Dona
Woolfolk Cross
وهو يعالج تسلسل الأخبار بالتلفزة في كتابه
«كلام وسائل الاتصـال» Média Speak:
«إن لغة الأخبار في وسائل الاتصال متفتتة وعبارة عن كشكول Patchwork.
فالمشاهدون لا يشجعهم شئ على إقامة روابط ولاعلى صياغة فرضيات، حيث هناك
فقط حكاية تعقب أخرى دون أي علاقة لاقبل ولابعد[1].»
ويصرح ريتشارد سالان Richard Sallant، وهو أحد مسؤولي القناة الأمريكية
NBC من جهته قائلا: «لا يعرض مخبرونا الصحفيون حكايات انطلاقا من وجهات
نظرهم، إذ أن عروضهم تقوم انطلاقا من رأي لاأحد[2].» إن غياب زاوية النظر
هذه وتفتت الخطاب، القطيعة الدائمة للاستمرارية الخطية وخلط تصاميم
الواقع والحلم (فلليني)، وهذه الاسترجاعات السريعة الخشنة والمفاجئة
وباختصار، كل مايمكن تسميته بأسلوب الأغنية المصورة الحاكية، قادت النقاد
إلى تشخيص تفتت الإنسان. فمن فرط الإنصات إلى رسائل بدون رابط فيما بينها
ومن فرط النظر إلى الأشياء، من وجهة نظر لاأحد، فإن بنية الكائن البشري
تفتتت.
هل سنصل إلى تفكك انساني انطلاقا من لاتناغمية
الخطاب الإعلامي؟ ومع ذلك، فهل هذا الخطاب لامنطقي إلى هذا الحد؟ ربما
كان كشكولا لكن، هل الكشكول لامنطق له؟ ألا يكون داخل الخطاب السمعي
البصري بالأحرى نوع من التسلسل الذي نجد عناء في إدراكه والذي لم تهيئنا
له البتة التربية المدرسية؟
هـل المنطـق مصطلـح ملائــم؟
عن سؤال المنطق أجاب ماك لوهان بصورة هي صورة
الفسيفساء
.
وفي مؤلف سابق، اقترحت صورة أخرى هي تلك المتعلقة بالتأليف عن طريق
الإشراقاتFlashing [3]. وتتلاقى كلتا الصورتين حول الأساسي. ليس التأليف
السمعي البصري خطيا ولاتربويا ولاحتى تاريخيا، فهو لايتبع منطقا
استنباطيا وعقلانيا، بل إنه يعمل بالضربات par à coups وعن طريق حجارة
صغيرة موضوعة بجانب بعضها دون نظام ظاهر ولكنها منظمة بسرية كي تجعل صورة
نهائية تظهر. هناك بمعنى ما تشكيل مسبق يقود التسلسلات. وعلى الرغم من
صحة وأساسية هذا التحليل، فإنه يبدو لي جد محدود وغير كاف حتى يعرض
لتعقيدات الارتباطات في لغة وسائل الاتصال، فما الذي يحدد إذن نظام
الحجارة الصغيرة في الفسيفساء؟ لماذا هذه الحجارة أولا قبل الأخرى؟ لماذا
ومضة الكاشف المبرق هنا وليس هناك؟ لقد تم الحديث عن منطق الفرجة الشاملة
music-hall وعن منطق العواطف وهذا صحيـح، فهـل
يمكـن الذهاب أبعـد من ذلك؟
غالبا ما يقلق المبتدئون في الإنتاج السمعي
البصري متسائلين
:
كيف تكون المتواليات متسلسلة؟ كيف سيتم المرور من هذه الشخصية العصبية في
مكتبها إلى المرأتين اللتين تتجولان بمحاذاة الشاطئ! ويكون الجواب:
لاتقلقوا، سيأتي الحل من تلقاء ذاته إذا كنتم متمكنين من المناخ. اخلقوا
المناخ منذ بداية تخطيط المشاهـد، واجعلوا الشخصيات تحط الرحال وتستقر.
هكذا تتوفر السكة ولن يبقى أمامكم الآن سوى الاهتداء بها. فالتأليف
السمعي البصري مثل النقاش بالمطعم: إذا كانت العلاقات محددة والإطار
التزييني مركزا بشكل جيد والأكل موافق للوضعية، لن يظهر القفز بين
المواضيع Le coq à l'âne في النقاش إذ أن رباطا حميميا ورقيقا يسير
التسلسلات، فهل يمكن تسمية هذا الرباط منطقا؟ وهل يعين المنطق علما
للتفكير الاستدلالي؟ ليس هناك أي مبرر والحالة هذه، فلابرهنة هناك
ولاحقيقة بكل تأكيد بين الصوت الغليظ والصوت الحاد، بين تفخيم التردد
المنخفظ وتفخيم التواتر العالي، بين صورة الجمل وصورة الجبل. لنتفق على
أن مصطلح منطق ليس مرضيا بشكل تام بمراعاة المفهوم التقليدي للكلمة. ومع
ذلك ألا توجد خلف مصطلح منطق كلمة Logos (كلام) التي لا تعود إلى الحقيقة
الفكرية لوحدها. لنلاحظ أيضا، وبحسب تعبير بوسوي Boussuet، أن «ارتباط
العقل والنظام علاقة مغالية». إن الحقيقة والتناغم، الحقيقة والجمال ثم
الحقيقة والاستكمال الإنساني يكونان زوجا عضويا: فالصيغ المنطقية مهما
كان اختلافها تتبع نظاما مماثلا.
