محمد أمنصـور

أحـــــــوال

 

– متشرذما كالتاريخ، متوعكا، أبلغ المنزل. الجوع متمترس في بطني، وحنجرتي مكتظة بالألم أفاجأ بزوجتي الطالق واقفة عند عتبة الباب.

- ماذا تفعلين هنا يا ..؟!

- ألا ندخل أولا ؟

أغلق الباب خلفنا وأسألها بحدة :

- لماذا جئت من جديد ؟

تجيب بوثوق يضاعف من استفزازى :

- قيل لي إنك مريض، فأحببت أن أطمئن عليك.

- إذن؛ أهلا وسهلا !؟

- إنني أحرص على أن تتأكد من أن قلبي أبيض مما تتصور.

يتلاشى امتعاضي منها بعد حين، فأحدثها عن ظروف حياتي التي ازدادت صعوبة بعد طلاقنا، والوظيفة الجديدة التي لم أتعود عليها بعد، وعن رغبتي في الزواج من امرأة ثرية، أجمل منها، وغذاء السمك الذي تناولته قبل عشرة أيام في أحد المطاعم الشعبية، والشوكة اللعينة التي انغرزت في أعماق حنجرتي منذ ذلك اليوم؛ فتسألني باستفزاز :

- هل بدأت تدرك قيمتي ؟ إنك ...

أقاطعها بغضب، صارخا في وجهها :

- إن كنت قد جئت من أجل هذا، فالباب أوسع من كتفيك ؟!

تنتصب في هدوء مفتعل، وتقول :

- تطردني ... حسنا ... سأودعك، ولكن؛ كيف.. ما كان الحال ... شوف ليك شي طبيب يداويك من الشوكة، راها غادي تقتلك...

أقفل الباب خلفها، وأتذكر حبيبتي الأولى التي طردتها القوادة ذات يوم من ماخورها .

*

* *

الطبيب البولوني لا يطمئن لفرنسيتي المتهافتة. يترجم له الممرض ما أقول. تفاهمهما يوحي إلي بمعان غامضة، فأحاول أن لاأذهب بعيدا في التخمين... أمام البحر، أطرد عني هموم الأسابيع الأخيرة، أتأمل وجع حنجرتي، جرحها الغائم يتمثل لي مدى للبحر. أبتلع ألمها الحامض. يملؤني اصطخاب نبضها الثقيل. تعج ذاكرتي بأكثر من صورة. زوجة طالق تسأل عني فأطردها، هموم تجثم على صدري، أطردها أمام البحر، وحبيبتي الأولى، بين الطرد والطرد، أتذكرها. كانت أجمل مومسات الماخور وأعنفهن أنوثة. عشقت يامنة نقودى وعشقت فجورها. ظل جسدها يشف باطراد في خيالي مع الأيام، إلى أن تشامخت في قلبي، روحا خالصة، أوثنها في الليل والنهار وما بينهما من وقت غامض.

على إثر شجار عنيف، نشب بين يامنة وبعض رواد الماخور المكبوتين، طردتها القوادة. قالت لها بحنق:

- ليأكلك البحر..!!

واختفت يامنة. بلغني الخبر، فصرت جنونا. غضبا مشتعلا. تكون بداخلي حزن كثيف، ولم أحتمل شيئا في الدنيا منذ ذلك اليوم. بحثت عن يامنة في المواخير... في الكباريهات .. في كل البارات والأزقة الضيقة. والبيوت المشبوهة .. مكان واحد لم أبحث عنها فيه... هو...، ولم أعثر لها على أثر حتى في السماء...

*

* *

البحر ممتد أمامي. جسده يشبه جسد بامنة. الشاطىء متداع، وخيط حامض يمتد في ذاكرتي، يصل زوجتي الطالق بحبيبتي الطريدة. ألم حنجرتي المهترئة يتشابك بظلال المرأتين المنتهيتين. كل شيء في البحر يغري بالعوم. الزمن : خريف، وجسد البحر يشدني إليه. تتساقط ثيأبي من على جسدي المحترق توقا إلى الغرق ... وتحت الماء، أرى يامنة تشتبك وتتشابك مع زوجتي الطالق ... تضيق مهاراتي السابقة في السباحة. يتسع ألم حنجرتي فيشمل جسد البحر. تلتحم الأسماك بالماء أكثر. تنغرز أشواكها في أعماق حنجرتي أكثر. الأجساد تعجل من اختناقي ... وأوف ... أطفو على السطح ... كقشة .... أنظر إلى السماء. أجد نورسا يبحث عن سربه، وعندما أرجع إلى البيت، أتفرس في المرآة حنجرتي ... أكتشف أن ملامح وجهي أرحب من مساحته؛ وفي الليل، أضع السبسي بين أصابعي. يتحسس هذا الوجع طريقه في حفنة من الكيف باقية، وخلال الدخان، تكبر الدهشة بداخلي؛ كيف أجمع بين أحوال الخريف والبحر؟

(1984)

 

 

 

 

موارد نصيـة

محمد أمنصـور

النسـر والألواح

(قصص قصيرة)

المحتــوى

 حفريات حائط العشق

ما أنا إلا بشـر ....

غبـش لحكايات المحـار

أحـــــــــوال

االنسر والألواح. المواطن الذي يسمع بعينيه

وجوه في المرايا ...

نخلة للحداد الـمُـرّ...

جكــارا

حكاية شُلَّمَنْرَأَى

البوهالي والدينونة

 

 

 

 

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.