سلمني رجل الأمن النسخة الجديدة مـن بطـاقتي الوطنية وظل يتابعني
بنظرة تـشف عن ريب من أمري ثم قـال وهو ينفـض أذنه بسبابته
:
- بالـك !هذه
النـسـخة الـثالثـة من بطـاقتك الوطنية، فلا تكن شماتة مرة أخرى. أتسمع؟
بـالــك
!
بـالــك
!
بـالــك
!
خـارج مـركـز الأمـن، جـاذبية إضـافية تلصقنـي بالأرض وتـجعـل
خطـواتـي أثـقل فأثـقل. استـمتـع
بثـقـلي...
رشاش نافـورة الساحة يذاعـبـني وأنـا أبـتعد نحو بـاب السـوق.
الزحـام داخــل السـوق لا يفتر فـي أي وقـت.
الـزبنـاء يتزاحـمون، يـتواجهـون، يتدافـعون بضيـق بالغ
. باعـة الخضر والقطانـي
والسرديـن، عـلى جـانـبي الـممر الوحيـد، يـنبهـون الـمتـدافعـين
ويـلعنون أمهاتهم وهـم يضـربونـهم على وجـوهـهـم بربـطـات البـقـدنـوس
حيــن تنـقلـب لـهم أكـياس القطـاني أو تتشتـت لـهـم صـنـاديـق
السـرديـن تـحـت رفـس الأقــدام الهـائجـة
:
بـالــك
!
بـالــك
!
بـالــك
!
دفعـة جـانبيـة أخرجـتنـي مـن شـرودي ورمتـني فـوق أكـيـاس
القـطـاني. انـقلب علي كشكـول
البضائـع الرخيصـة. أتـمرغ فـي
العـدس والـحمـص واللوبيـاء بحثـا عـن مـوطـئ قـدم بـيـن
الـمتـدفـقـيـن ...
أحـس بـالخـفة.
الزلة أفـقـدتـني كل وزني، كل ثقـلي…
كأنـني تـخلصت مـن شيء مـا، أو كـأنني فقدتـه.
أفتـش فـي جيـوب سـروالـي.
الـجيـوب الأمامية... الخلفية...أعيـد
التفتيـش مـرة ثـانـية... ثـالـثة...ركبتاي
ترتعشان... الحافظة ؟ ركبـتـاي
تـخونـانـي في كـل خطـوة ...
البطاقـة ؟...أطـالع الـوجـوه
حـوالـي : الـكـل يتـزاحــم و لا
أحـد يهتـم بـي .
السيـل الآدمي يـقـذفنـا خـارج السـوق، إلى الساحــة الأخـرى.
رشـاش هـذه النـافـورة يـرشـقنا جـميعا ببصاقـه.
ركبـتاي ترتـعشان. النـسيم
يغـير لي وقفتي بـاسـتـمـرار.
أنــا الآن بـلا وزن.
أخـف مـن الريشـة.
كـأن جــاذبـيـة الأرض استـغنـت عنـي، فـجـأة.
ربما أنـا الآن أثـير ضـحـك سـراقـي بـهـذا الذهــول.
ربـما هـم الآن يـرشفـون قـهوتهـم فـي إحـدى هـذه المقاهي،
ويـتـنذرون بـغبـائـي...
أحـد زمـلائـي دلـني عـلى رئيس الفرقـة المكلفـة بعمليات النـشــل
فــي الســوق : رجـل أنـيـق
يـرتـدي بـدلـة رمـاديـة وهـو يـرشـف قـهـوتـه وحـيــدا تـحـت
ظـلة عـلـى سـطيـحـة مـقهـى "الـمنظر
الجميل " قبالة باب السـوق.
سـألـني الـرئيـس ،حـين أكملـت قـصتـي
:
- وأيـن سـرقـت ؟
أجـبـت:
- فـي الســوق.
