أمينة سحــاج

تنورة تنادم التخـوم

 

 

حالما يتهيأ المرء للكتابة يلوح أمامه أفقان متعارضان: الأول في صلح مع الوجود والكيفية التي أتته بها الإنسان: يقبلهما. كما أنه مصالح للكم ويفضي عموما إلى الكتابة القصصية والروائية حيث يفتح مسالك الكتابة انتظام الأفعال والحركات وفق قواعد لعبة تشبه الشطرنج أو الكون ذاته، إذ يعتلي الكاتب عرشا ويتخذ من فضاء العمل وشخوصه مجالا لفعل إرادته، فيقتل، ويعذب، ويفرح، ويرحل من شاء من تلك الكائنات التي يخلقها بالقلم..كما يفضي أيضا إلى كتابة هذا النوع من الدراسات والأبحاث التي تحكمها الرغبة في فهم الأشياء والسلوكات وتبريرها مع الحرص على إيصال ما تم فهمه إلى الآخرين. وهو يقفز عموما فوق التيمات الكبرى، كالموت، وأصل الحياة، ومعنى الوجود، وجدوى العيش داخل المجتمع....

أما الأفق الثاني فهو عمودي، في طلاق مع الوجود والنمط الذي اختار الإنسان الحياة ضمنه: يرفضهما. وهو يفضي عموما إلى الكتابة الشعرية، حيث تكون الكلمة يمثابة معول يحفر ليس في الوجود فحسب، بل في اللغة أيضا، إذ يتم الأمر هنا كما لو كان ما من كلمة يستحضرها ذهن الكاتب إلا ويدل من انتظار الكلمات الموالية قصد الانتظام معها في نسيج ما (يدعى النص)، بدلا من ذلك فهي تسقط في قعر عميق لتضع الوجود واللغة معا في حالة أزمة: من أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ هل أشياء العالم هي ما أقوله أم أنها على خلاف ذلك، وأنني بالتالي لا أعدو مجرد تائه (ة) وسط مونولوج رهيب؟..

حالما يشرق هذا الضرب من الأسئلة في الكاتب (ة) يتحول نمط الوجود والكتابة الحاليين مجرد ممكنين بين إمكانات أخرى عديدة جدا أقصاها الإنسان (أم قصته) ليزج بنا في الشرط الذي نحن أسراه الآن...

وضمن هذا النوع الثاني تندرج الأعمال التي تزيج حجب المكبوت والمقدس بقطع النظر عن أشكالهما ومصادرهما وتلقي على القارئ بظلال من الصمت المطبق ساخرة نشوانة بحيث يتحول الوجود معها إلى صحراء قاحلة والجسد إلى ورطة حقيقية. فالتساؤل لا يلقي بشكوكه على قيم المجتمع فحسب، بل يجب أن لا تكون حكرا على اليد، إذ للقدم فيها نصيب، فأي سبيل لإشراك الرجل في الكتابة؟ والدماغ لم يخلق في الأصل للتفكير، والعين لم تخلق للنظر، فلماذا سجنهما ضمن الوظيفة المناطة بهما حاليا؟ (نيتشه)..

إن هذا الأفق يشكل بعدا ثانيا للإنسان، ولإبرازه يقترح باطاي مفهوم العين الصنوبرية، عين يجب أن تنبت في أعلى الجمجمة كي ينفتح بصر الإنسان على السماء الجاثمة فوقه بخواءها المرعب، ويلتفت إلى بعده العمودي المعطي جسديا من خلال وضع الانتصاب المتعارض مع البعد الأول (الأفقي) الذي يفرقه في الأرض، ويجعله يوظف كل أنشطته لتلبية الحاجات البيولوجية. العين الصنوبرية.

توضح الإنسان باعتباره كائنا معرفيا...

