إننا ندخل
حضارة الصورة بالنسبة للعديد من الناس وخاصة الأدبيين منهم. وبالنسبة
لآخرين ذوي حساسية خاصة تجاه ثقافة الشباب، فإننا ندخل حضارة الصوت حيث
تعتبر مسجلة الجيب والروك علامتين لها. ويشير آخرون في النهاية إلى أن
غوتنبرغ في حالة جيدة رغم التكهنات المتشائمة لبعض المتنبئين بالغيب،
ويتمثل ذلك في كون النشر في ارتفاع. فأيهم على صواب؟ ومن منهم يسير نحو
الانتصـار؟
سأدعم
الفكرة القائلة بأن الرابح ليس ذاك الذي نتحدث عنه، بل هو ذلك الذي لا
نتحدث عنه أبدا وهو: المزج Mixage. فالثقافة الصاعدة هي ثقافة الصيغة
التركيبية للعناصر الثلاثة. وقد ترددت مرات ملاحظة خلال العمل في التكوين
مؤداها أن الطلبة لن يكتسبوا المبادرة وعدوى السمعي البصري إلا بالعمل
على طاولة المزج. تبدو قوالب لغتنا القديمة وكأنها تنفجر عند خلط الصور
والأصوات والألفاظ داخل قمطر Pupitre المزج حيث يكون هناك شعور بحجم أكبر
للذات بالمعنى الكوني. كما نشعـر بأنفسنا أكثـر دقـة في ربع ثانية. لقد
علمتنا سنـوات المدرسـة الاستعمال الصحيح للألفاظ وكيفية التلاعب
بالفوارق الدقيقة للنعوت. إن المزج هو فن اللغة الشاملة الأصعب من فـن
الألفـاظ. إنـه الفـن الأعلـى، فهـو قمـة اللغة السمعية البصريـة
والثقافـة التي تنتج عنهـا.
ما المقصـود
بالمــزج؟
لقد كان
المزج موجودا في عصر الشموع متمثلا في الضوء المرتجف الذي كان يتشابك مع
الموسيقى وتزيينات المكان. كما كانت المدرجات الرومانية تقام على دراسة
عالمة للعيـن وللسمع. لكن، أي وثبة هاته التي حصلت مع الإلكترونيك إلى
درجة إحداث أداة خصوصية اسمها قمطر المزج! لنضع تحت هذه التسمية أولا
طاولات مزج الصوت، بمرشحاتها وبآلاتها المضخمة وبمؤثراتها الخاصة
وبتركيباتها على طريقة تسيير تنسيقي يؤدي إلى إحداث نمط تسييـر آخر. نعني
بهذه التسمية كذلك قمطرات مزج الصورة التي بفضلها يمكن للأضواء والألوان
والإيقاعات والتزيينات والحركات والكتل والخطوط أن تحمل ألف خدعة وتصحيح
وخلط. هنا تتفوق تقنيات الفيديو حيث يضيف مولد الحروف الألفاظ وتتقن
تقنية TBC الصورة ويعيد التزمين التنسيقي Synchro خلق الإيقاعات، كما
تسمح المداخل المتعددة بكـل التركيبـات.
نصـل
بالحديث عن طاولات المـزج إلى تعريف مادي هو أن المزج عملية توفيق إشارات
عديدة. وسيختلف المزج حسب القمطرات وحسب المصادر المختارة. فليس الأمر في
السينما مماثلا لما هو عليه في الإذاعـة.
سنأخذ مصطلح
المزج في هذا الفصل بمعنى جد واسع إن لم يكن فلسفيا أكثر، ذلك أنه ينبغي
منح الامتياز للـروح الإنسانية على الإشراط التقني في هذه العملية أكثر
مـن غيـرهـا. ليس المـزج مجرد استخدام لأزرار، فهو في المنطلق فعل أي
كائن حي. أما في الذروة، فهو فعل الحساسية والروح. لنعرفه كالتالي: إن
المزج هو عملية الكائن البشري الذي يناغم ويدمج، انطلاقا من القمطرات
الإلكترونية، تعدد العوامل الصوتية والبصرية والإيقاعية، وذلك بهدف إبلاغ
رسالة. وتقوم الآلات في هذا الصدد بدور المسهـل، ولكـن أيضا بدور
المصحح والمضخـم.
