ماذا تعني السعادة؟! هل هي
بالفعل هدف يسعى إليه كافة البشر مهما اختلفوا في تعريف مدلولها؟! هل
سعادة الناس الحقيقية، محصورة في سعيهم لتحقيق أمانيهم الحياتية
المتباينة؟! وماذا تعني السعادة؟! هل تعني الحصول على مركز مرموق، أو
تحقيق ثروة كبيرة، أو الزواج بمواصفات مغرية، أو تذوق طعم الحب؟! أم ان
السعادة تعني كل هذا؟! أم انها مفهوم واسع من الصعب وضعه في اطار محدد،
أو توزيعه كمنشور وتعليقه في الحوانيت؟! إذا شرعت نافذتك، واطلقت عينيك
جهة الأشجار، لشاهدت العصافير تغرد على الأغصان نشيد الحرية، كون السعادة
تعني لديها الحرية، وما ان تقبض على واحد منها، وتحبسه في قفص حتى لو كان
مصنوعا من ذهب، لرأيت صوته يختنق داخل حنجرته، ويكف عن التغريد، الى ان
يموت وحيدا، كون حريته قد سلبت منه. وإذا أرهفت السمع عند باب كوخ لفلاح
فقير، وسمعته يدندن بنبرة مرحة، فاعلم ان مفهوم السعادة عنده ينبثق من
قناعته بحياته البسيطة بالرغم من مشقتها. وإذا وجدت وميض الفرحة يرتسم في
عيني المرأة، فأدرك على الفور انها تعيش حالة حب، كون مفهوم السعادة عند
المرأة مرتبطا بتجرع كؤوس الحب دوما.
يرى
كنفوشيوس، احد حكماء الصين العظام، الذين كان لهم أثر قوي في التاريخ
البشري، ان احساس الإنسان بالحياة، لا يكمن في عدد السنوات الطوال التي
يعيشها على الأرض، وانما من خلال ما حقق فيها من انجازات، وان هناك فئة
كبيرة من البشر يعيشون الى أرذل العمر، وأيديهم بعيدة عن الوصول الى
منابع السعادة، أو احتساء رشفة واحدة تشعرهم بأنهم موجودون على الأرض.
وهناك فئة محدودة من البشر تحيا حياة قصيرة الأمد، لكنها حافلة بالمسرات
والأفراح، كونهم وضعوا أيديهم على مواطن سعادتهم. ويرى كذلك ان السعادة
تعني الخير، بمعنى ان الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وان تبادل الأخذ
والعطاء هو الذي يجلب السعادة، وان الإنسان يسعى الى تحقيق سعادة نفسه،
وفي نفس الوقت يساند الآخرين من أجل تحقيق أمانيهم، ومن هنا يحدث المطب
الذي تقع فيه أغلبية الخلق، الذين يتبرمون سريعا من قيود الصبر، ويسلكون
طريقا احمق، ويختارون متعة عاجلة اقل أثرا، حتى لو كان الثمن بخس حق
الآخرين في الحياة، بدلا من التروي لقطف متعة آجلة، أعظم أثرا للإنسان
وللمحيطين به، مرددا مقولته الشهيرة، ان الحكمة تعني معرفة الناس،
والفضيلة هي حب الناس، وان الإنسانية لا يمكن ان تجد السعادة إلا في
مجتمع تعاوني لأناس أحرار، يسألون أنفسهم باستمرار.. ما الشيء الصواب
الذي نؤديه في حياتنا!! وان السعادة الحقيقية ليست لها علاقة بالثروة أو
المكانة وانما هي مرتبطة بالخلق والمعرفة اللذين يعتبران ثمرة التربية
الفعلية، وكم من أناس أهدروا حياتهم في اللهث خلف بريق المال وجاه المنصب
وبريق الشهرة، لاعتقادهم بأن فيها سعادتهم الحقيقية، ليكتشفوا بعد وصولهم
الى نهاية الدرب، انهم لم يتذوقوا طعم السعادة، وان ما غمسوا أنفسهم فيه
كان سرابا خادعا، كالذي يراه التائه في الصحراء خلف كثبان الرمال!!
