– جكارا طفلة عمياء. تخرج في الصباح من البيت وتذهب إلى حيث العشب الأخضر يكسو الأرض. تمشي بين الزهور. تلامس
جذوع الأشجار. ترهف السمع لتناغي
الطيور، وعندما تتوسط الشمس كبد السماء، ترجع إلى البيت. تحدث أمها عن سحر الطبيعة وجمالها. تسأل:
- متى سأبصر هذا
الذي أحسه ياأماه؟
تصمت أمها. تذرف دمعة.. دمعتين.. وتجيب:
-
قريبا إن شاء الله ياجكارا.. لاتفكري في هذا الأمر هذا النهار..
تمر الأيام والليالي فيكبر جسد جكارا. تصير صبية يافعة، تسلب الطبيعة سحرها وفتنتها. تنظر القرية إلى جكارا فلا تمتلىء إلا حسرة. يهفو فتيانها إلى ملامسة شعرها الأسود الناعم الذي يوشك أن
يلامس أديم الأرض. يصيبهم سهم
بياضها ووهج وجنتيها المنورتين.
كان صدر جكارا قد أثمر نهدين بضَّين. ولأن جكارا، في كل نهار، في كل ليل، في كل شتاء، في كل ربيع،
كانت تنتظر؛ التهمت الفصول أزمنة الانتظار، فصار الفقد يركب حلمها
الأبدي.
ذات يوم من أيام الخريف، ماتت أم جكارا. تفتقت من عينيها المنطفئتين دموعٌ غزارٌ، فاغتسلت في سيل البكاء
حتى قال سكان القرية:
-
ياجكارا، لاتبك، فالموت إله العالم..
قالت جكارا:
-
ياأهل قريتنا، دلوني على مسلك واحد من مسالك الموت ألحق
عبره بقلب أمي!
كان الضباب الكثيف قد عبث بسماء القرية فأشاع بين مسالكها طعما
جنائزيا خانقا. أحست جكارا
بالاختناق فصرخت لتمزق حيطان القرية وأسوارها الصماء. في المقبرة، كانت جكارا هذه المرة تبصر أنين المعول وهو يهوي
حافرا الهوة العميقة (...). توارى
جثمان أم جكارا خلف التراب، فقال سكان القرية:
-
ياجكارا .. تعالي
معنا، فأنت منذ اليوم أخت لأولادنا...
صرخت جكارا. عاثت في شعرها
وانغرزت أظافرها في التراب. تملكت
الحيرة سكان القرية. صمتوا. انتظروا زحف الليل على سماء المقبرة. ولما أطبق الظلام على القرية، شرعوا في الانصراف إلى بيوتهم. وحدها جكارا بقيت إلى جوار قبر أمها . كانوا ينصرفون، وكانت هي تبدو
للسماء نصبا على جبين المقبرة موغلا في الوحشة حد الفناء. قالت جكارا لأمها:
-
الآن أراك ياأمي بعين قلبي.. أسمع الأنين.. أسمع
الزفرات... لاتحزني أماه، فأنا
منذ اليوم معك هنا، ولن أبرحك أبدا.
ظل أطفال القرية يأتون جكارا بالطعام والشراب أياما وأياما، لكن
الجوع والعطش كانا قد أقلعا عن جسدها فما عادت ترغب في أكل ولاشراب.
كانت الليالي تبتلع الأيام.
الأطفال يقطفون الأزهار والورود لجكارا. يرتلون لها التراتيل. لكن
جكارا لاتعلن إلا الاندحار. تذبل
في قسوة الصمت. تنطفىء وضاءة
الوجنتين. يكتسح الهزال الجسم
الخرافي. كل شيء يتقهقر إلا الصدى
والمكان المتجعد لاتبرحه الذكرى.
بعد أيام، يقول الأطفال لأمهاتهم:
-
جكارا لم تعد جميلة ياأمهاتنا.. جكارا صارت شبحا، ظلا، طغى النحال على جسد جكارا فصرنا نخشى
عليها الهلاك ياأمهاتنا...
ينصرم الوقت الرمادي فتستيقظ القرية. ترسل لجكارا مع الأطفال تحية صباحية. لكن الأطفال يرجعون لتوهم.
