انـزوت في الغرفة..
أخذت مكان ظلها متقوقعة على جسدها.. تسرق الحيرة سكونها... تاركة روحها
تسبح في فضاء صمتها، تخاطب الغائب الحاضر فيها،، مفرِّج كُربها ومولِـع
نيران الرجعة إليه..
شخصَّت المكان
من حولها وهي تتحسس انطواءها،، تلهبها كلماته النائمة في خلدها،، توقظها
رعشة جسدها البارد حينما يهفو حنينه إليها.. لاح طيفه أدركت بالصدفة أنه
يمرّ من أمام شرفتها المطلة علـى الشارع الرئيسي للمارين عندما دوى صوت
"طارق" يهز أرجاء البيت الصامت...
ـ أين أنتم..
أريد شـرب القهوة..
كان "طارق" لا
يكترث لأحد، ولا يتحرك حتى لجلب كأس ماء يشربه أو ترتيب حاجياته…
وقفت في هلع
يصبغها لون الزعفران بشفاه داكنة، تردد في ذاتها ((قد تخوننا الكلمات،
وقد ترعبنا الأصـوات، وتبكينا الفواجع، ويبقى حنانك يسكن شغاف القلب،
لأنك وببساطة روح واحدة تسكنني)).
كل مـرة
تعاود اللحظة نفسها.. بداية ونهـاية لمشوار حياتها معه،، نفس المكان يأخذ
شكل الذكـرى بتقاسيم وجهها الحزين،، تسـائل روحها وقد أضناها السؤال
وأتعبتها المواويل الشعـرية المنكسـرة فيها.. هناك على المكتب الصغير
تتربـع نساء نزار بطبوعهن وحكاية عشقه لهن،و خلـف الجدارية المنسية أحلام
السلام الدرويشية "حاصر حصارك لا مفر"..
لا تزال
الحجرة الضيقة مظلمة، نوافذها مغلقة ضياؤها خافت يخبو وراء ستار بني
داكن، أوراق مبعثرة وأقلام رصاص بالجانب متكسرة وأحلام مؤجلة..الزغاريد
تملأ الحي، والألـوان الزاهية تلون السماء النائمة، والفرح يعلو الوجوه..
والفتيات الصغـيرات مزهوات بملابسـهـن البيضاء...
ـ هل بقيت
وحدي؟
كلهن
تزوَّجن..هل فاتني القطار.. عانس.. عانس..
ضاقت بها
الدنيا واسودت في عينيها أيامها المتتالية.. جدران البيت تطبق على
أنفاسها، أخبـار صديقاتها تزيد مـن تعاستها (تزوَّجن).. كل يوم تأخذ رحلة
عمر ضائع وبلهفة تهيم في زوايا البيت، يحرسها ظلها.. تهزها الكلمات..
عانس.. عانس.
إن ثمة إحساس
بالانكسار والحلم فعصفت بذهنها ملامح وجهها وتجاعيد الزمن ترتسم.. آه
تخرج من صدرها ألمـاً…
لي جسـد
مدفون هنا ولا حاضر يحنو على أيامي المبحرة، يتوسع الجب في أعماقي وأنتظر
طائراً يجثو عند شباك نافـذتي، وأبلغ الحلم ويتلاشى اليأس أمامي ثم أعود
على مركب تسكنه الأمنيات وأغاني العشق،، تتركني الدروب بأغلال الفرح
مقيدة وأطوي الليالي الحزينـة والأنين،، ما أخشاه أن تهوى روحـاً بأنفاس
باردة…
آه لو يتوقف
المطر لحظة عرسي وأغســل بمائه الوجوه النائمة وأرمي بدعوات الفرح
أمامهن، فأنا أشبَـه بالصخرة تلامس الظلام.. لا شيء يوقظ دفء قلـبي أو
نظرة تعاتب غفلـتي عن رؤياك فأنحـني شوقـاً وأمضي..
أحرّر نفسي من
أخ سليط اللسان.. يعيرني كلما سمع بفرح في الحي..
أحرر نفسي
من صراخ يقتادني كل مسـاء إلى الذاكـرة المشلولة،، يحاصرني صمتي.. لقد
بقيت أشبه بالغـراب الأسـود الذي يحـوم علــى الجيف فتسخر منه الطيـور
الجميلة مزهـوة تزقزق.. لحظتي أن أموت وأحيا بـين أربعة جدران تحاربني في
صمت، وأعترف أمامهـا بانهزامي..
تقف.. تنظر
إلى المرآة.. تمعـن النظر في وجههـا.. تستنطـق عينيها قائلة:
ـ أنت امرأة
جبانة.. يهزمها العمر فتهرب من المواجهـة، قلبك مازال ينبض بالحياة يا
امـرأة..
والعشق يهفو
إلى روحك فيمتد نوره في صباح يوم جميـل.. وتجلسين على أجنحة العشق والشوق
والوعـد…
|