إذا كنت قد اخترت في هذا التفكير المتمعن مصطلح
منطق القوي، فلأجل القول بأن لا تنافـر
- ضمن نطاق
الخطاب الإعلامي - بين الأطراف فيما بينها، بل هناك تسلسل حقيقي ومبرر.
وسنعني بالمنطق الإعلامي تسلسلا متناغما لعناصر ولأشكال الخطاب بقصد
الوصول إلى إثارة مستلطفة للمتلقين. وإن تسلسلا ممركزا على الاستماع
لتتحكم فيه بشكل رئيسي متطلبات الوسيط (من هنا منطق التفخيم) ومتطلبات
التجارة (وهو ما ينتج المنطق التجاري). وسيكون تعقيد منطق كهذا مفهوما.
وعلى الرغم من انفلاته من العقل والعلم إلا أن هذا المنطق المعقد ليس
غريبا عنهما، فهو يلامس الجمالية وعلم النفس، قوانين الجسد وقوانين
التفكير، يلامس في الأخير السياسة والاقتصاد.
منطـق التفخيـــم
لماذا لانتحدث ببساطة عن المنطق العاطفي أو عن
منطق المتخيل؟ لكي لا نختزل مرة أخرى وسائل الاتصال إلى تتال من
الانفعالات والصور كما درسها في بداية القرن علماء النفس
.
لنقل أن خصوصية وسائل الاتصال هي ارتباط الصور والأصوات بالدوافع
الإلكترونية. فصورة التلفزة لا يمكنها أن تنفصل عن الشعاع الضوئي الذي
يطبع دماغنا بطريقة حادة.وبغض النظر عن الصور الذهنية، فإن الاهتزازات
الحواسية الخاصة بوسائل الاتصال هي من الكثافة والشدة والخصوصية إلى درجة
أننا لن نستطيع وضعها جانبا في سيرورات التسلسل.
وحتى أجعل قولي مفهوما، سأتجرأ على مقارنة
التلفزة أو الإذاعة بالمخدرات المهلوسة
.
فلتسلسل الصور علاقة ما مع المخدر في حد ذاته. تبين لوحات المعارض
الطليعية بكل وضوح اليوم، أن الرسالة هي الإحساس أولا، فغالبا ما نقرؤ في
أسفل اللوحات العبارة التالية: قطرة زيت على قماش (Oil on a canvas).
علينا إذن أن نقيم الاختبار هنا لهذا التسلسل الخاص الذي هو تسلسل
الإيقاعات والنبرات، تسلسل حجم الأصوات وحدتها وتسلسل الكثافات الضوئية،
تسلسل توازن البياضات والألوان وباختصار، توازن كل هذه العوامل
الفيزيائية التي تترابط جوهريا بالصورة كما ترتبط بالعواطف في لغة وسائل
الاتصال.
مماذا يتـــألـف منطق التفخيــم؟
مما لاشك فيه أن المصطلح الذي سيلائم هنا بشكل
أفضل، هو مصطلح التراص حول قطب معيـن
.
يمكن مقارنة منطق التفكير المفاهيمي بتسلسل
القضبان على طول دعامتي سلم
:
التسلسل الخطي والمنهجي للأفكار حيث يتم الانطلاق من نقطة ما قصد
الانتهاء خطوة خطوة إلى نقطة نهاية. أما منطق التفخيم فيسير بطريقة أخرى،
إذ يمكن مقارنته بمهارة التلاؤمية Jeu de design حيث تنتظم كويرات حديدية
حزما على كتلة ممغنطة. تتراص الكويرات وتختلط ببعضها، ويبدو بديهيا أنها
تتموضع تبعا لنظام يتعلق بخصائصها مثل حجمها مثلا. وبالإضافة إلى ذلك،
فإن أي ظرف خارجي مثل نقل الكتلة أو لمسها بالأصبع، يمكنه أن يؤدي إلى
الاضطراب الكامل للتشكيل وبالتالي إلى تغيير الترابطات القائمة. هكذا هو
المنطق السمعي البصري، فمن جهة هناك الصور و الأصوات والمقاطع التي تنتظم
وتتسلسل عن طريق الانجذاب أساسا نحو قطب. ويمكن، من جهة أخرى، لهذا
التنظيم أن يقلب بواسطة لمسة من أصبع المخرج، كما يمكن أن يقلب بالظهور
المفاجئ لعنصر جديد، مثل وصول برقية أثناء بث الأخبار المتلفزة.
الاستقطاب عن طريق الهالة الروحيـة وحل العقدة
ما هي هذه الأقطاب التي تسلسل بسرية الصور
والأصوات؟ أولها هو الخلفية
.
تلك الهالة الروحية الشهيرة التي لم نتوقف عن الحديث عنها على
امتداد صفحات هذا الكتاب. إن هذا القطب لذو أهمية رئيسية: أقيموا
التزيينات واحدثوا الهالة وستقام التسلسلات من تلقاء ذاتها. ستتموضع
عناصر الخطاب بمكانها في توافق مع الأرضية وفي نوع من التكيف التلقائي مع
البنية ومع الوضعية، شريطة البقاء داخل الجو. من المؤكد أن أصبع المخرج
بإمكانه التدخل، لكن يجب ألا ننسى بأن عليه خلخلة الوضعية وربما تغيير
التزيين.
القطب الثاني هو حل العقدة
.
تتناسق عناصر الخطاب هنا عبر أجزائها التي تتشابك مع بعضها البعض بهدف
تسريع المخرج النهائي دراميا بشكل أكبر. ويبين لنا قطب حل العقدة بأن
سرا مقصودا يطارد الكائنات من خلال طوارئ فعل بين القدر والشجاعة وبين
الصدفة والمعركة.
