– في مستشفى المجانين،
أمسك بخيوط الضوء المتوهجة بداخلي. يتألق ذهني وتسقط مني القشور. الممرضة تطلب مني أن أغادر الغرفة بعد انتهاء مدة الزيارة. أغضب. أصرخ محتجا:
- سأبقى هنا!
- بل سل نفسك من بينهم خير لك، وإلا فإنك ستصير مثلهم!
كلمات الممرضة تضاعف من غضبي، يشتد صراخي ...وأقول في تشنج
:
-
مابهم ؟ أليسوا هم أيضا مثلنا؟ ألسنا جميعا بني آدم ؟.. من هم؟.. ومن نحن؟ .. أجيبي ... ما الفرق بيننا أيتها المـمـ ...ـرضـ ...ة؟!
بعد حين، أجد نفسي أتكلم مع نفسي. الممرضة اختفت، لست أدري متى ولا كيف.. العرق يتصبب من على جبيني، وأنا منهك. إلى اليمين، شاب أصلع الرأس، يحدق في بعينين ضيقتين. أسنانه المهدمة تطل من فمه الكبير.. ينفلت من بين فجواتها لعاب مختمر يخضب لحيته الكثة. تمتقع أمعائي لرؤيته. لكن،
سرعان ما تجيش بين أضلاعي عاطفة حنو عالية نحوه. فأجدني مقتربا منه.
أعانقه، فيستسلم في وداعة بين ذراعي كما لو عثر فجأة على حضن أمه
الضائع. نجلس معا على حافة السرير
كزوج من الحمام، كطفلين أنهكتهما البراءة. يقبلني المجنون . أعانقه
بوداعة. أسأله
:
- ما اسمك ؟ ....
لايجيب ....
أقول من جديد :
- ما اسمك ؟
... يصمت ...
- هل تعرف أين أنت ؟
يفغر فمه الكبير. تطل أسنانه
المهدمة. يشير بإصبعه في اتجاهها. أسأله:
-
ما بك؟.. هل تؤلمك ؟
يجيب هذه المرة، لكن بصوت غريب لايخلو من جنون :
-
آي... آي... أسناني توجعني... أس ... ناني... آي يا ياي!!
أغالب مشاعري المتأسية نحوه.
أباغته بالسؤال السابق:
- ما اسمك ؟
- أنا ؟
أؤكد له بلهفة :
- نعم ، أنت ؟ من أنت ؟
يضحك بحزن :
-
ها ... ها ... ها أنا أنا ... وأنت أنت
..
- ولكنك لم تقل لي بعد من تكون ؟
تعلو سحنة وجهه سحابة كآبة.
يغرق في صمت عميق، يتملكني الإلحاح، فأعاود السؤال:
-
هل تعرف لماذا أنت هكذا ... أحمق؟
يجيب بحدة :
- لأن البحر هادئ وأنا معقد!
يفاجئني الجواب ... ولا أفهم
ماذا يقصد.
- لأن ماذا ؟
-
هي ... هي ... هيه
..
يداخلني الشك في صحة جنونه.
جوابه يصعقني. تكبلني الحيرة. فجأة، بدأت أشعر برعشة لذيذة تكهرب جسدي. أزداد توهجا. يتألق عقلي. أعجز عن التفكير. أحاول أن
أجد في دماغي سؤالا آخر، لكن ؛ بدون جدوى...
بعد حين، تتمزق غلالة الانبهار التي لفني فيها كلامه. ينقشع بذهني سؤال:
- هل تستطيع أن تخبرني من أين؛ وكيف أتيت إلى هنا ؟
يحرك رأسه في كل الاتجاهات.
يفتح فمه الكبير ليشير بإصبعه من جديد إلى أسنانه، وهذه المرة، أطمئنه
:
-
لاتقلق... أعدك بأن
أجد لك طبيبا ماهرا يخلصك من كل ألم.
بقامة قصيرة، ينتصب واقفا. أقف
أنا أيضا، فيتبين لي أنني أقصر منه طولا، وعلى غير ما كنت أنتظره، يدفع
جسمي بعنف على السرير، ويهرب إلى حيث ، ربما ، هو نفسه لا يدري
..
*
* *
في الزاوية الشمالية من الغرفة، تقف امرأة في انكسار. هندامها يفصح عن حمقها، ولوأن طيفا من شباب ما يزال يغازل قسمات
وجهها المتدحرج في هاوية الانكماش. أنهض من على السرير. أذهب
إليها. حين امتدت يدي للسلام،
كانت تدير وجهها جهة الحائط.
تمتعض عيناي لرؤية شعرها الأشعت، المتسخ. أحزن بعمق. حينما أدارت
وجهها صوبي، كنت أحاول الإمساك بذقنها لأمعن النظر في بريق عينيها.. كان بريقا خافتا. كالطلل
هو وجه تلك المرأة. كوجه البؤس
المنهار هو جسدها الأحمق، المفرط في النحافة .سألتها:
- ما اسمك؟
أشارت بإصبعها، أن اسكت:
-
اشت .... اش ... اشـشـشـ
أمتثل لأمرها بلذة. يمتزج جحوظ
عينيها بهدير ضحكاتها، أذناي تمتلئان بفرقعات ضحكها الغريب. أتماهى مع طيفها في هذه الغرفة التي تحوي جسدينا المهزوزين .. روائح كريهة .. ضحك بركاني .. نعيق وآهات
.
