قيل أن الناس
كانوا منذ فجر التاريخ يتحلقون حول المواقد الأولى للمخيمات لهدفين:
رواية الحكايات وممارسة الألعاب. وإذا كان ذنيك هما الشكلين الكبيرين
والبدائيين للاتصال الاجتماعي فليس من المفاجئ أن تكون اليوم وسائل
الاتصال تالية لهما.
إن الحكاية
والألعاب مترابطان حميميا، لأن الحكاية تتضمن لعبا حيث ينهمك المستمع في
المراهنة على هذه النهاية أو تلك. واللعب يتضمن حكاية حيث أنه يتضمن
مراحل وطوارئ وخاتمة. ليست الحكاية والألعاب في وسائل الاتصال الكبرى،
الإذاعة والتلفزة بخاصة، متراكبة فحسب، بل إن نوعهما ذائع في كل مكان تحت
الأشكال الأكثر تنوعا من شريط الغرب الأمريكي إلى الأغنية المصورة
الحاكية، ومن المسلسل حتى الأخبار. ما الأغنية المصورة الحالية وما
المأثور الشعبي إذا لم يكن حكاية مكثفة Histoire-compact مخدومة؟ ماالذي
أصبحت عليه أخبارنا المتلفزة إن لم تكن في الغالب سلسلة من الحكايات
الدرامية الصغيرة؟ يمكن اعتبار الحكايات والألعاب مثل نموذجين أساسيين
للاتصال الإذاعي والتلفزي.
الحكـاية فـي
وسائل الاتصــال
ليس هدف
دراستنا وصف أو تحليل النوع السردي، بل إنه استخراج ما يميز الـ «لغة -
الحكاية» في وسائل الاتصال العصرية. كيف أعرف مصطلح حكايـة وفي ذهني تحضر
السينما والتفلزة والإذاعة على وجه الخصوص؟ سأسمي حكاية، التشخيص
الدال للحظات وطوارئ حركة تنقاد إلى حل نهائي بفضل ردود فعل الشخوص
المتضادة. شخوص تنبني مع تطورها في الزمان، وتكشف عن
وجودها العميق وتعطي مفتاح المعنى وطريق الحياة. وأخيرا، فإنها شخوص
تحدد بشكل احتمالي مسيرة عصرهـا[1].
سيلاحظ أن
الشخوص قد حظيت بأهمية خاصة في هذا التعريف. وتبدو الشخصية (بالإنجليزية
character، وباللاتينية persona، أي قناع) وكأنها العنصر المركزي في
الحكاية بالتعبير الإعلامي. فهي لا تجسد الحكاية فحسب، بل تصنعها وتمنحها
المعنى. وهو ما يعني أنها تطبعها بروحها كما يعجن الطين باليد. إن ما
نحبه في شريط روائي هو الكشف عن الروح المأسورة في المادة. ولا يكون
الحدث - المفتاح للحكاية، والحالة هذه، هو الفكرة أو الحجة، بل هو تطور
شخصية كبيرة تسقط في وضعية مثل سقوط المصارع في حلبة الثيران. كتب باسكال
بونيتزر Pascal Bonitzer في دفاتـر السينمـا Cahiers du Cinéma
(عدد: 369) يقول: «إن الحكاية هي تلعيب (mise en jeu) فكرة محددة
باعتبارها مشكلا، وذلك من خلال شخوص تمثل تجسيدها المتعدد.» وهذا تصور جد
خطير وكثير التجريد بالنسبة لمخرج شاب! فليست نقطة انطلاق السيناريو فكرة
أو مشكلة عامة ستلبس بشخصيات، بل هي شخصية ذات مشكلة، تتطور في وضعية
تفاقم المشكلة. يشرح لنا ج. سيمنون G. Simenon الأمر قائلا: «كي أكتب
رواياتي، أضع نفسي في منظر وأتمشى في المساء على رصيف يعمه الضباب، عندها
إذن تخرج شخوصي من تحت الأرض فأتبعها.». إن رؤية الشخصية واقتفاء ظلها هو
المفتاح. ويتوقف نجاح الحكاية إذن على ثلاثة عناصر هي: قوة طبع الشخصيات،
والدراسة المنقبة عن أسرار طبعها، ثم تجسيدها في ممثل كبيـــر.
