تناثــر الحضور مثنى وثلاث ورباع يتجاذبون أطراف الحديـث في قاعة
المحاضـرات التي تتوسط الساحة الكبيرة للمدينة...
المكان يعــج بنظرات تساؤلية..
الـحوار أخذ طـريقـه إلى عقلي وقد شردت عنه دون أن أعـي انشغال
الحاضــرين... وأنا أسبح في فضاء
وجـوههم،، يخالجـني شعور غريب، أن أعود من جديد إلى لحظة ميلاد هـربت مني
في كبريـاء..
هل أشبههم جميعـاً؟ ليس ثمة صور بيننـا.. فقط أشكال وألوان وروح ليست كالأرواح.. تـزداد الأصوات في القاعة الفسيحة يسيطر فيها الجدل العنيف
والقناعات المتناقضة والأعصـاب المتشنجة.. تراءت لي الوجوه مفحمـة والأجساد محنطـة وعاصفة مني تعصـف بهم
بعيداً عني وعن المكان الجميل قائلـة:
ـ اذهبوا بعيداً وأسسوا فكــراً تزمتياً مثلكـم.. لا تدخلوا هـذه القاعة وأنتم سكارى الفكرة…؟؟
شعرت وكأن صوتي يصـل مسامعــهم، وبدأت الأصوات المزمجرة تنخفض وتنخفض
حـتى هـدأت وصمـت الكل.. الصمت كـان
راحـة لأعصاب متوترة ولعقـول مسيطـرة ولألسنة سليطة.. تلوك الكلام بشراسة وتحدق بعيون شـزراء متأهبـة لتمزيق قميص يوسف
من وراء دبره.. لقـد وضعت عمري في
كفة وعمرهم يحتضن القارة الأوروبية في كفة أخرى..
لا أبصر غير نفسي وأنا أسقـــط على وطني بورقة دمغت بالأحمر الفاقع ((مملكة الجنون)) حروب ورمـاح خفيــة اندســت وراءهـا أقنعــة... مُهّرجُون يُسقـطُون الأحـداث بقـوائم المـوت والتحـرر والعرقية
والتخريب والعنف…
كم بكيت وأنا أرى شوارع بلدي تحرق، ومؤسساتها تكسر وأطفالها يحرقون
ونساؤهـا تغتصب وغاب حب الوطن مـن الإيمان في كـف عفريــت وإذا بروحي
تردد قول "جبران":
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا
و الشر في النــاس لا يفنى وإن قبروا
و أكثر الناس آلات تحركهــا
أصابع الدهــر يومــا ثم تنكسـر
هـم يوزعونني على خريطة سهوب أحلام عارية.. يجمع أشلائي الخوف وقد مضيت أقلب دفاتر الماضي وحكايـات أعمامي
ونـواح جداتي وجوع الأحفاد … مضيت
في الماضي حافية القدمــين.. دامية
القلب تعصرني مذابح الوادي وترعشـني صدمة كهربائية ترفعني عن الأرض كطير
في الهـواء، وتغير لون وجهـي.. أحمر.. أسود.. أصفر منهكة القوى.. أصول وأجول في الماضي أفتش في أوراق ذاكرة "عمي المختار" لكي يتقيأ ما شربه من مرارة التعذيب الوحشي..
قالها لي مرة:
ـ ((لقد كان جائعاً..لم
يرض أن يموت أبناؤه جوعاً كما فعلنـا نحن، وأن تسلب مـزرعته وتحرق..لم
يـرض أن يعيش مثلنا تحت سياط التعذيب،، فغيّر ملامح وجهه وغسل ماء حيائه
واختار طريقه باتجــاه جنرالات فرنسا.. باع جسده ونامت روحه بداخلـه وعلمت القرية أن " إبراهيم " أصبح يسمى سي إبراهيم،و نعت
بإبراهيم الحركي…
صرخت زوجتـه "الغاليـة"1 في وجهـه بأعلى صوتها لن أغـير جلدي، فأنا بنت الجزائر
ودمي جزائري حتى الموت..
نظر إليها وسكاكينها تمزقه إرباً.. إرباً ثم التفت يمينــًا وخرج دون أن ينظر خلفه،، وبقيت هي جاثمة
تنتحـب.. إبراهيم حركي؟ بـاع وطنـه.. لا.. لا
ماذا أقول للعشيرة؟ لأبنائي..
يالها من وصمـة عار في جبيننا تلعننا طول الدهر.. سأبقى سخرية النساء وهمساتهن وغمزاتهن، سينعتنني بزوجة الحركي
إبراهيم…
لا.. لن أكون كذلك فأنا أعالج
إخواني في الجبهـة، ورغم ما أعانيه سوف أظل وفية لهم وللوطن.
صعد الجبل مع كتيبة الموت.. يرصد
حركة المجاهدين من أعلى قمة جبلية، وفي يوم من أيام الثورة التحريرية
التقت كتيبة الموت مع فرقة من المجاهدين في كمين نصب لهم عند مفترق
الوادي،، يتبادلون الرصاص"بالكلاشينكوفات" والبنادق والمتفجرات..
وصلت أسماعه كلمات الله أكبر.. الله
أكبر.. الله أكبر.. اهتز كيانه وتأمل كثيراً وهو يرى ألوان العلم أحمر.. أخضر.. أبيـض ترفع بيد
أحدهم، اقشعر بدنه واغرورقـت عيناه وتذكر كلام زوجته (دمـي جزائري حتى الموت) وروحه ترفرف بروح الإيمـان والوطن
…
انسحـب متسللاً من كتيبة العـدو ثم نزل إلى الوادي وصعد صوب المجاهدين
رافعاً يديه وسلاحه..
تأملـوه.. شكّوا في أمره؟
قال أحدهم: نقتلـه.
قال الآخر: تريـث..!!
و لما وصـل قال:
ـ جئت لأقاتل معكم من أجل الجزائر (عودة
الروح النائمة في صدره).
هز الجندي الثائر(علي) رأسه مبتسماً في وجه "إبراهيم" واشتـدت المعركة بين الفيلق والعدو الفرنسي بشراسة، سجلت فيها
خسائــر في صفوف المستعمر بتفجير دبابتين وقتـل عدد كبير منهم،، وأصيب في
صفوف الفيلق (سي يوسف ومحمد…)
وقبل نهاية المعركة أصابته (إبراهيم) رصاصة من خندق العدو الفرنسي فسقط وسجل في قائمة العدو الفرنسي
قتيل فرنسا (حركي).
وعُد شهيداً مجهولاً في صفوف المجاهـدين ومات شهيد الوطن.. الشهيد المجهـول2.
هامش: ــــــــــــ
°
القصة واقعية رواها المجاهد العقيد "بورقعة".
1 الغاليـة إلى يومنا هذا تعتقد أنـه مات "حركي".
2 لم يعثر له على وثائق تثبت هويته ومات في عيون أهله (حركي)..
|