بيير بابان

الفصل الثالث:

الأدرَمَــة

ترجمة: إدريس القـري

 

بعدما جعلت الانفعال بمقام المفتاح الأول للولوج إلى اللغة والثقافة السمعية البصرية، فإنني أضع الأدرمـة[1] Dramatisationعن طيب خاطر في المقام الثـاني.

كيف يمكن تفسير قدرة السلسلة التلفزيونية الأمريكية دالاس Dallas على تحقيق نسبة 94% من حصة المشاهدة بإفريقيا الشمالية في بلد مثل الجزائـر؟ أعتقد أن نجاحا كهذا يرجع مبدئيا إلى فن مستهلك للأدرمة حيث تحدث دراما صغيرة حول محور أساسي كل دقيقة ونصف. يتعلق الأمر بحكاية عائلية مبتذلة. من المؤكد أن هناك مسوغات أخرى تساهم في نجاح هذا النوع من المسلسلات من أداء الممثلين، بصفة خاصة، إلى الموضوعة النموذجية الأصيلة لعلاقات العائلة والعشيرة. لكن هذه التوابل تصبح عديمة الدلالة بدون أدرمة. فليس من المجاني تسمية مسلسلات كهذه في العديد من الدول بالدراميات les dramatiques بكل بساطة. فما الدرامية إذن: إنها خليط مبهم من الإخراج المسرحي واللغة المألوفة، من المأساة والهزل ولكنها قبل كل شئ إيقاع متسارع من الانفعال والحركـة.

إن الأدرمة بنت للانفعال. فهي تعبيره وتشكله الأول. أن تؤدرم معناه أن تكثف الانفعال في توتر لتحرره بعد ذلك بغثة. وبهذا المعنى يكون الجنس والمخدرات والعنف أفعالا درامية تماما كما هي العناوين الضخمة على الصفحات الأولى بالجرائـد.

لمـاذا الأدرمـــــة؟

هل هي ظاهرة متميزة لوسائل الاتصال الإلكترونية أم أنها نبرة عامة لكل اتصال؟ أعتقد أن كل اتصال يهدف إلى إثارة اهتمام المستمعين ينبغي عليه أن يكون دراميا. فالسبب الأساسي للأدرمة هو الاهتمام وهو الدافع القديم قدم العالم. إذا كان الجمهور شغوفا بموضوع بسبب الرغبات أو القناعات الحميمية فلاحاجة هناك للأدرمة، ولكن إذا أرادت محطة إذاعية بيع برامجها لعدد دائم التزايد من المستمعين فينبغي عليها أن تعمد إلى الأدرمـة. عليها أن تفعل ذلك كي توضب خادمة البيت الغرف وهي تحمل مذياعها مبرمجا على نفس البرنامج. عليها أن تؤدرم كي تسمع الأخبار على هذه القناة عوض الأخرى. قال لي مدير محطة إذاعية كبيرة: «ليس لدينا إلا هدف واحد وهو هزم المحطة الإذاعية الكبرى الأخرى» فلنؤدرم إذن!، وليس التحدث على هذا المنوال سوى نص على القانون القديم للمسرح الإغريقـي.

إن ارتباط الأدرمة باهتمام المستمعين بشكل طبيعي أمر لاشك فيه فلنضف المنشط الإليكتروني، إنه يزيـد من حدة الاهتمام بذاته مثل منشط القلب الذي يسرع ويدعم ضربات القلب حيث يتم الاهتمام بحالة الاهتمام ذاتها. ظهر خلال حرب الخليج مقال عنوانه: «TF1 تغذيـة التشويـق». لنفهم من ذلك أن التفخيم والدفء والتوتر الذي تحمله موجة وسائل الاتصال للأحداث لا يأخذنا فحسب، ولكنه يمنحنا أيضا مذاق العيش على التشويـق.

النواة المركـزيـة للأدرمــة

نعني بالأدرمة معالجة خاصة للغة هدفها إثارة توتر انفعالي متبوع باسترخاء لدى المتلقيـن. ويشكل هذا المرور من التوتر إلى الاسترخـاء الدافع الاساسي للمتعة حيث يكون الارتباط هو الآتي: من الأدرمة إلى المتعة ومن المتعة إلى الاهتمام. فما هي إذن هذه المعالجة الخاصة التي نمارسها على الخطاب كي نؤدرمه؟

إن سيرورة الأدرمة مضادة مباشرة لسيرورة التنسيب [من النسبية]. فالتنسيب يتم بموازاة التسطيح في حين أن الأدرمة تتم مع بناء المنتوج. أدرمة؟ هي أن أختار جزيئا مبتذلا من قشرة برتقالة وأكبرها إلى أن أجعل منها جبلا. هكذا يكون الاختيار والانتصاب في قلب الأدرمـة.

إن الفعل الأول للأدرمة اختيار. اختيار لنقطة خاصة داخل مجموع. وبمجرد عزلها فإن هذه النقطة ستدفع إلى الأمام وتدثر وتعالج. لكن ليس أي شئ كيفما كان يؤدرم، فكيف وبواسطة ماذا يحدث هذا الاختيار؟ لكبار الصحفيين الحقيقيين موهبة التقاط الجزئ الصغير هذا من بين آلاف أخر، وهو الحدث الدموي الذي أضفي عليه طابع اللغز بما فيه الكفاية والمورط لشخصيات معروفة والكل في دائرة مألوفة عند القراء. لاشك في أنه تم تخمين أن هذا الاختيار يتم اساسا تبعا للاهتمامات المفترضة للقراء. وإذا ما كان سيخـز، فليس لأنه موضوعيا أكثر أهمية، ولكن لأنه منتظر ومرغوب فيه من هؤلاء القراء. إنه يستجيب بصفة عامة لحاجات لاواعية جد عميقة مثل الحاجة إلى الحضن الأمومي والحاجة إلى السادية شيئا ما وللانتصار، والحاجة الحنينية للعودة إلى الطفولة والحاجة إلى القوة والكبر في مدينة كبـرى، إلخ.