تنظر الأمهات إلى عيونهم الصغيرة فإذا الدموع قد أغرقتها في لوعة
البكاء. تنتفض الأمهات:
- مابكم ياإخوة جكارا ؟
يقول الأطفال :
- اليوم تنام جكارا نوما عميقا.. عميقا.. عميقا..
اليوم لاتستفيق جكارا ياأمهاتنا..
النوم هذا النهار، عميق عميق عميق..
وعندما يبدأ الأطفال في التوافد على المقبرة، يكون قرص الشمس قد
ارتمى في هوة الأفق. أما الأطفال،
فيكونون قد بدأوا يصيرون نصبا موحشة على قبر جكارا...
–
(1987)
البوهالي والدينونة
حديث الجلجلة
–
ياسادة ياكرام!!
وأنا أحدثكم عن قبوش ولد عبوش، أرى وأسمع أمورا عظيمة يشيب لها
الصغار قبل الكبار.. ويحي مما أرى!! ماذا أرى ؟.. ماذا أسمع
وماذا أرى؟ هي النار أيها الناس!
هو العرق أو الوحل أو القتل!!
مواسم الدم تفور.. البوهاليون
يخرجون من الأضرحة ويركضون.
الزوايا تزحف. من قبل كانت البركة
واليوم الحريق. الويل لآولاد آيت
بابا وشبان آيت المقريزي!.. أهو
الدوار أو الرماد أو الحطب أم النار تأكل الدوار والحطب فإذا الرماد،
أو العرق يتصبب من الحناجر والخناجر والخنازير، تتصدع الأصوات، تبقر
البطون، يعلو الانشطار؟!
.. المقابر تتشقق أيها الناس! الشواهد تنزاح. بقايا
أطفال وشظايا نساء؛ ثم كيف الألق والدوار يغوص في الطين؟.. من يقرع طبول الدم؟.. كل
الوقت للقتل والوحل والصهد..
ويحكم يا أولاد آيت بابا! أهو
الثبور أم بثور صيف متخثر؟.. كيف
تنجرف مياه أم الربيع عن مجراها؟!.. اانجراف تربة هو أم بقايا تهشم جرار ؟ أرى الاندحار ياأولاد آيت
بابا يطلع منه الصوت معمدا بالرهبة والويل وإشراق الموت. كيف يقتل الدرويش؟.. من
قتل الدرويش؟.. أين الدرويش؟.. ها النعيق يصك سمع القلوب.. ها الأصوات ولهى بالصراخ..
الهمس متناثر والصمت تشقق، يتشقق، تلجم الرهبة وجيب القلوب. أرى بوما تحط على ذروة الجبل.. أرى الدم يسيل من صاحب الطريقة. أرى النيران أضرمت، تضرم؛ من أضرم النار في الحقول والأشجار
المطلة على الحقول وأعشاش القبرات النائمة في أشجار الحقول؟
ياسادة ياكرام!!
ليتني ما رأيت ما رأيت، ولا سمعت ما سمعت. والله إن العين لتشقى، وإن السمع من ارتداد هدير الأصوات ليدمى؛
فكيف نرتب ما جرى ؟
إن الروايات مختلطة، ناتئة، حارة. وبين صوتي وقلوبكم مسافات الأحوال وزغننة الأوقات، وصعق
النوازل؛ فهلا أنصتم يرحمكم الله!
مقام الدم
يقول أولاد آيت المقريزي:
"
إن فاطنة الشرادية لما أوقع الليل سباتا على الدوار، ذبحت
الدرويش وهو نائم. هل سمع أحد قبل
اليوم بامرأة صالحة وزوجة رجل صالح تذبح خاتم أولياء برية الله؟ إنها
فاطنة الشرادية لولية التي أقدمت على فعلتها الشنيعة تلك بإيعاز من
قبوش ولد عبوش. اقتسما الغنيمة
وأوقدا النار في الزرع قبل أن تفر هي إلى خارج حدود الدوار. وينبه أولاد آيت المقريزي بإلحاح في ختام روايتهم أن ماحز ويحز
في نفوسهم هو السطو. لعنة الله
على السطو والساطي وكل ساط أثيم؛ فقد نهبا كل ماأوتي الدرويش من عطايا
الزيارات وهدايا وأموال حجاج الضريح من كل فجاج الأطلس وحاشية الأطلس. أما فاطنة الشرادية فحملت نصيبها على ظهر حمار المرحوم وفرت إلى
الشراردة، وأما قبوش ولد عبوش، فقد ضاعت أحرف اسمه في شعاب الحكاية
(...).