ما
المقصود بقوة طبع الشخصيات؟ المقصود طبع منمذج جيدا ويحمل طابع
النموذج الأصلي. فالطبع المنمذج جيدا هو ذاك الذي يمثل، إلى درجة
الكاريكاتور، ملامح مجتمع وثقافة في لحظة ما وفي مكان متميز مثل رجال
المافيا الصقليين - بالرمادي - الأسود، في مؤسسات اللهو والقمار وفي
مستودعات نيويورك. يعبر النموذج عن الشعبية والحالة والوسط
والديكور والألفة التي بدونها لن يتعلق المشاهد بالعمل، لكن هذه السمة لا
تكفي وإلا فللشخصيات الثانوية. إذ ينبغي أن تكون الشخصية مندمجة وفقا
للنموذج الأصلي بمعنى النماذج الأصلية لدى يونغ Jung، أي يجب أن تمتلك
الشخصية تلك الطباع الأساسية والبدائية الخشنة التي تحدد النوع الإنساني
فيما يميزها من كونية وعنف. هكذا ستحمل الشخوص المركزية القوى
اللاعقلانية للنوع والسر الباهر للمارد والصراع الخشن للخير والشر: إنها
أشرطة الكفيـل le Parrain
والمواطن
كيـن Citizen Kane وعادلوا
أشرطة الوسترن وهم ينتفضون ضد القوة وضد القانـون.
في الحكايات
الخرافية كما في الروايات الإفريقية والهندية، ستكون هذه الطباع نماذج
أصلية متجسدة في الغالب في حيوانات. لنتجنب رؤية تشخيصات أو توضيحات
تصويرية أو صورا مشفرة في ذلك بسبب بعض الأفكار العامة أو لحجة أخلاقية
ما! فمن يفهم على هذه الشاكلة إنما يبقى على هامش اللغة السمعية البصرية
وأشرطة وولت ديزني (Walt Disney) في بيبيت شو Bébête-show. حقيقة أن
ثقافتنا المعقلنة وابتعادنا عن الطبيعة قد اقتلعانا من وحدتنا الرمزية مع
الكون وعلينا فهم الرمزية الحيوانية باعتبـارها إسرار حميمي: فأنا نفسي
وفي أعماق ذاتي هو الأرنب العجيب والسلحفاة البطيئة. إنني أحمل داخلي وفي
مكان ما، مستيقظة بهذا القدر أو ذاك، الحكمة القديمة للفيلة والعنف الشره
والخفي لأسماك القرش. فكل هذه الحيوانات وكل هذه القوى المنفلتة
من عقالها وكل هذه الأشكال الحيوانية المتميزة بشكل جيد، إنما هي
مظاهر لي أنا ذاتي وللملهاة الإنسانية. بهذا المعنى تكون هذه الطباع
نماذج أصلية: أي أنها توقظني وتسقط عني القناع.
ليس هناك فيلم كبيـر دون طبع مميـز مدروس ومشخص بجـودة. فالمخرجـون
الجيـدون خبـراء في المغامـرات الإنسانيـة. فإما أنهم يلاحظون بتمعن
الآداب العامة مثل م. ماستـرويـاني M. Mastroian في الحافلات الكهربائية
لروما، أو أنهم يدرسون بتدقيق هذا الكم من الأسرار الصغيرة التي تميز
رجلا ما على طريقة الأمريكيين. ومع ذلك يبقى من البديهي أن كل هذه الشروط
لن تساوي شيئا بدون كبار الممثلين والنجوم... نجم خالد ونجم نيزك أو
النجم الأعلى Supernovae،
كما تكنيهم مجلة Première السينمائية. فليست هناك مسلسلات في
التلفزة بدون شخصيات محددة ومشخصة جيدا: إن مسلسل دالاس هو ج. ر. وباميلا،
وبوبي، إلخ.