والواقع أن النقطة تنتقى حسب معيارين على وجه العموم: الانفعال والطابع الاستثنائي. فهي أولا نقطة تثير. لماذا قدمت التلفزة الفرنسية إبان إجراء الألعاب الأولمبية بسيول بعض مشاهد الشجار بالشوارع لعدة مرات، وهو حدث في الواقع ذا أهمية ضئيلة؟ إن شأن ألعاب سيول هو شأن الشريط السينمائي أنياب البحـر حيث الجمهور في حاجة للإحساس بمخاوف الأسلاف ولركوب مغامرة تعبر عن قدره الخاص، والإ فإن سيول جد بعيدة! إن اختيار الحدث الذي يؤدرم هو اختيار ما يذهل حساسية المتفرجيـن.

يتم الاختيار دائما في مستوى ثان انطلاقا من قانون أساسي للصحافة وهو: لا يكون خبرا إلا ما هو غير طبيعي. فلكي أتحدث من التلفزة أبحث عن موضوع صادم وأحرفه، فالانحراف هو الشخصية التي تخرج عن الاعتيادي. إن الاختيار لا يتم إلا داخل اللون الأحمـر. اختيار الحادثة وليس القطارات التي تصل في مواعيدها. إن الأخبار (In-formation) [التموضع داخل التكوين] هو ما يجعل جسما غريبا يتسرب إلى كتلة مبتذلة وهو ما سيخلخلها ويمنحها شكلا جديدا. وإن كل خبـر جيد لدرامي من تلقاء نفسه بهذا المعنى. هكذا يكون الخبر اختلافا وتباينا وتعارضا.

يبقى الآن بناء الاختيار أي أدرمة الخبر المنتقى باللغة المألوفـة.

كيـــف نــؤدرم؟

يمكن التأكيد على خمسة طرق كلاسيكية للأدرمة وهي طرق يستعملها الرواة منذ الأزمنة القديمـة:

- التكبيــر،

- التعــارض،

- التبسيــط،

- تغييـر الشكـل،

- التضخيم الانفعــالي

التكبيــــــر

إن التكبير والتعارض هما الطريقتان الأكثر شيوعا للانتقاء والمفاضلة. دوار الشمس متجه نحو قرص الشمس في الحقل باستثناء واحدة، فهل نحرفها! في هذه الحالة سيتعلق الأمر عند تصوير اللقطة ببنائها مجددا وذلك بأخذها، على سبيل المثال، عن قرب بعدسية الزاوية الواسعة ثم بوضعها في معارضة كل النباتات الأخرى بفضل ضبط إطار مناسب. التكبير هو أثر العدسة المكبرة. إنه أولا التعارض بين الأعلى والأسفل وبين الكبير والصغيـر. ولعل الموضوعة الرمزية القديمة التي حللها الفيلسوف باشلار Bachelard معروفة ومؤداها أن كل إضفاء للقيمة عبارة عن انتصاب وتجاوز للبعد في الارتفاع بصفة خاصة. لكن عددا من الخدع الأخرى مستعمل. كتبت صحيفة يومية غداة نشر الميزانية الوطنية عنوانا بحروف سميكة غطت كل الصفحة الأولى للجريدة تقول: قــــاس. إنه تبئير الكاميرا المصوب على النقطة المركزية والبقية كلها تبدو غير واضحة. إنه التخفيف بالبياض أو بالصمت الذي تحاط به الجملة - المفتـاح. إنه أخيرا اختيار الخلفية التي ستدعـم وستزيـن أو ستحدث التبايـن.

يفسر ج. ج. أنـو J.J. Annaud هذا الأمر قائلا: «من المستحيل تمرير الانفعال ماديا في 30 ثانية» في الأشرطة الإشهارية، والحال أن هذا الانفعال هو الذي يصنع قيمة شريط مطول». عندها، ستستعمل ثلاث حيل هي: الهزل والجمالية والمؤثرات الخاصة، وهي ثلاثة طرق للتمييز بتفخيم ما نعرضـه.

التعــــارض

لاشك أنه بول بوكلي Paul Klee الذي بين إلى أي حد تولد الحركة الاهتمام والدراما من حد أمثل للمسافة بين نقطتين. فلاشئ يحدث إذا كانت هنالك نقطة واحدة في مساحة ما، أو كانت هناك نقتطتان جد متباعدتان أو جد متقاربتان. هناك موقع أمثل يخلق تجاذبا وتنافرا. فالمخرج هو ذاك الذي يملك حسا بالروابط التي تؤدرم. القافلة تمر ورجل يختبئ وراء أكمة أرضية وفوهة البندقية مصوبة. إن التعارض هنا شامل بين: أعلى وأسفل، اليقظة والنعاس، السكون الشامل والحركة، الصمت ووقع الخطى.. تبئير على نقطة من الفضاء توافق خط تصويب البندقيـة.

سينجز التعارض أيضا من خلال تتالي مشاهد هادئة ومشاهد متحركة. كما في الاختيار المتباين للأخبار حيث يتم الانتقال من مجلس الوزراء المبتذل إلى كارثة جوية. في الشريط السينمائي المطول الاستيقـاظ L'Eveilالذي أخرجه بيني مارشال Penny Marchall ومثل بطولته روبير دي نيرو Robert de Niro، فيلم مستكشف للباطن إلى حد كبير ومحصور الفضاء بين حيطان قليلة لمستشفى، من المهم دراسة الكيفية التي تمت بها تقوية الأدرمة والمحافظة عليها. مؤكد أن ذلك تم عن طريق تشخيص الممثلين ولكنه تم أيضا عن طريق تلك الانتقالات المباغثة بين مشهد صامت هادئ والصوت العنيف لمفتاح يدور في قفل باب غرفة حجز، بين السكينة التي تعم مكتب طبيب والصرخات الهاذية لمريض ما. هكذا يتم الأخذ على غرة مرات متعددة. كيف يمكن تجنب إثارة هذه الطريقة المألوفة في الأدرمـة، تلك الطريقة المتمثلة في معارضة ما هو قائم بما سيحدث، كما في إثارة الحروب والرياضات والاحتفالات؟ اعلنوا عن ساعة الصفر وسترون أن الجميع سيلصق أذنه على المذياع متسائلا: متى؟ كيف؟ مزيج من الاستعداد المكثف وانتظار المفاجئة. إنه موعد انطلاق إنزال أو هجوم بري، أو هو نهاية مقابلة في غضون دقيقة. هو عد التدفق على خشبة الإستيديو قبل أخبار الثامنة مساء. إنه الإعلان عن الإعصار الذي يقترب وانتظار وضع المرأة الحامل وإنه أخيرا مجئ المهدي المنتظر في الديانات والإعلان عن القيامة. تريدون أن تؤدرموا؟ ضعوا توقيتا وحادثا مفاجئا.