معذرة ياسادة ياكرام!
قد بدأت من النهاية والحال أن الحكي لايقلع إلا من البداية. سأبدأ فأحدثكم عن الضحية المزوار، البوهالي خاتم أولياء الله
الصالحين الذي كثر الخلاف والعناد والشقاق حول أصله وفصله بين ذرية آيت
بابا، وبقايا نسل آيت المقريزي
.
يقول أولاد آيت بابا:
"...
إن الرب علمه وباركه وعظم اسمه بين الجبال. يجهل جهلا تاما عدد وأزمنة ومنازل ما حصل ويحصل له من كرامات
وألطاف إلهية. لكن الجميع يعلم أن
الجبل والدوار بغير مجيئه ما كانا ليتباركا ويتقدسا، فهو يسيطر على
الشمس وسقوط الأمطار... يؤذن ليلا
في ساكنة الدوار وينفخ في نوم الجبل نسمة الحياة. في زيارة الأعرج والمخبول والأبكم له بركة. إنه محرك السكنات، وفي هذا إجماع عامة آيت بابا. أما جوهر الشأن في اختلاف الروايات حول أصله وفصله، فهو قول
أولاد آيت بابا إن الدرويش إنما أتى إلى الدوار من غير أبوين. فلا هو من التراب ولا هو من الماء أو الهواء، ولا حتى من النار؟!.. أما شبان آيت المقريزي، فتذهب روايتهم إلى أن الدرويش إن هو إلا
آخر ثمرة في شجرة جدهم الأكبر، الشيخ السالك أحمد بن علي المقريزي
الهارب الناجي من عذاب أعوام المجاعات المهلكة التي ألمت بساكنة ضفاف
النيل والبحر الأحمر. فقبل أو بعد
مجيء المغول بعدد من السنين... شح
ماء النيل... شاع الجوع والطاعون. أفسد الوباء كل شيء فارتفع ثمن القوت. هلك معظم الدواب، ماتت الكلاب والقطط جوعا فأكل الناس الناس. من النساء من بعن أطفالهن لشراء القوت، ومنهن من أكلن أولادهن
الموتى... أما الشيخ السالك مولاي
أحمد، فكان في الطائفة التي كثر أكلها لموتى بني آدم وميتة المواشي
والخيول والحمير والطيور... ولما
تيسر له الهرب من بلاد النيل إلى معمورة مراكش، ساقته الرياح إلى هذا
الجبل، فدب الرجل بين العباد على يابسة الدوار وهو الذي عن له المكوث
بين أولاد آيت بابا، حيث عجبت العامة لأمره وعظمت شأنه. ولأن الدرويش بقية من أغصان الشجرة المقريزية المباركة، فقد
استضرح الناس داره قبل وبعد موته، ومنذ أن ووري جثمانه التراب وزحام
التبرك يقطع الطريق إلى الجبل والدوار، بين الجبل والدوار، في الجبل
وفي الدوار
(...).
الشهادة بالخلف
ورد في مقام النسيان أن قبوش ولد عبوش اعتلى ربوة بين الدوار
والجبل، أو في الدوار والجبل، وقال :
- "...
الحق أقول لكم ياعباد الله ! إن معرفتي الشخصية بالرجل لاهي
بقول أولاد آيت بابا ولا هي بقول شبان آيت المقريزي. فجوهر الشأن عندي أن الإسم الحقيقي للدرويش، جرح موشوم ومعمد
بالريح. إنه درواس المجاطي، أقدم
مقاومي يابسة مجاط للفرنسيس. مشى
بين الآزمنة على الأظافر والجلد والشعر والعظام.. من لاندوشين إلى لاليجو؛ وهل ظفر بغير الريح ؟ إنه لما كثر
تحسره بين الدوار والجبل على أيام لاندوشين ولاليجو، أدركه القنوط
والتعب فزهد في الدنيا وكره الناس. دخل سوق راسو وانتبذ لنفسه بالمقبرة ركنا قصيا. وبينما هو على تلك الحال من تعذيب الروح وإذلال الجسد، إذا
بالساكنة من أولاد آيت بابا وشبان آيت المقريزي تقر له بالولاية، ومن
يومها وهو مزار الأبرص والأصم والمصروع والأعمى
(...)