ما هي مسوغات
الحكاية؟ يمكننا تمييزها بتعبير موضوع الصورة والخلفية ونحن أوفياء لنطاق
تفكيرنا. إن مواضيع الحكاية هي ما نراه على الملصقات، فهناك في البداية
الشخوص طبعا وبالدرجة الثانية المحن والأحداث الكبرى والإيماءات
الدرامية. أما المسوغات الأساسية للهالة الروحية فهي الهيأة
المادية واللباس والمنظـر والوضعية وكل الواقع الذي سيبث بطرق متنوعة عن
طريق الموسيقى والصدى والإيمائية والنبرة والصوت إلى جانب الأضواء
وتأطيـر الصورة والإيقاع وتباينات المقاطع والاختصارات والاسترجاعات
السريعة Flash-back وباختصار، فإن مسوغات الهالة الروحية هي لغة
مؤسلبة معينة.
يميز م. شيون
M. Chion مستشهدا بسوين Swain على صفحات مجلة دفاتر السينما (INA 1985)
خمسة عوامل في كتابة سيناريو وهي: «الشخصية الرئيسية، الوضعية الصعبة،
الهدف، المعارض أو المنازع الذي يمكنه أن يكون شيئا، ثم خطرا مفزعا
مهددا.» وتميز هذه العوامل، شريطة عدم التشديد عليها، لحمة الحكاية بشكل
جيـد.
لنقترح الخطاطة
التالية لمسوغات الحكاية من وجهة نظر وسائل الاتصال:
1/ الإطار
الكاشف عن الشخصيات الأساسية وهو المتمثل في الوضعية والمنظر والمناخ،
وبكلمة واحدة: التأطير الضابط للصورة،
2/ الشخصية أو
الشخصيات الرئيسية.
3/ الهدف الذي
يجب بلوغـه.
4/ المعارضون
والعــوائـق.
5/ المحـن
والعوائــق.
6/ الأفعال
والانفعالات المحسنـة.
ضبط تأطيري
ضبط تأطيري انفعال - فعـــل معارضـون الهدف انفعـــال شخصيات * ¬
انفعال، فعــــل عوائــــــق فعــــل انفعـال - فعــــل ضبط تأطيري
ضبط تأطيري |
من
غير المجدي العودة إلى التأكيد على أهمية مسوغات الخلفية. فهناك مناخ
دالاس كما هناك مناخ رمادي - أزرق في الشريط السينمائي لـ: ب.
تافيرنيي B. Tavernier ساعاتي
سان بول L'horlogier de Saint-Paul.
وعندما يذهب الشبان لاقتناء أسطوانة الشريط السينمائي ذاك فإنما يشترون
المناخ. ولنفكر بهذا الصدد في الشريط الكلاسيكي
صدى الصمت Sound of silence
للوريا Lauréat ! كان كارل دراير Carl Dreyer يقول بأن «الموسيقى
والتباين هما الوسيلتان الكبيرتان للتعبير عن الروح.» وأخيرا، يجب أن
يتراكب في سير الحكاية خليط من الفعل والعواطف. وعلى العموم فإن الحكايات
التي يصممها الأمريكيون تتضمن الفعل والتباين والسرعة أكثر مما تتضمنه
الحكايات ذات الأسلوب الفرنسي حيث تطفح الحالات النفسية والعواطف
المركبة. وقد لوحظ إبان الوقت الأعلى للمشاهدة prime time بالولايات
المتحدة الأمريكية أن الأفعال تمثل كل شئ تقريبا والعواطف لاشئ أو تكاد.
وفي المسلسل الصابوني الذي يبث في وقت مشاهدة أقل أهمية يظهر العكس
تماما، إذ الذي يهم هو العواطف الموقظة عن طريق الفعـل.
حوالي هذه
البنية تدور المكائد الثانوية (الحبكات الثانوية Sub plots) التي هدفها
حشو وتجهيز الخلفية وإراحة المشاهدين المتوترين كثيرا، وأحيانا يكون
هدفها تحويل الانتباه وتعقيد الوضعية. تتمثل مهارة المخرج في المجال
السمعي البصري في اللعب بكل المصادر الإنسانية عن طريق المزج الإلكتروني،
بقصد خلق مكان وزمان أصيل وموح: استرجاع سريع وتباين وتنوع من الإيقاعات
واختصار، وتقنيات الخفوت fondus وتعارضات وظهور اللحظات القويـة.