يقدم الشـريط السينمائي
أسيرة الصحراء La captive du désert
للمخرج ديباردون Depardon مثالا ممتازا لنظريتنا حيث إن حل العقدة فيه
بسيط بمقدار أهمية الهالة الروحية المتجسدة في الصحراء القاسية
المتحكمة في الاستعراضات التي لا تنتهي للقافلة من اليسار إلى اليمين، في
رتابة ضوضاء وقع الأقدام على الرمال وفي الانتظام الموحي للشمس التي تبزغ
وتغرب. يرتبط قطب جاذبية حل العقدة بقطب الميدان وهو ما يتمثل في أن
الشخصية المركزية التي مثلتها ساندرين بونيـر S. Bonnaire في الشريط، تمت
موضعتها ضمن القافلة بطريقة جعلت أقل إيماءاتها وتعابير وجهها وحركاتها
وملابسها وأغانيها تشعر (بضم التاء وكسر العين) بحلول اللحظة الأخيرة
للمأساة. إن شريط روبير التمان R. Altman الذي يدور حول فان غوغ Van Gohg
وأخيه تيو Théo، يجعلنا نرى نبوغ وسقوط النهاية يرتسم من بين الخيوط، من
خلال ثنايا مباغثات وتوترات البداية، ومع اقتراب هذه النهاية، لا يمكننا
سوى ملاحظة عجلة العناصر المختزلة في العبارة التالية: هذا ما كان ينبغي
حدوثـه!
من الأهمية بما كان دراسة الأشرطة السينمائية
من زاوية هذه الديالكتيكية الرابطة بين قطب الهالة الروحية وقطب
حل العقدة، حيث يتمثل نبوغ المخرج في تنظيم التسلسلات داخل هذا الاستقطاب
الثنائي
!
فهناك من جهة الأرض والوضعية والشخصيات ومن جهة أخرى الصورة الأخيرة. لكن
من غير الوارد بالنسبة للمخرج التخلي عن هذه الاستقطابات وإلا سيبتعد عن
حياة الجسد وغليان الحواس ليسقط في بحث مزين بالتمثيلات المصورة.
الاستقطاب عن طريق التماثل والاتصال الرمـزي
لا تفسر جاذبية الهالة الروحية وحل
العقدة كل شئ
.
فهناك جاذبيات أخرى أكثر باطنية للخطاب نفسه، هي عبارة عن تجانسات بين
صور معينة أو كلمات ما أو أصوات. وسأسمي هذه الروابط الدقيقة بالتسلسلات
عن طريق التماثل أو عن طريق الاتصال الرمزي. لنفهم أن التماثل هو هذا
الاشتغال عن طريق أجزاء صغيرة من الواقع تنادي على بعضها وتتعالق فيما
بينها بفضل بعض التشابهات. هكذا ستعمد الممثلة وهي تشعر بقلق الموت
في فيلم
الوصايا العشر Le Décalogue
لكريزتوف كييسلوفسكي إلى اقتلاع أوراق النبتة الخضراء واحدة تلو أخرى.
ولنفهم كذلك أن الاتصال الرمزي هو تلك العلاقة المتبادلة بين الألوان
والعواطف وبين الأصوات والانفعالات ثم بين الإيقاعات والأشكال.
غالبا ما تسير التماثلات والاتصالات الرمزية
سويا
.
فهناك تشييدات في شريط
أحـلام Rêves للمخرج
أ. كوروسارا A. Kurosawa يتمثلان، من جهة أولى في القمة العمودية لفوجي
ياما Fuji-Yama، ومن جهة أخرى، في الشكل المرتفع للانفجار النووي، أو أن
هذا الانتصاب يتمثل أيضا في احتراق الجبل وغزو اللون الأحمر، كما يتمثل
في الريح التي تتسبب في تصاعد حطامات الأرض وأمواج البحـر. وسنجد في
نهاية الشريط، بقرية طـواحيـن الماء، نفس الألوان الأساسية ونفس الجو،
ونفس الموقف المنصت الذي خبرناه في بدايـة الشريط مع حلم الدراقنات
المزهرة. وستنضم الإيماءات الوجهية المفـرطة للنسـاء الإيطاليات
الهائـلات في أفـلام فللينـي، إلـى الأوضـاع العجيبة المتولدة عن خيال
قائد الجوقـة
Maestro.
كيف لا نثير الحديث عن الأغاني المصورة الحاكية
للفيديو ونحن في قمة التعرض لتسلسلات التماثل والرموز المرتبطة
بالاهتزازات الحواسية؟ تمثل الأغنية المصورة الحاكية الشكل المتطرف لمنطق
التفخيم
.
ففي المجموعة الغنائية Enigma هناك الاتصال بين الشخصيات والتزيين
المكاني وبين الموسيقى والرياح، بين الحرارة والأهواء وحتى بين الروك
والإنشاد الغريغوري Le chant grégorien، ومن المستحيل شرح ذلك عقلانيا.
ومع ذلك، هناك ملاحظة تتمثل في أن فيض التماثلات والطفو المفاجئ
للاتصالات يظهر بشكل بارز لدى المخرجين أصحاب الرؤية بصفة خاصة. وإذا كان
الذين يغلب على شخصيتهم الطابع العاطفي والمتخيل أكثر مهارة في ميدان
اللغة السمعية البصرية، فلأن الحلم والواقع يتداخلان في كيانهم، كما أن
الانفعال والحضور في العالم يستدعيان بعضهما في دواخل هذا النوع من
الكائنات.