مقام الرؤيا
ياسادة يا كرام
!
نعود إلى مقام الدم حيث الوحل والنار وما جرى للدرويش في تلك الليلة
المشؤومة. أما رواية أولاد آيت
بابا فمدعومة بقسم غليظ شديد، وفيها أن فاطنة الشرادية مهما يكون
منبتها بغير يابسة الدوار، فهي لاتقدر أن تقوم بهذه الفعلة المنكرة. إنها براء من دم الدرويش، وما اختفاؤها بعد موته إلا علامة من
علامات خروج الدابة ! فقبوش ولد
عبوش، العزري الذي يتحرش بصبايا ونساء الدوار، يحلل لنفسه ما حرمه الله
ويضربها بسكرة وتعربيطة، هو من يقدر على حرق المحاصيل وقتل أولياء الله
الصالحين... وحده قبوش يقدر بهذه
الديار الآمنة أن يذبح الدرويش وزوجته .. أن يخفي جثـتيهما بمكان مكتوم .. ثم إن من عيون وآذان أولاد آيت بابا من رآه ينصب نفسه بوهاليا
ويخطب في الصم والحمقى والمخذولين، حتى إنه قال في جمع غفير من الناس:
"
أما وقد بات مؤكدا للجميع أن المهدور دمه لا هو مزوار ولا
فقيه. لا هو ولي صالح ولا أي شيء
مما تعلمون ولا تعلمون؛ فلتوقن ساكنة الدوار قاطبة أن لابوهالي بعد
اليوم بدوار الجبل وجبل الدوار إلاقبوش ولد عبوش!؟!".
معشر السادة الكرام!
الدينونة اكتملت. ما عدت أبصر
شيئا؛ فمن رأى منكم أو سمع مالا يعجبه فليغيره بمخيلته. غيروا ما بمخيلاتكم يرحمكم من في السماء ! ومن لم يستطع فليغيرما بعقله ! فإن لم يستطع فما بقلبه وذلك
أضعف الإيمان!! لقد قالوا.. وقلنا.. وقيل لنا.. وسنقول.. غير أنني أنا
الراوي ما عدت أبصر شيئا. الرؤيا
تنطفىء أيها الناس!! ماعدت أسمع
أي شيء! ماعدت أدري أمقام دم هذا
الذي أنا فيه أم مقام وحل؟ كيف تنطفىء الرؤيا؟ كيف أنطفىء أنا ؟ هل
أنتم أيضا ستنطفئون؟! الفرار
الفرار أيها الناس!! أما أنا فما
قلت لكم ولا أنتم سمعتم عني، عن قبوش، عن أولاد.. عن شبان... وفلان... أو علان!!. –
(1987)
حكاية شُلَّمَنْرَأَى
–
يحكى أن مدينة مفقودة العمق والذاكرة والأسرار، تدعى
شلمنرأى. لها في هوى الرجال شؤون
وأخبارهاعجيبة تجري على ألسنة الرواة ومراسلي الدروب والآزقة والساحات. هي أرض بكر قيل إن من يفتض بكارتها ترقص أعلامه في عنان السماء،
وإن كان بعد علوه سيهوي إلى القاع.
قيل إنها أرملة مات عنها كل أزواجها، وقيل إنها قلعة محصنة، مغلقة
المداخل والمخارج، وقيل إن مبتدأ خبرها ومنتهاه الهتك. فمن يهواها تهواه، ولو أن عشقها محال. هي موت كله، ومسخ أحيانا، والذي يفترع سرها، دمه مسفوح ويبقى
ملعون المآل.
حدثوا عن لياليها التي تشبه نهاراتها بكلام يسيل اللعاب؛ فمن مقسم
بالأيمان المغلظة انه رآها ، غير ما مرة، تتعرى في الظلام، يتأكلها حد
امتصاص الجسد. إلى شاهد عيان
يتمنع عليه الكلام من عجب ما أبصر وأدرك؛ وهل هي إلا تجليات يطير لها
اللب وتشرد بها أو عنها الخواطر ؟
إن الذي فيه إجماع الضالعين في شؤون شلمنرأى يخص حالها حين يضيق بها
وجع الترمل. فهي ترغب - يؤكد العارفون - في الدعابة والمجون، ويكون لها
في الرجال نزوات، فترسل من يبلغ عنها ملعوني الدروب، المأخوذين بهوس
الشبق ولوعة الفجور، أن أعدوا المهارات لنهارات ظرفها ليلي قزحي
الأجواء والألوان..