التبسيـــط

إن التبسيط مرتبط بالتعارض، ومن يقيم التعارض يبسط لأنه يبلور الاختلافات الدقيقة ويبرزها باعتبار أن المتضادات أو الأشباه تجذبه. ولعل النظام معروف حيث يتمثل في اختزال الصراع إلى مظهرين قابلين للتعرف عليهما وفهمهما بسهولة. هكذا تكون لدينا الثنائيات التعارضية المبسطة التالية: الطيب/الخبيث، الفقير/الغني، الحقيقي/المزور، القوي/الضعيف، الرابح/الخاسر، النقي/الملوث. تنسب هذه الخصائص بعد ذلك لشخوص مختلفة يمكن للمتفرج أن يلهو معها تخييليا.

لقد عرف هذا النوع من الدراما التي تتم عن طريق التعارض المنمط جيدا والمتمثلة في التضخيم والتبسيط ولازال يعرف دائما نجاحا كبيرا، سواء تعلق الأمر بأفلام الغرب الأمريكي Western في السينما أو بالدرامات المتلفزة أو أنه تعلق، بالإضافة إلى ذلك، بتلك الدرامات الإذاعية الشهيرة بآسيا أو أمريكا اللاتينية: الخالة جوليا وشبه الكاتب La tante Julia et le scribouillard يقول مخرج شهير للدرامات التلفيزيونية التي يلهث وراءها البلد كله[2]، يعلق في مكتبه تصميما لمدينة ليما مليئا بالوجوه المميزة لكل حي:

«ليس هذا الترتيب علميا بل فنيا... فليس كل الناس المكونون لهذا الحي هم الذين يهمونني، بل أكثرهم إثارة للانتباه، أولئك الذين يمنحون لكل مكان رائحته المميزة ولونه. إذا كان المرء طبيب نساء فعليه أن يعيش في المكان الذي يوافق مهنته ونفس الشيء إذا ما كان عريفا بالدرك... إنني من أولئك الذين يكرهون أنصاف التلوينات والماء العكر والقهوة الخفيفة. أحب القبول أو الرفض كما أحب الرجال الذكوريين والنساء المتأنثات والليل أو النهار. هناك دائما في أعمالي الأرستقراطيون أو الدهماء والباغيات أو الأبكار إذ أن شرائح المجتمع الملفقة لاتهمني لا أنا ولاجمهوري».

سيلاحظ الجميع أن تعبير: الجمهور غير ملهم، تعبير شائع. لأن ما هو متميز ومستملح يلهم الجمهور. في حديثه عن البورتريه قال بودلير Baudelaire: «يبدو لي البورتريه الجيد دائما مثل سيرة مأدرمة

لا يمكن تصنيف الحكاية المصورة كوسيلة إعلام إلكترونية بشكل مباشر، ومع ذلك فهي تشكل جزءا من نفس الخيارات اللغوية إذ أنها لغة الاهتزاز الممدد على الورق. وعلى هذا الأساس، لن تقوم أية وسيلة إعلام باللعب على تبسيط وتضخيم السمات بدون شك. لنتجنب البحث في أبطال الحكايات المصورة B.D.، عن الفروقات الدقيقة اللامتناهية للسمات التي تبرزها الصورة السينمائية. فهؤلاء الأبطال مبالغ في رسمهم وغالبا ما ينحتون بدون دقة. إن أبطال الحكاية المصورة غير رشيقين رغم دهائهم وروحيتهم، إنهم يحملون معهم أنصابا حجرية des menhirs ويتلبسون علامات مميزة واضحة. ففي بينوتس Peanuts يرتدي لينوس Linus دائما رداءه الغريب. يقود التبسيط في النهاية إلى رسم تمييز الشخصيات بملامح حيوان: مثال ذلك أن باطمان Batman هو الرجل الخفاش.

تغيير الشكـــل

لنخلط العناصر الثلاثة التي هي التكبير والتعارض والتبسيط وسنحصل على الكاريكاتور الذي هو تغيير الشكل الشريف مع أنه جارح بالنسبة لمن هو ضحية له. فطول القامة المتصلب لدوغول وأنف النسر الذي يميز أنديرا غاندي والجبهة الضخمة لإينشتاين هي رموز حقيقية نأدرمها بتمطيطها. لن يضيف الإلكترونيك شيئا آخر لهذا الفن العتيق غير فورية الاستعمالات. فمن السهل في التلفزة جعل رأس حيوان مختبيء وراء وجه إنساني ظاهر!

لنتجنب الحديث عن تغييرات الشكل المغرضة، تلك التي تحرف الرسالة من أجل امتلاك السيطرة على سلطة اقتصادية أو سياسية. ومع ذلك، كيف لا نلاحظ أن كل إخراج هو بطريقة ما تغيير للشكل بمعنى أنه بالضرورة إتلافا معينا للشكل الأصلي عندما تلاحم وعندما تصعد أو تنزل النبرة، عندما تشدد على التقاسيم وعندما تبرز ألوانا معينة مراهنة على صورة أو صوت ما.