كيف يمكن السيطرة على ترابطات التماثل والاتصال
الرمزي؟ بالليل أكثر منه بالنهار، في الأوقات المكثفة أكثر مما في
الانشغالات اليومية، عندها تطفو النماذج الأصلية والدوافع والذكريات
الشخصية وتختلط بدعابة اللحظة وبالطقس وبهذه الجنازة أو بذاك المشكل
العائلي
.
تبدو كل العناصر المتنافرة وكأنها تتمازج في المتخيل حيث أن التشابهات
تتقارب والمظاهر المختلفة للواقع تتلاشى، ثم يصبح كل شئ أملس، دافئا
وشفافا في لحظة، بل يصبح حتى لامعا أحيانا، فتتخذ الأصوات والانفعالات
والاهتزازات والألوان والأشياء نفس الروح. هكذا تقوم الروابط عن طريق نوع
من القرابة ومن تناغم الكل بين الكائنات والأشياء والأوضاع.
المنطـــــق التجـــــــاري
تواصــــل
=
تجـــارة
يهيمن منطق التفخيم في شريط المؤلف وفي الفن في
غالب الأحيان
.
واليوم فإن شريط المؤلف أصبح نادرا حيث هناك عدة مخرجين وليس واحدا
بالنسبة للأشرطة ذات الميزانية الضخمة، ولكل منهم أن يدقق في مخطوط
الشريط: هل يصلح للجمهور ذلك المشهد وذلك الحوار وتلك الشخصية؟ هكذا ندخل
منطقا آخر هو منطق الربح والمصلحة والتسويق. وباختصار، فإننا ندخل منطق
التجارة. لنفهم من المنطق التجاري أنه
تسلسل لعناصر خطاب تسيره المصالح المتكاملة لاشخاص هم: المرسلون
والممثلون والمتلقون.
في قلب هذا المنطق يوجد التواصل بالمعنى
القاعدي أكثر للإشراك
(Faire
commun). إشراك الأشخاص، ولكن أيضا الأشياء والممتلكات والمصالح. ندد عدة
نقاد وروائيين بالغموضات والخيانات والمؤثرات المنحرفة للاتصالات
الإعلامية[4]. أن تكون هذه الأخيرة في خدمة التواصل الإنساني الحقيقي أمر
في غاية البداهة. فهي تشرك، بما لا يقبل الجدل، حاجات معينة للمتفرجين
كالمتعة، والاسترخاء، والثقافة، والخبر، والمثيرات، إلخ بحاجات أخرى
للمرسلين كالربح والشهرة، والاعتبار الاجتماعي، والكمال الذاتي، إلخ.
يعني التواصل باللاتينية التجارة والعلاقة في الآن نفسه، حيث أن المنطق
الرئيسي لوسائل الاتصال ينتسب لمنطق التجارة أي للمصلحة المشتركـة.
ما الإثبــــــات؟
كتب كلود سيريـون
Claude Serillon يقـول:
«
إن
التلفزة هي العالم. ولكن ما يهم وما يصنع الاستماع هو بالأحرى أنا...
هكذا تصنع العديد من بـرامج المجتمع كما يسميها البعض وجوها كما تصنع
أغنياء وفقراء، انعدام الحظر وحملات الإنقاذ، وذلك بمساعدة البحث عن
هيئات كما يحدث عند توزيع شريط. حدث لنا أن فكرنا (والتشديد من
عندنا) بهذه الطريقة ونحن نهييء بعض المجلات حيث كنا بحاجة إلى الطيب
والخبيث، ذلك الإنسان الذي يستساغ جيدا أو تلك المرأة التي يتوقع أن
تبكي، صرخة الشعار ولحظة الانفعال.[5]»
قال هذا الصحفي العامل بالتلفزة بأنه
:
يفكر، ولعل هذا التفكير بسيط يتمثل في السؤال التالي: ما الاختيار الذي
علي القيام به حتى أمسك بمستمعين وأحتفظ بهم في برنامجي؟ لقد أسر لي مدير
إذاعة كبيرة قائلا: «إننا لا نطارد في الواقع إلا هدفا واحدا هو هزم
الإذاعة الأخرى المنافسـة.» هكذا يضبط حساب الاستماع اختيار البرامج
ونظام عناصر الخطاب بداخلهـا.
يتخذ منطق التواصل في مجتمعاتنا الليبرالية
هيئة ديكتاتورية
.
«ديكتاتورية الاستماع»، تلك هي العبارة التي كتبها الفيلسوف كيركغارد
Kierkegaard فيما يخص الصحافة حيث يتحول المتلقي إلى سيد خفي لتسلسل
المتواليات، فهو الذي يشغل تفكير المخرج بل المنتج بالأولى. ومعنى هذا أن
كل برنامج إذاعي وتلفزي يتوجه إلى طبقة استماع تم إحصاء أذواقها
وأسلوبها. فللطفل أسلوب الإشهار العصبي، الإيقاعي والعنيف، وللاستماع
الأنثوي لبعد الزوال المقاطع الأكثر طولا، الحميمية والانفعالية
للمسلسلات الصابونيـة.
قيل أن البرمجة هي حيازة الذكاء الحانق لأن
تسلسل التصاميـم والإيقاع وتقطيع الخطاب هي مسألة ذكاء حاذق، وهو عبارة
عن علاقـة حميمية مع الاستماع الذي ينبغي تخمينه في كل لحظة من لحظات
الأحـوال النفسيـة
.