- هل تعرفين لماذا أنت هنا ؟
-
طوطو ... طططو ...ططو ...طططو...
-
اسمعي يا أختاه، اهدئي وحاولي أن تجيبي عن أسئلتي، ما
اسمك؟.. ماذا تفعلين هنا؟ ... قولي أي شيء
!
تدير وجهها عني في اتجاه الحائط. تميل به قليلا ناحيتي.
ترمقني من زاوية عينها اليسرى، تنتفض قائلة
:
-
اعطني ريالا ...
أرجوك، ريال من فضلك
..!
بتلقائية، أدس يدي في جيبي.
أعطيها درهما. تتلقفه من يدي. تقربه من جبهتها. تنظر
إليه بحذر وفزع. تقذف به إلى
الأرض في انفعال شديد
:
-
ما هذا ؟؟؟؟ ما ...
هذا ؟ ما ؟؟
أجيبها بهدوء:
-
ريال ...إنه الريال
الذي طلبت مني قبل قليل أن أعطيك اياه
- ومن قال لك إنني أريد ريالا ؟
-
أنت!؟!
- كاذب .
- أقسم لك بما تشائين، إنك أنت التي ...
-
لا، لست أنا، إنهم هم ... أنا لم أفعل ذلك ... كنت
معهم، نعم ... ولكني لم أفعل أي
شيء...
- ....(...)
-
أنتم تكذبون علي ...
أنا بريئة ... اٌغرب عن وجهي .. لماذا أتيت بعد أن انتهى كل
شيء ...أنا لم أخن ... لم أقتل .. كنت عروسا نعم... كان الجميع يرقص نعم ...
لكن السماء أمطرت ذهبا... وأمي
ضحكت..أبنائي بكوا .. وهم ماتوا صغارا .. وأنا لم أخن أي أحد.. أنا... طوطو...طيطا...طططوط.. هاها ...ها .... يوات . واي ياي
...
كان صوتها متشظيا. حركات جسمها
النحيل نيزكية. تنظر إلي بعينين
لاتريان أي شيء. تتكلم بصوت
لايقول أي شيء.. تقفز كجرادة فوق
السرير. تلقي بنفسها من فوق ... وتقول
:
- أنا انتحرت!
تمشي على ركبتيها. بكفين
خريفيتين تصفق. جنونها يشتعل،
أنتعش فيه. يضاء ظلام نفسي... يغمرني إحساس عميق بوجود الأشياء. أمسك بخيوط دقيقة من نفسي.
أذهل عنها. وعندما أصحوا من
شرودي، أعثر على جثتي ملقاة على سرير وسخ. روائح مفرطة في النتانة تـزكم أنفي، لكنني سعيد. ارتياحٌ غامضٌ يضمني بين أحضان هذا السرير. أصوات مختلفة، مختلطة تترامى إلى مسامعي من كل أرجاء المستشفى
المجنون. فكرة لذيذة تقرع ذهني
...
- إنهم مجانين، ولكنهم طيبون.
الشاب الأصلع، ذو القامة القصيرة والفم المهدم الأسنان، يمر أمامي
كالسهم. أتبعه صوتي
:
- إلى أين أنت ذاهب ؟
يسمع ندائي، فيتصلب في مكانه.
يصرخ
:
- كغغغط...
يبدو لي أنه يسوق سيارة. يقترب
مني. يقول في لهجة آمرة
:
-
تعالى!! اركب معي ... سيارتي تطير كالريح..!!
-
كـ.!...! ماذا ؟..
- قلت لك اركب ولا تضع الوقت!
لاأفكر ... أنهض توا من على
السرير. أقف خلفه. أمسك وسطه بيدي. في
البداية، أقلع بهدوء. بعد ذلك ،
طار فعلا .. صار كالريح
...
-
رررن ... رن .. رن ... رن ... ع ع عان .. عن عن عن .. عان
عند باب الغرفة، ضغط على الحصَّار. ترك مقود السيارة في مكانه، ثم استدار جهتي آمرا:
-
اهبط الآن ... لقد
وصلت!
أهبط من السيارة . أمد له ورقة
نقدية لا أعلم مبلغها:
- خذ هذه، وإن كنت تستحق أكثر منها!
ينقض على الورقة بيدين نهمتين ... يدسها في جيبه حيث لا جيب.
تسقط على الأرض ... من جديد، يمسك
بمقود السيارة . يتأهب للإقلاع . يقول:
-
سأرجع إليك عندما أنتهي من الشغل. انتظرني هنا في العام القادم أو غدا
!
أسأله :
- هل تستطيع الآن أن تقول لي من أين أتيت إلى هذا المكان ؟؟
يجيب :
- بالطبع أستطيع..
- قل إذن !
- من هناك..
- أي هناك تعني ؟
... لا يجيب
- قل !
يرد بسرعة :
-
البحر هادىء وأنا معقد.. البحر هادىء وأنت معقد ...
أنت معقد ونحن هادئون
(...)
- لكن ، ، ، ؟؟؟
يقلع، تاركا إياي مختنقا في غبار عنعناته.
–
(1984)
|