أكيد أن
النموذج المطور هنا هو على الخصوص نموذج السينما لكونه الأكثر إيحاء، لكن
كل شكل من أشكال الحكاية يتصل قليلا أو كثيرا بهذا النموذج. تعالج
الأحداث الكبرى كحكايات في الأخبار المتلفزة: هكذا يكون الطيب بوش Bush،
في حلقة نيكاراغوا، هو الذي يريد إنهاء المشكل مع نورييغا الشرير. إنهم
جنود البر الأمريكيون (G.I.) المخلصون في مواجهة مخلصي نيكاراغوا. إنه
التعارض بين الدول الأمريكية الجنوبية ودعم السيدة تاتشر Thatcher. إنه
التشويق المتردد لسفارة الفاتيكان وإنه، أخيرا، فك العقدة والنهاية. لم
يبق الآن إلا طبع وبيع ملصقات كبيرة قصد صنع شيطان من وجه الرئيس السابق
لباناما، يدر الكثير من المال (هكذا).
الحكايـة تحت
التأثيـر الإلكترونـي
ما الذي يحمله
السمعي البصري الإلكتروني للحكي؟
إنه الجسد
أولا. إن الفرق الأساسي بين اللغة المكتوبة واللغة السمعية البصرية يكمن
في ما يلي: كان المكتوب وسيط المفهوم. أما السمعي البصري، وخاصة ذلك
المؤسس على الإلكترونيك، فسيكون وسيطا للجسد. فهو يلبسه ويمنحه سمكا
وانعكاسا وديمومة وجمهورا.
إذا كانت
الشخصية قد احتلت المقدمة، عوضا عن الفكرة، في تعريف الحكاية من المنظور
الإعلامي، فلأن السمعي البصري يستدعي رحجان الجسد، أي رجحان الطبع
والإيمائية والحرارة الإنسانية للشخصيات. وإذا كان إطار الصورة قد برزت
قيمته بذلك القدر في مخطط الحكاية، أي الخلفية والمناخ والعواطف، فلأن
التفخيم الإلكتروني يتطلب رجحانا كذلك.
لنقارن رواية
مكتوبة بتكييفها في السينما. إن وصف سمكة قرش وهي تقفز من الماء كي تلتهم
رجل مستحمة هادئة تستمتع بعطلتها، سيتطلب عدة صفحات لخلق التشويق
والانفعال. أما في السينما فإن الشمس الحارقة والأجساد الممددة على
الشاطئ تعني راحة البال، وخليط زرقة عمق المياه وصفرة لباس البحر مرتميا
مرات في الماء يعني الحرية، والعيون الزرقاء المخضبة بقطرات الماء تنطق
بالعطش للحياة. والحال أن موسيقى قوية تصم الآذان تتصاعد تدريجيا في هذا
الإطار الفردوسي لكن المتفرج لا يعيها. وسمك القرش هناك. إنه غول اللاوعي
الذي سيخرج ليدمر الجنـة. بضع لحظات وهاهي المأساة حاضرة. لكن أي شدة
مادية هاته ستحضر بها المأساة في الرواية على الخصوص! إنني موجود هناك في
السمعي البصري، أرى كل شئ حيث الدم يسيل في الماء الأزرق. أسمع عويل
الهلع وصفارة سيارة الإسعاف وبكلمة واحدة، فإن السمعي البصري الإلكتروني
يعوض الخيال بالحضور ويحل اللمس محل الفكرة. إنه يضيف معامل انفعال جلدي
إلى العواطف العميقة علاوة على جعله الحضور جسديا يعقبه التفكير التأملي.
بينما كانت
الكتابة الأبجدية أكثر مقطعية وتواليا، ستكون الكتابة السمعية البصرية
أكثر خشونة بفضل تركيبات الصوت والكلام والصورة. ولما كان السمعي البصري
ملموسا وحواسيا، وإن لم يكن إباحيا ومأساويا، فإن نبوغه يتمثل في التحريض
على المتعة أكثر مما يتمثل في التحريض على التفكير، وعلى الانغماس عوض
المسـافة.