لكن الرئيس، على ما يبدو، حريص على معرفة الجزئيات والتفاصيل
:
- أيـن ؟ عنـد الدخـول ؟ الـخـروج ؟...
- عـنـد الـخـروج.
مـال الرئيـس عـلـى زمـيلـي وهـمس بصـوت مسموع
:
- زميلـك غـير مـحظــوظ.
الـخـروج لـيس عـلى حسابنـا.
ثـم التفـت إلـي ثـانيــة :
- مـاذا كــان فـي حـافظتـك ؟
- بـطـاقتـي الـوطنـيـة
.
صـمـت الـرئـيــس بـرهـة ثــم قـال بـأسف مفتـعـل
:
- أنـت ضـحيـة لــصـوص لـيسـوا أبـنـاء البـلـد وهــم
يـسـرقـون أي شـيء مـن أي كــان.
ومـنهـم من يـختص في سـرقـة الـوثـائـق وبيـعـها للمهـربين والـمجرمـين
والبغايا ...
رشـف الرئـيـس قـهوته ثـم أردف
:
-كـن حـذرا !
لـم أجبـه .
ما جدوى الـحذر بعـد الآن ؟ !
واصـل الرئيـس نصـائحه و عينـه لا تـبارح بـاب السـوق
:
- هـؤلاء الذيـن سرقـوا بطاقـتـك، سـيطـاردونـك
أكـثـر لـيسرقـوا الـمزيد مـن وثائـقـك :
جواز سفر، دفتر شيكات، تـوقيـع
...إن بـطـاقـتك الآن تبـاع في مـكـان مـا بالـمزاد.
وكـل مـن اشتـراهـا سيسـبـب لـك متـاعب كثـيرة
. لأنـه سيصبـح بـمقتضـى
القـانـون هـو أنـت بـالإسـم والـمهنـة والعـنـوان والتـواريـخ...
الـوثـائـق، يا ابـن بلدي، تصـنع الشـخـصيـة.
وكلـما كانـت الوثائـق كامـلة ومنسجمة، كانت الشـخصـية حقيـقيـة
وشـرعيـة.
ثـم التفـت إلـي قائــلا :
- هل تتذكر وجها من الوجوه التي ضايقتـك عنـد مـخرج
السـوق ؟
أسـتـرجع الأحـداث والـوجـوه على شاشـة ذاكــرتي:
الـزحـام، الـدفـع، لعـنــات البـاعـة، لـهـاث المتزاحمـين
داخــل عنـق قـمـيصـي، لامـبـالاة الـوجـوه حـوالـي...
الـرئيـس ينتـظـر جـوابي.
قـلــت :
- لا.
تــأفــف الـرئـيس مـستـاء واعـتـذر عن مساعـدتي
.
أنــا لا أعــرف سـبـب هـذه الـهيـبة الـتي تعتـريني كـلمـا درجـت
سـلـم مـركـز الأمـن. حـتـى
الـرايـات تـفـزعـنـي حـيـن يـنفـضـهـا الـريـح فـوق رأسـي...
وضـعـت وثـائـقـي عـلى مـكـتـب رجـل الأمــن
:
- هـذه لــوازم البطـاقـة الوطـنية، وهـذه شـهادة
الضيـاع ...
انـدهـش الـرجـل :
- ضـيـاع من ؟ ألـســت ذاك الـذي تـسلـم النـسـخـة
الثـالـثــة مـن بـطـاقـتـه الـوطـنيـة هـذا الصـباح ؟...
ظـل مـشـدوهــا يتـفـرسـني.
عـيناه في عيـني تبحث عـن الـخـدعـة الـتي أنـسـجـهـا لـه.
يـتـفـرسـني...
خـبـط أخـيرا عـلى مـكتبـه ثـم نـهض مـن مـقعده، مسـتـغـربـا
:
- انـتـظـر هـنـاك.
سـأصـعـد لأسـتـشـير فـي قضـيتك.
|