وتاريخ الصين القديم، يبين ان حكماءهم استطاعوا ادخال السعادة لحياتهم
وحياة تلاميذهم، بالتدريب على استخدام القدرات العقلية للتخلص من
الاضطرابات النفسية الحاصلة نتيجة الفقر أو الحرمان بأنواعه!! لكن الغريب
في الأمر ان الدراسات اظهرت مؤخرا ان الصين يموت فيها ربع مليون شخص
أكثرهم من الشباب ومن الفتيات، نتيجة الضغوطات الحياتية، ونقص الوازع
الديني!! وفي إسرائيل أشار تقرير رسمي إلى ان هناك ظاهرة مرعبة بدأت
تتزايد داخل المجتمع الإسرائيلي، وهي محاولة الأطفال، الانتحار، الذي
يعود حسب رأي الخبراء النفسيين، إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة، التي
بدأت تغزو إسرائيل نتيجة التدهور الأمني!!
إننا
نتفق جميعا على ان للوازع الديني دورا كبيرا في ردع المرء عن وضع نقطة
النهاية لحياته بيديه، لكن هذه التقارير المعلن عنها هنا وهناك، تجعل
المرء يقف متسائلا.. كيف يمكن ان يؤثر الإنسان الموت على الحياة وهو ما
زال في مستهل الدرب؟! هل سلبيات الحياة العصرية، طغت كفتها على مباهجها
ومسراتها، مما جعل البعض يقرر الرحيل بلغة صامتة؟! هل القضية تعود إلى
تفاقم اليأس في النفوس المتعبة من أزمة الأخلاق والضمائر، التي تتناقص
يوما بعد يوم في المجتمعات؟! هل بالفعل العالم اليوم بحاجة إلى تدريب
الإنسان العصري، على تربية أخلاقية جديدة، تقوم على البذل والعطاء حتى
يشعر بالسعادة في داخله؟! هل حصر مفهوم السعادة في زاوية الأخذ، والأخذ
فقط، هو الذي حول الإنسان مع مرور الأيام إلى وحش آدمي، فقد القدرة على
التمييز بين السعادة الحقيقية، وبين المتع الوقتية التي لا تمت بصلة
قرابة لها، ودفعه إلى الغرف بهمجية من متع الحياة دون توقف، حتى لو كان
الثمن الدهس على رقاب الآخرين؟! هل الخوف من المجهول، والفقر، وعدم
الاحساس بالأمان، تكالبت جميعها على سلب الإنسان طمأنينة فؤاده، التي
تشكل الحيز الأهم من سعادة الإنسان؟!
لقد
نجح الفيتناميون في اسدال الستار على آلامهم التي تجرعوها على مدى سنوات،
إبان اجتياح الأمريكيين لبلادهم، وأظهرت احصائية نشرت مؤخرا بأنهم أكثر
شعوب آسيا سعادة، وانهم راضون اليوم عن حياتهم، بعد أعوام الفقر والحرب.
نعم المهم تجاوز الآلام والأحزان، وكم من أمم لملمت مصائبها، وودعت
نكباتها، ودفنتها في قبور جماعية، ثم أولتها ظهرها والتهت في بناء
مستقبلها، متناسية الكدمات المتواجدة على جسدها. المهم ان يتعلم كل فرد
العزف على قيثارة الحياة بمهارة، ليس من أجل الأنا القابعة في أعماقه
فقط، وإنما من أجل الآخرين أيضا، فكم من ناي صادق النغمات أحيا قلوبا
يائسة!! وان يفكر بروية من أين يبدأ نقطة الانطلاق، ويتعقب بحذر الجهة
التي ستأتيه منها نسمة السعادة، ويعي دروس الماضي والحاضر ويترقب
المستقبل بعين متفائلة، حتى يمسك سعادته الحقيقية بين يديه، قائلا بصوت
طربي.. أنا سعيد.. نعم أنا سعيد.
|