قلنا في
البداية إن المزج عمل كل كائن حي. ومهما بدا ذلك مثيرا للفضول، فإن مثالا
حول الخنزير يعتبر متميزا فيما يخص عمليات المزج! للخنزير قدرة نادرة على
تحديد وإدخال أنواع متعددة من الأغذية باحثا في الأرٍض بفنطيسه الضخم،
وذلك ما يعادل في طاولة المزج المداخل المتعددة واختيار المصادر. ثم إنه
يحول ويصحح ويطرح إلى الخارج عندما يكون بصدد الهضم، وذلك ما يعادل
عمليات ضبط النظام والتصحيحات والاستخدامات المتنوعة للمرشحات عند المزج.
وفي النهاية، فإنه يرسل منتوجا جديد الصياغة وجد مستساغ هو لحمه. يوضح
هذا المثال خصوصية المزج، أي إعادة الخلق، انطلاقا من مادة متنوعة، كما
يعني أيضا بأن المزج لا ينجز بواسطة الدماغ واليدين بقدر ما ينجز
بالأحشاء. إن المزج الحقيقي ينجز من باطن الإنسان، من هذا المكان غيـر
المعين الذي يسميه الأقدمـون بالدواخــل.
طبيعي أن
الإنسان يبلغ مدى أبعد بشكل لانهائي مما يبلغه الحيوان. لابد أن يكون
المرء تقنيا حتى يمزج الأصوات والصور بشكل طيب، وفنانا كي يمزجها بشكل
جيد، وتقنيا وفنانا ومبدعا كي يمزجها بشكل عبقري. فالمزج هو قبل كل شئ
عمل من إنتاج الروح.
من المزج
التقني إلى المزج بواسطـة الأحشــاء
على غرار
إمكانية تعلم أسس الطبخ انطلاقا من كتاب الوصفات المطبخية، يمكن تعلم
قواعد المزج انطلاقا من بعض الدروس ومن كتاب موجه لتقنياته. قلنا بأن
المسألة مسألة تقنيين، لكن لا ينبغي أن نقلل من شأن تدريب كهذا، إذ
التنظير حول لغة وسائل الاتصال دون المرور عبر هذه الممارسة الإلكترونية
المركزية أمر مثير للشك. ومن لم يدمج في يديه الاستخدام الصحيح للتقنيات
غالبا ما يطرق الباب الخطأ، أي أنه يتحدث على المستوى السمعي البصري
بحساسية لغة أخرى.
هناك في
نقطة الانطلاق تدريب التقنيات الذي يهم بعض القواعد التي تتعلم بسرعة:
معرفة اللثغ chuinter دون إفراط أو تفريط في السرعة، معرفة الموافقة بين
الإيقاعات الصوتية والبصرية ومعرفة التزمين على مستوى النبرة وليس
اعتمادا على الأفكار، ثم عدم قطع اهتزاز معين، إلخ. إنه لطويل وأكثر
تعقيدا التدرب على معرفة إنجاز التوافق في الذات تلقائيا بين الأصوات
والإيقاعات والخطوط والأحاديث والمؤثرات، إلخ. فطاولة المزج تشبه على هذا
المستوى سياقة السيارة حيث أن القواعد وقوانين السير يتم حفظها بالذاكرة
بسرعة. ويتطلب الإحساس بسير السيارة في الجسد وفي الرجلين مزيدا من الوقت
حتى تتم المطابقة بدقة بين معاناة المحرك وتغييرات السرعة من جهة، وبين
انخراط العجلات بالأرض وتوجيه المقود! هكذا يكون المشكل في ممارسة المزج
هو معرفة ممارسته بالكيان الذاتي عن طريق نوع من الحساسية التي تتحكم
فورا في اليدين وبدون لف تأملي. ففي العينين والأذنين ينبغي أن تكون
تكميلات اللون والإيقاع، الانتقالات وتلاشيات الصورة وبعبارة أخرى، ففي
تجميعات الارتباط للدماغ يجب أن تسكن هذه القواعد الأساسية التي يرتبط
إلى هذا الحد أو ذاك بالدورة القمرية Nombre d'or للتناغم الكـوني.
