جماليـــات إضـــاءات حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة مكتبات الموقـع كشك الموقـع موارد نصيـة


يوسف وهبـــون

الصبيحـات الزرقــاء

ترجمة: محمد أسليــم

نشر هذا النص، في الأصل، ضمن الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم 11 يونيو ، 1999، العدد: 581.


«الصبيحات شديدة الزرقة نذيرة ليلة مشؤومة». صبيحة باكرة، انكشفت ذكرى هذه الجملة لذهني بدقة مدهشة. أحيانا، تعيد الذاكرة إلينا نصوصا أو صورا هاربة في النسيان، ضائعة في منطقة ميتة من وعينا، ولكنها تعود كالشرح (أو التعليق) الموجود سلفا للحظة [= شرح لحظة] معاشة في الحاضر.

ولكن لماذا تذكرت في تلك الصبيحة بالضبط هذه الجملة التي يجسد فيها نور الشمس مُقدَّما/يصور/يمثل قلقا؟ ماذا كان سيحدث لي في ذلك اليوم بينما كنت، منذ أزيد من أسبوعين، لا أغادر غرفتي إلا قليلا؟ كنتُ أقضي المساء والليل بكاملهما في المطالعة. في المساء، كنتُ بالتأكيد سأواصل قراءة كتاب.شرعتُ فيها ليلة أمس، [عنوانه] آفاق الممكن، فلسفة للإبداع على شكل حوار بين الأموات والأحياء، أنبياء، فلاسفة أو شعراء الماضي أمثال إساي، هيغل، مارسيل دي شامب أو فرلين يحاذيان كتابا وفنانين معاصرين أمثال مارسلان بينيت أو دانييل بيرن. قبل ذلك بيومين، كنت قرأت هذه الدراسة الجميلة لجان ماري روار حول الانتحار والأدب، [تحت عنوان] إنهم اختاروا الليل. جعل روار من نفسه في هذا الكتاب شاعر هذه النفوس القلقة، العاشقة التي خيب أملها مثال يتوارى وجهه، رومان غاري، ستيفن زفيغ، همينغواي، دريو لاروشيل وآخرون. رجال جميلون وممسوسون خطيرون بنور لا ينقذ من القناعة/الزهد/الاعتدال/التحفظ/الرزانة/الرصانة والعدد إلا للتدمير/للإبادة في ظل الليل المطلق. قلم مشرق وعميق، أظهرتهم على نحو معجِب/رائع نحو أية نهاية يقود هذا البحث الممزَّق عن الذات، المرفوق بحمى الإبداع التي، بعيدا عن أن تساعد على تأثيث العدم، يورط بعيدا جدا في سيادة العزلة القاتلة.

«الصبيحات الشديدة الزرقة نذيرة ليلة مشؤومة». كنتُ لا زلتُ أحاول أن أعثر على مؤلف الذكرى العجيبة عندما انتهى إلي نداء أخي من غرفته. شخص ما طلبني بالهاتف. كان زكريا الزرزور، وهو صديق لي رسام كنتُ لم أره منذ أزيد من شهر. كان يشارك في معرض جماعي بمدينة مراكش.

- ولكن، ماذا أصابك لكي تنعزل في هذا الوقت الجميل؟ الرباط خلابة عندما يكون الجو جميلا، وبالخصوص عندما يكون المرء قد اختفى منها لوقت معين. سأنتظرك في المقهى، حوالي الساعة السادسة مساء.