...
فيكون الاقتتال، ويكون الظلام، ولايطلع الفجر إلا وقد
دخل عليها أشد الرجال بأسا، يركع بين قدميها على مرأى من الأشهاد، يعيد
الكرة كرتين، وإنه لعلى تلك الحال من الخشوع والتضرع حتى يكون له من
فتنة جسدها وسحر روحها ما ستجري بذكره الركبان
.
ولأمر ما ظلت شلمنرأى أرملة على امتداد الفصول والأعوام، رغم كثرة
خاطبيها وعرسانها وأفراحها...
(إنه لايكاد شأن القوي المختار يعلو، حتى تأتي عليه أزمنة
شتوية مغدورة تتخطفه فإذا هو فقد كله، وإذا هو النسيان نفسه، وإن
الرياح لتذروه، وإنه ليهوي في المهب إلى القاع، وإن ... وإن ... وإنه).
واليوم ينادي المنادي:
" يافتيان شلمنرأى، وجوعى وحيارى ومغبوني الدروب
النائية!
ياأهالي هذه المدينة المباركة، وموبوئي أزقتها المعتمة!
ها عرس آخر قد أقبل، وليكن موعدنا في المكان المعلوم!
ألا أعدوا أسورة النار وأعلام الرهان وزغردات النسوان!
أعدوا صفير الحشود، وتصفيق الأطفال، وترانيم الغبطة الدورية!..
انثروا الأزهار والزنابق، فموعد الأرج، الهرج، المرج، ج..ج..ج..أقبل،
قد أقبل؟؟.
ويتدحرج قرص الشمس من حضن الأفق فيسقط في هوة القرار. يكون الاقتتال. يصرع
الفرسان بعضهم بعضا. يهلك أقواهم
أضعفهم. أضعفهم أقواهم. أضعفهم أضعفهم. أقواهم
أضعفهم. أقواهم أقواهم. أضعقواهم. أقوضعفهم. ولما ينشطر الليل يكون الركوع. يلتحم الأقوى المختار بالمدينة. يركع في حضرة شلمنرأى فيعلو الأنين، ومن نشوة الظفر، من رذاذ
الدم الفوار تلتوي الأعضاء، ينتشر هياج، هرج، أرج، مرج، ج..ج..ج،
وتكون، ينتشر هياج الساكنة، وتكون ذروة الاحتفال.
وفي الليل، ينتفض الترمل. مالم
يتسامع به الرجال يكون للقوي المختار. مالم تسمع به النسوان من قبل، يفعله القوي المختار. ويدوم الحال على ما هو عليه من الأنس والأشواق والمسرات حتى،
لاهو ظرف يؤذن بالتماع النهار، ولا هي عتمة تميت الموت. الموت! من قال الموت؟ من؟.. من؟.. من؟. هل حان وعيد الشتاءات المغدورة؟ إذن؛ ستتمطى الغيوم. لن تطلع شمس على الناس. لن
يسقط على رؤوسهم مطر. هل المسخ
سيسلط على البلاد؟.. قد حصل ويحصل
وسيحصل؛ فمن لم يسمع لم يع ماحدث، ومن يعي لم يسمع مايحدث، ومن يحدث
لايسمع مايعي؟ إذن هو الحال غير الحال، ولن تعرف شلمنرأى غير التبدل،
وإنه لغضب مريع يحل أوحل وسيحل بالعباد؛ فلايسمع لهم حس ولا حركة،
فتزأر العواصف وتعوي المدن النائية. يتمخض عنها، شلمنرأى، يتمخض عن شلمنرأى شيء كالبكاء، أو هو
البكاء نفسه؛ بل إنه البكاء، بكبكاء، كبوكبو.. ماذا؟ قلنا إنه البكاء نفسه؛ إذن هي حال ماألمت بأرض برية أو
بحرية إلا ونضبت ينابيعها، وساء مآل زرعها وضرعها، فيقل قوت أهلها، بل
إن القحط لا النفط - يحتل (...) ماذا؟ من قال النفط؟ أي
نفط؟ النفط أو القحط؟ ماذا؟ قحطان؟ أنا الراوي أقول: القحط وليس النفط، ومن قال غير هذا الكلام فهو غير آمن، ويحق
فيه أو عليه الغضب، غضب الأرض قبل السماء، ماء! أي ماء؟ أين الماء؟ من قال الماء؟ الماء أو القحط أو النفط؟ مرة
أخرى، أنا الرَّاوي أقول (...)
