عبد الحميد جماهيري

إحذروا كافكا

 

كنت قد أنهيت قراءة كافكا. لم تستطع المسافة ولا أن يبددا سحابة التهيؤات التي انطبعت في ذهني ومع لم أصدق ما بدا لي صباح هذا اليوم في معمل الأسلحة الذي أشتغل فيه. أمن المعقول فعلا أن يسود كلا هذا الصمت في معمل للأسلحة؟ لاشك أنه وهم ناتج عن اختلال في حواسي كلها. والعمال، أعني زملائي، مستحيل أن يكونوا بهذا الشحوب الجنائزي الذي يكون عادة لحفاري القبور. غير معقول هذا الكسوف الجسدي، والخسوف الجلدي. فنحن محاربون أولا، وهذه السحنة تقول أننا أموات. أو على الأقل ناجون من كارثة حدثت منذ قليل. كيف يكون بطليموس الهادئ الوقور، صاحب النكتة والحب للأغاني الكلاسيكية وللتعويضات العائلية ذا بشرة خضراء كضفدعة. ولا يعقل البتة أن يكون له ذنب بهذا الطول. أي نعم، هنلك ضمور حيقي في ملكة البصر والإدراك عندي لكي يبدو لي هذا الرجل المعتز بنفسه جدا، على غرار كل الفيلة طبعا، ذو ذنب يهش به كلما رأى صاحب المعمل أو المنتدب العمومي المكلف بمراقبة المواصفات التقنية والجمالية للأسلحة التي نصنعها. وقد سبق له-فيما يحكى- وربما يكون هذا مجرد تصورات هيأتها لي ذاكرتي المتعبة هذا الصباح –أن ادخل الزنزانة لمدة 15 قرنا، أي نعم، والعهدة على إبراهيم السريفي، لأنه رفض أن يغير كلمة واحدة كان قد قالها ضمن كلام كثير كان يودي بأصحابه إلى الموت في تلك الفترة. وقد عرفنا من بعد أنه دخل ابن العشرين وخرج صبيا عمره ثلاث سنوات..كل هذا غرائبي، لهذا يصعب علي أن أصدق ما أرى أو ما يدور في ذهني.

لاشك أن كل هذا سراب بصري، هلام ناتج عن لوثة في الدماغ. أخ، تبأ لزوجتي الشريرة ولكافكا. لو لم توقظني هذه الشمطاء باكرا لما لجأت إلى قراءة المسخ والقلعة والمكافحة وكل هذه الهلوسات المكتوبة التي تسمم عيشي. طالما رجوت هذه الفيلة أن توقف سمفونياتها الصباحية لأن دماغي يكون هشا في بداية النهار، فبالأحرى إذا كانت الساعة تشير إلى الثالثة من اليوم الجديد.

يا إلهي! ما الذي يجمع بين زوجتي وكافكا وأنا! ما الذي جعل عاملا مثلي، شغله الشاغل هو الحديد والصلب والرصاص، أن يقرأ كافكا؟! كان علي أن أنتبه إلى أن زوجتي، التي أقتسم معها السرير والجسد الفيلي والشخير والكوابيس، من طينة هذا النحيف الماكر ذي العينين الذئبيتين. وهذا شيء لم أنتبه له إلا بعد وقعت الفأس في الرأس. فقد كانت تجمع القصص الأكثر رعبا والنعوت الأكثر قبحا حتى أنها ملأت ذاكرتي بكل أنواع الوحوش، مما جعلني أرى مكان عملي حديقة جورا سيكية لحيوانات تصنع الأسلحة.

صحيح أن الشخص الذي يشتغل معنا والمسمى بوجيم كابا له من الصفات الكلبية ما جعل كل العاملين لا ينادونه إلا بفرقعة الأصابع، طبعا حينما يكون بعيدا عن المنتدب العمومي المكلف بالمواصفات التقنية والجمالية لما نصنعه. لأن هذه الفرقعات تظل امتيازه هو وتجعله يحس بقيمته وبرجولته المشكوك فيها حسب ماروته صديقته التي سبق وأن انتخبت سيدة أولى للقبح النسوي. ومع ذلك فلم يحدث أن رأيت لـ بوجيم كابا أنفا أملس مبللا كما في هذا الصباح. لا بالمخاط، بل على الأرجح نتيجة تمرير لسانه على أنفه، ككل فصيلته المفترضة. قلت أن أنفه قلت أن أنفه عادة ما يكون منقطا بحبيبات عرق تبدو كبثور لامعة على جلده الأنثوي حد الزبدة. هذه الأنثوية التي جعلت مسعود الضاحك يطلق عليه في لحظة تنكيت اسم الأخت بوجيم وغدت شائعات تقول أنه والمنتدب العمومي المكلف ..الخ يقضيان الليل معا، ونفس هذا الخنث يذكر حتى من لم يكن متزوجا بامرأة فيلية الجثة. تأخذ الحبوب المنومة وتستيقظ مع ذلك قبيل الفجر، مهدارة جدا، توقظه في الساعة الثالثة ليقرأ كافكا فهو حتما سيتذكر فصيلة الكانيش المدللة. خصوصا عندما يراه وهو ويتمسح بساق السيد المكلف بالمواصفات..الخ حتى يكاد يصل ما نسميه استعارة بـ البطارية.