منحني هذا الاتصال الهاتفي، إذن، فرصة الخروج من عزلتي وكتبي كي أذهب للتنفس في مكان آخر. قد يحدثني زكريا عن معرضه الأخير، عن الناس الذين قد يكون التقى بهم أو تعرف عليهم وعن الأعمال المعروضة. من شأن هذا أن يغير الأفكار شيئا ما. لكن في المرة الأخيرة التي رأيته فيها، شربنا طيلة الليلة. كان زكريا يحلم بالذهاب إلى فرنسا للعيش هناك؛ وعندما كان يشرب لم يكن له موضوع آخر للحديث غير نساء باريس وحاناتها، [مع أنه] لم يزرها بعد لا هو ولا أنا. كنتُ أفضل ألا أشرب في المساء إذا فكر زكريا في ذلك [=الشرب]. أولا، لأنني لم أكن أستطيع أن أطلب من أمي أكثر من مبلغ تسديد فنجان قهوة؛ ثم، منذ شهور عديدة، لم أعد أحتمل أبدا الكحول. ففي غياب الشرب باعتدال، كنت ما من مرة أشرب فيها إلا وأستيقظ في الصباح الموالي والقسم الأيسر من جسدي مسمَّر ب cloué d’une vrillante ألم والدماغ تجتاحه أفكار سوداء. الكحول يشحذ اليأس.

في الطريق إلى المقهى، كان لدي متسع من الوقت كي أتوقف في المعهد الفرنسي وأتصف بسرعة عددا من [مجلة] الماغازين ليتيرير. صعدتُ. تهيأت لفتح الـ casier المخصص للماغازين عندما أوقفتني فتاة. تعرفتُ على الوجه الجاد الذي طالما لاحظته خلال المحاضرات يف المعهد العالي للفن المسرحي.

- إن كنت تبحث عن العدد الأخير، فهو عندي. يمكنك أخذه.

خمنت من ابتسامتها أنها عرفتني أيضا. شكرتها ثم أخذت الماغازين. على الغلاف، 1 portrait de ستيفان زفيغ بالتوقيع المعتاد لريمون موريتي.

قالت:

- في ما يبدو، أنت تهتم بالأدب.

طويت الماغازين بدوري. انطلقت المحادثة. تحدثت عن بحثي الجامعي، عما كنت أود كتابته، عن صباغتي التي كنتُ أريد استئنافها. كانت بشرى تشتغل بالمسرح وتهيئ مع أصدقائها [مسرحية أعراس الدم لغارسيا لوركا. احتد النقاش. وجدتني ثرثارا. كنتُ قد استرجعت تلك الغربة في الكلام التي كثفها الوحدة والعزلة وقمعاها بداخلي طوال أسابيع عديدة. كنتُ سأتمنى البقاء لو لم يكن زكرياء قد سبق إلى انتظاري. اعتذرتُ.

- لو زرتني يوم غد... فأنا أقيم مع صديقة لي في مكان قريب جدا من هنا، في العمارة المجاورة، الطابق الثاني. حاول المرور حوالي الساعة السادسة مساء.

أجبتُ: نعم، ساحاول.

لم يكن باستطاعتي أن أعدج بالمرور، بما أنني كنتُ موقنا أنني لن اقوم بذلك. لكن، أخيرا، لماذا لا؟ [فقد] فصلني الاعتزال عن العالم وعن حرارة اللقاءات الودية. تقلص اتصالي بالآخرين، ومشاركتي في حياة خارج نفسي. مع العزلة، وجدت نفسي في حياة أخرى غير حياتي. فعندما تتعطل، لا يتردد الذين عتبرتهم دائما أصدقاء حقيقيين، والناس الذين تتعرف عليهم حديثا، مع الزمن/ ينتهون إلى الملل منك. في نظرهم، أنت تمثل الياس، أنت تحيِّن هذه الآفة الوطنية التي تتحدث عنها الصحف. دكتور معطل، أي إحباط بالنسبة للطالب الذكي والطموح! أي عزاء للأمي المعطل! عندما تكون معطلا، حتَّى بعد دراسات عليا، فأي شيء يميزك عن أي عاطل آخر سوى ألم كونك حلمت كثيرا من قبل؟

لكن، ألم يكن اعتزالي، رغم كل شيء، اعتزالا إرادياظ لم يكن عليَّ أن أرى الحياة بعكس ذلك، [لم يكن علي] بذل مجهود للتمسك، مع ذلك، لوقت الذي كان يمضي. يوم غد، سأهب لزيارة بشرى. فهذه الفتاة بدت لي مفتونة / متحمسة لما كانت تفعل وتملك بدون شك حس الصَّداقة.