أسيــاد الرابــــط
إن الشخصية الاساسية في عدد من البرامج
الإخبارية وبرامج المنوعات سواء بالإذاعة أو التلفزة، هي مقدم البرامج
الذي يجسد الرابط ويبنيه
.
وإن سيد الرابط في الإذاعة والتلفزة هو بشكل طبيعي المفخم الجيد
أي، المـزامن الجيد للاهتزازات. يتمثل نبوغ التلفزة في نحتها لوجه
مقدم البرامج الذي ينبغي أن يكون جذابا حاضرا ومتعاليا في الآن نفسه.
فعندما اسمعه باعتباري متلقيا، فإنني أستجيب له جسديا بطريقة انفعالية،
فأي منطق هذا إذن؟ إنه منطق جسدين وحساسيتين تلتقيان. فذاك المقدم يؤثر
بعمق ولمدة طويلة في جمهوره بجعله يدخل في منطق التواجد المشترك، فليس من
الغريب إذن أن تكافأ آلهة التلفزة هاته بأجور باهضة: إنهم يتقمصون
العلاقة ويمارسـون التجـارة.
يمكن القول بأن رؤساء التحرير أو المخرجين هم
الحاكون الرئيسيون لمنطق التواصل زيادة على مقدمي البرامج
.
ففي مدارسهم تلقن ألف طريقة لهذا المنطق، ولنذكر منها بعضا:
-
قدم في البداية تشخيصا واضحا ودراميا قصد إيقاظ
الرغبة وركز صورا تثبت الخيـال.
-
انتقل من الخاص إلى الكوني ومن المصالح الأولية
إلى المصالح العامـة.
-
كن انفعاليا منذ الانطلاق، فالفكرة الواضحة التي لا تمس لا الحساسية ولا
الفضول فكرة غير مستساغة.
يجب إدفاء القاعـدة.
-
غير الإيقاع تبعا للمواقف المفترضة للجمهور حيث يكون مقطع من الروك
أحيانا ضروري بعد جولة على الماء. لاتخف من التوقفات الخشنة المفاجئة
وحافظ على المتتبعين في حالة لهاث.
فالرتابة هي أسوأ عدو.
-
لا تنس أبدا بأن قاعدة المنطق السمعي البصري هي وحدة تجربة المتفرجين.
فكل شئ مباح شريطة عدم خروج المتفرج من المناخ أو من التشويق الذي يخلقه
العمل السمعي البصري.
-
إذا أردت أن تقنع فلا تكن خشنا مع الجمهور عن طريق الاصطدام بآرائه
مباشـرة فلن تحصد من ذلك سوى ضربة الخشبة المرتدةBoomrang [6]،
فوسائل الاتصال الإلكترونية تسير بالبسمة وليس بالقنبلـة.
-
إن المنطق الأولي للسيناريو ذو 3 أزمنة: توتر، قمة درامية، استرخاء، وإذا
أردت أن تثير الاهتمام فعليك بمضاعفة هذا المنطق.
يعرف الفن الشفهي طرقه
.
ومع ذلك فإن للأفكار في وسائل الاتصال أهمية أقل مما هي لها في الخطاب.
والأهم من كل شئ هو العلائق الحواسية والانفعالية الجيدة بين المرسلين
والمتلقين.
كيـف يشتغـل الانخــراط؟
في نهاية برهنة فكرية صحيحة، يكون الذكاء موجها
إلى الانخراط في العملية، وذلك عن طريق الاعتراف بصحة الاقتراح، فما موقع
منطق وسائل الاتصال من هذا الأمر؟ ما الذي يمكن من الاعتقاد بالرسالة؟ ما
الذي يجلب الانخراط؟ ما الذي جعل هذا الشئ يقتنى دون الآخر في معرض
المنتوجات؟ وبدقـة أكثر، لماذا يقنعني ذاك البرنامج وذلك المقدم؟ زيادة
على الذكاء، يقوم الجسد في كليته، كما العلاقات، بدور في هذه المسألة
.
وساذج هو من سيجيب عن هذه الأسئلة بطريقة قطعية مادامت المتغيرات عديدة
وبصفة خاصة داخل الرسالة نفسها. تكفي كلمة أو نقطة أو لون من أجل التحول
إلى هذا الاتجاه أو ذاك، ومن وجهة نظر المتلقي نتسائل:
ما الذي يحدث بداخله حتى ينخرط أو يمسك عن ذلك، يحـب أو ينفــر؟
استجوبت عددا معينا من الأطفال والراشدين الذين
لاثقافة مدرسية كبيرة لهم بالنسبة لمسلسل دالاس ولإشهارات تلفزية معينة
.
وتقودني أجوبتهم إلى ثلاث ملاحظات هي:
-
أن الجمهور يفكر وإن كان قليل التكوين فكريا،
ولكنه لا يفكر بطريقة استدلالية.
-
ينشأ تفكير الجمهور بشكل رئيسي عن اعتبارات أخلاقية واجتماعية. وأعني
بالأخلاقية تلك الاعتبارات التي تهم التوجيه الشخصي للحياة تبعا للأهداف
والقيم.
وبالاجتماعية أعني تلك الاعتبارات التي تهم الاعتراف الفردي من طرف
الآخرين كما تعني الوضع الاعتباري داخل المجتمع.
-
تنتج استجابة الانخراط أو الرفض بصفة أساسية عن نوع من التوجيه الداخلي
للاشخاص، كما لو كان هؤلاء الأشخاص يمتلكون في أعماق ذاتهم ملكة للتمييز
بطريقة الذوق بالنسبة للمأكولات، نوع من الاستباق الشامل للحكم ذي
الطبيعة الوجدانية والسياقية على الأجدر.
