 |
زينب حفني: |
|
الإعلام والمقامرة بالأحلام |
|
|
|
هل
ساهم إعلامنا العربي، في إقامة سرادق عزاء للعقل العربي؟! هل شجّع
إعلامنا من خلال برامج الكسب السريع، في قتل روح الهمة والحماس في نفوس
الأجيال الصاعدة؟! هل قام الإعلام بأقسامه المتباينة، إلى جعل الشباب
يدورون في حلقة مفرغة، وبالتالي إلى تسميم فكرهم، وتحوير اتجاهاتهم،
وصرفهم عن القناعة بجدوى المثابرة والجهد لإرساء أمانيهم على أرض
الواقع؟! هل قام الإعلام العربي، بتسمين جنين اللامبالاة في بنية
المجتمعات، حتى غدا ماردا جبارا من الصعب القضاء عليه؟! هل هناك فرق بين
المجون الإعلامي والمجون الأخلاقي؟! أم أن سلوكهما أضحى واحداً،
لاستخدامهما الألاعيب المبتذلة، وضربهما بعرض الحائط بكل المثل والقيم
الحياتية؟! ما أن يتصفح المرء الصحف والمجلات، أو يدير المذياع، أو يلقي
نظرة على إحدى القنوات الفضائية، حتى يفاجأ بسيل عارم من المسابقات
المختلفة الوسائل، والتي جميعها تتطلع إلى إثارة لعاب أعتى الفوارس،
وتدفعه لخوض غمار المعارك، عسى أن يصبح بين يوم وليلة من أصحاب الملايين.
في بعض الأحيان أسأل نفسي وأنا أتابع بفضول برنامج «من سيكسب المليون»،
لجورج قرداحي.. هل لو سنحت لي الفرصة للحلول ضيفة على هذا البرنامج، أن
أجعلها تفلت من يدي، أم سأجلس جاحظة العينين أدقق في الإجابات المتباينة
على شاشة الكومبيوتر، داعية ربي أن يلهمني الاجابات الصحيحة حتى أدخل في
دائرة أصحاب الملايين؟! لفت انتباهي مؤخراً تقرير من السعودية، عن احتجاج
الكثير من الأسر على تكلفة الفواتير التي تصل اليهم عن مكالماتهم
الهاتفية، من دون أن ينتبهوا إلى أنهم وقعوا في براثن الإدمان على هذا
النوع من البرامج، وهذا ليس مقتصراً على المجتمع السعودي، فهناك العديد
من الأفراد الذين حالفهم الحظ للجلوس على مقعد القرداحي، اعترفوا أنهم
أنفقوا الآلاف من أموالهم حتى نجحوا في الوصول إلى البرنامج، مما يعني أن
هناك خللاً تسرّب لإعلامنا بأقسامه المتباينة، من خلال تشجيع الناس على
المقامرة بأحلامهم، التي أضحت معلقة على أغصان هشة، في زمن كل شيء أصبح
فيه صعب المنال! هل الذي يحصل اليوم ظاهرة صحية للشباب؟! هل تعويد
الأجيال الصاعدة على قنص الفرص بيسر، وتحقيق المطالب بأقصر الطرق هي آمن
الوسائل لتحقيق المراد؟! هل المقامرة بالأحلام في قاعات المسابقات أضحى
مطلباً عالمي الهوى؟! لقد اندهشت من كلمة مسؤول كويتي، سألته إحدى
المذيعات عن جدوى برامج المسابقات!، فأجاب بحماس أن من الواجب توجيه شكر
خاص للقائمين على هذه النوعية من البرامج! لا أدري ماذا كان يقصد هذا
المسؤول بعبارته؟! هل كان يعني أن برامج المسابقات حلت الكثير من مشاكل
الناس الاقتصادية؟! أم أنها أدت إلى فتح الباب على مصراعيه أمام القنوات
الفضائية من خلال برامج المسابقات لاستنزاف جيوب الناس، واستغلال هوسهم
المجنون للحصول على الجوائز المالية المعلن عنها، حتى لو أدى إلى خراب
بيوتهم، وخروجهم خاليي الوفاض؟! هل حللنا كل مشاكلنا الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية، ولم يعد أمامنا سوى خلق وسائل ترفيه متنوعة تجلب
الغبطة لقلوب الناس؟! للأسف لقد انحرف الإعلام العربي عن مساره الحقيقي