إذا قارنا
كتابا للأخلاق مع الحكايات أو مع قصص أخلاقية فماذا سنكتشف؟ تقدم القيم
الأخلاقية في المكتوب على شكل مشكلات وتعريفات وعلائق علمية واقتراحات ثم
نقاشات. فليس هناك انفعال، بل صرامة وتفكير استدلالي. إلى ذلك ينضاف أن
هذه الأخلاق ثابتة على الأقل وإن لم تكن مجردة بحيث تكون الأمور، والحالة
هذه، مسطحة جارية على نمط واحـد. وعلى العكس من ذلك، يتم التماهي مع
شخصية حية في الحكاية حيث نضحك ونتموقف إلى جانبها. هنا تكون المعرفة
العلمية أقل ولكن مقابل توفر انجذاب كبير.
قلنا سابقا إن
السمعي البصري يضيف الجسد في العرض أولا، وذلك إلى حد تحريف معين للحكاية
الموضوعية تحت ضغط شخصيات جد قوية. وهو يوفر أيضا الحرية في الكتابة حيث
يصبح كل شئ ممكنا بفضل الإلكترونيك، مثل السير الخطي للحكاية حيث تكون
البداية حوارا ممكنا بشكل خشن ومفاجئ ثم العودة إلى الواراء قصد الشرح
فمرافقة البطل الذي يتقدم في الأحداث. وتكون كل الطرق المختصرة وكل
المؤثرات الخاصة effets spéciaux وكل التزيينات المكانية مسموح بها هنا.
وليس من المفاجئ إذن الوصول إلى قطائع الأغنية الصغيرة - الحكاية،
للأغنية المصورة الحاكية التي تعني القطيعة، وهي الأغنية التي لا تنجز
فيها الوحدة عن طريق منطق الكلمات أو مواضيع الصورة، بل عن طريق مناخ
المجموع وعن طريق الخيط الرفيع لأغنية ما.
كيف
تتموضع الحكاية في سياق التقاليد الشفهية بين المكتوب والسمعي البصري؟
إذا كان من الممكن تسمية السمعي البصري بوسيط الجسد، فمن الممكن نعت
الوصف الشفهي بوسيط الحنجرة، أو - أفضل من ذلك - بوسيط الروح مادام
اهتزاز الصوت بالحنجرة يعبر عن الروح حسب التقاليد السامية القديمة[2].
وبذلك لا يعود الدور المركزي في الحكاية إلى البطل أو إلى الإله
بالضرورة، ولكنه يعود إلى ذلك الذي يحتفل به، أي أنه يعود للراوي ذاته
في علاقته الشخصية بالجمهور. هل هناك اتجاه إذن نحو تعريف آخر للحكاية؟
على مستوى البنية الجوهرية لا، ولكنني سأعتقد بذلك مسرورا على مستوى
الرجحان، أي التلميح، والاندماجات في حياة الجماعة والتشخيصات التقليدية،
إلخ.
لنلخـص:
- ليست هناك
لغة قادرة على روي حكاية مثل اللغة السمعية البصرية،
- بالحكي عن
طريق السمعي البصري، تحتفظ الحكاية ببنيتها الأساسية ولكنها تمنح
الامتياز للشخصيات المركزية وللخلفية ولوصف لحظات كبرى للفعل.
- إن النمط
الحكائي يرتبط جوهريا باللغة السمعية البصرية إلى درجة أن ديناميته
وبنيته تميل إلى تلقيح كل اتصال. إننا نشهد رشا بالحكاية على كل أشكال
الاتصال.