إن الذي ينجز إدماج قواعد المزج في كيانه
لن ينتهي أبدا من تحسين قدراته واكتشاف سبل جديدة. يرينا عمل مثل
حركة الرؤية والصوت Sight Sound
Motion لزيتل Zettl أي درجة
من التدقيق والتعقيد يمكن لهذه اللغة أن تقود إليها[1].
فهي تقود إلى مدى أبعد مما تقود إليه اللغة الأدبية. فامتدادات المزج
الخطية أكثر تعددا، لكن الأهم يبقى هو امتلاك حس ناعـم وراق. وكما
أن تكوينا جيدا في الطبخ يتم بمعية رئيس الطباخين، فإن تعلما أوليا في
المزج بشكل جيد لن يكون إلا صحبة مخرجين ومحترفين. فمن المؤكد أن هؤلاء
سيعلموننا خدعا ومهارات يدوية، لكنهم سيوقظون بداخلنا حس المـزج
أكثر من ذلك. أي حـس هو؟ سأعبر عنه بتعيين المزايا الأربع التي تكون مزجا
جيـدا:
- حـس
التكامليـة،
- وحـس
الفوارق الدقيقـة،
- وحـس
الإيقــاع،
- ثم حـس
الإمكانات الإلكترونيـة.
التكامليـــــــات
إن حس
التكامليات لهو بدون جدال الأكثر أهمية بين تلك التي ينبغي إيقاظها.
معروفة هي هفوة المبتدئ حيث يقـول المذيـع أن هناك قطار يمر ونسمع ضجيج
مروره ثم نراه يمـر عبـر الشاشـة. لدينا هنا ثلاث لغات متراكبة من أجل
قول نفس الشئ بشكل مسطح، والنتيجة هي حلول الملل والتفقير محل الإغناء.
لنفترض على العكس من ذلك أننا نرى في مقدمة تصميم الصورة رجلا ممددا على
العشب قرب جسر وهو يرى طفله يلوح له من وراء شجرة. «إن القطار يمر
بسرعة»، يقول الأب. ونخمن في نفس الوقت سطح قطار يمر فوق الجسر باديا في
عمق الصورة، كما نتلقى على المستوى الصوتي الصدى البعيد والإيقاعي للمرور
على السكة مختلطا بخرير مياه النهر وزقزقة العصافير. هو ذاك المزج الذي
يحقق التكاملية، ليس اللغو بل السمفونية حيث تقول كل العناصر بطريقتها
الخاصة: «هـذا مستســاغ!»
يمكن تمييز
ثلاث نماذج من التكامليات من بين اللغات المختلفة التي تشكل السمعي
البصري.
- تكاملية
للزمـن، ومن ثم قانون القدميـة.
- تكامليـة
الشخصيـات، ومن ثم قانون الشخصيــة.
- تكامليـة
حق التصـدر ومن ثم قانون الرجحـان.
ليس هنا
مجال إعطاء دروس حول المزج، لكن لنؤكد على بعض المظاهر. أولا قانون
القدمية: ويدل على واقع معقد. فعبر قانون القدمية نشير إلى نوع من
الأسبقية الوراثية وربما الزمانية للغة على أخرى. فالصوت يأتي قبل الصورة
والصورة تسبق الكلام. ومن المؤكد أن بإمكان الصوت والصورة والكلام الظهور
دفعة واحدة في شريط ما. لكن هناك في نظام استقبالنا قدمية نفسية للصوت لا
تتوقف عن التأثير فينا، ذلك أننا عرفنا الأشياء خلال تطورنا عن طريق
الإذن أولا (الصوت إذن) ثم عبر العين (الضوء والصورة). أما بالنسبة
للكلام فقد جاء في المقام الأخير سواء كان من أجل الفهم أو التلفظ. ويظل
هذا النظام الذي حكم مجيئنا للحياة، والحالة هذه، أساسيا وطبيعيا بمعنى
ما.
