كل صباح كانت الفاجعة..كل ليلة
كان الموت حاضراً بلا منازع يسرق الفرحة، والمشاهد المروعة تسرق المكان
والنفـوس الآمنـة..
صمتت "كوثر"حيرة
وتنهدت استفهاماً وراحت ترسل نظراتها شراسة، وحقد دفين يسكن جوانحها.. كل شـيء لعبـة يمكـن تكـسيرهـا وإعادة بنائها،، تاركة شروخاً يصعب
التـآمها.
هكذا هي اللعبة منذ أن مارست طقوس الحياء وسمفونيات الحب وأشعار العشق
وآهات التمرد وصمت الحيرة المعلنة بعد فوات الآوان.
هي كسرت قواعد اللعبة وطوّقت بعقلها الصغير روح البراءة في ذاتها.. هزمتها ذاتـُها.. ووأدتها
بداخلها.. غير آبهة بمن حولهـا..
هم وحدهم علموني اللعبة..
هم وحدهم حطموا ذاتي..
هم وحدهم قتلوا أنوثتـي..
هم وحدهم اللعبة.. تعلنها بصوت
قلق تهزها رعشات المجانين،في ليـل ثمل أثاره على وسادة بنية،، تسمع صهيل
أجساد نتنة،، رائحة زافرة، هم هكذا لعبـة في يدي كاللعبة،، مفاتيحهـا في
مرايا متكسـرة.. بوسعـي أن أضرب
أعناقهم وأجعلهم تماثـيل الحكاية الفرعونية تحتي نائمين في كهوف أبدية،
وعلى مسمع رنـين أجراس منسيــة تديرها رياح هائمة تسمعها كل صباح أقنعة
دموية...
النحيب طال، والصمت أثقل لساني،، بمقــدوري أن أصمت وفي لحظات يعاودني
الجرح وأتظاهر بالتماسك خشيـة أن يهرب مني صمتي..
ما عادت المجـازر تهمني،، ما عاد البكاء يؤلمني،، ما عاد الموت
يريحني، يؤلمني صوت رضيع بريء مات وصوتـه يدوي في ليل ثمـل بالرائحـة
النتنة،، ما عاد شـيء يهمني غير أنامل تنهش الثـرى وتمسك بأشواك الصبار
الدامية وروحا مسلوبة... أهوال
اللعبـة القـذرة قادمـة، طريقها بعيد والساعة لم تقترب...
الكل جعلني لعبة أتسلى بالخطيئة وأشم رائحة الدم تتصـاعد،، القائمة
طويلة والخطوات متعثرة والتعذيب المعلن مميت والموت ضائع في الموت.
هـم وحدهم علموني اللعبـة..
هم وحدهـم حطموا ذاتـي..
هم وحدهـم سرقوا أنوثتـي؟
نسيت نفسي، الماضي يوقظني كل مساء لا يبرح عرشي، أشباحه ولد مفقود بين
الماضي والمستقبل الأسود،، أكتشف وأنا مرتبكة أنهم ينزعون أوراقي مني
ويرحلون تاركين اغترابي.. في
الأدراج فقدت ذكرى البيت والشوارع والخطوات الأبوية...
غلال تمارس وهم اللحد للروح،لا أبصر نفسي..وطني
كسيح خطواته عرجاء،، تفصلني عنه أبواب الحرية النائمة في أيـام دخانيـة..
شارع طفولتي ميت..
أطفال قريتي راحلون..يركضون في
لهاث المفـزوعين.. حيارى الليل
أتعبهم الترحال والموت، أتعبنـا الطريق وأتعبنا المـوت.. أتعبتنا اللعبـة القذرة بلغة الأيام شرانيق البحـر طفت على السطح.. بدلت جلـودها.. لبسـت لون
الزمن الذي ولّى بجبروته وحقده النائم طول الدهر.. الصمت يخمـد نيران الغضب كـل شـيء ملكـوه.. الأرض والــدم والهواء الخانـق واللعبـة القذرة لا تزال تنخر
عظامنا منذ أن ساد الاعتقاد بوجود آلهة الأرض والعرق تسكن القمم
العاليـة، وبزغـت شعلة الحضـارة للمعبودات والتماثيل وأساطـير المـدن
ورسومات الشخصيات العملاقة التي أخــذت حيـز صنـع القـرار في الحاضر
والمستقبل وتطـويـق رقابنا لسلب الحريـة منا..؟؟
شيَّعتهم بنظرات الحنين والألم والحب المسلوب منها وأنهم يحملون كل
يوم على أكتافهم صناديق الموت والحزن.. أزمة هو صيفنا وشتـاؤنا وخريفنا وربيعنـا.. فصول تعاقبت وسنوات مضت ودماؤنا تجري أنهاراً في ليل ثمل.
قالت كوثـر:
ـ هوايتي الاعتذار.. دوما أعتـذر.. من اللاشيء أعتذر ومن الصمت أحيانا أعتذر، هو الموت وحده الذي لا
يعتذر يتساقط أمامه الجميع وترفع اللافتـات للمطالبة بالإرث المخزون منـذ
آلاف السنين.. الوطـن وحده يدفعنـا
بقسوة إلى الأمام، وحده عودنـا اللجــوء إلى المحاكم وإلى عامل الزمن
دونمـا تفكيـر…
وحدهم اللعبة القـذرة..
وحدهم في ليـل ثمل..
رائحته نتنة.. زافرة.. أشم رائحته.. دوختني.. وعلى صراخ أحلامهـا المفزوعة التي دوت في المستشفى ودون شعور وجد
الطبيب "محمد" نفسه في الغرفة رقم 05
يحـاول تهدئتهـا وأنها مجرد كوابيس،، لقـد أحس بخطورة الوضع الذي تعاني
منه "كوثر" في آخر لحظات عمرها.
ـ إعادة التحاليل ( يقول الطبيب
للممرضة
).
المرض الخبيث تغلغل في الخلايا، وكل يوم يزداد انتشارًا.. الأورام الخبيثة يصعب استئصالها إذا ما كانت الحالة متأخرة وأشعة
الليزر مازالت طور التجربة،، المسكينة باتت الليل تتألم وتهذي،، شاحبة،،
قطرات الدم الباقية امتصتها الأورام الخبيثة وراح يتساقط أمامها الجميـع..
لاح طيف كتبها وأوراقها وقلمها وحارتها وشـارع ممشاها وآخر الخطى إلى
مكتبــة قريتها الصغيرة.. تبسمت
وحدقت بعمق الماضي والحاضر والمستقبل في أعين طبيبها قائلــة:
ـ أوصيك خـيراً بالوطن، وانتابتها رعشة هزت مكانها ونامـت إلى الأبــد...
بقي الطبيب "محمد" جاثمـًا.. عاجـزاً..
لأول مرة يـوصى خيراً بالوطن؟
|