التضخيم الانفعالـي

لنسق هنا فارغاس ليوسا مرة أخرى. كان بيدرو كاماتشو Pedro Camacho مؤلف الدرامات يسجل أصوات الممثلين خلال مسلسل في استوديو تم تحويله إلى مكان مقدس:

«لقد كان هذا المخرج يعظ الممثلين وهو يرتدي دائما بذلته السوداء وربطة عنقه وشعره دائما مجعد... لم يكن الأمر يتعلق بتعليمات يبلغها لهم... بل باعتبارات جمالية وفلسفية... لقد كان يتكلم، وهو يومئ منتصبا، بصوت الرجل المتعصب الذي يملك حقيقة ذات طابع استعجالي يجب عليه نشرها... لقد كان مؤلف المغناة - المدير يقول... "إن رسالتكم..."...[3]»

لماذا إشراط الممثلين هذا؟ لتتخذ أصواتهم لكنة مركزة في العمق وهي تحت سيطرة مناخ هائل وشبه قدسي، ولكي لا يكونوا مجرد ممثلين، بل نماذج أصلية des archétypes. إن الممثلين وهم مأخوذين، سينقلون الشغف الذي يحرقهم، وسيتعـرف الجمهور على مآسيه الخاصة في أصواتهم المتأثرة. إن القدرة على التأثير هي شرط التماهي مع الشخـوص.

إن التضخيم الانفعالي هو الصرخة والهمهمة، إنه حامل الصوت والقناع، إنه الارتداد الارتجالي للمسارح القديمة وللكاتدرائيات ومع ذلك، فقد حدث يوما أن ظهرت تقنية أخرى أضيفت إلى كل هذه الطرق أو التقنيات القادمة كلها من الطبيعة، هذه التقنية هي الكهرباء وكل مشتقاتها الإلكترونيـة.

عندمـا تحضـــر «إ»

بالأمس كانت هناك الإيقاعات والتسلسلات الطبيعية للايام والليالي، للعصور وللفصول. كانت السماء معروفة باتباع نظام دائم وثابتة كانت النجمة القطبية. كانت الماساة هي الصاعقة والعاصفة وظهور بعض المذنبات. وعندما جاء الإلكترونيك الإله الصغير مشعا في كل مكان ماذا حمل معه؟ حمل معه السيطرة على المأساة أولا. فنحن اليوم نسيطر على آثار البروق وأضواء الليل والنهار. إننا نعيد إنتاج دوي الرعد وصوت الريح في الاستوديو. إننا نجعل إشعاعات الضوء تهتـز على شاشة التلفـزة وكذلك الومضـات الضوئيـة وأحجبة الدخان. وبكلمة واحدة فإن الـ «إلــه» حمل لنا معه السلطة الصانعة démiurgique والتمكن من المؤثرات. لقد جعل منا «آلهة» أو شياطين، شياطيـن بالأحرى: أفلم يكن الشيطان في التقاليد القديمة أميرا للأضواء؟ إن الإغراء بأدرمة تتجاوز نوعا ما القدرات الإنسانية لكبير والإنسان يمتلك بين يديه التمكن الحرفي الإلكتروني، فإلى أين يقودنا، أو إلى أين بإمكانه أن يقودنا، على كل حال، المعامـل «إ»؟

تضخيـم الدرامــــا

من البديهي أن الإليكترونيك يضخم الطرق التي تخلق الانفعال كما يمكنه أن يضخم إلى درجة الإفراط. تحدد كاميرا التلفزة نطاق وجه كما يمكن للقطة أن تنحته بعنف وأن تقربه بشكل حميمي. فأثر الحضور الذي تنتجه مسجلة الجيب وجهاز التضخيم متفوق على أثر الحضور الناتج عن صوت أو عن أجهزة منعزلة في قاعة ما. لنتذكر صرخات ووجه إيزابيل أدجاني Isabelle Adjani في الشريط السينمائي كامي كلوديل Camille Claudel. كيف يمكننا الشعور حواسيا بعنف درامي مماثل على خشبة مسرح خالية من التضخيم الإليكتروني؟ لنضف إلى ذلك استراتيجيات التوضيب الإليكتروني التي ستربط أو تعارض وتضفي طابع العنف أو تلطف حسب الرغبة! هكذا ينضاف إلى أساليب الأمس بشكل ما المفتاح الكهربائي. فهل سيقال عن المغني الذي يستعمل لاقط الصوت بأنه يصعق بالكهرباء مستمعيه؟

قلنا سابقا بأن الاتصال الإلكتروني يتميز بنقل الاهتزازات الضوئية والصوتية. فمن جهة أولى، يهدف المخرج إلى استعمال متزايد أكثر فأكثر لهذه الآلات وهو يعرف إمكاناتها التي تكاد تكون لامحدودة. ومن جهة أخرى، فإن المتفرجين يطلبون المزيد من ذلك. تلك هي الدائرة الجهنمية التي تميز وسائل الاتصال الإلكترونية: دائما أقوى ودائما أسرع. هكذا إذن نهتز للاهتزاز كما نعشق أن نحب. هناك رغبة في المرور بحدة وبسرعة من التوتر إلى الاسترخاء. ولعل قمة هذا النوع هي الاثاريات thrillers والأغاني المصورة الحاكية Clips وأشرطة الرعب السينمائية. وقد خلق مهرجان سينمائي من أجل هذا النوع الأخير بإثباتاته وجوائزه، وهو مهرجان أفورياز Avoriaz. هكذا خرجت الحيوانات الأسطـورية وأسماك القرش من أقفاصها (الشريط السينمائي أنياب البحـر) وأزاح الموتى الغطاء الحجري لقبورهم ورقصوا في الشوارع (إثارية م. جاكسـون M. Jackson). كما ولد أطفال ذوي عيون كريوية في الفضاء (الشريط السينمائي الرحلة المغامرة 2000 Odyssée)، وتصادمت الكواكب التي شكلت أحلامنا في حروب الشريط السينمائي حرب النجوم Stars war كما تناوب على وعينا تباعا الأشخاص الإليكترونيون بإشاراتهم بيب - بيب bip - bip المألوفة. إنه الاستيقاظ الكبير للآلهة والغيلان والمردة الذين يعمرون خرافاتنا القديمة وتيجان أعمدة كاتدرائياتنا. إنه الرعب والتشويق لأطفال نومتهم الآلهة العليا زمنا فأيقظتهم الناظمة الآلية بقوة متفوقة لم تعهد من قبل.

