم ليك، هاهم ليك

يا الجيلالي، احرش العيون، آه.

الصدى ينساب هادئا، سلسا، بعيدا

سرب من الرجال يتقدمون داخل الضباب نحو وسط الساحة، يتحلقون حول أقصرهم : رجل بدين يخشخش المفاتيح الكثيرة بيد ويداعب باليد الأخرى بطنه المكورة. يرسم بسبابته مستطيلات في الهواء، يشرح بذراعيه القصيرتين، يخطط بمقدمة حذائه على الأرض

العجوز، لنفسها، بصوت مسموع :

- اشكون هادو ؟

انتفض الديك بقوة حتى كاد يلقيها أرضا.

تمالكت نفسها من السقوط. أسندت ظهرها على طقطقة القصدير وراءها. السند خلفها لا يعتد به.

عدلت وقفتها :

- ربما الحلايقية طالبوا بعمود الضوء على حساب الفراجةو السهير

صغيرات، بدورهن، توقفن عن الكنس، يراقبن، بحذر، العمال وهم يساعدون صاحب العربة في إفراغ حمولتها من الآجور والإسمنت والرمل

إحدى الصغيرات سألت العجوز :

-آش غادي يديروا هاذوا، امي عايشة ؟

- أشغال هادو، يا ابنتي، كتعرف بأخرها

-هاذ الفروج لـــهم ؟

زعيق باب مجاورة يقطع أسئلة الطفلة، لكنها تصيح منادية الشيخ الخارج بإبهامه في عين البندير:

- عمي الجيلالي، شوف!

يسحق الجيلالي عود ثقاب ويشم دخانه كعادته حين يريد التركيز أو تدقيق النظر في أمر ما.ينتعش، ثم يبارك للعجوز ديكها.يقترب أكثر. يتحسس الديك بيده. يزنه من رجليه :

- الذبيحة على عتبة الدار، مهمة ! …

الصغار والصغيرات يتحلقون حول الجيلالي، يجرونه من جلبابه، يلحون عليه بالغناء :

- فرجنا، عمي الجيلالي ! فرجنا ! …

- الصباح وقت العمل. الفراجة مع المسافرين في المحطة. غادى في مهمة : الدراهم، اوليداتي.الحبشي. النيكل.اللعاقةمازال البرنامج خاف عليكم ؟ الحلقة في العشية أولادي.باي.

يتخلص منهم. يتسلم السكين من يد العجوز. يمرر الشفرة على ظفره. يراقب أثرها ويطلب الديك.

تتحاشى العجوز رؤية الدم، تنشغل بصرف الصغار وزجر الكلاب والقطط

القطط، الآن، فوق الزنك، تراقب تعابير الدم التي يرشها الديك الـــمذبوح على الأرض، منتفضا أو راقصا على إيقاع الأغنية القادمة من السقاية :

يا الجيلالي، ها هم لي ها هم ليك

يا الجيلالي، احرش العيون، آه،

راكب على بغيلته

يتسارى في قبيلته

ما راضي بحكم النصارى

ها هم ليك، هاهم ليك

يا الجيلالي، احرش العيون، آه.

يبتعد الجيلالي من شررات الدم كلما اقترب منه الديك. ينظر باستغراب إلى ديك لا يشبه الديكة. ديك مذبوح يجري في كل اتجاه.

على رجليــــه. على جناحيه. على ظهره. ديك يقاوم الموت حتى آخر قطرة دم

في انتظار هدوء الديك، امسك الجيلالي بنديره وبدأ ينقره. العجوز تتابع بعينيها حركات الديك وهي تحرك رأسها لأزيز البندير :

ها البندير تكلم، اوليدي

هايلي، هايلي البندير تكلم، آهاه.

الليلة، الليلة

والليلة شايبة

ما نركدوا غير إذا ما

ضوى الحال، آه.