كرس الدكتور
طوماتيس Tomatis [2] حياته لدراسة الأذن وتضميناتها العلائقية النفسية.
وقد قام بتسجيل الأصوات التي يسمعها الطفل داخل بطن أمه على شريط
مغناطيسي: الدم الذي يجري في العروق، التنفس، جلبة الهضم والصدى المخنوق
لباطن الجسد. تلك هي التلقينات الأساسية التي تسبب ميلاد المعرفة فينا.
إن الصوت هو القاعدة. ونحن نعني بالصوت خليطا من الضجيج واللحن والإيقاع.
ومهما كانت لحظة حضوره في الإنتاج السمعي البصري فإنه يمثل ما قبل الكلام
ويمثل الإطار المتضمن والشرط. فهو المادي والحواسي والعالمي أكثر من بين
كل اللغات. ومع أنه لا يظهر قبل الصورة في التوضيب، فإنه على الأقل يسبق
دائما المعرفة الصورية بالطريقة التي تسبق بها الصفحة الكتابة دائما. فمن
المستحيل نسيان هذا الأساس لحظة وضع التصور عند القيام بالمــزج!
إن قانون
الشخصية هو الأكثر أهمية من بين كل القوانين. فكيف نحدد شخصية اللغات
الثلاث دون السقوط في الكاريكاتور؟
عندما ننجز
مخطوط Scénario برنامج سمعي بصري، عادة ما نكتب النص على العمود الأيمن
ونصف الصورة في الوسط. وعلى اليمين الإشارات الخاصة بالصوت. مثال على
ذلك:
الكــــــــلام |
التوقيت |
الصـــــــور |
الصــــــوت |
«إن
القطار يمر بسرعة...!» |
000 8’0 |
رجل
ممدد على العشب طفل يظهر رأسه من خلف شجرة (إلخ) |
ضوضاء
مرور القطار على السكة. حدة صوتية متصاعدة بشكل خفيف صدى البيئة:
النهر والعصافيـر |
تؤدي طريقة
معالجة كهذه إلى إبراز المبدأ الذي يساعـد بأفضل طريقة على فصل وتمييز
اللغات المختلفة، وذلك على عكس ما أسميناه بقانون القدمية: يتعلق الأمر
إذن بالمعرفة البينة. فأنا أضع فورا على يمين الخطاطة المكتوبة العناصر
الأكثر وضوحا والأسهل في التعرف عليها وهي الكلمة. سنصف إذن شخصية لغاتنا
الثلاث تبعا لنظام المعرفة أو أفضل من ذلك، تبعا لنظام الفهم البين
للرسالة. لكن احذروا! فإن تمييز الكلمة مقارنة مع الصورة أصعب من تمييز
الرجل عن المرأة. لأن الكلمات أولا يمكن أن تكون مدركات حسية، صرخات أو
شعرا، والصور يمكن أن تكون من جهتها رموزا أو انطباعات خالصة أو معلومات
مسطحة. وعلاوة على ذلك، فقد وضعت كل ثقافة طابعها على تصور اللغة نفسه.
ألم يكتب أن: «الفرنسي يتحدث ليفصح عن تفكيره، والعربي يتحدث ليقنعه
والإفريقي يتحدث ليثير المتعة[3].» فهل ليس من الغرور إذن، وبالنظر إلى
عدد المتغيرات، التجرؤ على تمييز 3 شخصيات للغة؟.
