يتم التصنيف الاجتماعي للمرضى النفسانيين، في مختلف الثقافات، بين
هذين الطرفين: الاتسام
بالألوهية، وعدم القدرة على العمل[1].
يرفض ألفريد بادر إطلاقا نذر إعجاب كبير للشيزوفرينيين[2]،
غير أن أرنولف راينر ربما يرغب في «مَنحهم»،
وبشكل يومي، قيمة الفنان الاجتماعية و«التعبير» لهم عن «إعجابه»[3].
عموما، يتوقف الفنان عن ممارسة فنه حينما يقع تحت طائلة
الشيزوفرينيا. وفي حالات عديدة،
يولِّدُ الذهانُ تحولا في الأسلوب على نحو ما حصل، مثلا، للرسام
السويدي كار فريديريك هيل (1848-1911)
Car Fredrik Hill. ويمكن أن يضفي هذا التحول نوعا من السحر
على الأعمال الفنية وأن يثير لدى الفنان تنبيها جديدا إزاء الإبداع[4]. ونلاحظ عند هولدرلين أن أسلوبه قد تغير قبل أن تضمحل إنتاجيته.
وإذا أصيب بالشيزوفرينيا فرد لم يسبق له أبدا أن كان فنانا، فإنه
يحدث أن تظهر قدراته الإبداعية منذ بداية المرض أو خلاله. ويمكن ألا يكون هذا الابتكار وهذه القوة الإبداعية مرتبطين
سوى بمراحل ذهان قصيرة وألا يُلاحَظا إلا عن طريق الصدفة. غير أنهما، في بعض الأحيان، يكونان حاضرين لمدة طويلة في حالة
كمون ولا يتجليان لسبب وحيد هو أن المريض لا يملك فرصة للتعبير عنهما. وهناك أشخاص يطوِّرون تلقائيا، وللمرة الأولى في حياتهم، فنا
حينما يصيرون ذهانيين، فيعملون على ضبط تقنية خاصة بهم ويجدون أسلوبا
شخصيا. في المقابل، يمكن أيضا
إثارة إنتاجات إبداعية لدى المرضى النفسانيين. يمكن لمرضى لم يسبق لهم تلقي أي تكون ثقافي أن ينتجوا أعمالا
رائعة حقيقية عندما تفرَضُ عليهم بعض المهام، وهو شيء ربما ما كان
ليحدث لو لم يتم تحريض نشاط فني لدى هؤلاء المرضى.
طبعا، لا يجب الاعتقاد أنه باستطاعة ذهان لوحده أن يجعل من المرء
فنانا. بيد أن الذهان يستطيع أن
يهب القدرة على الإبداع. يمكن
القول بأنه تجلّ خاص لقدرة الابتكار. إلا أنه فيما يمكن تحديد هذه الوظائف الإبداعية على الصعيد
السيكولوجي، فإن الأمر على العكس تماما بالنسبة للفن. فالفن ظاهرة تاريخية واجتماعية. بتعبير آخر، لكي يشكل رجل مبدع
– ذهانيا كان أم لم يكن – عملا فنيا، يجب أن تتوفر مجموعة من الشروط التقنية – المادية، والعقلية تجاه
الثقافة. ويحدث اليوم أن تتوفر
للمريض النفساني مثل هذه الشروط. لقد تساءل ألفريد بادر:
إلى ماذا يجب إرجاع القيمة الفنية لشخص مثل لويس سوتر Louis Soutter [5]. فقد اعتبر هذا الأخير واحدا من الرسامين السويسريين الأكثر
تميزا، وكان مصابا بذهان شيزوفريني. وحسب بادر، لم يجد لويس سوتر شكلا فنيا للتعبير عن التجارب
التي سبق أن عاشها إلا بفضل موهبته. يتساءل بادر: «ماذا كان
سيكون مصيره لو لم يعاني من مرض عقلي؟»، «هل كان سيصير أستاذا جيدا
للرسم أم مجرد رسام متوسط شأنه شأن آخرين عديدين؟ أم تراه كان سيصبح
واحدا من هؤلاء الرسامين الكبار الذين يستطيعون أن يطالبوا بمكانة
لهم في تاريخ الفن؟»، فيجيب:
«من جانبنا، نسمح لنفسنا بالشك في ذلك، ولنا من الأسباب ما
يحملنا على الاعتقاد بأن سوتر لم يصر واحدا من أساتذة الفن الحديث
الأكثر إثارة للدهشة إلا بفضل الذهان. فقد قلبت شيزوفرينيته حواجز الاصطلاح والاستعمالات الأكاديمية
والمعطيات الخارجية. فهي التي
أتاحت أن يعبِّرَ، خارج أي اعتبار أو كبح، وأن يصوغ تلقائيا في
لوحاته مشاعر قلقه، وآلامه، ومعاناته، وحتى جحيمه». وبادر مقتنع بأن لويس سوتر هو الحالة الأكثر دلالة لفنان لم
يفقد قوته الخلاقة بعد تعرضه لمرض الشيزوفرينيا، بل وجد على الأصح في
مرضه هذا فرصة إنتاج عمل يلقي بقيمه الفنية في الظل كل ما سبق أن
أبدعه من قبل. ولعل سوتر
يُعتبَر الدليل الحي على أنه يمكن لسيرورة شيزوفرينية أن تنبه، في
حالات نادرة، إبداعا فنيا كبيرا.