اختــلال الدرامــا

بينما كنت أشرح الأدرمة لصحفي باعتبارها قانونا لوسائل الاتصال رد على متسائلا بقوة: ألم تكن هذه الأدرمة سابقا قانونا لأولى الجرائد منذ عصر الإنارة بالشموع؟ فقلت له: صحيح، لكن هل أنت واع بالانقلاب الذي حمله الهاتف والمبرقة الكاتبة Téléscripteur والطائرة إضافة إلى المعلوماتية اليوم؟ يتعلق الأمر بالوقائع الطرية وبالانفعال المباشر في الصوت وفي الدموع وفي الصرخات. من المؤكد أن الصورة وفرت للصحف مزيدا من الانفعال ولكن أليس تقلص الزمن، فوق ذلك، هو محدد هذه الزيادة؟

لقد قلبت الكهرباء والإليكترونيك مقولتي الزمان والمكان. وهذا الانقلاب نفسه هو الذي يزيد من حدة انفعالاتنا ويعدلها. لقد غدت الإيقاعات الطبيعية التي كنا نعيش فيها بشكل لاشعوري منذ قرون مضطربة: فها كل شئ على شاشة التلفزة متقابل وفظ. لم نعد نملك تلك الانتظامات وتلك المسافات التي كانت تمنحها لنا الإيقاعات الطبيعية سابقا، وذلك التباعد الجسدي والتأمل الذهنـي.

هناك طريقة يعرفها جيدا المشتغلون بالسمعي البصري عندما يرغبون في توليد القلق لدى المتفرجين: إسماع ضربات القلب وإيقاع تنفس الممثل بشكل قوي وبدرجة سرعة غير طبيعية، ويمكن لهذا الاختلاف بين الإيقاع التنفسي للشخصية وللمستمعين أن يبلغ درجة لا تطاق. ذاك هو - فيما أعتقد - أحد المؤثرات الكبرى للإليكترونيك: إنه يسبب اختلال الإيقاعات المعتادة ويختلسها من العقل ومن مسار الزمن. هاهي ذي الدراما في ماهيتها بالذات، إنها انقطاع المعهود ولاتوازن الجسدي وابتعاد العادي، إنها باختصار زيغ القطار عن السكـة.

الإليكترونيك هو التقليص والتسريع، التقابل والعنف، إنه الإفراط الممكن دائما. فما الذي يحمله الإليكترونيك للأدرمة؟ لقد أصبح ما هو غير عادي وفوق - اعتيادي منذ الآن بين يدي الإنسان، دون كابح ولاحدود.

الأدرمـة والثقـافـــة

تطرح الأدرمة للثقافة نفس المشكل الذي يطرحه لها الانفعال لكن، بطريقة أكثر حدة.

وتعتبر حرب الخليج في هذا الصدد نموذجا مثاليا. فبينما كان العراقيون هدفا لملايين القذائف هناك، كنا نحن في الخلف مرمى لآلاف نشرات الأخبار. وقد نددت شخصية معروفة مثل الكاردينال لوستيجر Lustiger رئيس أساقفة باريس بشدة مخاطر وشطط إغراق إعلامي يقود إلى «ذهـان جمـاعي[4]» قائـلا:

«ينبغي على الأخبار أن تنمي العقلانية وهاهي تحدث العكس، وكأن العقل بالبلدان الديمقراطية انكفأ تحت ضغط أمواج الصور والمشاعـر والأهواء. لقد استيقظت فجأة العواطف الجماعية الأكثـر لاعقلانية ، والأكثـر إفـزاعا هو تضخيمها عن طريق وسائل الاتصال الآنية. وقد انعكست نفـس ردود الفعل في البلدان العـربية إذ للأهواء جذور أكثـر قوة من العقل الذي يمنح حـرية معينة تجاه الأحداث، وباعتبار أنه ينتقد، فإنه يساعد على أخذ مسافة منها، بينما يمكن للانغماس في العاطفة أن يحول المرء إلى متعصب أو إلى مختل عقليا. يبدو التلاعب بالحـرب كفرجة إعلامية أكثر تهديدا لمصير الإنسان وأكثر خطورة من الآلام والجرائم أو الجروح التي يمكن أن تتركها نتيجة العنف المـادي

من الصعب أن يكون المتحدث أكثر صراحة ووضوحا من الكاردينال، فالشر الأكبر للأدرمة هو تجميد العقلانية وهو الانغماس في الإحساس. فمن يتجرأ بعد للحديث عن الثقافـة؟ لكن، هل سيرفض للصحفيين حقهم في الأدرمة حسب قوانين الاهتمام من جهة أخرى؟ فليرفض للتجار كذلك عرضهم للسلع ولأصحاب المكتبات واجهاتهم. إن وسائل الاتصال ليست هي المدرسـة.

هناك مسألة أكثـر تعقيدا تتمثل في ارتباط الأدرمة بشكل ضيق بهذا العنصر الذي يعتبر خطيرا إن لم يكن مدنسا وهو المتعة. فالدراما توقع المتلقي وتشل الانتباه والطاقات في مرحلة أولى، كما تميل بالإنسان نحو الذروة في مرحلة ثانية، ونحو السكينة في مرحلة ثالثة. يتعلق الأمر بثلاث مراحل هي: التوتر، والذروة، والانفراج. إلا أن الانتقال بين هذه اللحظات الثلاث يحدد آلية المتعة الإنسانية. فمتعة الأكل لحظات ثلاث: الإحساس بالجوع، ثم تناول الطعام، فالإشباع والاسترخاء. المتعة الجنسية تتلخص في: توتر ورغبة، ثم استكمال وإنجاز، فاسترخاء عصبي. متعة السفر: الحلم والاستعداد، ثم السفـر، فالعودة في حالة ارتواء إن لم تكن تعبا. وحتى فعل التنفس ينسب إلى حد ما إلى متعة ذات لحظات ثلاث كما يلي: الحاجة للهواء (توتر)، ثم امتلاء الرئتين به (ذروة)، فالزفيـر (استـرخاء).