الذي قام من أجله، في تثقيف وتوعية الناس، وصار يبيعهم الوعود الوهمية في
زجاجات ملوثة ليشربها الرائح والغادي، حتى لو أدت إلى إصابة الجميع بوباء
مهلك، قد تقضي عليه في نهاية الأمر! فيلم «هاري بوتر» الذي أثار ضجة
كبيرة عند عرضه، وحقق إيرادات خيالية، حرصتُ على مشاهدته، لكن ما أن
تابعته إلى منتصفه حتى أيقنت أنني أمام قصة للصغار، وتلفت حولي في أرجاء
القاعة ورأيت أن معظم الحضور كان من الرجال والنساء، وأيقنت أن سر نجاح
الفيلم التحليق بالمرء بعيدا عن واقعه، مصوراً له جمال العالم السحري،
إذا نجح الإنسان في تعلّم ضروب السحر وهذا يعني أن الإنسان يحاول الهرب
من حاضره بأي وسيلة من الوسائل. نعم الجميع يحلم من بلاد الشرق ومن بلاد
الغرب، لكن الغرب تجاوز معظم مشاكله، لكن نحن ما زالت أقدامنا مغموسة إلى
ركبنا في قضايانا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا الذي يحصل الآن
ما هو إلا محاولة يائسة للتخفيف من ثقل الاحباطات النفسية التي تحاصرنا
من جميع الاتجاهات! أحب إلى اليوم الجلوس إلى أبي والاستماع إلى ذكريات
ماضيه عن بلادي قبل اكتشاف النفط، وما تتخللها من صور شديدة الخشونة، كان
ضمن ستة أخوة ذاقوا مرارة اليتم مبكرا، وبعد عودتهم يومياً من المدرسة،
يذهب كل منهم للقيام بعمل من الأعمال لتوفير لقمة العيش، مكرراً دوماً
على مسمعي أنهم كانوا سعداء بالرغم من شظف العيش وصعوبة الحياة، وأن
جمالها يكمن في سعيهم الدؤوب وعملهم المتواصل لتحقيق تطلعاتهم. علمني أنا
واخوتي أن الحياة لن تقدّم لنا ما نريده على طبق من ذهب، وأن للكفاح
طعماً جذاباً، لا يضاهيه شيء آخر. واليوم بعد مرور كل هذه الأعوام، أحس
بالسعادة وأنا أرى وميض الفرحة يطل من عينيه كلما قرأ مقالا لي في
الصحيفة، أو أثنى أحد من أصدقائه على كتاباتي، قائلا لي بفرحة: أنا فخور
بكفاحك.
هذا ما
أحاول اليوم زرعه في أبنائي، أن أعلمهم أن تحقيق الأماني لا يتم من خلال
اقتناص الفرص المشبوهة، أو الانغماس في بحيرة المسابقات، لاصطياد صيدة
مالية كبيرة تفتح لهم الدروب المستعصية. لذا أرى أن للإعلام دوراً هاماً
في تنشئة الأجيال الجديدة على هذه الأفكار، وتخصيص برامج تتحدث عن
مشاكلهم الاجتماعية، ووضع الحلول الممكنة لها، حتى تبعث روح التفاؤل في
نفوسهم، أن هناك آذاناً تصغي لمعاناتهم. كذلك للأسرة دور كبير في زرع هذه
البذرة في تربة أبنائها، وللفرد دور أيضاً من خلال قناعته الذاتية، أن
حصد النجاح لا يأتي إلا بعد الكد والتعب. ونحن صغار كنا نمسك بالسن
المخلوعة ونرمي بها في الفضاء قائلين «يا شمس يا شموسة»، ونغمض أعيننا
متمنين في سرنا أن نحقق شيئاً من أحلامنا الطفولية البريئة. اليوم لم أعد
بحاجة لرمي خصوصياتي في الفضاء، بل أثابر وأناضل من أجل تحقيقها على أرض
الواقع رغم صعوبتها ومداهمة الإحباط لنفسي في لحظة من اللحظات، لكن عندما
أتخيل مدى السعادة التي سأجنيها في نهاية الأمر، أعقد العزم وأتوكل وأدس
نفسي وسط زحام الحياة، موقنة أن الأحلام لا يمكن أن أحشرها في بالونة
بلاستيكية ثم أطيّرها في الفضاء، لأنني سرعان ما سأسمع صوت فرقعتها مخلفة
قطعا متناثرة لا تسمن ولا تغني!
|
في 19/1/2002
|
|
|
|