«صباحات زرقاء جدا، présage سيء لليل». عبرت الجملة المجهولة ذهني ثانية عندما صعدت درج المقهى. زكريا، الرجل صاحب البيرية، كان هناك. صافحته ثم جلست، سعيدا بلقائه من جديد.

- يبدو أنك مسرور. هل تلقيت خبرا سارا؟

- لا، لا...

- منذ ساعة وأنا هنا، أقنط. ماذا لو ذهبنا لاحتساء بضع جعات في مقهى Capri؟

- ليس معي...

- هيا بنا. فقد استمت لتوي 2000 درهما من السيد المشكرف. راقته اللوحة القماشية لدرجة أنه سدَّد المبلغ بكامله دون أن يتردد.

غاردنا المقهى، وامتطينا طاكسي صغير. خلال المسير، فكرت في القرار الذي سبق أن اتخذته، بعدم الشرب. لماذا ضعفت مرة أخرى أمام إغواء الكاس؟ غدا، سأستيقظ وقلبي ممزق وركبتاي ميتتين. قطع صوت زكريا تفكيري:

- إيه، إسحاق! ça va encore éclater. لكن، قل، في ماذا تفكر؟

- لا شيء، وجعُُ في الرأس يشوش علي.

- سيمرّ. ما أن تشرب الكاسين الأولين حتَّى تحس أنك في الجنة، كالعادة.

توقف الطاكسي أمام الـ Capri، شربنا إلى أن حان موعد الإغلاق. تحدث الرسام، + agité من jamais، عن حاناته ونسائه المثاليين. حكى أن جارا له قدم من باريس، شجعه بحيوية على السفر وأكد له بأن صباغته ستباع جيدا في فرنسا حيث سيستطيع، فوق ذلك، بيع مائياته ونمنماته في كل مكان تقريبا، في الشوارع والطرقات والمقاهي والحانات...

عند الخروج من الكابري، قال زكريا: لا زالت لدي رغبة في الشرب.

امتطينا طاكسي في اتجاه [حانة] الحلم الأزرق أو الليلة السحرية.

في الحلم الأزرق، شربنا إلى أن حان موعد الإغلاق. داخل موسيقى المرقص الصاخبة، هدأ الرجل صاحب القبعة. لم يكن له من عينين سوى لـ [مشاهدة] سيقان تلك الفتاة التي رقصت طيلة الليلة أمام كأسينا. والرسام الذي كان يقول إنه لا يحب كثيرا المغربيات، دعاها للذهاب معه إلى بيت جده. وعلى نحو ما فرضت، فقد سدَّد زكريا الثمن قبل الخروج من الحانة.

كان الإثنان قد انصرفا. لم أجرؤ على أن أطلب من زكريا أن يسلمني ما أستقل به طاكسي كي أعود إلى المنزل. سرتُ في المدينة التي ما كان ينشطها سوى ضجيج سيارات قليلة. كان رأسي ثقيلا. والشكوى الأبدية كانت قد أخذت فيَّ/بداخلي، تلك الشكوى التي، طوال سنتين، أجهدتُ نفسي في دفنها في أعماقي بالغرق في مطالعة الكتب، ولكن التي كانت [الشكوى] تعود كل مرة أكثر إيلاما وأكثر إقناطا: لماذا البطالة والشقاء؟ أي ذنب اقترفته، إلهي، لأقاسي هذا الحظ السيء؟ الحياة التي كنتُ أعيشها، لم تكن إطلاقا ما سبق أن تخيلته؛ ألم تكن الآمال التي بنيتها طوال حياتي قد طارت إلى الأبد؟