من السذاجة اختزال المتعة إلى هذه الآلية الفريدة، ولكن ذلك أمر أساسي. فكيف يمكن إذن تجنب ملاحظة ارتباط المتعة حميميا باللغة السمعية البصرية الإلكترونية؟ إن لغة التفخيم تمس مباشرة الجهاز العصبي، فهي تثير بطبيعتها التوتر والاسترخاء. وتشكل الأغنية المصورة الحاكية في هذا الصدد كذلك، وبدون شك، أحد الأشكال المتطرفة لهذه اللغة حيث التقابل والمفاجأة والإيقاع تتفوق على كل منطق عقلاني. إن وسائل الاتصال هي الأدلة ذات الامتياز للتحريك الحواسي وللمتعة بالتالي. ويمكن أن نفسر قول نيل غوسمان Neil Gosmann وهو يتحدث عن التلفزة بهذه الجملة: «إنها متعـة الموت».

أحمق ذاك الذي يدعي تقديم أجوبة واضحة ونهائية للمشاكل التي يطرحها الثنائي انفعال - متعة. وأعترف بأن تصوراتي قد تطورت على إثر مجادلات مع أشخاص يعملون في وسائل الاتصال، وبخاصة على إثر مقابلات مع زعماء واختصاصيين في الاتصال من بلدان أجنبية. فالصينيون جعلوني أنفتح على فن للخلفية مختلف بشكل جلي عن فلسفة الأنوار، والأفارقة فسروا لي توازنهم من خلال عنف الرقصات، واليابانيون علموني مزجا غريبا هو مزج التنظيم والحلم، التفكير واللاشعور والتقنية والجمال[5]. وباختصار، فقد فتح لي التقاء الثقافات الأجنبية ببلدي آفاقا أخرى.

انبثقت بداخلي شيئـا فشيئـا مواقف وأنا أتقلب بين تبادل الآراء والتأملات: فالثقافة والأدرمة ثم الثقافة والانفعال يمكنهما الوجـود بشرطيـن هما:

- إدماج الانفعـال

- عـدم فقد العقـل!

إدماج الانفعـــــال

غريبة هي كيفية انتقال مجتمعاتنا الغربية حوالي الستينات، بشكل مفاجئ، من أخلاق طهرية إلى انفلات المتعة من عقالها، من الأفلام الممنوعة بكل عناية من التوزيع إلى الأفلام الإباحية. يتعلق الأمر بهبوب رياح هوجاء. جدير القول أن الأطر التقليدية لم تعد كافية للثقافة لكن، المتعة بدون اتجاه ولاحصار ليست تقدما إضافيا، بل هي عكس ذلك. أما بالنسبة للانفعال من أجل الانفعال فذلك مقبول عندما تكون هناك حاجة للنسيان والهروب، لكن هناك خطر! فكثرة الانفعال تحطم كل شئ؛ فالاستماع على رأس كل ربع ساعة لإذاعة France Info قصد التقاط آخر ضغط نفسي لحرب الخليج يشبه كثيرا زيزا يحك كي يغني! لرد فعل الكاردينال لوتيجر نبرة استعجالية مفادها أنه «لابد من أخذ مسافة... وتنمية زهد طوعي

إن المتعة والانفعالات شبيهة بكلاب مسعورة، فهي تمزقنا إذا ما تركت لذاتها. أما إذا أدمجت في العقل الإنساني وفي التواصل فإنها ستبدو كثروة ثمينة. وبإعطائها للحياة مذاقا، فإن المتعة والانفعالات يحفزان ويكسران تصلب الصيغ الذهنية ويمنحان مجددا وزنا للقلب مصدر الجوارح. من الممكن تهدئة الكلاب المسعورة للحظة بضربات عصا على الفنطيسة ومعنى هذا أنني أستطيع بكل عزم إدارة زر التلفزة وإيقاف التفخيم المرتفع، أي أن أضرب نفسي، وذلك ضروري أحيانا، لكن الأهم في نظري هو الشروع في القيام بمجهود للاندماج بطريقة تجعل المتعة والانفعال يقومان بدورهما الإيجابي في بناء الشخصية.

يعني الاندماج في التواصل التساؤلات التالية: هل يقودني الانفعال المنقول عبر وسائل الاتصال إلى التفكير والتأمل وإلى مجادلة المحيطين بي، وهل يفيدني في مشاريعي وفي تحديد بعض الأفعال؟ هل هو مفيد لانفتاحي الإنساني؟ عندما يصعد المذياع توتر الجمهور ساعة بعد أخرى حول حدث خطير ينبغي التساؤل: هل تقودني هذه الإثارة لأن أكون أكثر وعيا برهانات هذا العصر، وإلى مشاركة أفضل في سيـر الكـون؟ هـل لـي الـوقـت الكافـي لجعـل الخبر يتردد في عمق ذاتي أم أنني مجرد مهتز له؟ وباختصار، هل ينتهي الخبر إلى التواصل؟ إن المتعة والانفعال يتممان علـة وجودهما، أي يـؤديان إلى قيام العلاقـة وليـس إلى الشبقيـة الذاتيـة.

يبدو تعبير الاندماج في الروح أكثر أهمية، لكن الحديث عن الروح ذو نغمة غريبة. فلماذا لا نتكلم عن العقل؟ لأن للعقل سلطة قليلة على الانفعال والمتعة. تلائم هذه المقولة، علاوة على ذلك، عصرنا إذ نشهد اليوم ظهور حركات تسمى روحية في كل مكان. فهناك تداريب في الانبعاث ومراكز للتنمية الباطنية وندوات حول السينما والروحيـة. هل هو انتقام الإلـه؟ ربما كان لظهور عجز العلم والإيديولوجيا عن إيجاد حل للاختلال الوظيفي للمجتمعات علاقة بالعودة إلى أساس متعال ما. ومع ذلك، فإنني أعتقد أن طفو الروحي من جديد له تفسير آخر أكثر حسما: للروح بعض التناسب مع لغة وسائل الاتصال، فالإلكترونيك ينزع صفة المادية والفكرية عن التواصل، ولم يحدث أبدا عبـر التاريخ أن كانت مقولتا الزمان والمكان مقلوبتين ومنقلبتين بهذا الشكل! كما أن التفخيم، من جهة أخرى، يعيد تنشيط هذه القوى الحميمية التي تشكل لاوعينا. لن أذهب إلى القول بأن الروح تختبئ في الإليكترونيك! بل سأقول إن حاجة روحية وليس حاجة عقلية، تنبثق عن جلبة الإليكترونيك وإن هناك بعض التماثل ما بين الروح واللغة المفخمة سواء تعلق الأمر بالمبدعين في المجال السمعي البصري أو تعلق بالزعماء الكاريزميين، أو تعلق - بكل بساطة - بالشباب الشغوف بقناة «M.TV» (موسيقى - تلفزة: أغنية مصورة حاكية، إلـخ).