إذن يحتل أجواءها دخان، وبها النار، الجوع، نار الجوع تقيم!
استطراد
...
في ذلك الحميم لا يهدأ للسكان روع ولا بال إلا وقد خرجوا
من بيوتهم إلى الطرقات والساحات يجرون في ركاب بعضهم بعض، مولولين. إن حركاتهم لتضطرب وإن سكناتهم لتضج، وإنهم ليصرخون، وإن الأنين
ليتأكل الأرض تحت أقدامهم، وإن ألوان الفصول لتختلط، وإن الركل والرفس
ليشتدان بين السابق والمسبوق، بين اللاحق والملاحق من فرط الزحام، وإن
العظام لتتهشم، ومن لايتمكن منه الأذى يموت تحت الأقدام، يختلط صراخه
بصراخه، يبح صوته في صوته، يختلط الاختلاط بأصوات الشيوخ، يبح صوت
الأطفال، تبكي النساء، تبكي الأشجار، يبكي الماء، أين الماء؟ وتبكي
النار؛ يانار كوني بردا وسلاما على شلمنرأى، وآل شلمنرأى، وليالي
شلمنرأى، وبكاء شلمنرأى، وليل البكاء، وبكاء الكل وضحك الكل، وهذيان
الكل، وكلكل الكل والليل؛ أي ليل؟ من قال الليل ؟ أين الراوي؟ من يضحك
ومن يهذي؟ أهي الدهشة أو السكوت عن الكلام، أم الصراخ والدهشة من
الصراخ!؟ ومن فرط الدهشة ومن عياء
العياء ولوعة النشيج المبرح من حرقة الذي لايعرف أمن أحشاء الناس يخرج،
أم من أحشاء الطير الملتوي وجعا، المشدوه بفناء الرجال ولعا؟.. أهو العرق، أو الوجد، أو الحال، أم سوء المآل؟ أهو ما حدث أو ما
يحدث، أم الذي سيحدث؟.. في "شل"،
وفي من رأى؛ من شل؟.. ومن رأى ؟.. أين الرؤية؟.. أين الرؤيا؟).
*
* *
إبان هذا الاستطراد، كان المنادي قد أعلن في الناس، وفي وجه الخناس
الوسواس، أن السائس بأمر شلمنرأى قد اختفى في علل معتمة، فحل محله
الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس. وإنه - يقول المنادي - إن كان غدرا، فقد قتل غيلة وبه
حق الثأر، ثأر ساكنة شلمنرأى لمدينتهم المباركة ! أو كان الهرب، فقد فر خفية بعون
بعض من تهواهم أو لا تهواهم المدينة إلى خارج، داخل، خارج داخل الخارج،
فهو الطعن كل الطعن من الخلف وحكمه الشنق!
استطراد أخيـر
قد أتى على شلمنرأى حين من الوجع نكست فيه الأعلام وهدأ روع النار
والعار، فاستوى كل شيء. أي شيء؟.. كل شيء إلا الفقد والعار، ويومها دب في الناس وسواس خناس
كالصهد، وارتوى العرق من الغرق، قلنا وقال الراوي: دب صهد مريع بين العباد ودكاكين البلاد، بين البارات والأسواق
والمؤسسات العمومية وأبناء الموت والنار والعار، وماعرف ولم يعرف ولن
يعرف من فقد كالعطش والعطش والعطش في المدينة، في أوطان المدينة، في
أزقة الأوطان، في أزقة المدينة، في الترمل، في بكاء السنين، في مخيمات
الحميم، في الخروج، وفي الدخول، في خروج العيون من المحاجر، في خروج
الأسماع من القلوب، في رؤيا الهول في شلمنرأى، في الموت نفسه، في موت
الموت، وفي الدخان. في الرماد، في
كل شيء، وفي الدخان في كل شيء. في.. ياسبحان الله من هذا الدخان وهذا الشيء.. وهذه الفي وأي شيء! –
(1987)
|