ما عواقب ذلك
على ثقافتنا؟
ثقافة على
قاعـدة الحكايــة
تدرك القيمة
الثقافية للحكاية من الجانب الأخلاقي بشكل أفضل لدى فهم الأخلاق بالمعنى
العام لفن التصرف الإنساني الشخصي والاجتماعي. وفي الوقت الذي تنفجر فيه
الكنائس في وجه أخطار لاخلاقية الأشرطة المرئية وضد غزو أجهزة الفيديو من
نوع Super x وبينما يحتج آخرون بصخب على تبديد الثقافة، أليس من المفارقة
القول بأن هيمنة الحكاية تؤدي إلى منح الامتياز لبعد ثقافي أخلاقي؟
يميز موك بال
Muke Bal، من جامعة أوتريخت Utrecht، خمسة مظاهر في فن رواية حكاية ما
وهي:
1 - الحكاية
انتقاء: فالراوي يختار الأحداث التي يتكلم عنها، يشدد على بعض المظاهر
ويخفي أخرى.
2 - الحكاية
بنينة للأحداث: فالراوي ينظم ويعمل على إبراز الروابط، وبذلك تشكل
الحكاية كلا موحدا.
3 - الحكاية
تكثيف: إذ ينبغي على الراوي أن يدفع إلى الأمام ويطور أحداثا أساسية يهدف
من ورائها إلى الأدرمة.
4 - الحكاية
تكوين للشكل انطلاقا من وجهة نظر معينة: هكذا تكون الحكاية بناءا إنسانيا
يقصد منه تحقيق اتصال.
5 - الحكاية
تأويل: فالراوي مبدع للمعنـى.
إذا ما أخذنا
مجددا هذه النقاط الخمس، فسيكون من الواضح أن في الحكاية عامل أخلاقي
بشكل جوهري. فلاحكاية هناك دون إنتاج للمعنى، وبالتالي بدون أخلاقية.
إضافة إلى ذلك، تكون اللحظات الأساسية في الحكاية عبارة عن أوضاع محددة
تنبثق فيها دفعات سمو بطريقة ساطعة أحيانا. وتولد هذه اللحظات الأساسية
في وعي المستمعين دلالات تتجاوز المألوف اليومي وتقود إلى طرح أسئلة معنى
الحياة.
هناك إذن
دافعان أساسيان للحكاية هما: متعة التخويف (الإثارية) وهو ماليس بالضرورة
أخلاقي، ثم البحث عن الهدف والوسائل وهو الأخلاقي جوهريا. ومهما قيل، فإن
المراهق في شخصيات دالاس سيتعلم معرفة نفسه بنفسه ومعرفة الحياة. ليس
معنى ذلك أنه سيجبر على إدارة آبار النفط بالتكساس، فتلك هي الخدعة... بل
ينبغي عليه أن يدبر علاقاته مع الوالدين والزوجة والأطفال، وأن يدبر
سلوكه المادي والغرامي ومخاوفه ورغباته. ومهما كان هذا المسلسل مثار نقاش
ورفض، فإنه يقدم نفسه ككتاب أخلاق. من المؤكد أنه ليس هو كتاب الأخلاق،
ولكنه معروض وموضوع للاختيار. فسواء كان الفتى مولوعا بالأشرطة
السينمائية وبالأغاني، أم كان جمهور القاعات السينمائية شبابا في
غالبيته، فتلك علامة طيبـة.
هناك ثلاثة
مظاهر كبرى في هذه الأخلاقية الممررة عبر الحكايـة، وهي:
- التماهـي،
- والتحـرك نحو
نهايـة،
- ثم تقديـر
الوسـائـل.
التمـاهــي:
معروفة هي ثمراته ومظاهره الأخلاقية جيدا منها: التكملة الممنوحة للقوى
الذاتية وتوسيع الآفاق الذهنية وإيقاظ الذات الواعية لمواجهـة السـراء
والضـراء. بالتماهي مع شخصيات الحكايات يتم اكتساب قوتها ولكن توجهها
أيضا. إنه الإله والشيطان. وسيقول علم الأساطير إن دماء الأبطال تشرب مع
المجازفة بالتوهم حول الدم الذاتي! وكيفما كان الأمـر فإن التماهي يعني
التخلـق.