"تنفتح على السماء"؟ للسماء منفذ "آخر" هو الأنثى. فالفتاة عند باطاي مفتوحة بالطبيعة. وفي الايروسية تقود تجربة هذه الفتحة إلى الأقاصي. فانفتاح جسد الفتاة هو بمثابة علامة صدع أبدي فيما يكون: "ألوهية فتاة مفتوحة، وهي تفتح بأقصى ما تستطيع ما هو أشد حميمية. أفكر ما يسيل بداخلي أمام هذه الفتحة السائلة، المتدفقة المحترقة..الفتحة تفتح، إنها تفتح قعر السماء". (باطاي)

"المعرفة"؟لقد أدى تطوير الفرضية المزدوجة للرؤية السماوية والبعد البشري "العمودي" بباطاي إلى صياغة مفهوم علم المغاير، علم موضوعه كل ما هو آخر: علم للقذارة. ومن بين هذه الموضوعات" ضروب التهتك والانحراف والإسراف والأنا الأعلى، والبول، والخصاء، والولادة، والمني، والدم، ودم الحيض، والغائط، والجماع القرباني، وبتر المرء أعضاءه، والرقصات، والجذبة، والأظافر، والدموع، والعرق، واللسان، والعين، وأصابع القدمين، وقطع الجلد، والقيء، والختان، والسحر، والدعارة...

الخلاصة التي انتهى إليها من ذلك؟ هي بكل بساطة: لا خلاصة، لا معرفة، لا نسق. في الكتابة تقرفص المفاهيم على تناقضاتها: الرعب يجاور الشطح المنتشي، الدمع الضحك، اللعب الموت، والتواصل اللاتواصل. لكن هناك مكان تتجمع فيه كل الأطروحات والوساوس الباطاوية: إنه ما كان باطاي وأصدقاءه يسمونه بالرجل الطيب: آسيفال الذي رسمه أندريه ماصون على شكل رجل عار، مقطوع الرأس، وافق على رجلين صلبين ويداه مشرعتان أفقيا. بإحدى يديه مشعل وبالأخرى سكين. تتصدر بطينيه نجمتان، بطنه مفتوح بحيث تبدو مجموع أحشاءه، ومكان قضيبه توجد جمجمة ميت...

مدام إدواردة والميت وحكاية العين تنويعات على الأفق السابق نفسه: فالجسد وليمة تستهلك بإسراف، وحركات الشخوص وأفعالهم تنتظم في فرجة مؤلمة مضحكة تمتزج فيها الدموع بالقهقهات، الإست والأجساد العارية في أوضاع فاحشة ماجنة تستدعي ابتهال الناسك. وفي غمرة الاختلاط شعور عميق بالوحدة الممزقة. وبذلك تحقن الكتابة مزجا بين أفقها المذكورين أعلاه؟

ألم يجد النص بعد مكانا ثالثا يتعالى عن هذه الثنائية؟ قد يتطلب الأمر منك أن تغادري المدار البشري، أن تتحصني في هيأة كوكب، أو زهرة، أو ذرة، أو شجرة، لكن ما فائدة الكتابة آنذاك؟ بل هل سيبقى لما تفكرين فيه الآن معنى ما؟

 

 

موارد نصيــة

مجلة إسـراف 2000

العدد الأول

المحتــوى

إسراف 2000، لماذا؟

ضد كل هذا الشعر المغربي، دفاعا عنه

جورج باطاي: الميت / ترجمة: محمد أسليم

جورج باطاي: قصائد إيروسية

جورج باطاي: مدام إدواردة / ترجمة: جلال الحكماوي

سيرة كرونولوجية

سعيد الطالبي: لحــم

عبد الإله الصالحي: قنص يحلم بافتضاض آخر

أمينـة سحـاج: تنورة تنادم التخوم

مشاجــب (مشاجب هذا العدد تهدي نفسها إلى روح الصديق الراحل الشاعر أحمد بركات)

جلال الحكماوي: أن تنامي قنبلة في فمي

محمود عبد الغني: وصلت قبل الخطأ. قبله بقليل

عبد الإله الصالحي: دراسة اللعـاب

عبد الحميد بنداود: سأضع شمسي رهن إشارة الأغبياء

محمد أسليم: طوفان الفكر (من مذكرات شيزوفريني)

عبد الحميد اجماهري: احذروا كافكـا

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.