سيعرف القارئ
كيف يأخذ التوسيمات التالية بدعابة ودون عنصرية. فليس الهدف منها هو
التصنيف الساجن، وإنما التمكين من استساغة الاختلافات والتكامليات. ليست
هذه التوسيمات مجردة من كل قاعدة رغم تنوعها. فهي مؤسسة على الطبيعة
المادية لمختلف اللغات وعلى آثارها المعتادة، ولنأخذ مثال كتابة عنوان
شريط ما. من طبيعة الحرف في أبجديتنا أن يكون علامة مجردة لصوت ما. هكذا
يكون استعمال حروف كهذه في كتابة كلمة مسببا لعادة التجريد والمفهمة.
وبالإمكان مخالفة طبيعة الحروف والكلمات المكتوبة هذه بكل تأكيد، كما
يمكن التسلي برسم مؤثرات تخطيطية على عنوان بتوزيع الحروف والكلمات في
عدم انتظام لطيف، لكن ينبغي علينا أن نعي أننا نسير إلى مخالفة طبيعة
حروف أبجديتنا عندما نعالجها كصور انطباعية. وينبغي إذن أن لا نستغرب إذا
اشتكي المتفرجون من عدم فهم عنوان موجه بطبيعته للفهم على المستوى
الثقافـي.
يشير الجدول
التالي إلى القوانين أو المظاهر الثلاث لتكاملية اللغات. هناك في المركز
قانون الشخصية. والوصف تماثلي قصدا. فهل هناك أفضل من التماثل في وصف
شخصيات منفلتة؟ ذلك التماثل الذي هو تشابه وتحاذي ولكنه اختلاف أيضا.
إن الصوت
معقد: فهو تضجيج وإيقاع، لحن وموسيقى وصمت. يخلق التضجيج المكان: (غناء
صرار الليل هو البادية). أو يخلق الحدث (طلقات النار هي الهجوم أو جريمة
قتل). ليس هناك كذب مع التضجيج لأنه يورط إذ يقول: نحن في تلك الوضعية.
الموسيقى تحبب بشدة وتزرع التلوين العاطفي الذاتي: الحزن المغم لأثاث
كريزتوف كيسلوفسكي Krzystof Kieslowski والقلق قبل مأساة الأشرطة
البوليسية وحنين الشريط الموسيقي «صدى الصمت» Sound of Silence. يمنح
الإيقاع الحياة ويصنفها حسب المثل القديم القائل: Vita est in morta
(الحياة كامنة في الموت). من الأهمية تسجيل أن لكل إنتاج ولكل شريط
إيقاعه، وهو إيقاع يرتبط بالموضوع. ومن الأهم، زيادة على ذلك، تسجيل أن
لكل مخرج إيقاع خاص كما لو أنه لا يستطيع الإمساك عن حقن أسلوب حياته
الداخلي في عمله. إن الإيقاع هو النبض المرتبط بضربات القلب. وفي الأخير،
كيف يمكن تجنب إثارة ذلك الصدى الخاص المسمى صمتا وليس فراغا، بل فتحة
مائلة في اتجاه الصوت الذي يتكلم؟ لعله ملاك يمر كما يقال. يأتي
الصمت في لحظات الكثافة الكبرى: فهو يحيل المستمع إلى عزلته إذا كان
مهيئا بشكل جيد.
مهما كانت
أشكال الصمت فهو ينتمي إلى مجال الهالة الروحية. فهو يموضع. أما
الصورة فهي ذات معامل ثقافي أكبر رغم غموضها. فهي تمر خفية مثل الصوت.
كما أنها تتواجد في مقدمة الوعي في الغالب الأعم. وتتنوع أنماط الصور حسب
ارتباطها أو عدمه بالحركة واللون والإشعاع. إلا أن إثارة الإعجاب وإظهار
ما وراء الأشياء والإيصال إليه ينتسب إلى الطبيعة الخاصة للصورة. يتم
دائما اللعب على مفارقات الصورة في عملية المزج: الحضور واللغز، الواقعية
والرمز، الانفعال والتفكير، الإثبات والغموض. ويتدخل الصوت والكلام في
الملتقى المتشعب لهذه المفارقات من أجل التقوية أو المحو أو التتميـم.