التحرك نحو
النهايـة:
يطارد البطل في الحكاية دائما غاية ويتقدم نحو هدف. ليس البطـل شخصية
نحلل نفسيتها من خـلال شبكة فرويدية أو غيرها. إنه مسافر يتجه في الغالب
الأعـم نحو إنجازات عليا أو نحو فردوس ما، وهذه نقطة أساسية. فنحن لا
نتيقظ لخصال البطل فحسب بمتابعة أنديانا جونس Indiana Jones خلال بحثه عن
المزهرية السحرية Graal، بل إننا نتيقظ للكنز الذي يبحث عنه. أي كنز؟
يمكنه أن يكون كنزا ماديا، مثل مسحوق ما أو صابونة وصلات إشهارية، ولكنه
يكون، في الغالب الأعم، في الأشرطة السينمائية والمسلسلات الكبرى عبارة
عن استكمال للذات نفسها وليسمى حبا أو حرية أو كرامة. ألا ينبهنا جون
غابان J. Gabin وبيير فرسني P. Fresnay في شريط
الوهم الكبير LA Grande Illusion
إلى خصلة رفيعة للكائن البشري؟ ألا يسري الأمر نفسه على إيزابيل أدجاني
Isabelle Adjani وإيف مونتون Yves Montand في شريط Jean de Florette؟
ويمكن بدون شك ذكر كـل الأشرطة السينمائية الكبرى في هذا السياق. عادة ما
تتم مماثلة دينامية الحكايات بالخيمياء: فالذهب الحقيقي المكتشف ليس هو
الذهب المبتـذل لمحلات المجوهـرات، إنه أنا ذاتي، بعد آخـر للكائـن
البشري، واستكمال تاريخي جديد له أكثـر رحابة. بهذا المعنى يكتب والتـر
وينشيـل W. Winchill قائــلا:
«يقـول لي
الناس: على الأشـرطة السينمائية أن تعبـر عن الحياة الواقعية بشكل أفضـل.
وأنا لا أتفق مع ذلك، إذ الحياة هي التي ينبغي عليها أن تكون أفضل مما هي
عليه، مثل الأشـرطة السينمائيـة.»
وأخيـرا، فإن
الحكاية أخلاق بما أنها تدفع المستمع إلى تقدير الأمـور: فهي تبين له
منطلقات ومآلات اختيارات وأفعال الشخصيات حيث يتم اختبار الذات وقياسها
بجيمس دين J. Dean أو ألان دولون A. Delon، كما نـرى مآل رغباتهم الحمقاء
وهرولاتهم ووقاحتهم أو ديبلوماسيتهـم.
لا تكون هذه
الأخلاق أبدا واضحة، فهي تحمل دائما علامة الغموض الإنساني. أليس هذا هو
ما يشكل أهميتها؟ هكذا يجد المرء نفسه في ملتقى اختيارات مشكوك فيها.
إننا نتعلم المأساوي في الوضع البشري وكيف ترافق السراء الضراء. وأحيانا
يحتفظ المستمع ببعض الشذرات من الحوار. ففي البحث عن المزهرية السحرية
في شريط أنديانا جـونز هناك ثلاثة شروط ضرورية لوضع اليد عليها هي: تحقيق
التوبة، والسير على الحجر باسم الله، ثم الخروج من الورطة المستحيلـة
بالإيمان بإمكانية تحقق ذلك. ألف صورة وجمل أساسية وأمثال وشذرات من
أغنية ثم ألحان وإيقاعات تشكل المتخيل وتحدد السلوك الإنساني بطريقة
بارعة غالبا ما تكون لاشعورية ولكنها عميقة. أما القوانين والاقتراحات
الواضحة والاستدلالات الأخلاقية فتسلك بطريقة أخرى. فهي تضمن الحماية
والأمن وتحدد التناغم الداخلي والوحدة الاجتماعية على طريقة الأسوار التي
كانت تحيط سابقا بالحواضر. لاشك أن الإنسان في حاجة لشكلي الأخلاق ذنيك
معا، ولكن تلك المتعلقة بالحكايات هي أكثر حيوية بشكل مباشـر.
هل ينبغي أن
نستنبط من ذلك أن هيمنة النوع السردي سيجعل جيلا أكثر أخلاقية يظهر؟ إن
الممكن ملاحظته هو وجود تمركز حول المشاكل الأخلاقية والإيكولوجية
والعلائقية. فماذا عن جودة الحياة؟ باختصار، إن جيلا يهتم بالغاية
والوسائل جيل مؤدلج بشكل ضعيف ومنظم بشكل قليل، جيل يبني نفسه بحكايات
عديدة.