الـروح هي النفس (بفتح الحاء) الذي يحتضن الموسيقى ويقيم وحدة أغنية مصورة حاكية. الروح هي الإلهام الذي يمرره المخرج إلى فريق تقني. لنعني بالروح المبدأ الذي ينشط من داخل الكائن الإنساني وحيويته وتوجهه ووحدته. لا يتعلق الأمر هنا بالذكاء ولا بالإرادة، بل بواقع أكثر عمقا كان القدماء ينعتونه بالنافذ، ويفرض نفسه على الوعي باعتباره تجربة مباشرة وضرورة محيرة. ومن ثمة فالروحية لا تشير إلى مدرسة دينية ولا إلى نظرية في الحياة الروحية، بل إلى مجموع تمظهرات الروح في الحياة الإنسانية والاجتماعيـة.

ترتبط الروحية بالـوعي، فهي تفترض الانتباه والتفكير. إنها ترتبط بالتنظيم حيث أن الروح هي ضد الخلط والتفتت. إن الروح تميز وتحدد نظام القيم كما تبني الخطـة. فلاروحية هناك بدون تقشف، إذ أنها ترتبط بعلم الأخلاق، ومعنى ذلك ذات تعرف نظام وأهداف فهي ترتبط بالاتصال. إنها لا تشيد برجا عاجيا للأنا، بل تبني الأنا - في - علاقة ما. والروحية ترتبط في النهاية في جزء منها بسير العالم، بحيث أنها ذات حساسية بالتيارات الكبرى للعصر بشكل خاص. وإذا كان رجال السينما يتعرفون على أنفسهم في درب الروحية، فذلك يعود في جزء منه إلى حساسيتهم تجاه هذه التيارات. أفليست الأفلام التي تدخل التاريخ شيئا آخر غير أدرمة روح العصـر؟ ففي تواز مع حرب الخليج، سيدين الشريط السينمائي لكيفين كوستنـر kevin Costner الذي يحمل عنوان: رقصة مع الذئاب Danse avec les loups الإمبريالية الثقافية! كما أن الشريط السينمائي الاستيقاظ L'Eveil لروبين دي نيرو Robert de Niro وروبين ويليامـز R. Wi عات الموسيقية لكاليفورنيا (الروك) لا تستنجد بالقساوسة التبيتيين اعتباطا. فالاهتزاز يندمج والمتعة تتأنسـن عن طريق الروح.

على الغربيين أن يتعلموا الكثير من بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من أجل إدماج الأدرمة والانفعال. فهناك طقوس الاستقبال، وحضور الحكماء والشيوخ، والاحترام المتبادل للأدوار تجاه بعضها داخل المجموعة، والفكاهة والحكايات والأمثال، والوجبات والاحتفالات، والانتباه للجسد والصحة، وتناوب الإيقاعات وفتـرات الصمت، ومسافات الابتعاد بعد الانغماس، تلك هي بعض القواعد التي علمتنا إياها التجربة من أجل تحقيق الاندماج والتوازن.

عـدم فقـدان العقــل

هناك تجربة عشناها آلاف المرات: يتناقش طلبة جديون فيما بينهم، مركزين على وظيفة الذاكرة في مستوى عال من التجريد وبعد قليل، هاهم يتحولون تماما أمام جهاز التلفزة: هاهم الكبار يصرخون ويلوحون عند التفرج على مباراة، فهل هناك كائنات منسجمة العقل والانفعال؟ إن العقل والانفعال سجلان مجهزان بقوانينهما الخاصة، فالعقل «لا يتماشى» مع الانفعال والفرجة والصورة.

يبدو لي تمييز وظيفة الفص الأيمن والفص الأيسر من الدماغ ملائما ومنورا بقدر ما أتقدم في معرفة وسائل الاتصال. فالتلفـزة والإذاعة من بينها بصفة خاصة تسبب تطورا متضخما لخصائص الفص الأيمن للدماغ، أي الانفعال والحدس والرؤية العامة والتعرف على الأشكال[6]. أما الكتابة الأبجدية فتقود، على العكس من ذلك، إلى تضخم في نمـو وظائف الفص الأيسر من الدماغ، أي التجريد والمنطق والإمساك بالتفاصيل وارتباطها، إلخ.، إذ من المعروف أن النظرية تتطلب الدقة والاختلاف ويظل هذا الأمر مبررا بالوقائع. فهناك بداخلنا نمطان من الاشتغال، وهما شكلان من الفهم مختلفان بعمق وغير قابلين للاختزال إلى بعضيهما. من المؤكد أن هناك جسر بين العقل والانفعال على غرار الروابط بين الفصين الأيمن والأيسر للدماغ لكن، من المستحيل أن يحل أحدهما محل الآخر. إن إخضاع التفكير العاطفي لثقل العقل عمل مضاد للطبيعة. فبالإمكان القيام بالتلقيح والإخصاب وليس الاتباع، بل إن عملية كهذه تبدو اليوم، أكثر من ذلك، مستحيلة لأن البيئة الإعلامية هنا هي التي تقوي الانفعالي. فالقناتان تعملان بالضرورة، ونظرا لطبيعتهما، بطريقتين مختلفتين دون تعارض، بل بتكامل، أي مثل رجل وامرأة ومثل مسلكي البث الثنـائي Stério...