عادة ما يتحدد الانخراط انطلاقا من هذه النقطة
الحميمية
.
وهو انخراط لا يكون دائما واعيا وإراديا، فالحدس والاجترار مصطلحين
ملائمين بما فيه الكفاية لوصف هذه السيرورة ويجب هنا تمييز حالتيـن:
-
يتعلق الأمر بانخراط سطحي يتولد عادة انطلاقا من الحاجات أو المصالح: هذا
لا يعجبني، وذاك أريده. يوضح التعبير الشعبي جيدا الطابع الشبه مادي
واللاعقلاني لهذا الانطباع: «فلان لا أتذكره.»، «فلان لا أستطيع تحمله.»
مسألة حساسية! يتعلق الأمر في العمق بتلقي توافق بين كائنين أو أسلوبين
وبين شيء وشخص.
ويمكن أن يتبع ذلك تفكير ذو طابع نفعي واجتماعي، تفكير لا يذهب بعيدا
وكأننا في سوق ممتازة.
-
مقابل ذلك، إذا تعلق الأمر بمصالح عميقة وبانخراط في قضايا تمس توجيه
الحياة، فإن آلية التفكير تكون مطابقة، وأحيانا سريعة، ولكنها تختلف في
كونها تستدعي حوافز دافعة حميمية أكثر. عندها يكون التناغم بين رسالة
وسائل الاتصال والصورة الباطنية هو السبب الكبير، بل الوحيد،
القادر على إحداث الانخراط. ويحصل الانخراط عندما تتعطل الصورة الباطنية
مع البرنامج أو مع الشخصيات الإعلامية. ما الذي ينبغي قصده بالصورة
الباطنية؟ سيقول آخرون بالـ «غريـزة الداخلية» وهم يريدون بذلك التنصيص
على الطابع البدائي والأساسي لهذه المسألة. يمكن اعتبار الصورة
الباطنية كرأس باحثة داخل ذاتنا نفسها. فهي تشمل في الآن ذاته
النماذج الأصلية الكامنة بداخلنا، والنظام الذي أقمناه بأنفسنا في
الماضي، كما تشمل متطلبات الوضعية الحالية. ترتج هذه العناصر الثلاثة
بداخلنا وتستمر باحثة على الدوام عن حلول ترضي حاجات الهوية والمعنى
والنمو، أي ما أسميه صورة باطنية وهو مظهر هذه العناصر الثلاثة في
دواخلنا الخاصـة.
انطلاقا من هذه النظرة يمكننا أن نفهم أن
التماثل أحسن صلاحية من الاستدلال، وأن الصورة أفضل من الخطاب
.
نسمع في الغرب من يقول بأن التماثل لا يثبت شيئا، وأن الرمز لا يبرهن عن
شئ. أما الشرقي فله تناول مختلف للواقع حيث أن تماثلا جيدا بالنسبة له
يثبت أفضل من إثبات الاستدلال. ذلك أن تماثلا ما يبرز في نفسيتنا ما هو
متناغم أو غير متناغم، ما هو انسجام أو قطيعة. ليس التماثل مجرد مثال
خارجي لتحقيق الفهم الفكري، بل إنه التعبير عن استمرارية الأشياء
والكائنات، فهو يبرز وحدة العالم ويشكل صلة تأويل كل شئ. وإذا لم يكن
هناك تماثل فلا قيمة للحجة العقلية، أي أن المستمع سيظل سلبيا وإلا
فسيشعر باللاتناغم بشكل شبه ملموس. في إطار هذا النمط التماثلي والرمزي
تشتغل وسائل الاتصال، أي أنها تشتغل بالنمط الشرقي. ويتم الاقتناع عندما
تكون على نفس خط التفكير والوجدان أي عندما يكون هناك انسجام بين
الصورة الباطنية والصورة الخارجيـة.
منطق وسـائل الاتصــال والثقافــة
أي ثقافة يمكن أن تتولد عن منطق وسائل
الاتصـال؟
كيف يمكن لهذا التسلسل المريب الذي يعمل بنهج
طريق التراص والغمزات ويشتغل عن طريق الاستجابة بآلة قياس الاستماع
Audimat أن
يمنح الامتياز عن طريق الإغواء لكمال إنساني حقيقي؟ كتب الفيلسوف ج.
لاكروا J. Lacroix يقول بأن «هدف الثقافة هو التحقيق التام لكل الكوامن
الإنسانية[7].» وأعتقد أن منطق وسائل الاتصال لا ينمي كل الكوامن
الإنسانية، بل ينمي بعضها المهمل إلى حد ما عن طريق المنطق الاستدلالي
Discursive.
للاستدلال الفكري امتياز التوصيل إلى الحقيقة
ونظامه هو نظام المعرفة
.
ويعود امتياز التوصيل إلى الجيد والطيب إلى منطق التفخيم والتجارة ونظامه
هو نظام السلوك. ليس ما يحدث عن طريق وسائل الاتصـال تكوينا للتفكير
بقدرما هو تحول للمواقف وللمعتقدات وللأخلاق. فالإشهار حول حمل حزام
الأمان بالسيارات لا يؤدي إلى أفكار، ولكن يؤدي إلى تغيير الرأي والسلوك.
أفليس هذا أمر مهم بالنسبة للثقافة؟ وما القول إذن عن البرامج السياسية
والثقافية؟ لنفكر في «الثورة الهادئة» للكيبيك خلال سنوات الستينات، ثورة
ينسبها الملاحظون للتلفـزة بالإجماع.