بعد مثل هذا الإيضاح (الذي
لم يعد اليوم يرتكز إطلاقا على حالة خاصة)،
لم يعد لنا نهائيا الحق في الحكم على الاضطرابات الذهانية والتصرفات
الشيزوفرينية بأنها ليس لها سوى قيم سلبية.
لقد اكتشف ألفريد بادر مشكورا عددا آخر من الفنانين الذهانيين. في كتابه الأول Des Wahs
Wunderwelt
[6] انكب على ثلاثة
ممثلين شهيرين للفن السيكوباتي، هم ألويس Aloyse وجيل Jules وجان Jean. فهؤلاء جميعا لم يسبق لهم
أن زاولوا نشاطا فنيا قبل مرضهم. وآخر مؤلف أصدره بادر إلى الآن مخصص هو الآخر لعصامي سيشتهر
من الآن فصاعدا باعتباره فنانا، وهو فريدريك شرودر-صوننصطيرن Friedrich Shroder-Sonnenstern [7].
يدافع بادر عن رأيه بحزم: إن
صوننصطيرن مصابٌ فعلا بالشيزوفرينيا بالمعنى العيادي للمصطلح وفنه
منحدر من الذهان. هكذا، يمكن
لتجارب شيزوفرينية أن ترخص لميولات إبداعية عامة بالطفر، يمكنها
تفجيرها. وينتهز بادر ذلك
لمراجعة المفهوم السيكوباتي للمرضى: «إذا
وجب اعتبار فريدريك – وبشكل
نهائي – مريضا عقليا، فذلك يعود
في قسم منه، من جهة، إلى نظرية الطب العقلي التي تعتبر حجة في بعض
الأوساط، ويعود، من جهة أخرى، إلى معطيات سوسيولوجية، إلى الأخلاق
السائدة، كما إلى الوضع السياسي بمعناه الأوسع. وأود هنا أن أطرح جانبا مفهوم الـ «مرض»،
يكتب بادر، «كي أتمسك»،
بـ «تحول الشخصية الخاص
بالشيزوفرينيا». أن يكون المرء
آخرَ، فذلك ليس فيه أي شيء سلبي، إنه تصرف لا يجب أن نعتبره، عن سوء
نية، عرضا للمرض»[8].
تحتل أعمال الشيزوفرينيين المنزلة الأولى بين الأعمال الفنية التي
ينتجها المرضى النفسانيين لأن الدينامية العقلية عند الشيزوفريني
ترتبط ارتباطا وثيقا بدينامية الإبداع.
ومع ذلك، يمكن لذهانات أخرى أن تتيح أيضا الإبداعية. فالتخلفات الفكرية، فطرية كانت أو ممتلكة، لا تعرقل أبدا
النشاط الفني، وليس من النادر أن يُلحق اختلال ذهاني تحسينا بالقدرات
الفنية. بعيدا عن الذهانات، لا
تمد الاضطرابات النفسية الأكثر شيوعا التي يطلق عليها ام «عُصابات»،
نقول: لا تمد أصحابها بأي
استعداد فني. لذلك لا تدرَجُ
إنتاجات العصابيين ضمن أعمال الفن السيكوباتي. ومن وجهة نظر فنية، لا فرق بين أعمال العصابيين وأعمال
الأسوياء.
الشيزوفرينيا أساسا هي اضطرابٌ يصيبُ الأنا، هي نقل للحدود بين
الأنا والعالم الخارجي. فالذي
يعاني من الشيزوفرينيا ينسحب من جزء من الواقع، ومحل هذا العالم الذي
رفضه وفقده جزئيا، يُحِلُّ واقعا هذيانيا ومهلوسا. إن الإبداعات غريبة الشكل والأصيلة لتحدُثُ في كل الأيام[9]،
سواء داخل إطار اللغة، داخل الفكر أو الصورة، أو داخل الإيمائية أو
السلوك. وعند المرضى المزمنين،
يمكن أن تتحول أشكال جديدة منحدرة من الذهان الحاد إلى كليشيهات
وتصحيفات وهلوسات. كما يمكن أن
تخضع إنتاجات الشيزوفرينيين لنفس هذه المبادئ الشكلية التي أعادت
أيضا تنظيم أناها [نسبة للأنا]. إضافة إلى ذلك، فأنا الشيزوفريني تقع أشد قربا من الشكل الفني
بالمقارنة مع أنا الأشخاص الأسوياء في المتوسط. وها نحن أمام ظاهرة فريدة: فما يبحث عنه الفنان ذو الصحة الجيدة، عبثا في أغلب الأحيان،
يستطيع الذهان أن يأتي به إلى المريض.
[1]
[2]
[3]
[4]
[5]
[6]
[7]
[8]
[9]
|