حديث الجلجلة
–
ياسادة ياكرام!!
وأنا أحدثكم عن قبوش ولد عبوش، أرى وأسمع أمورا عظيمة يشيب لها
الصغار قبل الكبار.. ويحي مما أرى!! ماذا أرى ؟.. ماذا أسمع
وماذا أرى؟ هي النار أيها الناس!
هو العرق أو الوحل أو القتل!!
مواسم الدم تفور.. البوهاليون
يخرجون من الأضرحة ويركضون.
الزوايا تزحف. من قبل كانت البركة
واليوم الحريق. الويل لآولاد آيت
بابا وشبان آيت المقريزي!.. أهو
الدوار أو الرماد أو الحطب أم النار تأكل الدوار والحطب فإذا الرماد،
أو العرق يتصبب من الحناجر والخناجر والخنازير، تتصدع الأصوات، تبقر
البطون، يعلو الانشطار؟!
.. المقابر تتشقق أيها الناس! الشواهد تنزاح. بقايا
أطفال وشظايا نساء؛ ثم كيف الألق والدوار يغوص في الطين؟.. من يقرع طبول الدم؟.. كل
الوقت للقتل والوحل والصهد..
ويحكم يا أولاد آيت بابا! أهو
الثبور أم بثور صيف متخثر؟.. كيف
تنجرف مياه أم الربيع عن مجراها؟!.. اانجراف تربة هو أم بقايا تهشم جرار ؟ أرى الاندحار ياأولاد آيت
بابا يطلع منه الصوت معمدا بالرهبة والويل وإشراق الموت. كيف يقتل الدرويش؟.. من
قتل الدرويش؟.. أين الدرويش؟.. ها النعيق يصك سمع القلوب.. ها الأصوات ولهى بالصراخ..
الهمس متناثر والصمت تشقق، يتشقق، تلجم الرهبة وجيب القلوب. أرى بوما تحط على ذروة الجبل.. أرى الدم يسيل من صاحب الطريقة. أرى النيران أضرمت، تضرم؛ من أضرم النار في الحقول والأشجار
المطلة على الحقول وأعشاش القبرات النائمة في أشجار الحقول؟
ياسادة ياكرام!!
ليتني ما رأيت ما رأيت، ولا سمعت ما سمعت. والله إن العين لتشقى، وإن السمع من ارتداد هدير الأصوات ليدمى؛
فكيف نرتب ما جرى ؟
إن الروايات مختلطة، ناتئة، حارة. وبين صوتي وقلوبكم مسافات الأحوال وزغننة الأوقات، وصعق
النوازل؛ فهلا أنصتم يرحمكم الله!
مقام الدم
يقول أولاد آيت المقريزي:
"
إن فاطنة الشرادية لما أوقع الليل سباتا على الدوار، ذبحت
الدرويش وهو نائم. هل سمع أحد قبل
اليوم بامرأة صالحة وزوجة رجل صالح تذبح خاتم أولياء برية الله؟ إنها
فاطنة الشرادية لولية التي أقدمت على فعلتها الشنيعة تلك بإيعاز من
قبوش ولد عبوش. اقتسما الغنيمة
وأوقدا النار في الزرع قبل أن تفر هي إلى خارج حدود الدوار. وينبه أولاد آيت المقريزي بإلحاح في ختام روايتهم أن ماحز ويحز
في نفوسهم هو السطو. لعنة الله
على السطو والساطي وكل ساط أثيم؛ فقد نهبا كل ماأوتي الدرويش من عطايا
الزيارات وهدايا وأموال حجاج الضريح من كل فجاج الأطلس وحاشية الأطلس. أما فاطنة الشرادية فحملت نصيبها على ظهر حمار المرحوم وفرت إلى
الشراردة، وأما قبوش ولد عبوش، فقد ضاعت أحرف اسمه في شعاب الحكاية
(...).
معذرة ياسادة ياكرام!
قد بدأت من النهاية والحال أن الحكي لايقلع إلا من البداية. سأبدأ فأحدثكم عن الضحية المزوار، البوهالي خاتم أولياء الله
الصالحين الذي كثر الخلاف والعناد والشقاق حول أصله وفصله بين ذرية آيت
بابا، وبقايا نسل آيت المقريزي
.
يقول أولاد آيت بابا:
"...