على الأرض، الديك لازال يقفز ويتمرغ في دمائه. يقف مقاوما التعب والموت. يتراخى قليلا قليلا. يثور من جديد. يطير. يسقط. ينقلب على ظهره. يثب واقفا على رجليه. يجري. يجري. يجري

تنتفض العجوز كأنما أدركت خطأ :

- آش هاد الذبيحة، الجيلالي ؟ الفروج مازال حي ! عاوده بالذبيحة ! غادي يموت حرام ! اجر ! حط البندير على الأرض

الأطفال يجرون وراء الديك. يفرون منه حين ينتفض. يقبلون عليه حين يستكين. يلتقطونه أخيرا. يتسابقون لملامسته. يحملونه. هادئا. ميتا. يقدمونه لصاحبته وقد عادت البسمة إلى محياها. يستثمر الجيلالي ابتسامتها:

- مرحبا بنا عندك للعشاء ….

- اليوم، قصعة كسكس لكل حلقة …

- وإذا أخلفت الوعد ؟ قصيدة، غادي ننظم عليك هاذ العشية…

- أنا في عارك ! القصيدة، لا

الضباب بدأ في التراجع. الساحة، الآن، تستعيد بعض معالمها.

العمال، بصمت ،،يشتغلون.

العجوز للجيلالي :

- غريب أمرهم !

- ما كيديوها ف احد …

- إيوا آش كيديروا ؟!

- اللي ظاهر، أنهم كيبنيوا شي حاجة ما كتهمناش …

- لو كان الأمر كيعنينا كون طالبونا بالفطور والمعونة …

- وكيبنيوا وسط الساحة !

- غير خسارة الحلاقي، وصافي ! …

العمال، الآن، يضعون آخر اللمسات على هذا المستطيل الإسمنتي. يتعاونون ليغرسوا فوقه لوحة حديدية. عاليا. فوق متناول الأيادي العابثة. يتأكدون أن اللوحة ثابتة. يسعفونها ببضع ضربات من خليط الإسمنت والرمل. ينزلون. يراقبون وضع اللوحة الحديدية فوق المستطيل. يبتعدون عنها. يقتربون منها. يقرؤونها. يمسحون بالإسفنجة شظايا الإسمنت عليهــــــا

اللوحة، الآن، عالية وواضحة.

جمع العمال أدواتهم وينصرفون.

تلكز العجوز الجيلالي :

- كل هذه القيامة على هذه الركيزة ؟!

- خاص نقراوها، بعدا.

يحاول طفل أن يقرأ لهما اللوحة :

- م . مش . رو . مشرو

تصرفه العجوز بلطف :

- باراكة باراكة

لكن الطفل يستمر في إثبات قدرته على القراءة :

- مشروع م . مر . مركب

تنهره :

- قلت لك : سر تلعب ! …

يشعل الجيلالي عود ثقاب. يرمش انتعاشا بدخانه : عادة أدمن عليها منذ خروجه متقاعدا من الجيش حيث قضى شبابه بين رائحة البارود وهياج التحرير.

يقترب من اللوحة ليقرأها :

- "مشروع مركب سياحي"

الذهول يكتسح ملامح الرجل.

يعيد القراءة ثانية وثالثة. يحاول فهمها قبل شرحها للعجوز التي تلح عليه لكزا من الخلف. لكن غناء الصغيرات يشوش عليه :

يا الجيلالي، ها هم ليك ها هم ليك

يا الجيلالي، احرش العيون، آه،

راكب على بغيلته

يتسارى في قبيلته

ما راضي بحكم النصارى

ها هم ليك، هاهم ليك

يا الجيلالي، احرش العيون، آه.

الضباب، الآن، قد انجلى. الرؤية واضحة والشمس في عز السماء.

وضع الرجل بنديره على الأرض. ظلل عينيه بكفه من الشمس، مادا بصره إلى حيث تلتقي الأرض بالسماء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بحثا عن بداية ونهاية المشروع.

1993

 

 

 

 
جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع منشورات الموقع

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.