فهو، والعهدة على ماري لويز، المسيحية الوحيدة والجميلة جدا، التي تشتغل معنا، يسهر على أدق تفاصيل حياة المدعو الرضا ولد لاميرد الإسم الحركي للمنتدب العمومي المكلف بالمواصفات التقنية والجمالية والنحوية واللغوية وما شئت من نعوت، حتى أنه يتشمم الملابس الداخلية لعشيقه المنتدب المسماة ب: الأيقونة ذات الشعر الفرعوني والتي يتفكه العاملات باسمها فينعتوها بالمزهرية، لطول ما يتأملها المنتدب ويسهر على بريقها من جهة ولأن بوجيم كابا كان قد قدمها هدية كلبية لسيده المكلف.

إن الشم، تخمينا، كان يرمي إلى اكتشاف ما إذا كانت لـ الأيقونة ذات الشعر الفرعوني علاقات سريرية مع أحد ما، خصوصا العاملين في هذه الحديقة أو المعمل لست أدري. ربما هذه مبالغة. إذ كيف يمكن لبوجيم كابا معرفة الرائحة المنوية للعمال من غيرهم؟ يقول لحديدة، ذلك الولد الذي أطلقنا عليه هذا الوصف لاستقامته أولا ثم للونه الذي يشبه الحديد الذي يستورده المعمل ثانيا، وثالثا لأنه ينحدر من مدينة عمالية رجالها أقوياء، أنه، وهو المكلف بتصحيح الإمضاءات، دخل ذات صباح إلى مكتب المنتدب العمومي ليجد بوجيم يحبو على أربعة قوائم وهو يقلد الكلب في تشمم ملابس الأيقونة ذات الشعر الفرعوني التي كانت واقفة تبكي أمام المنتدب ولما باغتهم لحديدة هددت المزهرية بتقديم استقالتها إذا لم يعفها ولد لا ميرد من شتامه.."لقد غادرت المكان قبل أن أعرف النهاية "يقول لحديدة، الذي أحس منذ ذلك اليوم بأنه مهدد بالطرد، لهذا لم يعد يحكي لنا وأصبح لا يشاركنا الجلسة إلا بعد انتهاء العمل.

لكن حدث أن طرد أحد العمال الأكثر كفاءة. ولما ضربنا أسداسا في أخماس، خرجنا من حيرتنا بالتفسير الذي أعطاه لحديدة. لقد تيقنا أن يوجيم كابا قد تدرب جيدا، ربما بمساعدة أجنبية قدمتها سفارة إحدى الدول التي تصنع المنتدبين المكلفين بالمواصفات التقنية، على تتبع الروائح المنبعثة من كل قذف لذيذ حد أنه أدرك أن الأيقونة ذات الشعر الفرعوني قد قضت ليلتها فعلا مع ذلك العامل. وقتها آمنا بما رواه لحديدة وحمدنا الله أننا لم ننم مع المزهرية.

ورغم ما قدمته عن بوجيم، مما لا يدع أدنى شك في كلبيته المتوارثة كانيشا عن كانيش، فإن صورته صباح هذا اليوم المشؤوم الذي أيقظتني فيه زوجتي في الثالثة صباحا..فيها من الغرابة ما جعلني في مطاف المهووسين ذوي العيون الباطنية. لم أستطع بالفعل أن أجزم إن كان بوجيم كابا يرتدي قميصا من الكاشمير حقا أو هو وبر الكلاب المدللة! ثم هذه الرائحة التي تزكم أنفي، إنها بالفعل رائحة الكلاب. ثم هناك طريقته في النظر إلي، طريقته في لي عنقه، فمه الذي ينفتح في تثاؤب حيواني يظهر كل أسنانه، وطريقته في تمرير لسانه على فمه. رعب. كل هذا رعب سببته لي زوجتي الشريرة.

وضعت رأسي بين يدي. وبدأت أقرأ آية الكرسي وأذكر الصالحين والأولياء بما قدمه والدي من نذر لعلهم ينقذونني. ثم قررت بيني وبين نفسي أن أنسل من هذه المطحنة وأن أذهب إلى أي مكان آخر، حديقة حيوانات حقيقية مثلا لعلني أعافى من خيالي المجنح.