إن الرب علمه وباركه وعظم اسمه بين الجبال. يجهل جهلا تاما عدد وأزمنة ومنازل ما حصل ويحصل له من كرامات
وألطاف إلهية. لكن الجميع يعلم أن
الجبل والدوار بغير مجيئه ما كانا ليتباركا ويتقدسا، فهو يسيطر على
الشمس وسقوط الأمطار... يؤذن ليلا
في ساكنة الدوار وينفخ في نوم الجبل نسمة الحياة. في زيارة الأعرج والمخبول والأبكم له بركة. إنه محرك السكنات، وفي هذا إجماع عامة آيت بابا. أما جوهر الشأن في اختلاف الروايات حول أصله وفصله، فهو قول
أولاد آيت بابا إن الدرويش إنما أتى إلى الدوار من غير أبوين. فلا هو من التراب ولا هو من الماء أو الهواء، ولا حتى من النار؟!.. أما شبان آيت المقريزي، فتذهب روايتهم إلى أن الدرويش إن هو إلا
آخر ثمرة في شجرة جدهم الأكبر، الشيخ السالك أحمد بن علي المقريزي
الهارب الناجي من عذاب أعوام المجاعات المهلكة التي ألمت بساكنة ضفاف
النيل والبحر الأحمر. فقبل أو بعد
مجيء المغول بعدد من السنين... شح
ماء النيل... شاع الجوع والطاعون. أفسد الوباء كل شيء فارتفع ثمن القوت. هلك معظم الدواب، ماتت الكلاب والقطط جوعا فأكل الناس الناس. من النساء من بعن أطفالهن لشراء القوت، ومنهن من أكلن أولادهن
الموتى... أما الشيخ السالك مولاي
أحمد، فكان في الطائفة التي كثر أكلها لموتى بني آدم وميتة المواشي
والخيول والحمير والطيور... ولما
تيسر له الهرب من بلاد النيل إلى معمورة مراكش، ساقته الرياح إلى هذا
الجبل، فدب الرجل بين العباد على يابسة الدوار وهو الذي عن له المكوث
بين أولاد آيت بابا، حيث عجبت العامة لأمره وعظمت شأنه. ولأن الدرويش بقية من أغصان الشجرة المقريزية المباركة، فقد
استضرح الناس داره قبل وبعد موته، ومنذ أن ووري جثمانه التراب وزحام
التبرك يقطع الطريق إلى الجبل والدوار، بين الجبل والدوار، في الجبل
وفي الدوار
(...).
الشهادة بالخلف
ورد في مقام النسيان أن قبوش ولد عبوش اعتلى ربوة بين الدوار
والجبل، أو في الدوار والجبل، وقال :
- "...
الحق أقول لكم ياعباد الله ! إن معرفتي الشخصية بالرجل لاهي
بقول أولاد آيت بابا ولا هي بقول شبان آيت المقريزي. فجوهر الشأن عندي أن الإسم الحقيقي للدرويش، جرح موشوم ومعمد
بالريح. إنه درواس المجاطي، أقدم
مقاومي يابسة مجاط للفرنسيس. مشى
بين الآزمنة على الأظافر والجلد والشعر والعظام.. من لاندوشين إلى لاليجو؛ وهل ظفر بغير الريح ؟ إنه لما كثر
تحسره بين الدوار والجبل على أيام لاندوشين ولاليجو، أدركه القنوط
والتعب فزهد في الدنيا وكره الناس. دخل سوق راسو وانتبذ لنفسه بالمقبرة ركنا قصيا. وبينما هو على تلك الحال من تعذيب الروح وإذلال الجسد، إذا
بالساكنة من أولاد آيت بابا وشبان آيت المقريزي تقر له بالولاية، ومن
يومها وهو مزار الأبرص والأصم والمصروع والأعمى
(...)
مقام الرؤيا
ياسادة يا كرام
!
نعود إلى مقام الدم حيث الوحل والنار وما جرى للدرويش في تلك الليلة
المشؤومة. أما رواية أولاد آيت
بابا فمدعومة بقسم غليظ شديد، وفيها أن فاطنة الشرادية مهما يكون
منبتها بغير يابسة الدوار، فهي لاتقدر أن تقوم بهذه الفعلة المنكرة. إنها براء من دم الدرويش، وما اختفاؤها بعد موته إلا علامة من
علامات خروج الدابة ! فقبوش ولد
عبوش، العزري الذي يتحرش بصبايا ونساء الدوار، يحلل لنفسه ما حرمه الله
ويضربها بسكرة وتعربيطة، هو من يقدر على حرق المحاصيل وقتل أولياء الله
الصالحين... وحده قبوش يقدر بهذه
الديار الآمنة أن يذبح الدرويش وزوجته .. أن يخفي جثـتيهما بمكان مكتوم .. ثم إن من عيون وآذان أولاد آيت بابا من رآه ينصب نفسه بوهاليا
ويخطب في الصم والحمقى والمخذولين، حتى إنه قال في جمع غفير من الناس:
"
أما وقد بات مؤكدا للجميع أن المهدور دمه لا هو مزوار ولا
فقيه. لا هو ولي صالح ولا أي شيء
مما تعلمون ولا تعلمون؛ فلتوقن ساكنة الدوار قاطبة أن لابوهالي بعد
اليوم بدوار الجبل وجبل الدوار إلاقبوش ولد عبوش!؟!".
معشر السادة الكرام!
الدينونة اكتملت. ما عدت أبصر
شيئا؛ فمن رأى منكم أو سمع مالا يعجبه فليغيره بمخيلته. غيروا ما بمخيلاتكم يرحمكم من في السماء ! ومن لم يستطع فليغيرما بعقله ! فإن لم يستطع فما بقلبه وذلك
أضعف الإيمان!! لقد قالوا.. وقلنا.. وقيل لنا.. وسنقول.. غير أنني أنا
الراوي ما عدت أبصر شيئا. الرؤيا
تنطفىء أيها الناس!! ماعدت أسمع
أي شيء! ماعدت أدري أمقام دم هذا
الذي أنا فيه أم مقام وحل؟ كيف تنطفىء الرؤيا؟ كيف أنطفىء أنا ؟ هل
أنتم أيضا ستنطفئون؟! الفرار
الفرار أيها الناس!! أما أنا فما
قلت لكم ولا أنتم سمعتم عني، عن قبوش، عن أولاد.. عن شبان... وفلان... أو علان!!. –
(1987)
|