علينا أن نقول
عن الكلام بأنه الصيغة التركيبية للغات وقمتها صحبة الصمت
والتزاوج به. فهو بالتناوب شعر وعقل، حرية وصرامة باعتباره خليط تفخيم
ونفس، ذكاء وقلب. وعلى الرغم من الرابط الحميمي بين كلا العنصرين، ينبغي
التمييز في المزج بدقة بين المميزات الخصوصية للكلام وتلك المتعلقة
باللفظة. فالكلام هو لفظة في فم أحد ما، هو خليط من روح وجسد. وبالمقابل
هناك في اللفظة الجسد والدقة بالأساس. إن الكلمات هي «قلعة التفكيـر»،
يقول الفيلسوف هاملتون Hamilton أما الكلام فلا يحتاج لموسيقى، بل لصمت
على الأجدر. وعلى العكس من ذلك، فإن الكلمة تترافق، في الوثائقيات مثلا،
عن طواعية بالموسيقى، تلك الموسيقى التي تنقصها كي تكون كلامـا.
آخر قوانين التكاملية هو قانون الرجحـان. لا يتكلم الأب والأم
والأولاد في نفس الوقت وطيلته في أسرة متوازنة، بحيث أن أحدهم يسيطر
بالتتالي والآخرون يتخذون موضع اللاحق وربما موقع الصمت الكامل. ومن جهة
أخرى، فإن كل واحد منهم يتحدث حسب ما يمثله: فعندما تتحدث الأم إلى
أبنائها أو زوجها، مثلا، فإنها تفرض السمة الغالبة لصوتها الأنثوي
ولأسلوبها. نفس الأمر ينطبق على اللغة في الأسرة السمعية البصرية حيث
يسود بالتناوب إما الصوت أو الكلام أو الصورة ويفرضون شخصيتهم على المقطع
أو على المنتوج في كليته. إنها مسألة إيقاع وزمن الفعل: ففي الشريط
السينمائي: رحلة المغامرة
2001 Odyssée،
تفرض موسيقى البداية شخصيتهـا المعلنة
المتنبئة، الرنانة والقوية. وهي قضية مخرج أيضا. فأشرطة وودي آلن Wordy
Allen السينمائية هي على العموم مهذارة بما فيه الكفاية وهو ما يمثل
نموذج طبعه الروحي والأدبـي.
من الضلال
السعي إلى مساواة اللغات الثلاث إذ ستسبب مساواة كهذه حشوا ومللا. فتناوب
الطباع المهيمنة موجودا أساسا في المزج، وهو تناوب يدل على حرية الكـلام.
ظهرت هنا مزايا
الإيقاع والإتقان في إبراز الاختلافات واحترام التكامليات التي تميز فن
المزج. فماذا عن الإلكترونيك؟ ما الذي يضفيه الإله الصغيـر؟ إمكانات غير
محدودة. إن الأدة التي نسميها قمطر المزج تغدو فعالة أكثر فأكثر ليس في
الخلط بمعناه الحرفي، بل في التصحيحات والخدع التنبؤات. إن المجموعة
الكاملة للمؤثرات الخاصة لامحدودة وهي تحل شيئا فشيئا مكان التزيينات
المكانية المعقدة والصعبة التحريك. وفوق كل شئ فإن الناظمة الآلية تمكن
من تحسين الهمسات والإيقاعات والتهييئات المبرمجة الذاتية التنظيم فهل
سنخسر على مستوى المزايا الإنسانية ما سنربحه على مستوى الإنجاز التقني؟
هذا أمر ممكن، وسيكون من المحزن الانتقال من الفن الأعلى إلى التقنية
العليا. من الأكيد أن التدرب التقني على المزج سيصبح معقدا أكثر فأكثر.