مشيت، غير مكثرت لليل ولا لسيارة الأمن الوطني التي كانت تجوب الشارع صعودا ونزولا. بعيدا، كانت العمارة المجاورة للمعهد الفرنسي تلقي نورا، في الطابق الثاني. كانت طالبة معهد الفنون الدرامية لازالت سهرانة. ماذا لو صعدتُ لزيارتها! كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف صباحا. أيكون من غير المؤدب؟ لا، ربما ستسعد بلقائي. قد تقدم لي صديقتها ونتحدث نحن الثلاثة عن المسرح، والفن التشكيلي، والشعر.

لم يكن باب العمارة مغلقا. صعدت، وطرقت الباب. وبما أن أحدا لم يجب، فقد طرقت ثانية، ثم ثالثة ورابعة. انفتح الباب. فتح رجل ملحمه متشنج، ويده وراء ظهره، ثم سأل:

- نعم، سيدي؟

- اسمح لي، سيدي، هل يمكنك أن تنادي الآنسة بشرى؟ قلتُ بدون أقل اندهاش.

- عفوا! ماذا؟!

- هل يمكن...

هوت على رأسي ضربة مطرقة عنيفة، سقطتُ فوق الأرض.

عندما فتحت عيني ثانية، اجتاح غرفة المستشفى نور ساطع. كانت بشرى عند رأسي. تخلفت عن تداربيها على أعراس الدم كي تأتي لتشاهد جبيني المعصوب. أخبرتني أنَّني طرقت باب الجيران، والذين كانت ابنتهم الكبرى تسمى مثلها: بشرى، أي خبر سارّ.

في ذلك اليوم، عرفت أيضا أن ثمة من الكلمات ما ينبعث في الذكرى لا لتفسير الحاضر، وإنما لينبيء بكارثة.

19:18:29

 صفحة الترجمـات

المحتـــوى

تزفتـان تودوروف: خطـاب السحـر

مناحيم روث: ميثولوجيات الموت

مناحيم روث: الطقـوس الجنائزيـة

موريس فريدمان:  الأنثروبولوجيا والأدب

فرويد أو الغرائز ضد العقل

ر. ريتشارد وج. سيفري:  النقد السوسيولوجي والآداب الإفريقية

ليو نافرانتيـل: الشيزوفرينيا والفـن

جلبير غرانغيوم:  كرنفال في المغرب العربي

جلبير غرانغيوم: الضحية وأقنعتها

جلبير غرانغيوم: اللغة والجماعة في المغرب العربي

جلبير غرانغيـوم: الأب المقلوب واللغة الممنوعة

جلبير غرانغيـوم: لغة الاستشـراق

جلبير غرانغيـوم: التيمات الثقافية والهوية في المغرب العربي

جلبير غرانغيوم: التعريب واللغات الأم في السياق الوطني بالمغرب العربي

جلبير غرانغيوم: التعريب في الجزائر وجها الحصيلة

جلبير غرانغيـوم: كيف نحرر المرأة (جلبير غرانغيوم يناقش كتاب بيير بورديو «الهيمنة الذكورية»)

جلبير غرانغيوم: المواجهة باللغـات

عبد الحميد الأركـش: أنثروبولوجيا البغاء في العالم العربي. تونس في القرن XIX

المصطفى شبـاك: هل إسرائيل دولة حديثـة؟

جليل بناني: الخطوات الأولى للطب النفسي في المغرب

ساشر مازوش: فينوس ذات الحلل الفروية

الماركيز دُ سـاد: موت السيدة فيركان

جورج باطـاي: الميت

يوسف وهبون: الصبيحـات الزرقـاء

يوسف وهبـون: الشعاع الأسود. حوار بين الفنان التشكيلي والشاعر

 

 

 
 

 

 
 
جماليـــات إضـــاءات حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة مكتبات الموقـع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.