لاأحد ساذج بما فيه الكفاية ليعتقد بأن
الاستدلالات تقود، إن كانت صحيحة، إلى الحقيقة بشكل لا يخطئ
.
لن يذهب على الأرجح أحد إلى الاعتقاد بأن المنطق الإعلامي سيقود، وإن كان
جيد الإحكام، نحو الجيد والطيب. إنه يقود نحو الأفضل والأسوء. وإن السؤال
إذن هو معرفة حظوظ ومجازفات منطق كهذا بالنسبة للثقافة.
التوسيــــــع
إن أول حظ وأول خطر هو التوسيــع
.
لخص لي مسؤولون محليون وضعية بولونيا عند سفري
إليها سنة
1991
كما يلي:
«
من
قبل، لم يكن لدينا ما نشتريه، لكن كانت النقود متوفرة لدينا. واليوم
يمكننا شراء كل شئ، لكن لامال لدينا. أما غدا، فنعتقد أننا سنتوفر على
المال وسيمكننا شراء كل شئ. عندها سيكون السؤال هو: «ماذا نختار؟»
إنه مثال جيد ينطبق على لغات وسائل الاتصال
.
لقد وسع منطق التفخيم والتجارة مجالنا، وحررنا من منطق غالب بإفراط وخطي
هو منطق العقل المعقلن. ها نحن ضمن منطق مركز تجاري حيث توجد كل
المنتوجات معروضة وهي تحمل بطاقاتها وفي حالة ترويج دعائية بهذا القدر أو
ذاك. لقد كان المنطق الخطي يقودنا نحو هدف ما، بينما يحيلنا منطق العرض
(عرض المنتوج)
على ذاتنا نفسها، فما الذي سنختاره في معرض الأفكار والمعتقدات
والمتنوجات؟
إن التوسيع هو تنمية حرية الاختيار، امتداد
للقدرات الفردية
.
فمن ذا الذي لا يرى الحظوظ؟ لكن إلى أين يقود هذا الأمر؟ في إجاباتـه
على بيير نورا Réponses à Pierre Nora
[8] يتحمس برنار بيفو
Bernard Pivot فجأة في الكلام عندما يتطرق إلى موضوع الزابينـغ:
« (...)
امسك بآلة تغيير القنوات. آلة التحكم عن بعد. فالانتقال بين القنوات
Zapping، باعتباره أحد الابتكارات التي حولت أساليبنا ونفسيتنا هو أولا
عطاء الحضور الكلي حيث يكفي الضغط بالإبهام على أزرار الانتقال من شريط
حول الغرب الأمريكي إلى برنامج سياسي منقول مباشرة من ماتينيون، ومن
مباراة في الكرة المستطيلة بنيوزيلاندا إلى أغنية مصورة حاكية، من موسيقى
الروك إلى شريط تيلفزيزني تجري أحداثه بمنطقة بروفنس أو إلى لعبة بأحد
استديوهات بات - شومون Buttes - Chaumon. إننا متواجدون في كل مكان أو
نكاد، نسرع من مكان إلى آخر ونخلص أنفسنا بشكل قوي ومفاجئ من منطق ومن
تناسق لكي نندمج، بهذا القدر من العنف، داخل منطق آخر وتناسق آخر
(...)»
إن الزابينغ بالوصف الوارد هنا هو رمز كامل لما
يحدث للثقافة وهي تحت سيطرة منطق وسائل الاتصال
.
وكأن النافذة مشرعة على مصراعيها وكل الرياح تدخل:
ما الذي سنصبح عليه داخل غليان كهذا؟ ماذا سنفعل بسلطتنا الجديدة للحضور
الكلي؟
يكشف برنار بيفو عن الأخطار قائلا
:
«
لأن
المتنقل بين القنوات Zappeur يريد أن يكون في كل مكان، فإنه لا يكون في
أي منها لسوء حظه. فهو لا يحصد إلا تتابعا من الشذرات مادام يرغب في فرجة
مستمرة. إنه لم يعد يشاهد شيئا، بل فقط يجس ويستبر ولا يستقر بمكان بل
يقفـز من هذا إلى ذاك. يفضل مع المدة الذهاب والإياب، كما يفضل التشرد
على الوفاء لمكان ما ويفضل المختصرات على المعرفة. ونظرا لأنه يريد
الحصول على كل شئ، فإنه يحاذي كل الحكايات وكل الخطابات دون أن يدخل
عالمها بشكل حقيقي، فاقدا بذلك الأساسي، مثل الفراشة التي نعرف أنها ليست
روحا ثابتة وعميقـة.»
تكويــن العلاقــــة
حظ آخر وخطر آخر
.
إنه العلاقة أولا.
يحدث منطق وسائل الاتصال انزلاقا من تفوق
الأفكار إلى تفوق العلاقات
.
فالترابط بين الأشخاص أهم من مضمون الخطاب، كما أن العلاقة أكثر أهمية من
المنتوج. فالتبليغ انطلاقا من الحساسية يهدف إلى إحداث نقل للمعرفة بشكل
أقل مما يهدف، والحالة هذه، إلى خلق روابط، أي الإشراك.
منذ الستينات، لم تعد الحركات أو المدارس
المحدثة، من أجل التكوين الموجه للتنمية الفردية والوجدانية والعلائقية
معدودة
.
وقد شهدت الشعب المزدهرة للسوسيولوجيا والاقتصاد بعدد من الجامعات، وخاصة
بالخارج، تقلصا تدريجيا لفائدة شعبة التواصل وهو تطور ذو دلالة!