وينبغي أن لا يحجب تدريب كهذا أبدا المسألة الحقيقية المتمثلة في
الاستيقاظ الباطني لقدراتنا الدماغية والعاطفية على المزج، وفي نمو
إمكاناتنا اللامحدودة على الربط التجميعي وعلى ممارسة التصحيحـات!
الثقافة التي
تتولـد عن المــزج
بالأمس، كان
الإلـه يسمى لاقط الصوت، وهو جهاز الكلام القوي كلية. وقد سماه آخرون
كاميرا مؤكدين على تدفق الصورة الغازية لشوارعنا وبيوتنا وأدمغتنا. وقد
سميناه هنا بـ «قمطـر المزج» الذي يبرز الصعود اللامقاوم للغات متعددة
وارتباطاتها التجميعية وتحولاتها. فنحو أي ثقافة نتجه مع المزج؟
عند تقديم برج
بـمائة مرقاب تلفزة Moniteur de T.V تعمل في تزامن بمتحف الفنون بسيول.
تكلم المخرج الكوري نام جون بايك Name June Pouk رائد فن الفيديو قائلا:
«إن الاتصالا
في العصر الإلكتروني عبارة عن ولائم غير محددة ذات أشكال متعددة... مهداة
للجماهير... هكذا يصبح الاتصال كرنفالا ومهرجانا... فبعد الشفهي والمكتوب
ستكون كل الفنون مرتبطة بالفيديو... فن الضوء:
- الدقيق دقة
ليوناردو دافنشي Léonard de Vinci،
- والحر بمقدار
حريـة بيكاسـو Picasso،
- والملون
بمقدار تنوع ألوان رونـوار Renoir،
- والعميق بقدر
عمق موندريان Mondrian،
- والمقدام
بمقدار شجاعة جاكسـون بولاك Jackson Pollack،
- ثم الغنائي
بقدر الغنائية الشاعرية لجابر جونس Japer Johns.»
ذلك هو الأفق
الذي فتحته الثقافة وليدة منضدات المزج الإلكتروني، وهو ما يعبر عنه
رمزيا هذا البرج اللامع. إنها ثقافة عالمية تحت علامة الارتباطات غير
المحددة.
إنها ثقافة
ولدت للتو، ولايمكن إلا استشعار ملامحها. لاشك في أن ما ينبثق عن المزج
هو أولا انفتاح العلاقات، اختلاط اللغات بالدرجة الأولى والتمثيل المسبق
للاشياء وبداية الظهور والتشكل الأولي للغة موزعة بشكل أفضل. إن تكسيـر
الحواجز اللغوية الأساسية، بمعنى ما، إنما يتم بمزج الصوت والكلام
والصورة مع إعطاء هذه الأشكال الثلاثة من التعبير وضعا اعتباريا خاصا من
جهة، وبتوحيدها من جهة ثانية بحرية قصد إيجاد رسالة موحدة. إننا بهذا
العمل ندمر الرفعة الغربية للألفاظ ونعيد القيمة للصورة الشرقية وللطبل
الإفريقي بداخلنا. كيف نتجنب ولادة المخاوف والعنصريات؟ إن الإلكترونيك
يسير بحثاثة نحو خلط ما كان محاصرا بعناية منذ قرون. إن المخـرج يعيد
تحديد سلطات الأدب والعلم والدول ببطء ومن الأساس بشكل آخر. إن برج
نام جون بايك هوائي مقعر رائع: فهو من جهة يذكر ببابل، ومن جهة أخرى
فإنه يعلن عن وحدة داخل الاختلاف. وهي وحدة يعود الفضل فيها إلى تناوب
الإيقاعات كما يعود إلى الموسيقى.
