وقفت عنـد باب المكتب تسترق السمع دون أن يحس
الحضور بظلهـا فسمعته يقول لها:
ـ أحبك.. أريدك زوجة لي؟
قالت له:
ـ والتي في البيت ألم تعد تحبها...
رد عليها مستعطفاً:
ـ ما خلـق الله قلبـين في جوف واحد.. ومـع ذلك أنـت من أحببت، وهي أم الأولاد فقط؟
نـزل عليها الخبر كالصاعقة التي هزت كيانها وثلجاً بارداً أذابها
بقسوته.. انسحبت في صمت ولم تصدق أن
زوجها يخونها مع امـرأة ثانيـة..
حبيبة ثانية.. يريد لحياته أن تكون
امرأة ثانية..الأفكار تدور في ذهنها.. سائلة.. مستفهمة... تستنطق أشياءه..
ماذا فعلت له.. ألم يعد يحبني؟
بعد كل تضحياتي يستبدلني بامـرأة أخـرى…
هل أصبح مراهقا يعيد ترتيب حياته مع فتاة في سن ابنته "سميرة"؟
ـ قد تكون مجرد نزوة مكبوتة أو أن الفتاة تستغله لتظفر بالبيت
والسيارة والمال لتأمين المستقبل..
أم أنهــا تحتاج فيه صورة الأب الحاضر الغائب عنها..
وإلا كيف أسمي هذا؟
لا.. لا ( يستيقظ ضميرها
)
ـ نـزوة جامحة تدمر حياتنا وأبناءنا، ماذا أقول لهم.. والدكم بوقاره واحترامه، هذا الصرح الكبير يصبح دمية تلاعبـه
امرأة ثانية.. كيف لي أن أقول لهم
ذلك؟
يا إلهـي…
تخنقهــا العبرات وهي تشق خدودها الوردية.. مخاض رهيب لولادة ثانية…
ويعاودها الهذيان المتعب وقد ضمرَت عيناها من شدة التحديق إلى
أشيائه:
ـ لا ألومــه فله الحق فيما يتصور وفيما يفكر،و لكن ليس له الحق في
قتل مشاعري، فذاك هو الموت بعينه؟
هل أرحل؟
لا أستطيع الرحيـل وأترك المكان الذي ألفته معه.. بذكريات عمرنا الطويل..
و استرسلت في هذيانها المستفز مرددة وكأنه أمامها:
ـ طبعك لا يحس بالأشياء ولا يستنطقها، لكن أنا أحـس بالجـدار وإن كان
صامتا وأحن إليه..
لو تدرك أنني أشم رائحة التربة وهي تدخل جوارحي واستنطقها فرحاً.. حباً.. ألماً.. ذكرى مولدي.. كل صورة من
صورك.. عبوسك.. ملامح وجهك.. شفتاك..كان
كل شيء فيك يوحي لي بالأمان.. آه من
هذا الأمان؟
اندست في فراشها مهدودة الحيل بعد جدل عنيف بين قلبها وعقلها تذرف
العبَرات الحارقـة، محاولة أن تنام وأن لا تصحو على كابوس أفكارها وقد
أخذ منها الضجر والضيق ألمـاً فتحول هذا الجسد إلى روح أشبـه بالروح
والحب قد بلـغ أن يكون عشقا مميتاً.
ـ فما أشده أمراً أعانيه؟ ولكن الدهر قد انتزعه مني وتعذر علي أن
أحارب نفساً فأزهقها وأنتظر نوراً ينير هذه السُـدفة الحالكة، أو أن
أتركهما وأرى كيف تصنع نار جهنم حطبها، وقد اعترى يأسي وفاجعتي كل شيء.
ترك "مراد" زوجته وأولاده الأربعة بعد أن طلقها واستعذب حياتـه الثانية غير
آبـه بالبلاء الذي حل بأبنائـه عندمـا أرغمهم على الخروج من المنزل
وتشردهم في شوارع المدينة يتسولون تارة، ويعبثون تارة أخرى يستعطفـون
العيون شفقـة في شظف العيش..
"سهيل" الابن
الأوسط خرج من المدرسة وتاه مع أصدقـاء السوء للسهر والخمرة في النوادي
الليلية لا يعي نهاره من ليله، أما "نسرين" فخادمة في البيوت و"سميرة" تلعب دور أبيها مع رجل ماتت في قلبه روح الأبوة.. و"فؤاد" يبيع السجائر والحلويات على قارعة الطـريق وأم مع صغيرها يتجرع
حليب المرارة والضياع والحسرة، وانتحــرت أحلام العائلة في مهب الريح
وساقتها إلى نهاية مطاف مجهـــول.
|