في تلك اللحظة التي فتحت فيها باب مكتبي (أن أقول مكتبي شيء لن يغفره المنتدب، لأن كل ما في المعمل ملكه الخاص) متوجها إلى المصعد، وقع مالم يكن في الحسبان: شلال من الصور الشيطانية يهدر أمامي، حرارتي زادت، أعضائي ترتجف، إحساس بالقيء يملأ فمي بالحموضة. عدت خفيفا إلى مكتبي، أغلقت الباب وطلبت من السكرتيرة أن تربط لي اتصالا هاتفيا مع المنزل لأسب زوجتي على الأقل. وكانت المفاجأة حين أجابني صوتها الرخيم: "ممنوع على كل العاملين بالمعمل أن يتصلوا هاتفيا بأي كان، وممنوع أن يتلقوا من أية مكالمة من الخارج. إذن لقد اكتملت الدائرة وها أنا الآن في المصيدة. قليل من الوضوح في ذهني المشوش دفعني إلى أن أسألها بصوت جد منخفض، كما لو أنني أخشى أن يسمعني أحد ما، "هل يمكن أن تقولي لي السبب؟" ولأنها صديقة لصديقتي ماري لويز، لم ترفض وطلبت مني أن أنزل إلى الطابق الأول حيث مكتبها.

وقفت مرتجفا. فتحت الباب كلص. أغمضت عيني وبدأت أتحسس طريقي إلى المصعد، وأنا أتوسل إلى الله في سري ألا أطأ ذنب بطليموس أو ذنب بوجيم أو اصطدم برأس المنتدب. أحسست بطمأنينة عندما سرت برودة المعدن في أصابعي. وصلت المصعد ولم أرتطم بأحد. أوف! فتحت عيني، فوجدتهم جميعا هناك: بطليموس الضفدعة، الولد الريشة بعرف الديك، وفد الدولة الأجنبية التي تصنع المندوبين العمومييين والشيكات والنبيذ الجيد. طمأنتني الهيآت البشرية للزوار. دخلت، انغلق الباب، وبدأنا ننتظر النزول. وحين مرت بعض الدقائق، بدأت الوساوس تنهشني. أخذت أجول ببصري خصوصا اتجاه الأجانب. لاحظت ابتسامة السيد جاك ذي النظارات الطبية. لم أجد تفسيرا يذكر، لكنني لم أتمالك نفسي من إطلاق ضحكة مجلجلة عندما تتبعت إشارة عينية. لقد كان ذنب بطليموس الضفدعة محشورا بين دفتي باب المصعد مما عطل بابه عن الحركة. طالبناه بأن يجمع قلوعه، فغمغم بلغته الضفدعية وضم ذنبه إلى صدره الأخضر. نزلنا، وحين انفتح المصعد كنت لا أزال أضحك. دخلت عند السكرتيرة وأنا أضحك. بدأت تضحك معي وقالت: هل تعرف سبب قرار الهاتف هاها هاها؟! لقد اعتقد المندوب العمومي هاهاها أن مؤامرة ما تحاك ضده..ربما من طرف زعيم إحدى الدول الاشتراكية هاهاها! وأعلن كل من هم خارج المعمل عملاء للـ كا. جي. بي واستراح. "ضحكنا، ثم قلت لها: "اطلبي الإسعاف"، فسألتني: "لمن؟" قلت لها: "لهذه البناية!" ضحكنا من جديد: "اطلبي الإسعاف"، فسألتني: "لمن؟" قلت لها: "لهذه البناية!" ضحكنا من جديد.

عدت إلى المنزل لأقرأ "ميلان كونديرا"، لأن لعبة التوهيم بدأت تعريني. فربما سأعرف كيف تغرس البيروقراطية عن طريق عالم كليلة ودمنة.

 

 

موارد نصيــة

مجلة إسـراف 2000

العدد الأول

المحتــوى

إسراف 2000، لماذا؟

ضد كل هذا الشعر المغربي، دفاعا عنه

جورج باطاي: الميت / ترجمة: محمد أسليم

جورج باطاي: قصائد إيروسية

جورج باطاي: مدام إدواردة / ترجمة: جلال الحكماوي

سيرة كرونولوجية

سعيد الطالبي: لحــم

عبد الإله الصالحي: قنص يحلم بافتضاض آخر

أمينـة سحـاج: تنورة تنادم التخوم

مشاجــب (مشاجب هذا العدد تهدي نفسها إلى روح الصديق الراحل الشاعر أحمد بركات)

جلال الحكماوي: أن تنامي قنبلة في فمي

محمود عبد الغني: وصلت قبل الخطأ. قبله بقليل

عبد الإله الصالحي: دراسة اللعـاب

عبد الحميد بنداود: سأضع شمسي رهن إشارة الأغبياء

محمد أسليم: طوفان الفكر (من مذكرات شيزوفريني)

عبد الحميد اجماهري: احذروا كافكـا

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.