زينب حفني

ما هو القادم وسط الغيوم؟

 
 

من أين يستمد الفرد قيمته؟! من ذاته؟! من مجتمعه؟! من وطنه؟! من شعاع الحرية الذي يستنشقه بلا قيود؟! أم أن قيمة الإنسان هي خلاصة كل هذا؟! هذه التساؤلات داهمتني وأنا أطالع بأسى صورة تناقلتها وسائل الإعلام المرئية، لطفل فلسطيني لم يتجاوز العاشرة، محاط بعدد من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح، ممسكا احدهم بكتفه بقسوة. كانت نظرات الطفل تنضح بمزيج من الذعر والخوف والاستجداء والرعب، وترتسم على وجهه علامات الهلع، إلى درجة أنه فقد السيطرة على نفسه وتبول على بنطاله. هذه الصورة بالإمكان استثمارها في الإعلام الغربي، لإظهار مدى انتهاك اليهود لأبسط حقوق الإنسان، وفي مصادرة حقه في التعبير عن وجوده ولو بحجر لا يغني عن جوع، وكيف يتم وأد هذا الحق في أعماق طفل صغير. قارنت بين هذه الصورة المخزية في واقعنا العربي، وبين صورة وزير الدفاع الصيني وهو يتحدث مع زوجة الطيار الصيني المفقود، مؤكدا لها رفض الشعب الصيني بأكمله، تهرب الأميركان من تورطهم في حادثة تحطم الطائرة، وإصرار المسؤولين الصينيين على وجوب تحمل الولايات المتحدة المسؤولية كاملة عن هذا الصدام، ووجوب تقديم اعتذار رسمي للشعب الصيني. هذه الواقعة تشكل إرهاصات مستقبلية، ومؤشرات لبداية انحسار القطب الواحد المتمثل في الولايات المتحدة الأميركية، وبوادر لظهور أقطاب أخرى. لقد وقفت الصين في مواجهة أقوى دولة في العالم، وطالبتها بالاعتذار العلني، رافضة الانحناء لها، أو الرضوخ لتهديداتها، على الرغم من مصالحها المرتبطة بها، وحاجتها الماسة للتكنولوجيا المتقدمة لديها لتطوير مجتمعها، وللأسواق الأميركية التي تعتبر اكبر مصرف للصادرات الصينية، الداعمة لنموها الاقتصادي، لكنها وقفت في وجهها إلى أن استجابت الحكومة الاميركية للمطلب الصيني. في رواية "ابنة الحظ" للأديبة ايزابيل اليندي، تصور في فصل من فصولها مدى قهر المرأة في الصين، واستغلالها أبشع استغلال، من خلال تسخيرها في تجارة الرقيق الأبيض، التي تتصل بشبكات المافيا العالمية، وتعرضها كذلك لانتقادات متواصلة من المجتمع الدولي، بسبب انتهاكها لحقوق الإنسان، وتقييد حريات شعبها. ومع هذا وقفت الصين بجسارة أمام أكبر دولة في العالم وقالت لها لا! إن هذا التحدي لم ينشأ من فراغ، والتحدي يستلزم القوة، والقوة لا تنشأ من فراغ، بل من عوامل عدة، فمتى ظهرت قوة الصين؟! أين يكمن سرها؟! كيف تطورت، رغم تمسكها بالنظام الشيوعي الصارم في إدارة البلاد؟! لقد نجحت الصين من منطلق احترامها لذاتها، وتمسكها بكرامتها، واعتزازها بحضارتها، وانفتاحها على العالم بروية، حتى لا تزل قدماها كما حدث مع الاتحاد السوفيتي سابقا، ومن خلال تطوير قدراتها العلمية على مدى عقود من الزمان، حتى أصبحت في مصاف الدول المتقدمة. إذا كانت القوة سلاح الأقوياء، الذين من خلاله يملكون المفتاح السحري للحصول على مطالبهم، فلماذا لا ينطلق العالم العربي من هذه النقطة ويبني قوته التي تدهورت، بعد قرون جميلة امسك فيها العرب بمقاليد الحضارة في العالم بأسره؟! هل يعود اعتلال صحة البلدان العربية، إلى أوبئة الفساد الذي تفشى في أبدانها، وعدم وجود مساءلة قانونية علنية؟! هل فقدان العدالة الاجتماعية، كان عاملاً أساسيا في هشاشة المجتمعات العربية اليوم؟! هل فشل الحكومات العربية، في حل القضايا المصيرية للأمة العربية، ساهم في ذوبان هوية أفرادها، وضياع نزعة الانتماء بداخلهم، وأدى في النهاية إلى ضياع قيمة الإنسان؟ عندما ألمس حرص العالم المتحضر على أمن مواطنيه، أحس بحرارة الغضب ترتفع في دواخلي، وأتحسر على هزالة بلداننا العربية، وتورط بعض أفرادها في بؤر الإرهاب، التي تقوم بإزهاق أرواح آلاف الضحايا الذين لا ذنب لهم، في الوقت الذي تقف فيه حكوماتهم عاجزة عن وقف سيل الدماء المهدرة يوميا، وكأن الإنسان العربي كم فائض، من الواجب التقليل منه! يجب أن يعيد العالم العربي حساباته، فمن غير المعقول أن تبقى المجتمعات العربية متخبطة في لجج الهوان، وأن تبدأ المؤسسات العربية في تشكيل الإنسان العربي، بتنشئته من جديد على أسس سليمة، بدءا من الأسرة، وانتهاء بالمجتمع، حتى يشب على رفض التبعية والخنوع. والحادث اليوم من تراجع في شخصية الفرد العربي، إنما هو حصيلة من الانتهاكات المتكررة لآدميته ومصادرة حريته، حتى غدا يسير محموما لرغبته في إطفاء شبق رغبته في ممارسة حريته المفقودة في تربة وطنه، وحصول صدام مباشر بين بعض الأفراد المحبطين نفسيا، وبين مؤسسات الدولة، مما أحدث اضطرابا في استقرار الأمن في بعض البلدان العربية، وانشغال الحكومات في لملمة خيباتها المتواصلة، حتى تحسن من مظهرها الخارجي أمام المجتمع الدولي، من دون الالتفات لترميم بيتها من الداخل بأدوات صلبة تحميها من الرطوبة وتصدع جدرانها، والنهاية مزيد من التنازلات، والخنوع والتبعية! إن نظرة سريعة لصور الثكالى والأطفال، التي تبث يوميا على شاشات التلفاز، تحرك لواعج الإنسان العربي، وتزيد من شحنات الألم في أعماقه، وتشعره بالقهر، كون الإنسان العربي أضحى أرخص كائن على ظهر هذه الأرض، بعد أن وصلت الأمة العربية بأسرها إلى مرحلة الاحتضار، ولذا لا بد أن تفتح الدول العربية خزائنها لأجيالها الصاعدة، وتقدم لهم أوكسجين حرياتها لتقف من جديد على أقدامها القوية، وتواجه كل أساليب الاستبداد والقوة التي تمارس ضد استمرارية وجودها. إن الغرب اليوم على الرغم من الانحلال الأخلاقي الذي أضحى مستفحلا في مجتمعاته، وانحسار الروحانيات عنده، وتحكم المادة في تعامل أفراده مع بعضهم البعض، فان تجربة الديمقراطية، من خلال الود القائم بين الفرد ومجتمعه من ناحية، والفرد وسلطة الدولة من ناحية أخرى، وتحقيق العدالة الاجتماعية من ناحية ثالثة، جعل الفرد يدرك قيمته، ويحس بوجوده، وجعله ينصرف هانئا إلى بناء مستقبله بخطوات راسخة، فمتى تصبح هذه الصور، واقعاً ملموساً في عالمنا العربي؟! متى يشعر الفرد العربي بقيمته كإنسان، ويتذوق طعم احترام الآخرين له، بعد أن أثقل كاهله الفقر والجهل ومصادرة حريته، في جو مشحون زاخر بالإرهاب والقلاقل والاضطرابات؟! متى نسمع نبرات غربية، ترتجف هلعا، حين نرفع أصواتنا في وجهه أصحابها بقوة، مطالبين بحقوقنا المشروعة، على الأقل من أجل البقاء بعزة وكرامة؟!

 

الانتفاضة - العدد السابع والسبعون : 15/04/2001

 

 

موارد نصيـة

زينـب حفنـي

مقــالات

المحتــوى

المرأة العربية تقهقرت اجتماعيا وفكريا (حـوار)

المثقف.. أصل وصورة!!

لعبـة الغمـز.. ولعبـة  الحبس

الإعلام والمقامرة بالأحلام

حكاية عقلة الإصبع

الشباب بين اللصوصية والشرف

فلتسقط الحرية.. ولتحيا العبودية!!

أكذوبة الإعلام العربي

المرأة وصخب الهتافات

السعـادة.. وقفص الذهب

بين الممكن والمستحيل

نساء "مسترجلات"

ما هو القادم وسط الغيوم؟

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.