كيف تتم موضعة العقل؟ هل يموضع كسيدة عظيمة فاتها العصر متسمرة على جانب الطريق؟ يرد فينكيلكروت Finkielkraut بقوة في كتابه هزيمة الفكر La défaite de la pensée قائلا بان البرابرة المعاصرون ينتهون إلى تدمير ثقافة الفكر لفائدة حساء إعلامي يفضي إلى ثقافة المخادعين، وسيكون الأمر مأساويا[7]. ليس قبول ثقافة رمزية ذات رنة عاطفية هو قبول ثقافة بدون فكر ولاعقل. لاشك في كون الأدرمة استراتيجية فعالة للاتصال بشكل خاص فيما يتعلق بالخطاب السردي والإعلامي. إلا أن التوثيق العقلاني شئ آخر تماما، والتخلي عنه سيكون إعلانا عن تقهقر مأساوي. ولكي يكون للاتصال بعض الطموح إلى الحقيقة والكونية، فإن تداخل الاستراتيجيتين ضروري.

إن الحروف الأبجدية الإغريقية العتيقة وبناء إحكام الكلمات كانت بمثابة سكة لثقافتنا، وقد كان العقل الغربي مطابقا تلقائيا لهذا القالب ومع الوقت، اصبحت الكتابة والتحليل والمفهمة والتفكير المنطقي عوامل جوهرية ليس للكائن البشري فحسب، بل ولكل نمو إنساني في القرن العشرين. كان لهذه الثقافة معبد هو المدرسة، ولامجال لجعل هذه الأخيرة مركزا إعلاميا إذ يجب على المتاحف والمراكز الثقافية والأسفار أن تقوم بهذا الدور وبالمقابل، ينبغي أن تستعمل في المجال المدرسي أدوات التحليل المدرسية لمعالجة الخطاب الإعلامي، وهذا هو ما سيكون منطقيا وملائما. ما هي لغة مسلسل دالاس ولغة الأخبار؟ كم من دراما تحدث في ظرف 3 دقائق؟ ما العلاقة بينهما وكيف يتم اختيارهما؟ ماهي مسوغاتهما المألوفة؟ وهلم جرا. باللغة الأبجدية سيمكن للمدرسة أن تكون مكانا للتأمل في المسائل الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية الملازمة لوسائل الاتصال. وكمثال على التأمل الأخلاقي معالجة النزاعات في التلفزة التي غالبا ما تكون واضحة وسريعة حيث أن الطيب معه الحق والخبيث مخطئ، واحد ينتصر والآخر ينهزم وكأن الأمر يتعلق بمباراة نحسب فيها النقط. لكن ومع مرور الزمن، ألن ينتهي المتفرجون في حياتهم إلى عكس هذه الطريقة المؤدرمة في حل النزاعات، حيث يحل الفعل محل التفاوض والسرعة محل البطء والقسوة والعدوانية محل الرضى بالواقع؟ باختصار، ينبغي على نمط من التأمل كهذا أن يتخذ مكانه في التعليم المدرسي وهو ما سيكون إخلاصا لتقاليد هذه المؤسسة.

لن يكون لهذه العقلنة أثر مباشر وفوري على طريقة مشاهدة مباراة المساء على التلفزة فيما نعتقد. فكما هو الشأن في نظرية فصي الدماغ، هناك مرور بكل تأكيد من الانفعال إلى العقل، ولكن بعد ذهاب وإياب على الجسر، وهو ما يتطلب وقتا. يعمل العقل في العلو بطريقة غير مباشرة، وعن طريق تلقح الشخصية. فمن سبق له أن كان متشربا بما تعلمه في الأعماق سيكون اكتسب في شخصيته طعما خاصا للمسافة وللنقد، للحقيقة وللحرية، هكذا ويمارس العقل تأثيره على وسائل الاتصال.

تعتبر الأدرمة من بين كل خصائص اللغة الإعلامية، بدون شك، الأكثر وضوحا للتعرف عليها والأكثر بساطة لشرحها. لكن الارتباط الجد معاصر، بين الأدرمة والإلكترونيك هو بدون شك أقل وضوحا لكنه ليس أقل حميمية ولاأقـل ثقلا بالعواقب.

هل يمكن الحديث عن ثقافة جديدة؟ يبدو المصطلح مبالغا فيه. فالثقافة التي يمكن أن تتولد عن وسائل الاتصال الإلكترونية لا تدمر كي تصنع الجديد، بل إنها تنضاف بغرض إحداث ما هو أكثر إنسانية. وسأقترح أن يتم الحديث بالأحرى عن ثقافة إعلامية كما لو تعلق الأمر بالحديث عن مصب آخر للثقـافـة.

 

[1] - اخترنا تعريب حروف مصطلح (dramatisation) بالإبقاء على شكله اللاتيني عوض ترجمته بجملة «إضفاء الطابع الدرامي»، وذلك تجنبا للخلط المحتمل أن يقع بينه وبين مصطلح «المسرحـة» (théâtralisation) كما ورد بالمنهل ويستعمله الكثيرون (المترجـم).

[2] - Mario Vargas Llosca, La tante Julia et le scribouillard, ed. Gallimard, Coll. Folio, Paris, p. 68.

[3] - Idem., p. 129.

[4] - Extrait d'un article intitulé: «J'ai peur des médias» par le Cardinal Lustiger, paru dans Télérala, n° 2146, 27 Février 1991.

[5] - Que sont les Japonais?, interview personnelle de Maurice Bairy, Professeur d'anthropologie japonaise, Sophia University, Tokyo, Cassette pubiliée par NOVACOM, BP 70, 69132, Ecully Cedex, France.

[6] - Op. Cit., Voir en particulier, le chap. XI, p. 143.

[7] - Alain Finkielkraut, La défaite de la pensée, éd. Gallimard, Coll. Blanche, Paris, 1987, Cf, le dernier chapitre où l'auteur qualifie les médias de «culture de zombie».

 

 

 

موارد نصيـة

بيير بابان

لغة وثقافة وسائل الإعلام

المحتــوى

الفصل الأول: الإحساس أولي

الفصل الثاني: الأسبقية للخلفية

الفصل الثالث: الأدرمـة

الفصل الرابع: تكويـن الصـورة

الفصل الخامس: تكوين الحكاية

الفصل السادس: التلعيب

الفصل السابع: المـزج

الفصل الثامن: منطـق آخـر

خاتمــة

 

 

جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.