لنؤكد في
الأخير على خاصية أخلاقية متميزة ومحدثة من طرف وسائل الاتصال: إنها
الأخلاق دون حدود. فبفضل الحكايات التي تأتينا من كل صوب عن طريق
المذياع والتلفزيون والسينما تنهار صلابات وانغلاقات أخلاقية. قيل إن
الحكاية هي أفضل وسيلة لإنجاز التبادل بين الثقافات دون عنف. فكون أفراد
جماعات أخلاقية مختلفة يتبادلون وجهات نظرهم معناه أنهم يصلون بسرعة إلى
تفاهم واحتـرام متبادل، ذلك أن الحكاية تسمح بالدخول ببطء إلى حميمية
الكائنات شارحة السياق والحل في نفس الوقت.
للمخرج في
المجال السمعي البصري نبوغ خلق الحكايات، اي التلاعب بكل تلك المسوغات
التي تحفظ للإنسان روحه الطفولية وتمنحه حكمة الرواة المتقدمين في السـن.
هل الحكاية هي
الكلمـة الأخيـرة للثقافـة؟
عندما كان
الحاخام إسرائيل بعل شيم توف يرى الخطر يهدد رعيته، كان معتادا على
اللجوء إلى مكان معين من الغابة للتأمل. عندها كان يوقد نارا ويتلو صلاة
خاصة فتحدث المعجزة ويتم إبعاد الخطـر.
فيما بعد،
عندما كان أحد أتباعه، وهو ماجد المزرتشي الشهير، مضطرا للتوسط لدى الله
في وضعية مشابهة، كان يختلف إلى نفس المكان من الغابة ويقول: «اسمعنى
ياسيد الكون! لا أعرف كيف أوقد نارا، ولكنني أحفظ الصلاة» ومرة أخرى كانت
المعجزة تحدث.
وفيما بعد
أيضا، ولكي ينقذ الحاخام ماخ ليب السافوفي شعبه مرة أخرى، ذهب إلى الغابة
وقال: «لا أعرف كيف أوقد النار ولا أحفظ الصلاة، ولكنني أعرف المكان ولعل
هذا كاف.»
ثم حدث للحاخام
إسرائيل الرزني أن كان عليه التغلب على خطر كبير فتوجه إلى الله وهو جالس
على كرسيه ورأسه بين يديه قائلا: «إنني عاجز عن إيقاد النار ولا أحفظ
الصلاة ولا أعرف حتى أين يوجد المكان بالغابة. كل ما يمكنني عمله هو سرد
الحكاية. فهل هذا كاف؟»
و.... كان ذاك
كافيا!
لقد خلق الله
الإنسـان لأنه يحب الحكايـات.
[1] - Emile
Beneveniste, Problèmes de linguistique générale, Gallimard,
1974, p. 237/250
يقترح
اللسانيون تمييزا أساسيا بين الحكاية والخطاب حيث تكون الحكاية هي الحجة
ومنطق الأفعال، بينما يكون الخطاب هو تنظيم الزمن والمظاهر وأنماط السرد.
فالحكاية كمادة بناء قاعدية هي الحجة - وربما نوع من الواقع الإشكالي -
وهي موضوع الخطــاب المتنوع المتوقـف على الســـارد وعلى الاشكــال التي
يستعملها (الحكايــة المصـورة، الميم، والمسرحيات).
يجعل هذا
التمييز المرء يفهم أنه من الممكن منح الحكاية تعريفا خاصا وصفات خصوصية
تحددها إكراهات التكنولوجيا ووسائل الاتصال. هكذا سيستعمل مسلسل التلفزة
التصاميم المكبرة بالأحرى، عوض التصاميم العامة، وذلك بسبب صغر الشاشة
التلفزيـة.
[2] - Marcel
Jousse, L'anthropologie du geste, Gallimard, 1974, tome I, p.
163/190.
|