ولدت وسائل الاتصال الجماعية حوالي السبعينات
بقصد واضح هو، استعمال اللغة النافذة لوسائل الاتصال الكبرى في علاقات
المجموعة والتكوين الميداني
.
وإنه لمن مظاهر الحقد الشديد إقامة التعارض بين وسائل الاتصال الجماهيرية
ودينامية الجماعة إذ أن الشكلين أبعد عن أن يقصي أحدهما الآخر لأن كلاهما
محتاج بالضرورة للآخر.
تقل المراهنة على البرامج يوما عن يوم، متزايدة
لفائدة الصور
.
وقد اعترف لي رئيس مقاولة كندي بأنه صوت سابقا لمصلحة تريدو Trudeau بسبب
جاذبية صورة زوجته التي كان، هو، يجمع صورها الضوئية ومقالاتها. وكون رجل
من هذا المستوى يتخذ قرارات بناء على عواطف قلبية أمر يعني الكثير حول
مخاطر المنطق الإعلامي. عندما أشعر بنفسي متناغما لكذا مرة مع رئيس
الدولة وهو يظهر على شاشة التلفزة، سأكون متفقا معه في المرة التالية
عندما سيقول شيئا مغلوطا، ولن أكون متفقا معه لأنني فحصت ما قاله، بل
لأنني اكتسبت الثقة الشاملة في شخصه أي لأن صورتينا تصادفتا.
نعـم، إنه لأمر خطيــر
!
وحظ أيضا. ليس هناك سوى شكل واحد للحقيقة: فهل هي ملائمة الأفكار
للأشيـاء؟ أكيد أن منطق الفؤاد مخاطرة، فهو منطق لا يمثل تقهقرا بل
استكمالا.
لاشك أن القارئ قد فهم أن تنمية الثقافة ليست
في الإقصاء، بل في الإشراك سواء تعلق الأمر بالمنطق أو بالأدرمة
.
إنه المشي على القدمين معا وبفصي الدماغ وبالأذنين والعينين، حيث تتم
إضافة المنطق العقلاني إلى منطق التفخيم، ويتم ضم منطق المعرفة إلى
منطــق التجارة.
السـريــرة هــي الحــل
في مواجهة الخليط المريب للحظوظ والمخاطر يبقى
تقديم حل سأصفه بالأساسي
:
إنه السريرة L'intériorité. إن السريرة هي الإبرة الممغنطة
للبوصلة. إنها الصورة الباطنية عندما تكون تحت تبعية الروح، ذلك
الطابع الثابت الذي يوجهنا من الأعماق نحو ما هو إنساني وموحد أكثر.
وعندما تتلاشى الحواجز القوية للمعرفة وللعقل، وعندما تسكن البصيرة العين
أكثر مما تكون في الكتب. آنذاك يفرض توجيه آت من الدواخل نفسهـا. وإلا
فسيظهر هذا التوجيه داخل حركات التفخيم والتجارة لنكون تائهين بشدة أي،
محرومين من التنشيط ومن الجاذبية الحميمية الضرورية للاختيارات الإنسانية
بشكل حقيقـي.
إن إيقاظ السريرة هو بكل تأكيد المهمة الأكثـر
أهمية للأولياء وللمربين في عصر وسائل الاتصال
.
وإذا كنا نتلقى هذا القدر من الاحتراز تجاه المنطق والأشكال الإعلامية،
فمما لاجدال فيه أن مرد ذلك هو معاكستها لعاداتنا الثقافية القديمة،
ولنذهب بعيدا ونقول بأنها تتركنا عزلا من أي سلاح، لأننا نكون قد أيقظنا
العقل والحكم المشحوذ وليس السريرة.
تشكل السريرة اللحظـة الأساسيـة لثقافـة وسائـل
الاتصـال عندما تكون مطابقة بدقة للغة هذه الوسائل
.
وسيمكـن لشخص ما أن يقوم بفرز دائم لمعروضات وسائـل الاتصال بفضل سـريـرة
عميقة ومكونة بشكل جيـد، وبفضل سريرته أيضا، سيتمكن من ضم ما يلائم
استكمال نفسه وسط المنطق الغريب للنجـوم ولمقدمي البرامج. تنتمي السـريرة
إلى نظام الـروح. أما الثقافة فتتعلـق بها أكثـر مما تتعلـق بالعقـل.
[1] - Dona Woolflok Cross, Media Speak, Mentor Books, New
York, 1983, p. 70.
[2]
- Richard Salant, NBC vice - chairman, expert en Television
Literacy: Critical television viewing skills, Hendron Press,
Boston, p. 130.
[3]
- P. Badin - M.F. Kouloumdjian, Op., Cit., p. 44/45.
[4]
- René Victor Pilhes, La médiatrice, Albin Michel, 1989.
François De Virieu, La médiatrice,
Flammarion, 1990.
Claude Sérillon, De quoi je me mêle,
Flammarion, Coll. J'ai lu, n° 2424.
- J. Lacroix, Chasses et Cultures,
Séminaires Sociales, 1939, p. 433.
[6]
- خشبـة ترتد للاعب بها بعد أن يرمي بها في الهواء وهي تدور حول نفسهـا
غالبا ما تكون مسطحة وذات ضلعين كمثلث غير كامل الشكل. (م).
[7] - J. Lacroix, Classes et Cultures, Séminaires Sociales,
1939, p. 433.
[8] - Bernard Pivot, Le métier de lire - Réponses à Pierre Nora,
Le débat/Gallimard, Paris, 1990, p. 65/69.