يصف جون بييـر دوفرين Jean-Pierre Dufreigne ملحمة بابل في مقال يتخلله
شئ من العنف عنوانه: سرة في
خطر Nombril en péril
[4] قائلا:
«في ذلك الوقت
ببابل قررت الآلهة تنظيم الماخور العالمي، ففصلت اللغات عن بعضها كما
فصلت حديثا الظلمات عن الضوء: عهدت للعبرية بكلامها وللإغريقية بالفلسفة
وللاتينية بالقانون. حسبت العربية النجوم وابتكرت الانجليزية مصطلحات
الإبحار بالشراع ونشرت الإسبانبة الإيمان بحد السيف في العالم كله، وضمت
الألمانية النمسا ثم بلاد كافكا. الإيطالية أنشدت الأوبرا وكتبت اللغة
الأمريكية سيناريوهات سينمائية حقيقية، وعلى الفرنسية قدرت المهمة الأكثر
عسرا حيث صنعت منها نصاعتها ودقتها الوسيلة المأمولة لدراسة تراجعات
السرة. تلاعبت الغيرة باللغات فقضم كل واحد أراضي الآخر. أما اللغة
الفرنسية فحافظت على نصاعتها الأصلية وثابرت على الوصف الفاحش لحبل السرة
الوطني الذي يعتبر بمثابة تراث ثقافي عالمـي...»
وماذا لو وضعت
وسائل الاتصال هذه «السرة في خطر» بشكل لارجعة فيه؟ نقترح ونحن نتحدث عن
الثقافة العالمية أن المزج لا يجمع بين اللغات والبلدان فقط، ولكنه يخلط
بعمق أكثر بين اللاوعي والوعي، الوجدانية والتفكير، الخلفية وموضوع
الصورة. وباختصار، بين ما سميناه بالفص الأيسر والفص الأيمن للدماغ. ومع
وجود تعال اليوم للفص الأيمن للدماغ بسبب الغزو الحديث للصوت والصورة
(لكن إلى متى سيدوم؟)، ألا يمكن القول بأن الناظمة الآلية تدفعنا بقدرتها
على الاختزال الرياضي، إلى إدخال شئ من النظام على هذا اللاتكافؤ، أي
أنها ستقودنا إلى توازن أفضل؟
همس نام جون
بايك قائلا بأن الفن سيكون فن ضوء غدا. ماذا يعني ذلك؟ لقد كان المزج
في المسرح العتيق يخلط عناصر مادية خام مثل الخطابة والتزيين المكاني
وضوء الشمس وردود فعل الحشد، وقد كان مزج كهذا بالضرورة محدودا إذ ينبغي
تحسين وتهذيب المادة الخام قصد توسيع وتفخيم المزج وجعل قمطراته أكثر
فاعلية.
يمكن أن تبدو
الثقافة المتولدة عن المزج اليوم عبارة عن فوضى مادام التطور بهذه
الخشونة المفاجئة والإمكانيات الكبيرة. وإذا ما نجحت هذه الثقافة على
المدى البعيد فينبغي أن تحقق اغتناء إنسانيا. لابد من وقت حتى تندمج
آليات المزج في جهازنا العصبي، فلاشئ ينجز دون وقت طويل. ثم ولابد فوق كل
شئ من روح: أي لاإدماج ولاتناغم دون تنمية للروح.
هل يتعلـق
الأمر عند الحديث عن ثقافة وليدة للمزج بفن أسمى؟ هناك داخل المزج شئ من
القدر الكيميائي ومن الناظمة الآلية. فالمسألـة تتعلـق بالتقنيـة ولكـن
بالصبـر والـروح أكثـر مـن ذلك أيضا.
إن الإبداع
الإلهي حسب القدماء هو «الخلق من عدم». أما بالنسبـة لإنسـان مـا، فإن
الإبـداع هـو المـزج وليس أكثـر من ذلك.
[1] - Zettl,
Sight Sound Motion, Wadswoth Publishing Co. Belmont, CA. U.S.A,
1973.
[2] -
Alfred-Ange Tomatis, De la communication intra-utérine au langage
humain - La libération d'dipe,. ESF Editeur, Paris, 1983.
[3] - Daniel
Druesne, in Communication humaine aujourd'hui, 1982, p. 7.
[4] -
Jean-Pierre Dufreigne, «Nombriln péril», article paru dans
L'Expresse, le 25 avril 1991.
|